جربت فيه كل المذاهب
ولقد جاء في الخاطر ونحن نزور العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكوفة ، ورجل الدين العتيد يرينا المكان الذي استشهد فيه الحسين بن علي والمحاط بسياج من الفضة، وأهل الكوفة كانوا قد استدعوا الحسين من المدينة لمناصرته ثم ما لبثوا أن انقضوا عليه وقتلوه، ولهم أكثر من أربعة عشر قرنا هجريا وهم يندمون على فعلتهم تلك ويكفرون. لحظتها أحسست وكأنما الشعب في العراق قد كتب عليه أن يصاب بلعنة المبادئ والعقائد؛ فما من عقيدة أو مبدأ إلا وقد جربها الشعب العراقي في نفسه، وإلا وجد لها من بين أبنائه أنصارا وخصوما ابتداء من الخلاف بين أهل الشيعة وأهل السنة، إلى الخلاف بين الشيوعيين والبعثيين، إلى الخلاف حتى بين القوميين العرب والوحدويين «مع أنهما يناديان معا بالوحدة». ولو كانت هذه الخلافات قد اتخذت على مر العصور طابع الصراع الفكري أو الأيديولوجي أو طابع المحاورات الخلاقة بين أنصار هذا المذهب أو ذاك لعاش عراقنا الحبيب في ظل نهضة روحية وعقائدية وفكرية منقطعة النظير، ولكن الخلاف هناك يأخذ شكل التعصب، خلاف لا يدفع إلى الأمام ولكنه يوقف كلا المعسكرين في مواجهة الآخر، ويجمد، ويدفع في النهاية إلى الاشتباك والالتحام وتنتج عنه المآسي.
والتعصب دائما ينتج من إشراك العاطفة المتدفقة مع العقل في الإيمان، أو بالأحق من طغيان العواطف المتدفقة على العقل والعاطفة تعمي والعقل يضيء، والعاطفة تضيق والعقل يفتح، والشعب في العراق حاد العواطف ملتهبها، إذا أحب أحب بجماع قلبه وإذا كره تحول إلى بركان، وإذا أيد أيد بمطلق قوته، وإذا خذل فالويل لمن يخذله. وقد كان الحل لكل تلك المتناقضات أن يقوم الشعب بثورته الوطنية ضد الاستعمار، وفي ذلك الالتحام الثوري كان لا بد أن تزول كل الاختلافات العاطفية، وأن يسقط الناس عواطفهم الصغرى في خضم العاطفة الكبرى التي تجتاحهم. وبالضبط هذا هو ما حدث في أوائل ثورة 1958، ولكن الاستعمار كان يعرف نقطة الضعف واستغلها ببراعة ووجد في عبد الكريم قاسم خير أداة ومعين، والثورات المتلاحقة منذ ذلك التاريخ إن هي إلا المحاولات تلو المحاولات للقيام بالثورة الوطنية التي يحاول الاستعمار باستمرار إجهاضها مرة وصرفها مرة أخرى.
نغمة العام
في ملعب الكشافة ببغداد شاهدت مشهدا من مشاهد التاريخ التي لا تنسى. كنا يوم 18 نوفمبر «تموز» يوم الاحتفال بالذكرى الأولى للثورة التي أنقذت العراق من الاستبداد والانحراف، وكان ملعب الكشافة «وهو أكبر استاذ في بغداد» يموج بآلاف من الطلبة والفلاحين والعمال والسيدات. وكان الرئيس عبد السلام عارف على وشك أن يلقي خطابه الجامع في تلك المناسبة التاريخية، ومنذ أن دخل المدرج ومعه السيد كمال الدين رفعت رئيس وفد التهنئة بالثورة، ونافورات الحماس قد تفجرت داخل الجماهير المحتشدة. ولقد اشتركت في مظاهرات كثيرة ورأيت مظاهرات، ولكني أشهد أن المظاهرات العراقية تتمتع بحرارة لا تبارى. إن الناس هناك تهتف - إذا هتفت - من أعمق أعماقها، من أطراف أصابعها، من داخل الأرض الواقفة عليها، هتافا ترعد له السماء، هتافا يؤدي بها إلى حالة من النشوة القصوى فتروح تهتز وتتمايل وتغني وتتشنج، هتافا يفجر الشعر على الألسنة، وبين كل حين وحين يندفع شاعر مجهول تتدفق أبياته كالحمم وتؤجج الحماس، حماسا يقطعه صاحب أهازيج، وهي نوع خاص من أنواع الكلام المنظوم تحدث فيه محاورة بين الحادي والجمهور تنتهي بهتاف منغم تهتز على وقعه الجماعة وتجأر.
ومنذ اللحظة الأولى كان واضحا أن نغمة اليوم، بل ربما نعمة العام كله في العراق، هي تلك الجملة التي تفتقت عنها بديهة الجمهور، يا عارف جيبلنا ناصر، يا عارف جيبلنا ناصر؛ أي هات لنا ناصر يا عارف، جملة ما تكاد تقال من هاتف واحد حتى تسري كالنار إلى جمهور الملعب كله ومدرجات السيدات والأطفال الواقفين بالخارج، وتعم هذا البحر الجماهيري الزاخر رقصة جماعية شاملة على وقع الكلمات: يا عارف جيبلنا ناصر، يا عارف جيبلنا ناصر.
والرئيس عبد السلام عارف رئيس شعبي بكل معنى الكلمة، بسيط إلى درجة لا تعقل كلما هتفت الجماهير وتحمست، أشار إلي السيد كمال رفعت وهو يقول بملامحه ما معناه، قولوا له، وكمال رفعت يحيي ويبتسم، والجماهير تنتابها الحمى وبشدة ترفع العصى الطويلة التي ثبتت في نهايتها الصور الفوتوغرافية الضخمة والمطبوعة للرئيسين عبد الناصر وعارف، وتزداد هياجا ونشوة وجئيرا: جيبلنا ناصر يا عارف. ألا ما أفدح المسئولية، أن يكون أمل هذه الجماهير كلها أن ترى عبد الناصر رأى العين، وأن تعلق آمالها كلها في حل خلافاتها، في إزالة متناقضاتها، في تأمين حياتها ووجودها ومستقبلها، بهذا اللقاء.
وطوال الساعات الثلاث التي استغرقها خطاب الرئيس عبد السلام عارف لم ينقطع الهتاف لحظة، ولا تعب الجمهور الواقف على قدميه، وعارف كلما مضى الوقت يسأل: كفاية؟ فيجيبه الهدير البشري بما معناه: معاك للصبح. حتى أظلمت الدنيا، والملعب والمدرج ليسا مزودين بالأضواء الكهربائية، وحتى المنصة التي يلقي منها الرئيس عارف خطابه ليس فوقها مصباح كهربائي يضيء الصفحات، وسلطت أنوار كاشفة على المنصة ليتمكن التليفزيون من نقل الصورة وبدأ البحر الجماهيري يختفي في الظلام، ولم نعد - نحن الجالسين في المدرجات - نراه، كل ما كان قد تبقى منه ذلك الهدير الذي ينبعث لدى فقرات الخطاب، وكأنما من قلب الليل أو من باطن الأرض وعليا السماء ينبعث، يذكرنا بأن الظلام أبدا لا يلغي الوجود، وأن الشعب أي شعب، مهما اختفى عن الأعين، فالعيب يكمن دائما وأبدا في العين التي لا تراه وليس فيه.
البلد الذي يحكمه البروفيسيرات
أجمل ما في بولندا ليس المنشآت والمنجزات
Página desconocida