وها نحن أولاء قد رأينا عشاقا يتمنون الموت لمن يحبون، وعشاقا يتمنون التشويه لمن يحبون، وعشاقا يتمنون الخلاص ممن يحبون، ورأينا أنهم أحبوا وصدقوا التعبير عن الحب، وإن عيبت عليهم الأثرة أو الغفلة أو الجفاء. فلا غرابة إذن في شعر غرامي تعوزه الضراعة والشكاية، أو يعوزه الثناء والاستحسان، ولا شرط للغزل الصادق إلا التعبير عن الشعور، الذي يختلج في قلب صاحبه كائنا ما كان الرأي فيه وفي خلقه وعقله وأمانيه.
مكانته في الصناعة الشعرية
نشأ جميل نشأة أدبية صالحة لموطنه وعصره، وتخرج في مدرسة الشعر كأحسن ما يتخرج الشاعر بالحجاز في القرن الأول للهجرة، فكان - كما جاء في كتاب الأغاني - «راوية هدبة بن خشرم، وكان هدبة شاعرا وراوية للحطيئة، وكان الحطيئة شاعرا راوية لزهير وابنه»، فاجتمعت له الرواية والشعر مسلسلة من أساتذة فحول مشهود لهم بين الرواة والشعراء.
وكان بعض المشهورين بعلم الشعر في زمنه يفضلونه على الشعراء كافة، ويقولون أنه أشعر أهل الإسلام والجاهلية.
فروي عن نصيب الشاعر أنه قال: قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها بالشعر فقيل لي: الوليد بن سعيد بن أبي سفيان الأسلمي، فوجدته بشعب سلع مع عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أزهر، فإنا لجلوس إذ طلع علينا رجل طويل بين المنكبين، طوال، يقود راحلة عليها بزة حسنة. فقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن أزهر: يا أبا جبير، هذا جميل؛ فادعه لعله أن ينشدنا. فصاح به عبد الرحمن: هيا جميل! هيا جميل! فالتفت فقال: من هذا؟ فقال: أنا عبد الرحمن بن أزهر. فقال: قد علمت أنه لا يجترئ علي إلا مثلك. فأتاه، فقال له: أنشدنا. فأنشدهم:
نحن منعنا يوم أول نساءنا
إلى آخر الأبيات ... ثم قال له: أنشدنا هزجا. فسأل: وما الهزج؟ لعله هذا القصير؟ قال: نعم. فأنشده:
رسم دار وقفت في طلله
كدت أقضي الحياة من جلله
حتى فرغ من القصيدة، ثم اقتاد راحلته موليا. «فقال ابن الأزهر: هذا أشعر أهل الإسلام. فقال ابن حسان: نعم والله، وأشعر أهل الجاهلية، والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه. فقال عبد الرحمن بن الأزهر: صدقت!»
Página desconocida