فلو غيرت فرنسا وجهها وجلدها مليون مرة وطلقته بكل القيم والمبادئ التي يحلم بها الإنسان. لو حدث هذا وبقي الوضع في الجزائر كما هو عليه؛ أي شعب منظم متحد ثائر بقيادة منظمة متحدة ثائرة، لظل الشعب يمضي في ثورته إلى نهايتها، ولتبخرت كل الأحلام التي راودت فرنسا عن ربط الجزائر بعد الاستقلال بها بطريقة تجعل من الاستقلال مجرد كلمة ولافتة.
الخطوة الثانية إذن كانت أن تمتد اليد إلى هذه الكتلة المتجانسة التي لا تستطيع أن تميز فيها قيادة من قاعدة، تمتد اليد إلى هذه الكتلة بعد أن يكون نيل الاستقلال قد خفض من درجة حرارتها وبردها، وتعبث بها عبثا مبيتا مرسوما بدقة وبمهارة عظمى؛ عبثا هدفه تقسيم هذه الكتلة إلى قيادة وقاعدة أولا، ثم تقسيم القيادة، ثم جعل التقسيم القيادي يمتد إلى أسفل ويقسم الشعب. فإذا لم تنجح الجهود كان على فرنسا أن تلعب بورقة المستوطنين ومصالحهم وتتدخل بنفسها في الوقت المناسب «لحماية» هذه المصالح وهؤلاء الرعايا، وإذا لم يفلح تقسيم الشعب على أساس سياسي فمن الممكن تقسيمه على أساس قبائلي، وإثارة نعرة التعصب بين العربي والقبائلي.
خطط واحتمالات وتكتيكات كثيرة بحيث كلما فشلت إحداها حلت أخرى محلها لتظل الخطة ماضية؛ الخطة التي هدفها في النهاية سلب المضمون من كلمة الاستقلال، وإضعاف الحركة الوطنية الجزائرية إلى درجة لا تقوى على مواجهة أوضاع ما بعد الاستقلال، وتلجأ مضطرة أو راضية إلى فرنسا؛ إضعاف هذه الكتلة الثورية الضخمة المكتسحة التي لم يزدها الحصول على الاستقلال إلا ثقة في نفسها وطموحها.
أو حتى إذا لم تنجح فرنسا في إضعافها إلى تلك الدرجة، فعلى الأقل تضعفها إلى درجة تحدد إقامة الحركة الوطنية الجزائرية داخل الجزائر نفسها، غارقة في مشاكلها غير مستطيعة أن تمتد أو تؤثر فيما حولها، أو - هذه هي أخطر النقاط - أن تتصل بالحركة الوطنية المصرية ويكون الاثنان معا جناحي الثورة العربية الكبرى.
إعطاء الاستقلال كأزمة ومجاعة
كانت خطة فرنسا مبنية كلها أو معظمها على اعتبار أنها هي التي ستقوم بالدور، من وراء الستار طبعا، وأن العبء كله سيقع عليها؛ خطة محكمة فهي في الحقيقة المرحلة الخامسة والحاسمة من مراحل مقاومة الثورة الجزائرية.
وقد يبدو هذا غريبا، وقد يقول البعض إننا نبالغ في سوء الظن ونحمل الواقع فوق ما يحتمل، ولكنها الحقيقة المجردة؛ ففرنسا التي فشلت في مقاومة الثورة كحرب عصابات محدودة في الجبل، ثم كجيش تحرير منظم، ثم كجبهة تحرير ذات كفاح عسكري وسياسي، ثم كمشروع دولة جزائرية ذات حكومة مؤقتة ورعايا ووزارات وأجهزة؛ فرنسا التي أدركت أنها إذا مضت في مقاومة الثورة إلى أكثر من هذا وبنفس الطريقة فسينتهي الأمر بها إلى أن تخسر كل شيء، تخسر الجزائر وشمال أفريقيا كله، وقد تخسر فرنسا نفسها، فرنسا هذه، أو الرأسمالية الفرنسية الكبيرة حاكمة فرنسا والمسيطرة على قواها، رأت أن لا بد من تغيير الخطة بحيث تعطي الجزائريين علنا وأمام العالم كله الكلمة التي يتمسكون بها أكثر من تمسكهم بالحياة، الكلمة التي تجمعهم وتولد فيهم الطاقات الرهيبة التي يحاربون بها ويكافحون ويقاومون، تعطيهم الاستقلال، اسما عاليا مدويا له مفعول السحر، تعطيه إياهم لا كتاج ومفخرة وإنما كمشكلة، ككارثة، كمأزق خطير تقع فيه القيادة والقاعدة، ويحدث حوله ومن أجله الصراع؛ صراع تضمن فرنسا نتيجته، فهو صراع بين جزائريين وجزائريين نتيجته الحتمية إضعاف الجزائريين جميعا وهد قواهم.
وهكذا في جزائر خربتها المنظمة السرية وأرغمت كل الفنيين فيها والحرفيين على مغادرتها، في جزائر مفلسة مغلقة الدكاكين، في جزائر لا تستطيع أن تعيش شهرين أو ثلاثة بمفردها، في جزائر مشلولة الاقتصاد عاجزة، أنزلت فرنسا علمها لترفع العلم الجزائري ليرتفع فوق الخراب والمجاعة وليلتف حوله مليونان ونصف مليون من المتعطلين، ولتقول فرنسا للجزائريين. لقد أردتم جميعا الاستقلال وحاربتموني من أجله. هاكم استقلالكم إذن. دعوه يملأ بطونكم الخاوية. دعوه يزحم جيوبكم المقطعة بالنقود. دعوه يخلق لكم العمل أيها المتعطلون، والمستشفيات أيها المرضى، والسلام يا من أردتم السلام، نفس الطريقة الفرنسية الحقيرة التي اتبعوها يوم سحبوا المرشدين من القنال.
ولكن هذا كله لم يحرك في الجزائريين شعرة؛ فمع إدراكهم لكل هذا احتفلوا بالاستقلال احتفالا أقض مضاجع الفرنسيين، مستوطنين وهاربين ومتآمرين على استقلال الجزائر واقتصادها. لقد ضرب الشعب بكل هذه المآزق عرض الحائط، واستعد أن يظل متعطلا جائعا يغزل ملابسه ويقترض دخانه ما دام سيظل يرى العلم الجزائري، علمه، مرفوعا فوق أرضه.
فشلت، بالنسبة للشعب، خطة فرنسا في إعطائه الاستقلال على هيئة مجاعة وبطالة ومشكلة ضخمة.
Página desconocida