إذا كان الشعب الأمريكي نفسه يرى هذا، ورغم الديمقراطية والحرية فإن العملية قائمة ومستمرة وماضية بأقصى قوتها، أليس في هذا دليل ما بعده دليل على إفلاس الديمقراطية الأمريكية وعلى أنه حتى مفهوم الحرية الرأسمالية قد تولى الرأسماليون أنفسهم تمزيقه وسلب كل محتواه بحيث أصبح كلمة جوفاء؟
نفس هؤلاء الرأسماليين الذين حين بدأ رئيس الولايات المتحدة يحاول الخروج بالشعب من ربقة سيطرتهم، يحاول أن يكون منفذا لإرادة الشعب الأمريكي الحقيقية، يحاول أن يعيد المضمون إلى الحرية والديمقراطية قتلوه، عيني عينك، وفي عز الظهر وكأننا في غابة.
إن المقياس الوحيد للحرية في أي بلد هو: إرادة من التي تسير دفة الحكم، أهي إرادة الشعب الحقيقية أم إرادة طبقة ما أو فئة ما من الفئات؟ فواضح أن إرادة الشعب الأمريكي ليست هي الإرادة التي تحكم أمريكا، فإذا تظاهر الناس ضد هذا الحكم فليس معناه أن الإرادة الشعبية معطلة لمصلحة فئة قليلة من الناس، وإذا لم يتظاهر الناس في القاهرة ضد حكومتهم فليس معناه أن الجمهور مسلوب الحق في التظاهر ولكن معناه أن الناس تؤيد، من قلبها وبمطلق إرادتها سياسة حكومتها.
إن الحرية في أمريكا وفي غيرها من البلاد الرأسمالية بلا فاعلية، حرية للفرجة، تجدها على صفحات الجرائد وفي الميادين العامة، أما الحرية عندنا فحرية حقيقية؛ إذ تجدها منعكسة انعكاسا حقيقيا على سياسة بلادنا وأوضاعها، وحكومتنا لا تفعل أكثر من أنها تنفذ وتنظم هذه الإرادة الشعبية. وإني لأتحدى كل المعلقين السياسيين الغربيين أن يذكروا لي عملا واحدا قامت به الحكومة ضد إرادة شعبنا أو بمعنى أصح ضد إرادة غالبيته.
إلى أين أيها السادة؟!
طوال الشهور الماضية وأنا أقابل أدباء وكتابا وفانين شكواهم الوحيدة أن باب النشر موصد أمامهم، وأنهم بعد تاريخ طويل في التأليف وإصدار الكتب لا يجدون اليوم ناشرا يقبل أن يخرج لهم كتابا. أخذتها كظواهر فردية أول الأمر، ولكني شيئا فشيئا بدأت أدرك أنها ظاهرة عامة.
ولم أبدأ أوقن بخطورة الوضع إلا حين التقيت بأكثر من كاتب من الكتاب الذين لم أكن أتصور بعد كل ما بلغوه من شهرة ومكانة أن يصابوا بأزمة نشر، فإذا بهم هم الآخرون يعانون من نفس المشكلة؛ الناشرون يرفضون طبع كتبهم، وإذا تنازل أحدهم وقبل يشترط على الكاتب منهم ألا يحصل على أجر للكتاب، بل أحيانا يشترط أن يدفع المؤلف له «لا أن يأخذ» مبلغا من المال مقدما حتى يقبل إصدار كتاب له، بل الحال قد وصل إلى أنك لو تلتف حولك لوجدت كثيرا من الكتب التي كانت تصدر بانتظام قد اختفت تماما، والبعض الآخر في طريقه إلى الزوال.
ظاهرة غريبة خطيرة كان مفروضا أن تسترعي انتباه الهيئات التي أنشئت لرعاية الثقافة والتأليف، ولكنها لم تفعل. أكثر من هذا تدهش، بل تكاد تصعق، إذا علمت أن هذه الهيئات نفسها هي السبب في الأزمة الخانقة، هي التي أوقفت النشر وجعلت الكتب المؤلفة تكاد تختفي من حياتنا. أما كيف هي السبب فالمسألة بسيطة. لقد فهمت هذه الهيئات في وزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة والإرشاد أن الطريق إلى رعاية الثقافة والفكر وتشجيعها هو الدخول في حركة تنافس ضخمة من أجل ترجمة الكتب الثقافية المختلفة ونقلها عن اللغات الأجنبية وبيعها بقروش زهيدة، وهي من أجل هذا تتفق مع الناشرين وتغدق عليهم الأرباح وتتحمل هي فروق السعر.
وأكثر من هيئة تتنافس حول هذا الهدف؛ مشروع الألف كتاب، إدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم، إدارة الثقافة بوزارة الإرشاد، سلسلة الكتب الثقافية، دار النشر القومية، سلسلة روايات عالمية، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. والله أعلم ماذا من هيئات وإدارات أيضا، كل منها ينافس الآخر في خفض سعر الكتب والنقل عن اللغات الأجنبية كيفما اتفق وفي التباهي بعدد الكتب التي تصدرها.
شيء جميل أن ننفق أموال الشعب على ترجمة الكتب وبيعها له بأسعار زهيدة، أما أن نفعل هذا بطريقة تحيل الناشرين إلى متعهدي نشر المترجمات، بطريقة تدفعهم إلى الانصراف كلية عن نشر الكتب العربية المؤلفة ، فنشر أمثال هذه الكتب يعد حماقة؛ فسعرها يصبح مرتفعا جدا بالقياس إلى أسعار الكتب التي تصدرها هذه الهيئات، والربح فيها غير مضمون لأن الناشر هنا يغامر بنقوده هو، بينما حين تكلفه هذه الهيئة أو تلك، تدفع هي له التكاليف والأرباح.
Página desconocida