46

هجان وأني مصعب ثم نهرب

نكون بعيري ذي غنى فيضيفنا

فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب

وعيره نظراؤه حين شاعت هذه الأبيات، فقالوا له: «ويلك! تمنيت لها ولنفسك الرق والجرب والرمي والطرد والمسخ، فأي مكروه لم تتمن لها ولنفسك؟ لقد أصابها منك قول الأول: «معاداة عاقلة خير من مودة أحمق!»

وصدقوا والله ما من أمنية هي أدعى إلى الضحك والسخرية من هذه الأمنية التي سألها كثير. ولكن من قال: إن كثيرا لم يكن مضحكا وسخرة حتى يستغرب منه أن يتمنى هذه الأمنية، وأن ينظمها في تلك الأبيات وهو صادق التعبير؟

فقد وصفه بعضهم فقال: «رأيته في الطواف فمن قال لك: إنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذبه!» ووصف بعض عشرائه حماقته فقال: إن كثيرا لقيه فسأله: ماذا يقول الناس عني؟ فأجابه: إنهم يزعمونك المسيح الدجال ... قال كثير: عجبا، والله إني لأحس في عيني بعض الضعف منذ اليوم!

فمثل هذا الرجل يستغرب منه إذا غلبته العاطفة أن يعبر عن نفسه، فلا تفلت منه أمثال تلك الأبيات، فهذا موضع الغرابة وليس موضعه أنه يصدق في التعبير عن ذات نفسه، كما صدق في التعبير عما تمناه.

عاشق زري المنظر، مستحمق العقل، ضعيف الحيلة، يزاحمه الناس على محبوبته، ويخشى أن يغلبه كل مزاحم عليها؛ لأنه أجمل منه منظرا وأقدر على الإغواء والإغراء، ثم تنغصه الوساوس، وينظر في وسيلة يأمن بها على صاحبته فيتركها الناس له ويتركونه لها، فلا يجد من وسيلة قط غير ابتلاء عزة بالبلاء الذي يزهد الناس فيها ويقصرها على حبه وولائه دون غيره، فيبتعد الناس عن عزة، وتبتعد هي عنهم ضرورة لا محيد لها ولا لهم عنها، أما أن يبعدهم هو أو يبعدها، فقد علم أنه لا يستطيع ولا يملك من فتنة ولا حيلة تعينه على ما يريد. فماذا هو صانع؟! أيتركها؟! إنه لا يقوى على تركها ... أيحميها؟! إنه لا يقوى على حمايتها، فلا عجب إذن أن يخطر له ذلك الخاطر، وأن يتمنى الشيء الوحيد الذي يصون له محبوبته بمأمن من الغواة والمزاحمين، وهو ما تمناه وصدق في تمنيه.

ويخيل إلينا أن كثيرا قد رأى البعيرين الموصوفين رؤية العيان؛ لأنه منظر لا يندر أن يصادفه الناظر مرات حيث عاش كثير، فوقع له أن هذين البعيرين سعيدان، حيث يسرحان ولا يطلبهما مالك ولا راع، ولا هما سائلان عن علف وشراب، فتمنى السعادة على هذا المنوال، وشهدها بالعين قبل أن يتمناها في الخيال.

أتقول: إنه سخيف؟ نعم! هو سخيف لا مراء، ولكنه محب يصدق في التعبير عن حبه، ويدل عليه دلالة لا اصطناع فيها، فلا محل للخلط إذن بين سخف القائل وصدق ما قال، ولا محل كذلك لاتهام عاطفته بما كان من رداءة تمنيه؛ لأنه أحب فنغصه الحب وحيل بينه وبين التماس الراحة من غير هذه الطريق.

Página desconocida