ونمضي مع غالي شكري بعد ذلك، وهو يتابع الخط التطوري للقصة المصرية، عند روادها من أمثال محمود طاهر لاشين وعيسى عبيد؛ لنقفز إذن خمسة عشرة عاما بعد ظهور «زينب»، لنلتقي بمحمود طاهر لاشين، سنفاجأ بأن النظرة الرومانسية في الحياة والأدب على السواء بدأت تنقشع، لكن المفاجأة تصبح غير ذات موضوع، لو تتبعنا الخطوات التاريخية الرائعة التي نقلت المجتمع المصري - بعد ثورة 1919 - إلى مرحلة حضارية جديدة. إن السنوات التي بدأت بفشل الثورة الوطنية أخذت تشحن النفوس بقوى إيجابية جديدة، وفدت مع ثبات أقدام الطبقة المتوسطة، وبزوغ سلطانها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. صاحبت هذه الطبقة نظرة جديدة للحياة والإنسان والمجتمع، انعكست على آداب تلك الفترة وفنونها، ولنستعرض - على سبيل المثال - أقاصيص المجموعة الثانية لطاهر لاشين؛ المسماة ب «يحكى أن»، فنرصد الموضوعات التي طرقتها وأشكالها التعبيرية، لنحصل في النهاية على «اهتمامات العصر» ونظرة المجتمع إليها:
قواد يتظاهر بأنه من الأعيان وأنه فقد وعيه من الخمر، ويجر ضحاياه إلى داره وهي ماخور.
الكهلة المزهوة: امرأة عجوز أرمل، تتزوج من نصاب يبدد أموالها.
ونمضي مع المؤلف مرة أخرى، مع لمساته التفسيرية الباحثة، وهو يتعرض لقصة «حديث القرية» لطاهر لاشين، وقصة «مأساة قروية» لعيسى عبيد. لقد كانت القرية هي الأرضية الفنية التي اتخذت كمسرح للأحداث في قصص هيكل وعبيد ولاشين، ولعب فيها المعنى المتطور للجنس دوره الملحوظ. ما سر تلك العناية المفرطة بالريف آنذاك، ولماذا اختفى شبح المدينة فلا يكاد يلقي ظلاله على أحداث القصة المصرية عند هؤلاء الرواد؟ يرد غالي شكري على هذا التساؤل بأن «المدينة بشكلها الحضاري الجديد في ذلك الحين، لم تكن حفرت في وجدان الأدباء إحساسا عميقا بمشكلاتها وقضاياها؛ ذلك لأن التكوين الصناعي كان في خطواته الأولى المتعثرة، قبلما يصبح تكوينا متكاملا يدعي المدنية؛ ولعل توفيق الحكيم هو أول من أدرك هذا المعنى الجديد، فروايته «الرباط المقدس» - التي صدرت عام 1944 - قد أوضحت شعوره الحاد بالتمزقات الملتاعة، التي رافقت ذلك التكوين الحضاري الوافد.»
ونمضي مرة ثالثة مع غالي شكري، وهو يخرج بنا من أزقة القرية إلى شوارع المدينة، هناك حيث نواجه أول ما نواجه، كاتبنا الروائي الأول نجيب محفوظ؛ نواجهه في «السراب» وفي «خان الخليلي» و«القاهرة الجديدة»، و«بداية ونهاية» وثلاثية «بين القصرين»؛ وسنوافق المؤلف على بعض آرائه وسنختلف معه في بعضها الآخر، وعلى الرغم من ذلك تبقى حقيقة يسجلها له النقد، وهي أنه قد بذل جهدا ملموسا في قراءة نجيب محفوظ وفهمه وتمثله، ومحاولة النفاذ إلى أغوار شخصياته الفنية، على ما فيها من كثرة التعقيد وتشابك العلاقات.
في «الثلاثية» مثلا ينحصر مفهوم الجنس - تبعا لاختلاف الفهم والنظرة وتطور المجتمع - بين شخصية أحمد عبد الجواد الأب وياسين الابن الأكبر وكمال الابن الأصغر وأحمد شوكت الحفيد. الأب يضعه غالي شكري تحت المجهر ليكشف لنا عن الجزئيات الدقيقة المكونة لوجهة نظره العقلية والذوقية، بالنسبة إلى وضع المرأة الاجتماعي في عصره. لقد كانت وجهة نظره لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر المجتمع العبودي الأول، يوم أن كانت المرأة «شيئا» مسلوب الإرادة، «سلعة» تشترى حيث توجد القدرة على الشراء. لقد كان أحمد عبد الجواد في رأينا يتعامل عقليا مع الزوجة بنفس المستوى الذي يتعامل به مع العشيقة، كلتاهما «جسد» مشبع وشهوة عابرة، ولا يمنع من هذا أن يختلف الجسدان من حيث الوسيلة الغائية، حين تكون هذه الوسيلة هنا إشباع الرغبة وتكون هناك إنجاب النسل! وياسين الابن صورة مجسمة عن أبيه، وإن اختلفت الصورتان في بعض الخطوط. ولا بد من وقفة مع المؤلف؛ لأنه ينكر - من خلال وجهة نظر إصرارية - أن ياسين «شخصية موروثة»؛ الواقع أنه شخصية موروثة إذا ما قيمناه على ضوء السلوك الحركي الرامز إلى تكوينه النفسي، ذلك التكوين الذي يعد وليدا لاتجاه مذهبي يهدف إليه في فنه نجيب محفوظ، إنه اتجاه المذهب «الطبيعي» الذي يخطط الشخصية الإنسانية سيكولوجيا، على مدار عاملين رئيسيين هما البيئة والوراثة.
لقد كان ياسين ابن بيئته كما كان ابن أبيه مرة وابن أمه مرات؛ ابن بيئة الطبقة الوسطى المحدودة الثقافة، التي يتفق مستواها التقييمي للمرأة مع مستواها العقلي - أقصد مستوى هذه الطبقة - المتجمد حيال مفهوم الحياة؛ وابن بيئة الطبقة الوسطى من التجار، حيث تتركز النظرة إلى أكثر الأشياء - ومن بينها المرأة - على أنها سلع عامة لا تصلح لغير الاستهلاك. هو ابن بيئته عبر هذا التفسير المستمد من حركات السلوك الإرادي والسلوك الفاقد للإرادة، وهو ابن أبيه حين يرث عن هذا الأب أكثر مقومات التذوق الجسدي للمرأة، بكل ما فيه من ضراوة الشهوة واندفاع الغريزة وتصارع النزوات. وهو في النهاية ابن أمه في علاقاته الجنسية المنحطة التي يهبط فيها الذوق ذلك الهبوط البشع في مجالات الاختيار؛ لقد عرفت أمه هذا اللون من العلاقات وطلقت بسببه من أبيه، واستمرأت ذلك التمرغ في الوحل بعد الطلاق. وياسين ثمرة أنضجتها الوراثة من تلك الشجرة، كان يترك الزوجة الجميلة ليرتمي - مرة بعد مرة - في أحضان الخادمات الدميمات، وتبعا لهذا الدرك الأسفل من الارتباطات الجنسية الهابطة، لم يستطع ياسين أن ينعم يوما بحياة زوجية مستقرة!
ونعود بعد ذلك إلى كمال لنراه من وراء المنظار، الذي اختاره غالي شكري للرؤية النقدية ... إن كمال - على النقيض من ياسين - لا يضع العلاقة الجنسية في مكانها الطبيعي، بل يتجاهلها تماما، فيبدو «مشوها» في تكوينه النفسي وسلوكه الاجتماعي؛ يبدو هذا في عزوفه المطلق عن الزواج، وفي خطواته الوجلة المتعثرة نحو بائعات اللذة، وفي الحركة الميكانيكية الصماء، التي يمارس بها هذه العلاقة. ويفقد «الجنس» قيمته الحقيقية بعدما أكسبه كمال قيمة رومانسية، كما أكسبه ياسين وأحمد عبد الجواد من قبل، قيمة إقطاعية!
أما أن كمال قد أكسب الجنس قيمة رومانسية فهذا صحيح، ولكن كلمة «مشوه» بالنسبة إلى تكوينه النفسي وسلوكه الاجتماعي، تبدو لنا وهي تعبير غير دقيق، فليس كل عازف عن الزواج يعتبر تركيبة نفسية مشوهة، وعلى الأخص إذا كان واحدا من هذا النمط الذي ينتسب إليه كمال، ويرتبط بقيم ثقافية معينة؛ قد يكون العزوف بالنسبة إلى المثقفين موقفا من المواقف إزاء الحياة الزوجية، أو خطا من خطوط الاتجاه العقلي في لقاء الوجود. إن سيمون دي بوفوار مثلا في كتابها «قمة أيام العمر»، تفسر لنا لماذا اتجهت عقليا إلى أن تكون - بالنسبة إلى سارتر - رفيقة فكر وليست رفيقة حياة، أو لماذا قررت ألا تكون زوجة يترتب على ارتباطها به أن تنجب عددا من الأبناء. إن الوجود في رأيها مزيج من العبث، وهي لا تريد - كما تقول - أن تشارك عن طريق الزواج والنسل، في مشكلة التكثيف الكمي لهذا العبث!
هي وجهة نظر عقلية وليست تشويها في التكوين النفسي. وبالنسبة إلى كمال - كواحد من المثقفين في جيله، ومن خلال التخطيط النفسي لشخصيته - ينصب عزوفه عن الحياة الزوجية في قالب من التعبير الموقفي عن وجهة نظر خاصة، قوامها أن الزواج بأعبائه ومسئولياته يحيل حياة الفرد إلى «عملية حسابية»؛ وعندما تتحول الحياة إلى عملية حسابية تصبح وهي شيء لا يطاق! وعندما نذكر في مجال معنى الجنس إشارة المؤلف إلى خطوات كمال المتعثرة نحو بائعات اللذة، والحركة الميكانيكية التي كان يمارس بها العلاقة الجنسية، يتمثل لنا كمال وهو تركيبة نفسية «مأزومة» وليس تركيبة نفسية «مشوهة»؛ لقد كان وجوده الداخلي ميدانا رحبا لعديد من التيارات الانعكاسية المتصارعة، تلك التيارات التي كانت تصنع أزمة المثقفين في جيله؛ لدينا صراعه الطبقي مع «عايدة»، ضياعه الاجتماعي كمثقف، انحلال المجتمع من حوله، سخطه - كمرتبط بحزب الأغلبية الشعبية في بلده - على حكم الأقليات الذي كان يسانده الاستعمار والقصر؛ كل تلك الجذور الرهيبة التي استقرت في تربة نفسه، وتفرعت منها امتدادات وجوده، هي المسئولة عن كل جوانب وضعه الإنساني المتأزم. من هنا كان التعثر في إقباله على المتعة الجنسية، ومن هنا كان الشعور الأصم في لقاء المرأة؛ لأنه إقبال الملول وشعور المهزوم، ذلك الذي يريد أن يفرغ طاقة السخط الحسية في كأس من الخمر أو نزوة من الجسد، وهو في كلتا الحالتين هارب من نفسه هنا وهناك!
Página desconocida