وأغلقت الكتاب لا لكي أستريح، وإنما لكي أغمض عيني وأتأمل كل ما قرأته من أرقام، أتأمله على ضوء جديد؛ فكل منا يحيا في قطاع خاص به بالكاد يعرفه، ومعلوماته من بقية قطاعات حياتنا نادرة وأحيانا كثيرة في حكم المعدومة. هذا السجل يخرج بك من هذه الدائرة الضيقة إلى دائرة وجودنا كله. لقد تغيرت فكرتي عن بلادنا وجمهوريتنا وتجارتنا وزراعتنا وصناعتنا بعد قراءة الكتاب، لكأنه أخذ بيدي وجعلني أصعد إلى مكان عال، إلى أعلى مكان أستطيع أن أرى منه بلادنا كلها وكل ما فيها من أوجه نشاط. ولو أن أعظم الكتاب هو الذي كتبه لما كان باستطاعته أن يبهرني ويلهبني ويغير من نظرتي مثلما فعلت بي أرقام ذلك الكتاب الصغير.
إني لا أجد على غلاف الكتاب أسماء لأحييها، وكمواطن لأشكرها على الفكرة والمجهود الضخم الذي لا بد قد بذل لجمع هذا كله ومقارنته وتنسيقه. لا أجد سوى اسم إدارة التعبئة العامة. شكرا لها وللعديد من جنودها العاملين في صمت، المخلصين.
في سطور
الرد الطويل الذي جاءني من إدارة المعاشات حول موضوع الشاويش الذي توفي وترك أولاده السبعة وزوجته وأمه وأخته يكافحون من أجل الحصول على المعاش، رد مؤثر حقا روعت لما جاء فيه. ليست المشكلة أن إدارة المعاشات خرجت بريئة من التقصير، ولكن المشكلة التي أنستني مآسي الروتين وتأخر الصرف وكل تلك الشكليات أن معاش هذا الشاويش، المعاش الذي يحيا عليه سبعة أبناء وزوجة وأم وأخت هو مبلغ ثلاثة جنيهات و660 مليما لا غير؛ يعني بواقع اثني عشر قرشا في اليوم، وهم عشرة أفواه لو تناول كل منهم رغيفا في الوجبة لكان عليهم أن يشتروا ثلاثين رغيفا ثمنها 15 قرشا. من أين الطعام إذن والكساء والسكن ومصاريف المدارس؟ إننا فقراء إلى درجة مخيفة، ذلك هو ما خرجت به؛ فلا شك أن هناك أسرا تحيا بغير معاش، أسر الفلاحين والعمال الزراعيين، وتحسد أسرة كهذه على ثروة الجنيهات الثلاثة والستمائة وستين مليما. وبعد هذا يتظلم البعض من القوانين الاشتراكية تلك التي تجعل الحد الأعلى للدخل عشرة آلاف جنيه؟! ماذا لو كان على أصحاب دخل كهذا أن يحيوا بمعاش الشاويش؟ ألا يحمدون الله على أنهم في بلاد تسمح لهم بأن يحيا الفرد الواحد، بمبلغ يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة ضعف من معاش أسرة بأكملها مكونة من عشرة أشخاص؟ ألا يحمدون الله؟!
أطرف ما سمعته هذا الأسبوع أن هناك شحاذا «ماشي» مع راقصة بأحد الملاهي الليلية، وأنه ينفق عليها ما لا يقل عن الخمسين جنيها شهريا. إذا أردتم معرفته فهو الشحاذ الشاب الذي يرتدي نضارة سوداء ويقف مثنيا على نفسه في منطقة سينما ريفولي، والغريب أنه لا يخفي حقيقته عن صديقته، وإذا سألته عن عمله قال أنا سائل.
ليس اتهاما للأطباء
هذه المغامرة الصحفية التي قام بها اثنان من محرري الجمهورية، وزار أحدهما فيها عددا من أساتذة كليات الطب في الإسكندرية والقاهرة وادعى فيها أنه مريض، وادعى الثاني أنه قريبه العامل، والتي اختلف فيها الأطباء حول تشخيص «مرض» المحرر وكتبوا له 31 دواء مختلفا بعد أن حللوا له الشاي باعتباره البول، وكشفوا عليه «بالأشعة». هذه المغامرة كلها لا أوافق عليها، لا من الناحية الطبية كما قد يتبادر إلى الذهن ولكن من الناحية الصحفية المحضة؛ فالطب علم ورسالة، أي نعم، ولكن الصحافة أيضا علم ورسالة، فإذا «خدعنا» نحن بعض الأطباء لنثبت أنهم «يخدعون» فإن الغاية هنا لا تبرر الوسيلة؛ لأن الوسيلة الخطأ لا تؤدي إلا لغاية خطأ، تماما مثل من يدعي أنه يعمل للسلام ويحارب من أجل أن يسود السلام. إنه حينئذ لا يعد رسول سلام، إنه رسول حرب مهما رفع فوق رأسه شعار السلام وجعجع به. وليتصور الواحد منا نفسه طبيبا جالسا في عيادته، وإذا بشخص يقبل ويدفع أجرة الكشف ويقول له عندي مغص في جانبي الأيمن. كيف لا يأخذ كلامه حينئذ قضية مسلمة بها ويبدأ بحثه لتشخيص المرض من هذه النقطة، من شكوى المريض؟ فأحيانا، بل في حالات المغص بالذات لا يوجد أية علامات أخرى للمرض غير شكوى المريض، وما دام المريض في تلك الحالات يشكو من مغص فلا بد أن هناك مرضا ما ولا بد أن يصف الطبيب علاجا للمرض، ولا بد أن يختلف الأطباء حول التشخيص فأسباب المغص في الجانب الأيمن عديدة، ولكل سبب منها علاج مختلف.
من ناحية المبدأ نفسه معظم ما قاله الزميل الصحفي لا يصلح اتهاما يوجه إلى الأطباء الذين ذكر أسماءهم وعناوينهم، وليس فيه ما يدينهم سواء بينهم وبين أنفسهم أو بينهم وبين زملائهم ومواطنيهم. صحيح هناك عشرات الأخطاء والجرائم التي يرتكبها عدد من الأطباء؛ تماما مثلما هناك عشرات الأخطاء والجرائم التي يرتكبها بعض المحامين أو المهندسين أو الصحفيين؛ فلا توجد فئة سليمة، أو فوق مستوى النقد والشبهات، ولكن لا يجب أبدا أن نأخذ البريء بذنب المسيء، ولا يجب أبدا أن نعيب على بعض أساتذة الطب أنهم يأخذون نقودا في عيادتهم للكشف على المرضى طالما أن المجتمع يصرح لهم بفتح هذه العيادات. والخطأ الأكبر الذي قد نتورط فيه هو أن نعتقد أن العيب في علاج المواطنين والعناية بصحتهم راجع إلى فساد بعض الأطباء. كلام كهذا يعتبر تخريفا لأننا في هذه الحالة يصح أن نقول إن تأخير صناعتنا راجع إلى فساد ذمم بعض المهندسين مثلا.
العلاج لدينا يتعثر؛ لأن معظمنا فقراء لا نستطيع معالجة أنفسنا، والدولة نفسها لا تستطيع معالجتنا. العيب في مستوانا الاقتصادي المتخلف، العيب في الاستعمار الذي أنهكنا وهد قوانا.
إن ما حدث لا يعد اتهاما لبعض الأطباء بقدر ما هو اتهام لبعض الأوضاع التي عانينا منها ولا نزال نعاني.
Página desconocida