أيها السادة، إننا في حالة حمى شديدة وصلت إلى المراكز العليا في عقولنا الفنية ولم يسلم منها حتى كبار النقاد، ولم نعد نستطيع في حالة الهلوسة تلك أن نميز الخبيث من الطيب أو نقول كلمة الحق. وإذا كانت هذه الحمى مصحوبة بتضخم في حركتنا الفنية والأدبية فهو تضخم كالأورام السرطانية بلا هدف، ولا يمكن أن يكون شيئا نافعا لجسد أمتنا، بالعكس إنه ينخر في وجدان شعبنا ويمتص رحيقه، كل ما نطلبه الآن أن نضع فوق رءوسنا جميعا كمادات من الثلج البارد، كميات هائلة من الثلج، ثلج الحقيقة والصدق، ثلج الضمير، تخفض من هذا الغليان وتوقف التخريب كي نعود نرى قيمنا الفنية المهدرة، كي نعود نحس بالمسئولية، كي نندفع في إزجاء آيات إشادة أو حب الهجوم دون وازع أو خجل من النفس. إننا في حاجة إلى رجل عاقل واحد في وسط هذا المولد كله. أو إلى مجموعة من الرجال العاقلين تعيد حركتنا الفنية والأدبية إلى صوابها. فلا يغرنا الضجة الفنية الشديدة من حولنا فإنها ضجة بائعين جائلين، وكلاكسات نفاق، وخناقات كخناقات السوق سببها دائما الخلاف حول السعر والمصلحة. أما التقدم الحقيقي فلا وجود له بالمرة، في المسرح نحن لا زلنا نحيا على الثورة المسرحية الأولى التي حدثت في أعقاب العدوان، وفي السينما نحن لا زلنا في عصر حسن الإمام، وفي التليفزيون لا زلنا عند تمثيليات الإذاعة، وفي الإذاعة لا زلنا عند حواديت الشاطر حسن، وفي التمثيل لا زلنا عند مدرسة زكي طليمات، وفي الإخراج المسرحي لم نقم إلا ببضع تحسينات تكنيكية ولكنا بعد لم نصل إلى أسلوب خاص بنا. وبشكل عام نحن قد تركنا جانبا مرحلة الخلق الفني وانتبهنا جيدا لمرحلة المتاجرة في الفن، أما النقد الفني فإني أترك النقاد لضمائرهم.
إني أعرف تماما أن كلمتي هذه ستثير ثائرة المستفيدين الكثيرين من هذه الفوضى المحمومة، ولكني أعرف أيضا أنها ستكون بردا وسلاما على قلوب الفنانين الحقيقيين الحريصين على إنقاذ الفن من حمى الفن، وإنقاذ النقد من هلوسة النقد، وإعادة الوعي إلى ضميرنا الثقافي الغائب؛ إذ الوضع جد خطير؛ ففي مثل ذلك المناخ الموبوء المحموم لا يمكن أن يظهر عمل فني حقيقي، أو إن ظهر فإنه حتما سيضيع في ضجة الكلاكسات والأبواق والصراخ والعويل القائمة الآن على قدم وساق.
السندباد منسي
إنه ليس في حاجة لكلمة عابرة، إن مغامراته في حاجة لكتاب. إن اسمه يسبقه الآن عدد كبير من الدرجات العلمية وشهادات الدكتوراه، ولكنك لو جلست تسمعه لتوارت مغامرات السندباد البحري والبري والجوي أيضا. لقد كان طالبا في كلية الآداب بالإسكندرية وعرف أن هناك رحلة إلى إنجلترا نظمها المعهد البريطاني بتسعة وعشرين جنيها لمدة ثلاثة أسابيع، وقبل الامتحان بشهر اشتغل في شركة الغزل كعامل لوزن القطن ليدبر المبلغ. ولم يستطع فظل يبحث حتى وجد «واسطة» لقبطان الباخرة الذي عهد إليه بعمل على السفينة في مقابل أجرة سفره، ووصل إلى هناك. وفي خلال الأسابيع الثلاثة استطاع إتقان الإنجليزية إلى درجة أن قيدته جامعة ليفربول بين طلبة الماجستير، وقبل أن تنتهي المدة كان قد وجد عملا «كجنايني» عند أحد ثراة مدينة ليفربول، وجنايني بعد الصبح وطالبا بعد الظهر، ثم كعامل في مصنع السكر الوحيد هناك. استطاع أن يحيا بين العمال الإنجليز ويصاحبهم ويدرس أدق تفاصيل حياتهم ولغتهم ومشاكلهم، ولكنه فصل من الجامعة لاكتشاف أنه يعمل، فقابل المدير وأقنعه بأن يعيده إلى أن ينال الماجستير، ونالها، ونال الدكتوراه ثم انتقل إلى لندن ووجد أن الدكتوراه في الأدب العربي سهلة جدا ولا تحتاج إلا لمعلومات قليلة فأخذها بالمرة، ورشح نفسه في اتحاد الجامعة وأصبح السكرتير، وأقام مناظرات عرفته بعدد كبير جدا من شخصيات المجتمع الإنجليزي، وتحدى مرة ويشارد كروسمان عضو حزب العمال البارز واتهمه بمناصرة إسرائيل على العرب، وصادق إديث سمر سكيل وبربارة كاسل الكاتبة والنائبة العمالية الذائعة الصيت، وهاجم إيدن في وجهه في أثناء العدوان واتهمه بالخيانة علنا وأمام الطلبة من أعضاء حزب المحافظين، وصادق الكاتب المسرحي بيكيت، وعشق التأليف المسرحي فكتب رواية متواضعة جدا وجعل بيكيت يسهر أسبوعا بأكمله يسمعها منه، وتعرف إلى ابنة عم ملكة بريطانيا الأميرة ألكسندرا حتى دعته في حفلة عيد ميلادها. وفي الحفلة التي لم يحضرها سوى أعضاء الأسرة المالكة البريطانية وجد الملكة إليزابيث الأم واقفة فتقدم منها وطلب مراقصتها فقبلت ورقصت عدة مرات معه. وخرجت الصحف البريطانية تتحدث في اليوم التالي عن «الأمير الباكستاني» الذي كان المدعو الوحيد الغريب في حفلة عيد الميلاد. وكان مارا من أمام قصر سان جيمس مرة فوجد أضواء القصر متلألئة والعربات الفخمة تقف وينزل منها مدعوون تبدو عليهم سيماء الوقار والخطورة، فقال لنفسه: وإيه يعني؟ ودخل القصر ووجد الحاضرين يقفون طابورا طويلا ليسلموا على الملكة فانضم إلى الطابور، وحين اقترب منها همس له سكرتير الملكة الخاص ألا يبدأ الملكة بالحديث وأن يكتفي فقط بردود مؤدبة على كلماتها، ولكنه حين وصل إليها بدأها بالحديث وسألها عن صحتها وكيف قضت الليلة في القطار إذ كانت قادمة من اسكتلندا خصيصا لحضور هذه الحفلة المقامة لأعضاء الوفود البرلمانية. ويقول الدكتور منسي صاحب هذه المغامرات: ويبدو أن الملكة وجدت في أسئلتي راحة عظمى إذ كانت طوال الوقت تحيي رؤساء الوفود تحية رسمية مقتضبة وعلى فمها ابتسامة رسمية. وما كدت أبدؤها بذلك الحديث العادي حتى انطلقت تتكلم معي. وسألتها عن ولي العهد الصغير وكيف صحته وهل هو شقي مثل بقية الأطفال؟ وانطلقت تحكي قصص شقاوته، وتروي لي كيف استطاعت أن تنام في القطار رغم الضجة. ثم سألتها خلسة عن الحفلة وكم من المجاملات عليها أن تتحملها؟ واستمر بيننا الحديث أكثر من ربع ساعة. كل هذا والطابور الطويل واقف ينتظرني أن أنتهي ويتململ. وجاء السكرتير الخاص ولكزني طالبا مني أن أفسح الطريق لغيري ولكني لم أبال به فقد كان الحديث شائقا وكانت الملكة منطلقة. وحينئذ وجدت شخصا يضع يده على كتفي على هيئة خبطة مفاجئة، والتفت وإذا به زوج الملكة الذي جرني بعيدا وهو يسألني عن أحوالي ومن أي البلاد أنا. وأنا الآخر أسأله عن أحواله وأقترح عليه أن يعمل نجما تليفزيونيا (إذ كنت قد رأيت له برنامجا تليفزيونيا تحدث فيه عن العلم وكان موفقا جدا) فيما لو حدث وأعفوه من منصبه كزوج للملكة. وجعلني الربع الساعة الذي قضيته أتحدث مع الملكة والربع الآخر الذي قضيته أتحدث مع الأمير زوجها محط أنظار جميع رؤساء الوفود وكبار رجال الأعمال واللوردات الحاضرين، فأخذوا يتسابقون في التعرف إلي ودعوني إلى منازلهم وحفلاتهم. ولو كان في نبتي أن أنصب عليهم لاستطعت هذا بسهولة وأصبحت بين يوم وليلة نجما من نجوم المجتمع الإنجليزي.
ولا تنتهي قصص الدكتور منسي عن مغامراته مع العائلات المالكة، ونجوم المجتمع البريطاني وغير البريطاني، تلك التي أتاحت له أن يكون صديقا شخصيا لمعظم الوزراء البريطانيين والكتاب الإنجليز: بيكيت وبنتر ووسكر وجون آسبورن، ومشاهير الممثلين فهو صديق شخصي للورنس أوليفييه وأورسون ويلز، والمؤرخين من أمثال أرنولد توينبي، هذا عدا ماكميلان وهيوم وويلسون وبيفان. وليس النجوم فقط فقد اشتغل لمدة خمسة أعوام مع العمال والشعب الإنجليزي واخترق المجتمع طولا وعرضا وعرف كل خباياه ومشاكله.
ولقد قضيت ليلة حافلة أستمع فيها لمغامرات الدكتور منسي، وكان الشك كثيرا ما يتسرب إلى نفسي وأحاول السخرية من مغامراته ولكن - وهذا هو الغريب - كان ثمة صديق سوداني لا أشك لحظة واحدة في صدقة قد عاصر الدكتور منسي في مغامراته ورآها رأي العين، وكان يؤكد لي أن كل حرف يقوله صحيح وأنه لا يبالغ أبدا.
أتعرفون السر في هذا النجاح الساحق الذي لاقاه الدكتور منسي في إنجلترا؟ السر بسيط جدا، لقد أتقن الحديث بالإنجليزية وعلى الطريقة الإنجليزية إلى درجة مذهلة، وكان هذا وحده جواز مروره.
أهم قرار
لا أعرف لماذا ترتبط الوحدة وأعيادها في نفسي بدمشق. إنك كلما زرتها أحسست أنك في قلب عربي نابض موحد. ولقد أتاحت لي الظروف أن أزور دمشق في أعوام 54، 56، 58، وكنت كلما ذهبت إلى هناك أجد نفسي وكأني فجأة قد أصبحت في قاعة كبرى ينعقد فيها مؤتمر عربي دائم لمناقشة شئون العرب وقضاياهم ويبحث عن حلول عاجلة لها، كنت أجد في دمشق مكافحين عربا من كل مكان، من العراق أيام نوري السعيد، ومن لبنان، من الأردن، من بيروت واليمن وإمارات الخليج، ومن المهجر ومن كل مكان، وأجدهم في حالة جدل متحمس مستمر، حتى في أثناء الفراغ يحيلون جلسات القهاوي والغوطات إلى لجان تتفرع عن المؤتمر الكبير، تدرس فيه القضايا على صعيد البحث الهادئ ولا ترتبط بجدول مكتوب.
ولم يحدث مرة أن شهدت في دمشق أمرا من أمور العرب يناقش على أساس محلي، أو إقليمي. وكان يدهشني ويسعدني معا تلك الإحاطة التامة من رجال دمشق وشبابها بكل ما يحدث في أي قطر من أقطار العالم العربي فلا أعجب أبدا حين أجد القاهرة التي خلفتها، أمامي في دمشق. وفيها أيضا بيروت ومشاكل بيروت، وبغداد وكل ما يجري في بغداد، ولا أعجب حين أجد الطالب اليمني متوهج الحماس يناقش مع مدرس مصري أوضاع الأقلية والأغلبية في لبنان. لا أعجب؛ فكل من يطأ أرض دمشق يتكفل مؤتمرها الكبير الدائب بأن يخلع عنه أثوابه الخارجية المصنوعة التي جاء بها، ويصبح عربيا كما ولد وعاش، مسئولا عن قومه العرب كما لا بد أن يكون الابن البار.
Página desconocida