كلمة
نحن في حاجة إلى كمادات!
السندباد منسي
أهم قرار
عنتر وجولييت
خواطر
في انتظار الانفجار
فنانة جديدة
وقفات سريعة أول الطريق
عمل كبير
Página desconocida
قهر الإيمان
الرجل الذي حسدته
يوميات
سرير واحد يتنازعه 3000 إنسان
عبد الوهاب ضحك علينا وعلى وزارة الثقافة
مرة أخرى، عبد الوهاب والأوبريت
ليلة وراء الكاميرا
البلد، بلدنا كبر
الدعاية العملية
أيام في التليفزيون
Página desconocida
جوائز الدولة
أنا أزاول السياسة كصحفي
قابلت سارتر في «الكافتريا»
الطبيبة التي قالت إن دراسة الطب لم تفقدها أنوثتها!
عشيق الليدي تشاترلي وقضية الجزائر
بداية ونهاية مرة أخرى!
ولك مني أطيب التمنيات
لماذا نتركهم ينتظرون
3 كتب
أنخدع أنفسنا؟
Página desconocida
الحامية وإيفان جيب والوشم الأخير
درس من سبندر
العجوز والصحراء
الشعر والبوتاجاز
الجزائر في خطر
مرحبا بزافاتيني، ولكن ...
ليس بمستوى المعيشة وحده
فيلم الخرطوم
دكتور زيفاجو
سيد درويش
Página desconocida
واحد من مطربي العشرين مليون كادح
أمريكي يتساءل: هل عندنا حرية؟
إلى أين أيها السادة؟!
لغز صلاح جاهين
من شرفة المجلس
القنبلة الثالثة
ذرة إنسانية يا ناس
سستر أكتورا
صديقي العائد
نغمة اليوم في العراق
Página desconocida
جربت فيه كل المذاهب
نغمة العام
البلد الذي يحكمه البروفيسيرات
المشكلة النظرية في بولندا
لا تناقض بين الخبز والحرية
التطورات الأخيرة في الجزائر ليست مفاجأة
هل انتهى الصراع في الجزائر
بن بيلا لم يحصل على 99٪
شكرا للتعبئة
في سطور
Página desconocida
ليس اتهاما للأطباء
اللعبة القادمة
حظ الشرقية السيئ
حين كشف الدكتور أنور المفتي على القرية
كلمة
نحن في حاجة إلى كمادات!
السندباد منسي
أهم قرار
عنتر وجولييت
خواطر
Página desconocida
في انتظار الانفجار
فنانة جديدة
وقفات سريعة أول الطريق
عمل كبير
قهر الإيمان
الرجل الذي حسدته
يوميات
سرير واحد يتنازعه 3000 إنسان
عبد الوهاب ضحك علينا وعلى وزارة الثقافة
مرة أخرى، عبد الوهاب والأوبريت
Página desconocida
ليلة وراء الكاميرا
البلد، بلدنا كبر
الدعاية العملية
أيام في التليفزيون
جوائز الدولة
أنا أزاول السياسة كصحفي
قابلت سارتر في «الكافتريا»
الطبيبة التي قالت إن دراسة الطب لم تفقدها أنوثتها!
عشيق الليدي تشاترلي وقضية الجزائر
بداية ونهاية مرة أخرى!
Página desconocida
ولك مني أطيب التمنيات
لماذا نتركهم ينتظرون
3 كتب
أنخدع أنفسنا؟
الحامية وإيفان جيب والوشم الأخير
درس من سبندر
العجوز والصحراء
الشعر والبوتاجاز
الجزائر في خطر
مرحبا بزافاتيني، ولكن ...
Página desconocida
ليس بمستوى المعيشة وحده
فيلم الخرطوم
دكتور زيفاجو
سيد درويش
واحد من مطربي العشرين مليون كادح
أمريكي يتساءل: هل عندنا حرية؟
إلى أين أيها السادة؟!
لغز صلاح جاهين
من شرفة المجلس
القنبلة الثالثة
Página desconocida
ذرة إنسانية يا ناس
سستر أكتورا
صديقي العائد
نغمة اليوم في العراق
جربت فيه كل المذاهب
نغمة العام
البلد الذي يحكمه البروفيسيرات
المشكلة النظرية في بولندا
لا تناقض بين الخبز والحرية
التطورات الأخيرة في الجزائر ليست مفاجأة
Página desconocida
هل انتهى الصراع في الجزائر
بن بيلا لم يحصل على 99٪
شكرا للتعبئة
في سطور
ليس اتهاما للأطباء
اللعبة القادمة
حظ الشرقية السيئ
حين كشف الدكتور أنور المفتي على القرية
جبرتي الستينات
جبرتي الستينات
Página desconocida
تأليف
يوسف إدريس
كلمة
لم أكن في نيتي أن أفعل هذا، ولكن الأصدقاء والقراء تكاتفوا علي، وأرغموني إرغاما أن أصدر هذه اليوميات في كتاب قائلين - على سبيل الحجة: إن كل مجد الجبرتي أنه كتب يومياته عن أواخر حكم المماليك والحملة الفرنسية وما تلاها، وما كان يؤرخ لها أو يطمع أن يذكره التاريخ. كل ما في الأمر أنه كان صادقا مع انفعاله بالموقف اليومي وبالتالي المصيري لما يحدث في مصر. وقد كنت أنت - يقصدون أنا - كذلك ملتصقا بيوم شعبك أقصى الالتصاق منذ كتبت، رانيا إلى ثورة وأنواع كريمة من الحياة وضعت ثلاثة أرباع طاقتك الكتابية في يومياتها خلال الستينيات.
فكيف تترك هذا، «لدشت»، الصحف ومجلداتها؟! إنه ماض حدث في الستينيات ولكنه واقع يحدث حتى اليوم. فلماذا لا تجعل منها كتاب يوميات؟
وها أنا ذا بناء على رغبتهم أفعل.
وهذه المرة مؤمن تماما بما أفعل.
فليقرأها القارئ.
وليترك نفسه على سجيتها وهو يقرؤها ويستقبلها؛ فأنا لم أفندها حسب المواضيع وإنما حسب الوحي وتاريخ نشرها، كما تركت نفسي أنا على سجيتها وأنا أكتبها وأرسلها.
وليس لي أي مطمع في ذكر تاريخي أو أدبي.
Página desconocida
حتى لو كانت قد استغرقت ثلاثة أرباع طاقتي أو عمري.
د. يوسف إدريس
نحن في حاجة إلى كمادات!
المناخ الفني والأدبي عامر بالتفاهات والأعمال المسلوقة والقيم المهدرة والزعيق والمدعين، وفي مثل ذلك الجو يموت الفن الحقيقي. وتتكفل مئات الدبابير بقتل النحل النادر المنتج. أما من شجاع واحد يقول كلمة الحق في هذه الضجة المحمومة؟
الحركة الفنية والأدبية تمر بفترة عصيبة لم تشهد لها بلادنا مثيلا في تاريخها. إنها في حالة حمى، درجة الحرارة مرتفعة لا من جودة الأعمال الفنية والأدبية، وإنما من شدة الزحام وعلو الضجة واختلاط الحابل بالنابل واندحار القيم. أي مخبر صحفي باستطاعته بين يوم وليلة أن يكون فنانا وكاتبا، ويقدم أعمالا للسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون. أي إنسان قرأ كتابا عن الإخراج باستطاعته أن يخرج أعمالا، فنية، يحتار في تقييمها النقاد. أي إنسان يفك الخط باستطاعته أن يؤلف أغنية تقبلها الإذاعة وتصبح من مختاراتها. أي مجموعة مقالات باستطاعتها أن تصبح كتابا محترما يناقشه النقاد في البرنامج الثاني وأعمدة النقد. أي بطل حلقات باستطاعته أن يؤلف قصصا ويضع نفسه على قدم المساواة مع شابلن. أي عازف باستطاعته أن يؤلف موسيقى تعزفها فرقة القاهرة السيمفونية. أي صاحب نجمة أو زوجها باستطاعته أن يكون ممثلا ونجما. وأي ممثل باستطاعته أن يكون مخرجا ومنتجا وأي قارئ لمقال عن الاشتراكية باستطاعته أن يكون كاتبا اشتراكيا. وأي كاتب يوميات باستطاعته أن يؤلف للمسرح والسينما والإذاعة. وأي عائد من الخارج باستطاعته أن يكون عبقريا ودكتورا في الإخراج. وأي إنسان باستطاعته أن يكون أي شيء في أربع وعشرين ساعة وربما أقل.
وأنا لا اعتراض لي على هذا كله ولا أطالب أبدا بإيقافه؛ فمن حق أي إنسان أن يعتقد أنه يصلح لأي عمل وأن يزاول هذا العمل بالطريقة التي تحلو له، بل نحن في حاجة إلى آلاف من الممثلين يجربون أنفسهم في الكتابة، وآلاف من الكتاب يجربون أنفسهم في التمثيل، وآلاف من نجوم الكرة يلعبون في البلاتوهات، وآلاف من مقدمي البرامج يصبحون مخرجين، وآلاف من الباعة الجائلين يحترفون الغناء ، وآلاف من راقصات الكباريهات يصبحن منتجات، وآلاف من المنتجين يزاولون الاقتباس والتأليف، كل هذا جائز بل وواجب؛ فمن حق أي مواطن أن يعتقد أنه فنان، وأن يفنن وأن يحاول أن يجد لفنه جمهورا.
أما الشيء الذي أعترض عليه حقيقة؛ الظاهرة التي جعلت من هذه الفوضى حمى ووصلت بوجداننا الفني إلى حد الهلوسة والتخريف، فهو موقف النقاد من هذا كله، أو بالأصح موقف الحركة النقدية؛ فالحركة النقدية في كل بلاد العالم تقف موقف الغرابيل والمناخل من الإنتاج والمنتجين. وهو موقف حيوي وخطير؛ فلولا الغرابيل والمناخل في المطاحن لأكل الناس الخبز مختلطا بالطوب والزلط والداتورة، ولأصيب الناس بالتسمم وعاش آخرون في حالة غيبوبة. إنها ظاهرة صحية هذه الكثرة من الإنتاج، هذه الرغبة في الفضفضة؛ فلقد عاش مجتمعنا أحقابا طويلة يكبت ويتقوقع على مشاكله وأمراضه وأوجاعه، وما يحدث الآن إن هو إلا محاولات لطرد هذه الأمراض والأورام إلى الخارج تمهيدا للتخلص منها وللتحرر من قبضتها ولتطهير جوف المجتمع. هي إذن ليست ظاهرة فنية ولكنها ظاهرة اجتماعية صحية، ولكن الكارثة الكبرى أنها تحدث على حساب فننا وأدبنا وقيمنا الثقافية، وقد نشفى بفضلها اجتماعيا لكي نمرض فنيا وثقافيا مرضا لا يقل خطورة عن المرض الاجتماعي؛ إذ إن هذه الإفرازات الاجتماعية التي تخرج متنكرة على هيئة «فن»، يعود المجتمع ويبتلعها بحكم حاجته إلى استهلاك الفن. وكأن المريض يعود لابتلاع طفحه المرضي.
لهذا كان لا بد للحركة النقدية أن تنشط نشاطا حادا متزايدا كي تلعب دور الرقابة الصحية الفنية، كي تميز الفن من اللافن، كي تغربل وتدقق وتشيد بالجيد وتحيل النفاية إلى أماكن حرق القمامة.
ولكن الحركة النقدية هي الأخرى وكأنما أصيبت بالعدوى؛ فقد امتد ادعاء التأليف إلى ادعاء النقد حتى أصبحنا كلنا نؤلف وننقد ونتعصب ونتظاهر ونصرخ ونتشنج وندوس القيم الفنية بأرجل الحاقدين أو أرجل المجاملين والمطيباتية، وكله عند العرب صابون، كله «شرب»، ولا مانع أن يصبح الشرب إسهالا وكوليرا ووباء يطيح بكل شيء، ماذا يهم ما دمت سأجامل بنقدي صديقا أو سأهاجم عدوا أو شخصا ثقيل الدم؟ وهل أنا كاتب قصة لأحرص على القصة أو كاتب مسرح لأفكر في مستقبل المسرح، أو مسئول عن صناعة السينما أو الإذاعة أو التليفزيون لأحرص على مستقبل هذه الأدوات؟
والنتيجة أننا حققنا نظرية الكم في العبقرية، فأصبح عندنا ألف كاتب عبقري، وألف مخرج عبقري، ممثل عبقري، وألف ناقد عبقري، ومليون كاتب، مخرج، ممثل، ناقد، صحفي، إذاعي، تليفزيوني، سينمائي، عبقري.
Página desconocida
أيها السادة، إننا في حالة حمى شديدة وصلت إلى المراكز العليا في عقولنا الفنية ولم يسلم منها حتى كبار النقاد، ولم نعد نستطيع في حالة الهلوسة تلك أن نميز الخبيث من الطيب أو نقول كلمة الحق. وإذا كانت هذه الحمى مصحوبة بتضخم في حركتنا الفنية والأدبية فهو تضخم كالأورام السرطانية بلا هدف، ولا يمكن أن يكون شيئا نافعا لجسد أمتنا، بالعكس إنه ينخر في وجدان شعبنا ويمتص رحيقه، كل ما نطلبه الآن أن نضع فوق رءوسنا جميعا كمادات من الثلج البارد، كميات هائلة من الثلج، ثلج الحقيقة والصدق، ثلج الضمير، تخفض من هذا الغليان وتوقف التخريب كي نعود نرى قيمنا الفنية المهدرة، كي نعود نحس بالمسئولية، كي نندفع في إزجاء آيات إشادة أو حب الهجوم دون وازع أو خجل من النفس. إننا في حاجة إلى رجل عاقل واحد في وسط هذا المولد كله. أو إلى مجموعة من الرجال العاقلين تعيد حركتنا الفنية والأدبية إلى صوابها. فلا يغرنا الضجة الفنية الشديدة من حولنا فإنها ضجة بائعين جائلين، وكلاكسات نفاق، وخناقات كخناقات السوق سببها دائما الخلاف حول السعر والمصلحة. أما التقدم الحقيقي فلا وجود له بالمرة، في المسرح نحن لا زلنا نحيا على الثورة المسرحية الأولى التي حدثت في أعقاب العدوان، وفي السينما نحن لا زلنا في عصر حسن الإمام، وفي التليفزيون لا زلنا عند تمثيليات الإذاعة، وفي الإذاعة لا زلنا عند حواديت الشاطر حسن، وفي التمثيل لا زلنا عند مدرسة زكي طليمات، وفي الإخراج المسرحي لم نقم إلا ببضع تحسينات تكنيكية ولكنا بعد لم نصل إلى أسلوب خاص بنا. وبشكل عام نحن قد تركنا جانبا مرحلة الخلق الفني وانتبهنا جيدا لمرحلة المتاجرة في الفن، أما النقد الفني فإني أترك النقاد لضمائرهم.
إني أعرف تماما أن كلمتي هذه ستثير ثائرة المستفيدين الكثيرين من هذه الفوضى المحمومة، ولكني أعرف أيضا أنها ستكون بردا وسلاما على قلوب الفنانين الحقيقيين الحريصين على إنقاذ الفن من حمى الفن، وإنقاذ النقد من هلوسة النقد، وإعادة الوعي إلى ضميرنا الثقافي الغائب؛ إذ الوضع جد خطير؛ ففي مثل ذلك المناخ الموبوء المحموم لا يمكن أن يظهر عمل فني حقيقي، أو إن ظهر فإنه حتما سيضيع في ضجة الكلاكسات والأبواق والصراخ والعويل القائمة الآن على قدم وساق.
السندباد منسي
إنه ليس في حاجة لكلمة عابرة، إن مغامراته في حاجة لكتاب. إن اسمه يسبقه الآن عدد كبير من الدرجات العلمية وشهادات الدكتوراه، ولكنك لو جلست تسمعه لتوارت مغامرات السندباد البحري والبري والجوي أيضا. لقد كان طالبا في كلية الآداب بالإسكندرية وعرف أن هناك رحلة إلى إنجلترا نظمها المعهد البريطاني بتسعة وعشرين جنيها لمدة ثلاثة أسابيع، وقبل الامتحان بشهر اشتغل في شركة الغزل كعامل لوزن القطن ليدبر المبلغ. ولم يستطع فظل يبحث حتى وجد «واسطة» لقبطان الباخرة الذي عهد إليه بعمل على السفينة في مقابل أجرة سفره، ووصل إلى هناك. وفي خلال الأسابيع الثلاثة استطاع إتقان الإنجليزية إلى درجة أن قيدته جامعة ليفربول بين طلبة الماجستير، وقبل أن تنتهي المدة كان قد وجد عملا «كجنايني» عند أحد ثراة مدينة ليفربول، وجنايني بعد الصبح وطالبا بعد الظهر، ثم كعامل في مصنع السكر الوحيد هناك. استطاع أن يحيا بين العمال الإنجليز ويصاحبهم ويدرس أدق تفاصيل حياتهم ولغتهم ومشاكلهم، ولكنه فصل من الجامعة لاكتشاف أنه يعمل، فقابل المدير وأقنعه بأن يعيده إلى أن ينال الماجستير، ونالها، ونال الدكتوراه ثم انتقل إلى لندن ووجد أن الدكتوراه في الأدب العربي سهلة جدا ولا تحتاج إلا لمعلومات قليلة فأخذها بالمرة، ورشح نفسه في اتحاد الجامعة وأصبح السكرتير، وأقام مناظرات عرفته بعدد كبير جدا من شخصيات المجتمع الإنجليزي، وتحدى مرة ويشارد كروسمان عضو حزب العمال البارز واتهمه بمناصرة إسرائيل على العرب، وصادق إديث سمر سكيل وبربارة كاسل الكاتبة والنائبة العمالية الذائعة الصيت، وهاجم إيدن في وجهه في أثناء العدوان واتهمه بالخيانة علنا وأمام الطلبة من أعضاء حزب المحافظين، وصادق الكاتب المسرحي بيكيت، وعشق التأليف المسرحي فكتب رواية متواضعة جدا وجعل بيكيت يسهر أسبوعا بأكمله يسمعها منه، وتعرف إلى ابنة عم ملكة بريطانيا الأميرة ألكسندرا حتى دعته في حفلة عيد ميلادها. وفي الحفلة التي لم يحضرها سوى أعضاء الأسرة المالكة البريطانية وجد الملكة إليزابيث الأم واقفة فتقدم منها وطلب مراقصتها فقبلت ورقصت عدة مرات معه. وخرجت الصحف البريطانية تتحدث في اليوم التالي عن «الأمير الباكستاني» الذي كان المدعو الوحيد الغريب في حفلة عيد الميلاد. وكان مارا من أمام قصر سان جيمس مرة فوجد أضواء القصر متلألئة والعربات الفخمة تقف وينزل منها مدعوون تبدو عليهم سيماء الوقار والخطورة، فقال لنفسه: وإيه يعني؟ ودخل القصر ووجد الحاضرين يقفون طابورا طويلا ليسلموا على الملكة فانضم إلى الطابور، وحين اقترب منها همس له سكرتير الملكة الخاص ألا يبدأ الملكة بالحديث وأن يكتفي فقط بردود مؤدبة على كلماتها، ولكنه حين وصل إليها بدأها بالحديث وسألها عن صحتها وكيف قضت الليلة في القطار إذ كانت قادمة من اسكتلندا خصيصا لحضور هذه الحفلة المقامة لأعضاء الوفود البرلمانية. ويقول الدكتور منسي صاحب هذه المغامرات: ويبدو أن الملكة وجدت في أسئلتي راحة عظمى إذ كانت طوال الوقت تحيي رؤساء الوفود تحية رسمية مقتضبة وعلى فمها ابتسامة رسمية. وما كدت أبدؤها بذلك الحديث العادي حتى انطلقت تتكلم معي. وسألتها عن ولي العهد الصغير وكيف صحته وهل هو شقي مثل بقية الأطفال؟ وانطلقت تحكي قصص شقاوته، وتروي لي كيف استطاعت أن تنام في القطار رغم الضجة. ثم سألتها خلسة عن الحفلة وكم من المجاملات عليها أن تتحملها؟ واستمر بيننا الحديث أكثر من ربع ساعة. كل هذا والطابور الطويل واقف ينتظرني أن أنتهي ويتململ. وجاء السكرتير الخاص ولكزني طالبا مني أن أفسح الطريق لغيري ولكني لم أبال به فقد كان الحديث شائقا وكانت الملكة منطلقة. وحينئذ وجدت شخصا يضع يده على كتفي على هيئة خبطة مفاجئة، والتفت وإذا به زوج الملكة الذي جرني بعيدا وهو يسألني عن أحوالي ومن أي البلاد أنا. وأنا الآخر أسأله عن أحواله وأقترح عليه أن يعمل نجما تليفزيونيا (إذ كنت قد رأيت له برنامجا تليفزيونيا تحدث فيه عن العلم وكان موفقا جدا) فيما لو حدث وأعفوه من منصبه كزوج للملكة. وجعلني الربع الساعة الذي قضيته أتحدث مع الملكة والربع الآخر الذي قضيته أتحدث مع الأمير زوجها محط أنظار جميع رؤساء الوفود وكبار رجال الأعمال واللوردات الحاضرين، فأخذوا يتسابقون في التعرف إلي ودعوني إلى منازلهم وحفلاتهم. ولو كان في نبتي أن أنصب عليهم لاستطعت هذا بسهولة وأصبحت بين يوم وليلة نجما من نجوم المجتمع الإنجليزي.
ولا تنتهي قصص الدكتور منسي عن مغامراته مع العائلات المالكة، ونجوم المجتمع البريطاني وغير البريطاني، تلك التي أتاحت له أن يكون صديقا شخصيا لمعظم الوزراء البريطانيين والكتاب الإنجليز: بيكيت وبنتر ووسكر وجون آسبورن، ومشاهير الممثلين فهو صديق شخصي للورنس أوليفييه وأورسون ويلز، والمؤرخين من أمثال أرنولد توينبي، هذا عدا ماكميلان وهيوم وويلسون وبيفان. وليس النجوم فقط فقد اشتغل لمدة خمسة أعوام مع العمال والشعب الإنجليزي واخترق المجتمع طولا وعرضا وعرف كل خباياه ومشاكله.
ولقد قضيت ليلة حافلة أستمع فيها لمغامرات الدكتور منسي، وكان الشك كثيرا ما يتسرب إلى نفسي وأحاول السخرية من مغامراته ولكن - وهذا هو الغريب - كان ثمة صديق سوداني لا أشك لحظة واحدة في صدقة قد عاصر الدكتور منسي في مغامراته ورآها رأي العين، وكان يؤكد لي أن كل حرف يقوله صحيح وأنه لا يبالغ أبدا.
أتعرفون السر في هذا النجاح الساحق الذي لاقاه الدكتور منسي في إنجلترا؟ السر بسيط جدا، لقد أتقن الحديث بالإنجليزية وعلى الطريقة الإنجليزية إلى درجة مذهلة، وكان هذا وحده جواز مروره.
أهم قرار
لا أعرف لماذا ترتبط الوحدة وأعيادها في نفسي بدمشق. إنك كلما زرتها أحسست أنك في قلب عربي نابض موحد. ولقد أتاحت لي الظروف أن أزور دمشق في أعوام 54، 56، 58، وكنت كلما ذهبت إلى هناك أجد نفسي وكأني فجأة قد أصبحت في قاعة كبرى ينعقد فيها مؤتمر عربي دائم لمناقشة شئون العرب وقضاياهم ويبحث عن حلول عاجلة لها، كنت أجد في دمشق مكافحين عربا من كل مكان، من العراق أيام نوري السعيد، ومن لبنان، من الأردن، من بيروت واليمن وإمارات الخليج، ومن المهجر ومن كل مكان، وأجدهم في حالة جدل متحمس مستمر، حتى في أثناء الفراغ يحيلون جلسات القهاوي والغوطات إلى لجان تتفرع عن المؤتمر الكبير، تدرس فيه القضايا على صعيد البحث الهادئ ولا ترتبط بجدول مكتوب.
ولم يحدث مرة أن شهدت في دمشق أمرا من أمور العرب يناقش على أساس محلي، أو إقليمي. وكان يدهشني ويسعدني معا تلك الإحاطة التامة من رجال دمشق وشبابها بكل ما يحدث في أي قطر من أقطار العالم العربي فلا أعجب أبدا حين أجد القاهرة التي خلفتها، أمامي في دمشق. وفيها أيضا بيروت ومشاكل بيروت، وبغداد وكل ما يجري في بغداد، ولا أعجب حين أجد الطالب اليمني متوهج الحماس يناقش مع مدرس مصري أوضاع الأقلية والأغلبية في لبنان. لا أعجب؛ فكل من يطأ أرض دمشق يتكفل مؤتمرها الكبير الدائب بأن يخلع عنه أثوابه الخارجية المصنوعة التي جاء بها، ويصبح عربيا كما ولد وعاش، مسئولا عن قومه العرب كما لا بد أن يكون الابن البار.
Página desconocida
لهذا، فالحقيقة أن قيام الجمهورية العربية المتحدة، وإعلان الوحدة، لم يكن بالنسبة لدمشق سوى إقرار أمر واقع عاشته المدينة ولا تزال تحياه وترعاه، وتذود عنه.
ولهذا أيضا لا أستغرب أن يسافر جمال عبد الناصر في كل عيد من أعياد الوحدة إلى دمشق؛ إذ هو لا يفعل هذا كرئيس جمهورية، ولا يجامل دمشق بالتهنئة والزيارة. إن ذهابه إليها اشتراك واجب في المؤتمر الدمشقي الكبير. وحين يهتف أهل دمشق: بدنا كلمة من جمال. إنما هم في الحقيقة يريدون بيانا، يريدونه أن يناقش حجج أعدائهم أعداء العروبة، يريدون أن يعرفوا منه خطة الغد، يريدون حسابا عن المكاسب والخسائر إذا كانت هناك خسائر.
ولقد تعودنا أنه ما تكاد تنقضي بضعة أيام، أو حتى ساعات، على حضور جمال عبد الناصر لذلك المؤتمر إلا ويكون ثمة قرار قد تمخض عنه المؤتمر، واتخذ. ولقد كان القرار هذه المرة واضحا وصريحا، وجاء في وقته، إنه بعد ذبح لومومبا لم يبق ثمة مجال للمساومة والحياد وأنصاف الحلول. لقد ذبح لومومبا في الجبهة الأفريقية، والذي ذبحه هو عميد الاستعمار تشومبي.
ولقد قام العرب قومة رجل واحد ومعهم الشعوب الحرة من كل مكان يصبون غضبهم على تشومبي. وقد اتضح أن العملاء لا يقلون خطرا على الحرية من الاستعمار نفسه. هذه الثورة على العملاء في أفريقيا كان لا بد أن تنتقل وتصبح ثورة على العملاء في الشرق العربي. والوضوح الذي رأينا به حقيقة تشومبي وقذارة دوره كان لا بد أن يجعلنا نفيق ونبدأ نتبين حقيقة العملاء هنا مهما تنكروا واستخفوا.
إن خطورة هذا المؤتمر الدمشقي الكبير أنه ربط بين كفاح العرب وكفاح أفريقيا، وبين أمريكا في الكونغو وأمريكا في الوطن العربي، وبين يد الاستعمار ووسائله المجرمة هناك ويده ووسائله هنا، وبين تشومبي وكازافوبو وموبوتو وبين زملائهم وأشباههم عندنا. خطورته أنه أدرك أن لومومبا مرحلة وبداية مرحلة، واستشهاده رمز وكذلك ناقوس خطر، وبطولته أنه ضحى بنفسه وكان يعرف أنه يضحي بنفسه ليصرخ فينا قائلا: يا من لا زلتم تؤمنون بعدالة الاستعمار وتفاهة أعوانه، يا من لا زلتم تتوسمون الخير في الأمم المتحدة وأمريكا، يا من تثقون بالغرب وفرنسا، ها أنا ذا أموت، ها أنا ذا أمام أعينكم يطلق علي الاستعمار رصاصه وبخناجره يذبحني لكي أنقذكم من نفس المصير. إن الكلمة التي لم أستطع أن أقولها بلساني ها أنا ذا أقولها بدمي. ليست هناك طريقة لمواجهة الأعداء إلا معاداتهم، والنصر لا يأتي إلا بحربهم، فإذا تهاونا متنا.
إن خطورة هذا المؤتمر الدمشقي الكبير أنه قد انعقد ليتخذ قرارا واحدا؛ أهم قرار، أن يكون موقفنا من المعركة الوطنية واحدا في كل مكان وزمان - أن ننصر لومومبا أنى وجد لومومبا، وأن نعادي كازافوبو بأي اسم يوجد به كازافوبو. لقد كنا نستنكر بشدة هذه الشتائم التي يكيلها الاستعمار وأعوانه للومومبا لا لشيء إلا لأن لومومبا كان يدافع عن استقلال بلاده وشعبه ويهاجم الاستعمار عدوه، فلماذا نقف موقفا مختلفا من الهجوم الذي يشن على قيادتنا الوطنية هنا، لقد كان للومومبا أخطاؤه، ولا أحد معصوم من الخطأ، ولكنا بعد درس لومومبا لا بد أن نؤمن أن الهجوم على أي وطني لا يمكن أن يكون إلا بوحي وبخطة من الاستعمار. وإذا كان لقيادتنا أخطاء فمبجرد أن يعددها الاستعمار ويذيعها لا بد أن نراها فضائل.
بل حتى الوقوف على «الحياد» في هذه المذبحة القائمة بيننا وبين الاستعمار جريمة، إن فرنسا لا تقف على الحياد مع أمريكا، وعميلها في برازافيل الكونغو الفرنسي يناصر تشومبي. إن الاستعمار لا يحايد بعضه، إنه ينصر بعضه، ويتآمر جماعة، ويوزع الأدوار ويذبح ويقتل بلا أي ذرة رحمة. فإذا كان بعضنا يريد أن يقف موقف المتفرج من المعركة فموقفه لا يخدم إلا الاستعمار، ولا يمكن أن نعامله إلا كما نعامل الاستعمار. لقد ظللنا نئن ونصبر لمئات السنين حتى جاء وقتنا هذا الذي بدأت فيه شوكتنا تقوى وتضعف فيه شوكة الأعداء، ولا يمكن أن نسمح لخلافاتنا او حزازاتنا أو مشاكلنا الصغيرة أن تحول بيننا وبين النصر في معركتنا الكبيرة. ولا يمكن أن نتذكر الأخطاء ونختلف حول الأسماء والأشخاص وننسى العدو، وننسى المعركة؛ فالعدو ينسى خلافاته ويتذكر المعركة دائما، ويحاربنا تحت رئاسة أيزنهاور وتحت رئاسة كنيدي وبديجول وغير ديجول، وبقيادة إيدن وحين ذهب إيدن؛ إذ كل ما يهمه أن يهزمنا، لا بد إذن أن يصبح كل ما يهمنا أن نهزمه؛ فنحن نحارب للوطن، والوطن باق وكلنا ذاهبون، والنصر، استقلالنا وكرامتنا وحريتنا أكبر وأضخم من أن يسجلها التاريخ لشخص أو لأشخاص، إن التاريخ مضبطة الشعوب.
عنتر وجولييت
أوقعني كتاب فننانا الكبير يحيى حقي في حيرة شديدة؛ فلقد أغلقت الكتاب بعد قراءته وظللت في حالة تفكير مستمر أتساءل عن دور الكاتب وماهية القصة والحد الفاصل بين الفن والحياة والقبح والجمال. إن يحيى حقي ليس كاتبا سهلا يقول لك حقائق سهلة بوجهة نظر محددة ويريحك. لقد شقيت وأنا أقرؤه بمقدار ما سعدت، ودخت بمقدار ما اهتديت، وحاولت أن أبحث بين السطور عن يده البيضاء الصغيرة تهديني، وكلما أوشكت أن أمسك بها أجده قد أشاح عني في حركة ماكرة، وابتسامة أب طيب يريد أن يعلم أولاده الحياة، ويقول: أتحب الخلاص بهذه السهولة؟ جرب وذق وتعلم وقاس. وإذا أردت الخلاص فلا تنشده عندي، أوجده بنفسك، وعلى نفسك اعتمد.
إيه أيها الفنان الغامض الابتسامة، ماذا فينا يعجبك، وماذا فينا تخرج له لسانك المؤدب، وماذا في حياتنا يثيرك ويجعلك تستعمل هذه الطاقة الخارقة من الدهاء الفني لكي تخفيه، ولكي تسخر فتحس بسخريتك لا تضحك فتعقبها بدمعة حزينة سريعة تجعلنا ندمع، وتقلب فرحنا مأتما؟ أي مكان تحت الشمس تختار، وحين تغوص لماذا تغوص، وما الحكمة التي تستخرجها وتضعها بعيدا لنا، في جزيرة نائية، لكيلا يظفر بها إلا الجسور؟ حيرتني يا رجل.
Página desconocida
أأنت عالم فن أم فنان عالم؟ هل هدفك أن تخلق جمالا لا تجده، أم أنت قاضي حياة تنقد، وتصدر حكما لا تعلنه وتبقيه لآخر جلسة قد تنتهي أعمارنا قبل نهايتها؟ بينما أنت ماض في تأمل المتقاضين تراقب الدنيا بأكثر من عين، ولك أكثر من فؤاد، وللحزن عندك رنة فرح، وللأفراح عندك مرارة الأحزان، والحياة سرك، كالمقطف المقلوب يتشقلب تحته الناس، ويولدون، وأحيانا ترتفع صرخة: فلان مات، صرخة واحدة فقط؛ إذ البلياتشو يخرج بعدها ليطلق ضحكة، ضحكة واحدة فقط، يعود بعدها كل ما في السرك إلى ما كان عليه؟!
يحيى حقي هنا لا يريد أن يحكي لنا. هو يحكي عنا. ويتأملنا، وكل أملي ألا يكون يتأملنا من خلف منظار ما؛ فهو نفسه يصف - بروعة - شعور من يضع النظارات، فيقول: «ستبدو لك الأشياء كأنما انتزعت من عالمها واقتلعت من جذورها وفقدت عصارتها، وأصبحت مصاصا تشاهده كزائر متحف للنماذج المصنوعة تقليدا مكبرا أو مصغرا لما خلق الله.»
إني خائف أن يكون الأمر كذلك، خائف أن يكون يحيى حقي قد بدأ يرانا على ما نحن عليه، على حقيقتنا؛ فحتى لو كانت لنظرته كل صلابة الحقيقة ونفاذها، فالإنسان لم يبتكر الفن إلا ليقيم الحقيقة الثانية، إلا ليضع البعد الآخر للواقع؛ إذ لو كان للواقع بعده الواحد المحدود الذي نراه لما احتمله الناس ولاستعذبوا الموت من زمن. فإذا كان الواقع هو الحقيقة الموجودة رغم أنف الإنسان، فالفن هو الحقيقة التي يوجدها الإنسان بنفسه ليصبح بها أقوى من الحقيقة الموجودة برغمه!
يا فناننا الكبير، إني لفرط حبي لك والإعجاب بك، أختلف هذه المرة معك.
خواطر
كلما سمعت صوت الشاعر أحمد خميس يذيع في التليفزيون إعلانات «أومو» ويقول أومو، ينظف أسرع، أزداد إدراكا لخطورة الأزمة التي يمر بها الشعر عندنا. الشاعر أيام زمان كان مفخرة القوم والقبيلة، لا يكاد ينطق الشعر حتى تقيم عشيرته الأفراح والاحتفالات، ويأتي الناس ليقدموا لها التهاني، وربما لهذا كان الشاعر يجيد أكثر وأكثر؛ فقد كان يحس أنه لا يعبر عن نفسه فقط، وإنما يعبر عن قومه وتراث قومه وانتصاراته.
لا بد أننا تطورنا تطورا كبيرا، حتى أصبح الشاعر عندنا يعبر عن محاسن أومو، ويفعل هذا وهو محسود؛ فلا بد أن شعراء كثيرين يتمنون أن يصبحوا في مكانة أحمد خميس، ويحسب ما ينطقون به باعتبار الدقيقة بجنيه أو أكثر. لا بد أننا تطورنا حتى أصبحت حاجتنا للشعر، مساء الخير أيها التطور، مساء الخير أيها المنظف أسرع.
في انتظار الانفجار
قبيل الظهر وقفت مع أكثر من مائة مواطن أمام إحدى القهاوي البلدية نسخط على الأصوات المضغوطة الصادرة عن جهاز الراديو المصنوع قبل الحرب، ونتساءل كما يفعل الصائمون ساعة المغرب في رمضان: ترى هل انفجر الديناميت؟
كان بعضهم يؤكد أنه انفجر ويقسم أنه سمعه بأذنيه، والغالبية تحدق في ساعاتها وتصر على أن الانفجار لم يتم بعد، ونحاول كلنا أن نظفر بالحقيقة من الراديو فنجده آخر ما يصلح لإخبارنا بالحقيقة؛ فصاحب القهوة، احتفالا منه بالمناسبة، قد فتحه على آخره فبدا صوته كأصوات «الهتيفة» في المظاهرات حين تنبح وتتحشرج ولا يعود يميز بين كلماتها شيء على الإطلاق.
Página desconocida
ورغم ما اعترانا من سخط، فلم نكن نستطيع أن نغادر أمكنتنا ونذهب إلى قهوة أخرى ذات راديو سليم البنية والصوت، مخافة أن تفوتنا اللحظة الحاسمة. كانت قوى أكبر منا ومن إرادتنا تسمر أقدامنا في الأرض وتسمر آذاننا على الميكروفون وتهيب بنا أن ننتظر ونترقب ونصمت ويسكت بعضنا بعضا حتى يحدث ذلك الحدث الذي أجبرنا على نبذ مشاغلنا و«مشاويرنا» والوقوف في انتظاره. وطالت الوقفة، وفرغت من تأمل كل من حولي من المترقبين، الجمع الواقف متنافر الزي متنافر السحنات. جرسون القهوة، كلما دوى صوت غير عادي في الراديو وقف في مكانه ثابتا ينصت رغم كل ما يحمله من طلبات، بائع الذرة المشوية الذي كف عن النداء على ذراه، العمال المنهكون في التهام سندويتشات الجبنة القديمة والطعمية بلا شتائم أو هزار، الجميع قد جذبهم جاذب خفي لعله الرابط الوحيد بينهم أيضا. أحاول أن أسمع وأتفرج وأتأمل ولا أستطيع أن أمنع آلاف الخواطر أن تدور في رأسي. أجل، ما أشد حاجتنا إلى ذلك الصوت المرتقب. فليحاول أي منا أن يتصور مستقبلنا وماذا يكون عليه لو لم يكن هناك سد عال يكهرب البلاد ويصنعها؟ إن حاضرنا مزدحم مختنق. امش في أي حارة وعد ما فيها من دكاكين وتصور كيف يتناحر عشرات بقاليها الصغار وجزاريها ومكوجيتها من أجل الحصول على اللقمة. وأكثر من هذا أجيال لا تعد ولا تحصى نشأت بعد الحرب وترعرعت وتعلمت وتخرجت بتعليم كامل وبنصف تعليم وربعه وبلا تعليم. سواعد الأبناء الذين كانوا بالأمس أطفالا اشتدت وامتلأت وأصبحت تطلب العمل، ولا عمل. إلى أين يذهب كل هؤلاء وكيف يأكلون وهم لا يعملون؟ وحتى من يعملون كأنهم لا يعملون، مأساة أبشع ما فيها أننا نحياها حقيقة ونعانيها، أزمة لا مخرج منها إلا بالمصانع، مصانع كثيرة لا بد أن تفتح أفواهها لتبتلع كل هذه السواعد.
آلاف الخواطر تدور برأسي، وآلاف الرؤى تتجاذبني وعيني لا تغادر الحشد الواقف معي يتابع الحدث الهائل الضخم الدائر في أسوان والراديو العيي ينقله إليه عبر الأثير، في كل وجه تعبير ظاهر أو خفي، وكل يد مشغولة بطعام تافه أو بعمل أتفه، وفي كل صدر أزمة؛ أزمة تخنق تعابير الوجه وتشل الأيدي وتكاد تشق الثياب وتنفجر. ظللنا واقفين نتسمع ونسخط فكل ما يدور في الراديو كلام، كلام كثير، مجرد كلام أحاله الجهاز القديم إلى جعجعة متشابهة متصلة لا تسمن ولا تغني من جوع. •••
وفجأة، هكذا فجأة دوى انفجار، انفجار طغى على الجعجعة المتصلة وأسكتها؛ انفجار واضح وصريح ولا خلاف عليه وقف له الجالسون في القهوة، وتطاول له الواقفون وأرهفوا الأسماع، بالضبط؛ إنه الانفجار الذي طال ترقبنا له، الانفجار الذي متنا وحيينا ونحن نعاني في سبيله ونصبر ونقاوم ونستشهد ونغفر ونصهين، الانفجار الذي تحملنا من أجله وقلنا: كله يهون. ها هو ذا حقيقة واقعة يهتز لها صندوق الراديو القديم وجدران المقهى المتداعي وتدق لوقعه طبول الآذان.
وثانية واحدة استغرقها السكون.
وفجأة أيضا دوى انفجار آخر؛ ضجة عظمى تصاعدت من داخل القهوة وخارجها والواقفين والجالسين. صيحات فرح هستيرية، وهتافات، وكلمات من وحي اللحظة لا معنى لها تطايرت، وألف مبروك ملأ أزيزها المكان.
وإذا كان الانفجار الأول قد تلاشى من الراديو بعد وقت وانتهى فالانفجار الثاني كان بداية انفجار. القهوة التي كان حديثها طاولة وكوتشينة ويا عم سيبك ونكات فاضيين، أصابتها حمى، أقفلت الطاولات، وفقدت الفرجة على الكومي والبصرة أهميتها، ونبتت على المناضد عشرات المصانع، وأصبحت رقاب الشيش مداخن، ودخانها ألذ، والحديث اليائس المتثائب عن الفلس أصبح حديثا جادا مصرا عن الشغل، وضرورة الشغل، لقمة العيش وحتمية اللقمة. الديناميت الذي فجر الأرض ليبنيها سدا في أسوان فجر الأزمات الرابضة في الصدور ليحيلها إلى معاقل أمل وإرادة. ليحيل الاستسلام إلى إقدام، والغد إلى واقع، واليوم الجاثم على الصدور إلى مضغة للغد؛ مضغة لا بد أن تستحيل إلى غد. وفي الإمكان تشكيلها بأيدينا.
انفجار عم الناس وكأن إنقاذهم كان لا يمكن أن يتم إلا بمعجزة، وكان السد هو المعجزة، وكأي معجزة كان مشكوكا في قيامها وحدوثها، ولا يعرف أحد على وجه الدقة ما حدث، ولكن الديناميت حين انفجر فزلزل الأرض وأرعد السماء، لكأنه صنع الظواهر الكونية التي تصاحب ظهور المعجزة، وقدم الدليل الملموس على إمكان تحقيقها.
تركت القهوة والانفجار لا يزال يكبر باسمه وبحياته. حياة ذلك الرجل الذي كظم آمالنا في صدره وظلت لا تهدأ حتى أملى وجودنا على التاريخ وأملاها، بالأمس أمم واقعنا بتأميم القناة واليوم ها هو ذا يؤمم أحلامنا ببناء السد.
لم يبق إلا أن يؤمم أمانينا.
فنانة جديدة
Página desconocida
حين رأيتها ترقص على المسرح خيل إلي أنها لا يمكن أن تكون كائنا حيا مثلنا من دم ولحم وأمعاء، كانت كأنها جنية لها نفس القدرة الخارقة التي نتصورها عن الجنيات. قدرتها على التحكم في جسدها وكيانها. اسمها كاليريا فيدتشفيا نجمة من نجوم فرقة باليه ليننجراد. كانت تمثل دور الساحرة في باليه «زهرة الصخر» وكان إتقانها للتعبير بجسدها كاملا إلى درجة يكاد الإنسان يفقد معها الإحساس بجسدها أو بوجودها فلا يشعر إلا بالمعنى أو العاطفة التي تعبر عنها.
ولم أستطع أن أمنع نفسي بعد انتهاء الباليه، وقابلتها، كنت أريد أن أعرف منها تفاصيل تلك الرحلة الشاقة التي تخلصت فيها من ذاتها، التي صنعت فيها من جسدها، من أذرعها وسيقانها وأناملها، ذلك الجهاز الرائع في حساسيته الذي يشع العواطف التي يريدها بإرادته وينقلها مجسدة معزوفة خالصة إلى الناس، فينسون أنفسهم ويحيونها، وتفرحهم وتشقيهم بمجرد أن تحس هي بالشقاء أو بالفرحة. وما أكبر الفارق بين الصورتين، كاليريا التي خطفت وعيي على المسرح كانت وراء الكواليس إنسانة دقيقة رقيقة ذات ابتسامة مؤدبة خجولة؛ إنسانة احمر وجهها حين سألتها عن نفسها، وتلعثمت حين طلبت منها «كما جرت عادة الأحاديث الصحفية مع النجوم» أن تذكر لي ما تحبه وما تكرهه، ورأيها في الملاية اللف، والواقع أني بعد ثوان كنت أنا الذي أتعثر من خجلي. كنت أمام راهبة فن لم تأت إلى القاهرة «لتتفرج» على المصريين أو أهرامهم وحريمهم، فنانة جاءت كما قالت لي كرسول صداقة بين شعبين و«لتقدم في تواضع بعض الإنتاج الفني السوفييتي لجماهير الشعب العربي.» تتحدث وهي تدخل ساقيها في جوربين من الصوف الرخيص لتحفظ حرارة عضلاتها استعدادا للرقصات القادمة، وأحاول أن أشيد بموهبتها وعبقريتها فتخجل كأنها أهينت، وتكاد تغضب وتقول: هذه مجاملة أشكرك عليها فلا عبقرية ولا شيء، مجرد تمرين. لي عشرون عاما وأنا أتمرن لمدة لا تقل عن سبع ساعات في اليوم الواحد. وأسألها لماذا اختارت الباليه، وهل والدها هو الذي أدخلها؟ فتقول ببساطة إن أباها عامل مصنع، وإنها دخلت المسابقة التي تقام للأطفال لاختيار من يصلحون لمدارس الباليه، وكل عبقريتها أن الاختيار وقع عليها. - والفن يا آنسة كاليريا ما رأيك فيه؟ - دراسة وإصرار وتمرين. - والوحي والإلهام؟ - ليس هناك إلا الإرادة. - والمودة؟ - أنا أفضل أن أغير أفكاري الخاطئة وأجدد وأبتكر في ثقافتي. - هل وقعت في الحب؟ - كان حبي للباليه دائما أقوى. - وهدفك في الحياة؟ - أن أجيد رقص الباليه. - ألم تجيديه بعد؟ - طبعا أنا لا أزال مبتدئة!
والمشكلة أنها كانت تعني ما تقول.
أليست كاليربا نموذجا لفنانة جديدة من عالم جديد!
وقفات سريعة أول الطريق
بدأت أومن بأننا وضعنا أقدامنا على أول الطريق الحقيقي لاستعادة فلسطين حين تم عقد الندوة العالمية في القاهرة، بدأت أحس أننا «نتحرك» تجاه الهدف؛ فالمهم هو الحركة الدائمة تجاه الهدف. المهم ليس هو الحق، فكم من حقوق ضائعة في هذا العالم وميتة، المهم هو السعي لاستعادته، هو الحركة تجاهه.
كل ما في الأمر أني أعتقد أن القيام بهذا العمل الضخم، عقد الندوة كان يجب أن تسبقه عملية تحضير ضخمة لعقدها، وذلك بالانقضاض على الأوكار الصهيونية في قلب أوروبا وأمريكا. إننا نرتكب خطأ ضخما حين نفقد الأمل تماما في أوروبا الغربية وأمريكا؛ ففي هذه البلاد التي تحكمها البورجوازية والرجعية يوجد أناس ومنظمات لا بد من كسبها لقضية فلسطين؛ لأنها ربما انحازت للصهيونية بدافع غياب الطرف الآخر؛ العرب، وغياب حججهم ومنطقهم، ثم إنه لا يكفي أن نحظى بالتأييد الرسمي للدول الاشتراكية وكثير من دول آسيا وأفريقيا للقضية؛ فلا بد من الوصول إلى الجماهير في تلك الدول وإقناعها بوجهة نظرنا.
لا يكفي لاستعادة فلسطين أن تكون قضية فلسطين قضية عربية، وإنما لا بد أن تصبح القضية قضية إنسانية عالمية بالدرجة الأولى. والندوة العالمية المنعقدة في القاهرة هي بداية الطريق، أروع بداية.
عمل كبير
من أروع الأعمال المسرحية التي شاهدتها على المسرح المصري مسرحية «بلدتنا» لثورنتون وايلدر، ولا أعني روعتها من ناحية التأليف وإنما من ناحية الإخراج والتمثيل. لقد أحسست أن جيلا جديدا قد نشأ حقيقة في المسرح، وأن جهود حمدي غيث لم تذهب سدى، وأن المسرح القومي أصبح لأبطاله الكبار منافسون خطرون في تلك الأجيال الجديدة الصاعدة.
Página desconocida