انظر، إن أبناء البلاط في ملابس ممزقة وماشيتهم منهوبة. «انظر، إلى القصابين يذبحون الماشية للفقراء.»
انظر، إن «القصابين يذبحون الإوز ويقدمونه للآلهة على أنه ثيران (؟!).» «انظر، إن من كانوا ينامون على أسرة ينامون اليوم على الأرض، وذاك الذي كان ينام في الأوساخ يتدثر في سرير.»
انظر، إن من كان لا يمتلك أتباعا أصبح صاحب عبيد، ومن كان من السادة أصبح ينفذ الأوامر. إن الفقراء يستيقظون وهم لا يخشون نور النهار، «وإنها لخيام صنعوها مثل المتوحشين.» «انظر، أين هو ليحاسب الناس؟ ... إنه يطفئ اللهيب، يقال عنه راعي كل الناس، ولا يحمل في قلبه شرا، وحينما تكون خرافه قليلة العدد، فإنه يصرف يومه في جمعها إلى بعضها وقلوبها محمومة ... فأين هو اليوم؟ هل هو بالمصادفة نائم؟ إن بأسه لا يرى (تلفيات شديدة).»
إن القيادة معك والفطنة وأسباب العدالة، لكنك نشرت الفوضى في البلاد مع الفتن، الغوغاء يحدثون الضوضاء. بينما تتلى عليك الأكاذيب والبلاد كالقش الملتهب ... ليتك تذوقت بعض هذه المصائب بنفسك ... (بعد ذلك تلفيات لا تسمح بتكوين فكرة صحيحة أو جملة مفيدة).
5
وتأسيسا على تلك المعاني، اعتمدنا بردية لايدن كوثيقة دالة على الثورة، التي بدأت عمليا وفعليا بانتشار الكفر بالآلهة الرسمية للدولة، حتى صار الرجل الأحمق يقول: إذا عرفت أين الإله قدمت له القرابين، و«الأحمق» هنا تترجم أيضا «المنفعل، ما هو ضد الرزانة والتصرف الكيس عموما». وبينما كان القصابون مشغولين بذبح الثيران للجوعى، كانوا يقدمون للآلهة الإوز على أنه ثيران، وسخرية من آلهة لا تميز في توزيع الأرزاق. ثم الأحداث التي تلت ذلك لإقصاء العتاة وتدمير مباني القضاء الظالم وسجلاتها، ونهب ثروات مقابر الأغنياء والملوك، وبدا أن كل شيء ينقلب رأسا على عقب؛ فالأرض «تدور حول نفسها كعجلة صانع الفخار»، والشطر الثاني من البيت يشرح مباشرة «وصار اللص صاحب ثروة». وتمكن الثوار من القبض على الملك الدي لم توضح البردية مصيره، وهو معلوم على أية حال، وانفلتت الجماهير من عقالها لتدمر بدون تمييز حتى صار نهر النيل بلون الدم لكثرة القتلى وما كانت تلتهمه التماسيح. مع إشارات نادرة ويتيمة لتسلل أغراب للدلتا؛ بحيث بدا الحدث هامشيا بجوار الأحداث الأخرى الجسام، وهو التسلل الذي تم القضاء عليه مع استقرار ملك أسرة أهناسيا الإقليمية إبان العصر المتوسط الأول، حتى يقول أحد ملوكها «خيتي» لولده «مري كارع»: «لا تزعج نفسك بالآسيوي التعس، إن هو إلا آسيوي.» ثم تابع حكام الأسرة الحادية عشرة تطهير البلاد منهم، وعندما يأتي زمن الأسرة الثامنة عشرة لا نجد أي ذكر لوجود آسيوي على أرض مصر إلا العمالة الرخيصة الوافدة باستمرار. وإن كان المعلوم أن ذلك التسلل قد تكرر لكن في شكل غزو كبير للهكسوس جاء بعد سقوط الدولة الوسطى، ولعل إشارة «إبيور» إلى أن الفقراء إبان الثورة، قد أقاموا لأنفسهم خياما في الشوارع مثل المتوحشين، إشارة ساطعة تقطع بأن هؤلاء كانوا ثوارا مصريين يأتون تصرفات تشبه المتوحشين، وهي الوصف المصري للبدو، أما أن تذكر البردية الإله رع والإله خنوم، ولا ذكر إطلاقا للإله آمون ، فذلك في رأينا يشير إلى وجوب نسبة البردية للعصر المتوسط الأول وليس إلى العصر المتوسط الثاني كما يريد فليكوفسكي؛ حيث لم يكن آمون قد ظهر بعد؛ لأنه لم يظهر إلا مع الملك آمنمحات الأول في الأسرة الثانية عشرة من الدولة الوسطى.
هذا ما كان عن بردية لايدن ودلالاتها، فماذا عن تلك الدلالات عند «فليكوفسكي»؟ مع الانتقاء، وملء الثغرات من عنده، لا يجد المرء نفسه إلا أمام حدث كوني عظيم «الأرض تدور حول نفسها، المدن دمرت، الكل خراب، سنوات الضجيج»، هذا مع المقاطع التوراتية مع كل مقطع مقتطع من البردية، مع كلام من لون «إن تلك الهزات كانت متتابعة الحدوث مرة بعد أخرى، حتى تحولت البلاد إلى أنقاض، وانهار نظام الدولة فجأة وأصبحت الحياة لا تطاق، فيقول إبيور: آه لو تتوقف الأرض عن الضجيج، إن بردية إبيور تحتوي على دلالة على حدوث كارثة أرضية مصحوبة بزلزال.»
ولا يفوت المدقق هنا أن تصدير هذه الفصول بعنوان «أرض مصر في جيشان» أو «في ضجيج»، عمد واضح لتزييف الدلالات في البردية؛ حيث عمد إلى الكلمة المصرية «هرو» التي تعني عددا من المعاني مثل «النهار وكل ما يتصف بالوضوح مثل الركض، الثورة، أصوات الشغب والجدل والصراخ، الزمجرة، نفثات الغضب، الصراع»، ليأخذ منها فقط معنى زمجرة الأرض القاصرة على جيشان الزلازل. وغني عن البيان هنا، أن أسلوب المصري القديم في التدوين، له سمات خاصة، وتعبيرات خاصة، ويقصد إلى دلالات يجب الاعتياد عليها مرتبطة ببلاغيات العبارة وتراكيبها، وهو اعتياد من لزوم ما يلزم للفهم السليم لتلك الدلالات؛ فمثلا عندما كان المصري القديم يقول «الأرض» نفهم فورا أنه يقصد مصر تحديدا دون العالم أجمع، وعندما يقول «الناس» يقصد الشعب المصري وحده دون الناس، حتى إنه في البرديات المتأخرة وفي عصور الانحطاط كان المصري يبدي أسفه لأن الأجانب قد أصبحوا من الناس،
6
لكنه يفصل عن دلالات «الأرض» و«الناس» معنى «الحكومة»، بحيث لا تدخل المؤسسة السياسية ضمن تلك الدلالات، فالكلمة الدالة عليها تصبح «برعو» أي السور أو البيت العظيم ، المأخوذ منها كلمة «فرعون»، والأمر هنا يشبه استخدام تعبير «الباب العالي» للإشارة للسلطان أو مقر الحكم العثماني؛ لذلك فإن «إبيور» عندما يتمنى أن تكف الأرض عن الضجيج، يعني تماما أمنية توقف أرض مصر عن الثورة وناسها عن تدمير البلاد.
Página desconocida