الإهداء
تمهيد
التوراة قراءة نقدية
نقد أسفار الأنبياء
التضليل الصهيوني (فليكوفسكي نموذجا)
ملحق له ضرورته
حتى لا يضيع العقل مع الأرض
مصادر استشهادات البحث
الإهداء
تمهيد
Página desconocida
التوراة قراءة نقدية
نقد أسفار الأنبياء
التضليل الصهيوني (فليكوفسكي نموذجا)
ملحق له ضرورته
حتى لا يضيع العقل مع الأرض
مصادر استشهادات البحث
الإسرائيليات
الإسرائيليات
تأليف
سيد القمني
Página desconocida
الإهداء
ما عادت على الجسد عاديات أمراضه المتناوبة إلا وتناوب رفقتي صديقان، يذهلان لأمري عن شئون دنياهم.
جمال عقيل ووسيم فريد.
فإليهما أهدي كتابي مشفوعا بامتنان هما أهل له وإن كانا في غنى عنه. فقط هو الحب والعرفان.
سيد
ضمن هذا الكتاب يقع كتاب سبق نشره بعنوان «إسرائيل: التوراة والتاريخ والتضليل»، إضافة إلى مجموعة من الدراسات المستجدة، سواء فيما يتعلق بنقد أسفار التوراة أو بالعلاقات التاريخية للقبيلة الإسرائيلية بشعوب المنطقة، مع قراءة نقدية لخطاب الحق الديني في القدس.
تمهيد
في التجربة المستمرة للتعامل مع طروحات الأيديولوجيا الصهيونية، المؤسسة على أعمدة تاريخية ودينية قدسية، كنت على يقين دوما بمدى تهافت كثير من أعمالنا الفكرية وترنحها إزاء تلك الطروحات، رغم كم الشعارات والجمل الساخنة، والإطالة المفرطة؛ حيث كانت تلك الأعمال تلقي بنا في النهاية على حجر الفكر الصهيوني وقبضة منظومته الفكرية، بعد الإقرار لها بكل تأسيساتها التاريخية والقدسية، برداء إسلامي يعيد إنتاج عناصر الأيديولوجيا الصهيونية، وهو ناتج ضروري، ولزوم حتمي عن التسليم الإيماني بقدسية التاريخ الإسرائيلي، كمادة أولى وأساس في النص المقدس، وكمادة أولى في قانون الإيمان «بالله وملائكته ورسله وكتبه»، وكان الواضح أن أولئك الرسل جميعا من بني إسرائيل نسبا وشرفا وعقيدة، وإن تم سحب المصداقية عن مقدسهم المتداول بين الأيدي الآن بعد وصمه بالتحريف، بعد اكتشاف يهود يثرب والنبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، اختلاف توجهاتهم على البعد الاستراتيجي؛ ومن ثم تغير التكتيك المرحلي زمن الدعوة، بالنسخ القدسي، ليتم الكشف عن الإسلام كبعد تاريخي قديم، وأن الإسلام كان مستبطنا باليهودية التاريخية؛ ومن ثم تمت إعادة التاريخ دورة كاملة إلى عهد النبي محمد
صلى الله عليه وسلم . كما تحول جميع أنبياء وملوك دولة إسرائيل القديمة إلى أنبياء مسلمين، كانوا يدعون بدعوة الإسلام، وإن ظلت الشهادات المنسوخة متواجدة بالمقدس الإسلامي، بكل تفاصيلها التاريخية الإسرائيلية كما هي في المنظومة التوراتية، وظلت التوراة بصفتها الحاملة للهدى والنور، وظلت الآيات التي تذكر بهم كشعب مختار متميز فضلهم الله على العالمين. وغير ذلك لا تجد سوى تنويعات عروبية نادرة ويتيمة، عن القرى العربية البائدة، وأنبياء مثل هود وصالح. أما النسب الإسلامي والعربي فقد ظل بدوره إسرائيليا، بإعلان نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، أنه الحفيد النبوي الأخير لسلسلة عبرانية استعربت بعد إبراهيم، باستعراب ولده إسماعيل، واكتسابه الجنسية العربية بسكناه بلاد الحجاز، عبورا على عمومة مؤكدة لإسحاق شقيق إسماعيل، الذي أنجب إسرائيل (يعقوب) وبنيه وسلساله الطويل من أنبياء توارثوا النبوة خلفا عن سلف.
Página desconocida
هذا ناهيك عن تطابق المنمنمات الدقيقة حول الإله وقدراته، وقصص الأولين الأولى بدءا من قصة الخليقة وآدم مرورا بنوح والطوفان، حتى قيام مملكة شعب الرب (مملكة إسرائيل القديمة) في فلسطين، وما لحق ذلك من قصص الأنبياء والمرسلين، وكلهم من ذات النسل المبارك. ثم ما أضيف في عصر التدوين الإسلامي للسير والتاريخ؛ تلك المدونات التي عملت مستضيئة بحديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.» والتزاما بقانون الإيمان، وما فرضه كل ذلك من سيادة المأثور الإسرائيلي على العقل العربي وروحه، بعد أن غص مأثوره بالإسرائيليات.
أما الشق الثاني من عناصر الأمة، والذي يمثله المسيحيون العرب، فمعلوم منذ البدء أنهم قد سلموا لإسرائيل وتوراتها، عبر إسرائيلية المسيح وتلامذته جميعا، نسبا، بل وبالشق الأعظم من العقيدة المسيحية، وذلك اتباعا لأمر إيماني، يطلب الإيمان بالمقدس الإسرائيلي القديم، والتاريخ الإسرائيلي؛ إعمالا لتوجيهات يسوعية بدأت بالإعلان: «ما جئت لأنقض الناموس، بل جئت لأكمل.» ولهذا ركز المسيح تعاليمه على الجانب الأخلاقي التشريعي، وترك ما دون ذلك للمؤمن يبحث عنه في المقدس الإسرائيلي؛ لذلك تم ضم الكتاب اليهودي المقدس (التوراة ومجموعة الأسفار القديمة) إلى الكتاب المسيحي المقدس (الأناجيل ومجموعة رسائل التلاميذ) في كتاب واحد مقرر على المسيحي المؤمن، يحمل عنوان «الكتاب المقدس» بشقيه «العهد القديم» و«العهد الجديد».
وإعمالا لذلك سلم المسيحيون بتاريخ إسرائيل وقدسيته وحتميته القدرية، ونهايته المرسومة في التقدير الإلهي لقيام مجد إسرائيل في فلسطين مرة أخرى، بل أصبح المسيحيون هم مادة التطور الكبرى، لقيام مملكة داود وسليمان في فلسطين بزعامة الرب يسوع صاحب الملكوت؛ لأنه امتداد لملوك إسرائيل القديمة، باعتباره من نسل سليمان وأبيه داود؛ فإن هو إلا حفيد ملوك، تجري في عروقه دماء إسرائيلية ملكية، ارتفع في المسيحية من كرسي النجارة الأرضية في مدينة الجليل، حيث كان يمارس حرفته، إلى كرسي الألوهية في السماء. لكن ليظل وفيا لرحمه وعشيرته، يمركز كل الحقوق التاريخية والدينية لإسرائيل في فلسطين؛ لأنه هو ذاته إله اليهود «يهوه» القائد الرباني المظفر الذي قاد شعب إسرائيل من مصر ليقيم مملكة في فلسطين، نعم هو «يهوه» ولكن بعد أن تجلى لخرافه الضالة في صيغة بشرية.
ومن ثم تنافس العربان، عتاة العقيدة العاضون بالنواجذ على الإيمان، مسيحية وإسلاما، في تشريف تاريخ إسرائيل وتكريمه. وبينما باتت عودة المسيح لإقامة مملكة أبيه داود، والجلوس على عرش سلفه سليمان في فلسطين، مشروعا مسيحيا، فلا يزال المسلمون ينتظرون المسيح ليقتل الدجال، ويقيم ذات المملكة، وبعدها يقف إسرافيل ينفخ في البوق من صخرة بيت المقدس، لقيام مملكة الحق الإسلامية الخالدة، مشروعا إسلاميا.
والأمر بهذا الشكل مشكلة إيمانية، وأزمة فكرية طاحنة، يتغافل عنها الجميع وفق صيغهم السياسية، وتكتيكاتهم المرحلية، وأهدافهم الاستراتيجية، لكن المأساة الحقيقية أنها تتجاوز ذلك الإطار إلى مستوى الأزمة الوطنية والقومية والاجتماعية، بحالة تبدو مستعصية على الحل تماما، اللهم إلا في عالم الحلم الثوري الآتي، وهو - بالركون إليه - يعادل تماما انتظار المسيح قاتل الدجال ثم دخول الجنات في المشروع الإسلامي، كما يعادل انتظار عودة المسيح الإله وقيام المملكة المجيدة في المشروع المسيحي واليهودي، على حد سواء. والمدرك لأبعاد تلك الأزمة المروعة في الفكر والسلوك العربي، سيجد كما من الإحباط الفكري والنفسي، والواقعي (في التعايش مع ذلك الفكر السائد)، كفيلا وحده بإلجائه إلى إهمال الأمر برمته، ونفض يديه منه، بيأس كامل ومطبق، لولا بقية من روح قتالية تتشبث بالمحاولة، لوضع لبنة حقيقية في بناء الأمل الآتي، ضمن لبنات أخرى نتمناها ونرجوها ونستحثها، من الباحثين المخلصين.
وضمن تلك المحاولات يأتي هذا القسم من بحثنا، الذي جهدنا عليه بالمعنى السالف، ولا نعلم مدى ما حققناه فيه، الأمر متروك في النهاية للجدل القائم الآن على مستوى التعامل مع التراث لتحديد الهوية؛ وعليه، أضع هذا الجهد، الذي ربما كان متعجلا في بعض مواضعه، كناتج محاولة المسارعة بالخروج إلى الساحة، بعد تأخر طويل، راجيا أن أكون بذلك قد وضعت بين يدي القارئ مساهمة على طريق التعامل العلمي مع طروحات الأيديولوجيا الصهيونية، مع قناعة خاصة، أو اعتقاد، أني أقدم به واحدة من الأدوات اللازمة، في الصراع الثقافي والحضاري، الملتبس دوما بالاجتماعي، والذي تخوضه فصائل أمتنا الواعية اليوم.
سيد القمني
التوراة قراءة نقدية
تأسيس
على الصفحة الأولى للكتاب المقدس (النسخة العربية) نقرأ إعلانا افتتاحيا يقول:
Página desconocida
الكتاب المقدس؛ أي كتاب العهد القديم والعهد الجديد، وقد ترجم من اللغات الأصلية وهي: اللغة العبرانية، واللغة الكلدانية، واللغة اليونانية.
والعهد القديم يشمل مجموعة الكتب اليهودية المقدسة، التي يشار إليها في مجموعها - مجازا - باسم التوراة، وهو الاصطلاح الذي استخدمناه في عنونة كتابنا هذا للدلالة على مجموعة كتب العهد القديم، رغم أن التوراة تقتصر على الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم، لكن الاصطلاح صار دارجا للدلالة على مجموع الكتب اليهودية التي يشملها ذلك العهد بكامله، وهو المختص في صفحة عنوان الكتاب المقدس، بالترجمة عن اللغة العبرانية واللغة الكلدانية، أما العهد الجديد فيشمل مجموعة الكتب المقدسة للعقيدة المسيحية، وهو فقط من بين مجموع كتب الكتاب المقدس، المترجم عن اللغة اليونانية.
ويطلق على كتب العهدين اصطلاحا لفظة «أسفار» (جمع «سفر» أي: كتاب، وتعني السور أو المحيط بالمحتوى)، و«سفر» هي المقابل العبري لكلمة «سورة» في اللغة العربية؛ حيث يتبادل الحرفان «ف» و«و» بين العبرية والعربية، كما في «ليفي» العبرية، ومقابلها «لاوي» في العربية، وقد اعتبرت تلك السور أو الأسفار عند أصحابها كتبا مقدسة؛ أي موحى بها. أما كلمة العهد في التسميتين «العهد القديم» و«العهد الجديد» فتعني الميثاق؛ بمعنى أن كلتا المجموعتين من الكتابات عبارة عن ميثاق أخذه الله على البشر، وارتبطوا به مع الله، فكان العهد القديم ميثاق العقيدة اليهودية، بينما أصبح العهد الجديد ميثاق العقيدة المسيحية.
وكتب العهد الجديد تمثل مجموعة الأناجيل وعددها أربعة أناجيل هي على الترتيب: إنجيل متى، إنجيل مرقس، إنجيل لوقا، إنجيل يوحنا؛ هذا إضافة إلى سفر أعمال الرسل، ومجموعة رسائل تخص تلامذة المسيح والتي بشروا بها الأمم، وهي:
رسائل بولس الرسول: رسالة إلى رومية، ورسالتان إلى كورنثوس، ورسالة إلى غيلاطية، ورسالة إلى أفسس، ورسالة إلى فيليبي، ورسالة إلى كولوسي، ورسالتان إلى تسالونيكي، ورسالتان إلى تيموثاوس، ورسالة إلى تيطس، ورسالة إلى فيلمون، ورسالة إلى العبرانيين.
رسالة يعقوب الرسول.
رسالتان لبطرس الرسول.
ثلاث رسائل ليوحنا الرسول.
رسالة ليهوذا.
سفر الرؤيا، وهو سفر خاص ناتئ يخص رؤيا ليوحنا اللاهوتي.
Página desconocida
وتلك الأسفار والرسائل في مجموعها، إضافة إلى الأناجيل، تشكل سبعة وعشرين كتابا أو سفرا، تكون منظومة المقدس المسيحي: أناجيل ورسائل مقدسة.
لكن الأهم، والذي يعنينا هنا، هو القسم الأول من الكتاب المقدس، وهو القسم الأكبر والأضخم «العهد القديم» أو التوراة، ويتضمن تسعة وثلاثين سفرا ضخما هي على الترتيب: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر التثنية، وسفر يشوع، وسفر القضاة، وسفر راعوث، وسفر صموئيل الأول، وسفر صموئيل الثاني، وسفر أعمال الملوك الأول، وسفر أعمال الملوك الثاني، وسفر أخبار الأيام الأول، وسفر أخبار الأيام الثاني، وسفر عزرا، وسفر نحميا، وسفر أستير، وسفر أيوب، وسفر مزامير النبي داود (المعروف إسلاميا باسم الزبور لاختلاط حرفي الباء والميم بين اللسان العبراني واللسان العربي)، وسفر الأمثال، وسفر الجامعة، وسفر نشيد الأنشاد الذي لسليمان، وسفر إشعيا (وهو مجموعة نبوءات)، وسفر دانيال، وسفر هوشع، وسفر يوئيل، وسفر عاموس، وسفر عوبيديا، وسفر يونان، وسفر ميخا، وسفر ناحوم، وسفر حبقوق، وسفر صفنيا، وسفر حجي، وسفر زكريا، وسفر ملاخي.
وعادة ما يتم تقسيم هذه المجموعة من الأسفار إلى أربعة أقسام هي على الترتيب:
القسم الأول:
المعروف باسم التوراة، أو كتب موسى الخمسة أو البانتاتك ويشمل خمسة أسفار هي: التكوين
Cenesis
والخروج
Exodus
واللاويين
Leviticus
Página desconocida
والعدد
Nambers
والتثنية
Deuteronomy . وتعد تلك الأسفار الخمسة أهم أجزاء العهد القديم، وتنسب بجملتها إلى النبي موسى بوحي من الله.
ويحكي السفر الأول منها (التكوين) تاريخ العالم من لحظة البدء بخلق السموات والأرض، ثم آدم ونسله، ويسير مع ذلك النسل حتى يصل إلى أولاد يعقوب المعروف بإسرائيل، وهم اثنا عشر ولدا يعرفون بالأسباط أو بني إسرائيل، وينتهي السفر باستقرار هؤلاء ضيوفا على أرض مصر، في زمن حلت به المجاعة بالمنطقة بكاملها، ومن المرجح عند العلماء أن هذا السفر قد تم تأليفه حوالي القرن التاسع قبل الميلاد؛ أي بعد موسى بحوالي خمسة قرون، وهو افتراض علمي لا يأخذ بعين الاعتبار مسألة نسبته للوحي أو لموسى من الأساس.
أما السفر الثاني (الخروج) فيعرض للأحداث التي مرت بها القبيلة الإسرائيلية في مصر، وقصة النبي موسى وقيادته لبني إسرائيل في رحلة خروج - أو هروب - كبرى، ويحكي السفر أحداث الرحلة بتدقيق وتفصيل شديدين، ويشير إلى أسماء ومواضع الحل والترحال بكثافة وإصرار، إضافة لما يحويه ذلك السفر من بعض أحكام الشريعة اليهودية في العبادات والمعاملات والعقوبات، ويرجح أنه قد تم تأليفه زمن تأليف سفر التكوين.
والسفر الثالث هو سفر «التثنية»، الذي شغل معظمه بأحكام الشريعة اليهودية الخاصة بالحرب والسياسة والاقتصاد، والمعاملات والعقوبات والعبادات، وقد سمي التثنية لأنه ثنى أو أعاد ذكر التعاليم التي يفترض أن موسى تلقاها من ربه، لكن العلماء يرجحون أن هذا السفر قد تم تأليفه في أواخر القرن السابع قبل الميلاد؛ أي بعد موسى بحوالي سبعة قرون، وذلك أثناء وجود القبيلة الإسرائيلية في المنفى البابلي.
والسفر الرابع هو سفر «اللاويين» أو الليفيين، نسبة إلى لاوي أو ليفي
Lievi
أحد الأسباط، والإشارة هنا إلى أبناء ليفي أو سلسلة نسله من أحفاد الأحفاد، الذين اشتغلوا بالكهانة اليهودية، ومن هؤلاء الأبناء كان النبي موسى، وقد شغل معظم هذا السفر بشئون العبادة وطقوسها، خاصة ما تعلق منها بطرق تقديم الأضاحي والقرابين.
Página desconocida
أما السفر الخامس وهو سفر «العدد»، فقد اهتم بإحصائيات عن عدد قبائل بني إسرائيل، وجيوشهم، وأموالهم، وأي أمر كان يمكن إحصاؤه في شئونهم؛ لذلك سمي «العدد» من عملية العد والإحصاء.
القسم الثاني:
ويعرف بالأسفار التاريخية، وعددها اثنا عشر سفرا، قامت بعرض تاريخ بني إسرائيل بعد استيلائهم على كنعان (فلسطين)، وهي أسفار: يشوع (ويشوع هو خليفة موسى على قيادة بني إسرائيل إلى فلسطين بعد موت موسى، بعد استيلائهم على بعض أرض فلسطين)، ثم سفر راعوث (وهو اسم جدة داود من جهة أبيه)، ثم سفر صموئيل الأول، وصموئيل الثاني (وصموئيل هو آخر قضاة إسرائيل قبل انتهاء النظام القبلي وقيام المملكة المركزية). ثم يلي ذلك سفران بعنوان أعمال الملوك أو الملوك أول وثاني، ويحكي تاريخ ملوك بني إسرائيل بدءا من أول ملوكهم «شاول» مرورا بداود وولده سليمان وسلسلة الملوك من بعدهم. ويلي ذلك سفران بعنوان أخبار الأيام، وهما أول وثاني بدورهما، ويعرضان على الترتيب شجرة النسب من آدم إلى يعقوب إسرائيل، وهو تكرار سبق عرضه في سفر التكوين. ثم بعد ذلك يتم تقديم عرض لتاريخ داود، ثم ولده سليمان، ثم عرض لتاريخ إسرائيل السياسي بعد سليمان.
ويأتي بعد ذلك سفر عزرا وينسب إلى عزرا النبي الذي تمكن من إعادة الإسرائيليين من منفاهم في بابل إلى فلسطين، وذلك حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، وإليه تنسب محاولة إعادة تجديد الديانة ونفخ الروح في القومية الإسرائيلية، إضافة إلى قيامه بتجديد بناء الهيكل، وينسب إلى عزرا النشط هذا تحرير كثير من أسفار العهد القديم، حتى بلغ منزلة عظيمة الشأن، عند بني إسرائيل.
ومن بين تلك الأسفار التاريخية يأتي أيضا سفر نحميا نسبة إلى نحميا، أحد وجهاء بني إسرائيل، والذي تمكن بمساعدة عزرا من إقناع ملك الفرس، بالسماح لهم ببناء الهيكل مرة أخرى. ويلي نحميا سفر أستير وهو سفر صغير يشتمل على تسعة إصحاحات فقط، يروي قصة الإسرائيلية الجميلة أستير، التي تمكنت من إغواء أحشويريش ملك الفرس فتزوجها، كما تمكنت من إحباط مؤامرات وزيره هامان ضد بني ملتها، ودبرت مع عمها الكاهن مردخاي مكيدة قضت عليه وعلى أنصاره، حتى سمح لهم الملك الفارسي بالولوغ في الدم كيف شاءوا، فقام الإسرائيليون بذبح الآلاف من قوم هامان ونسائهم وأطفالهم، وحتى اليوم يحتفل أصحاب الملة اليهودية بذكر تلك المذبحة الدموية في عيد البوريم، أو عيد أستير، وذلك في شهر مارس من كل عام.
القسم الثالث:
ويعرف بمجموعة أسفار الأناشيد أو الأسفار الشعرية، ويشمل أسفارا في صيغ الأناشيد والمواعظ الدينية المؤلفة تأليفا شعريا وهي خمسة أشعار: أولها أيوب ثم المزامير، وبعده سفر أمثال سليمان ثم سفر الجامعة وهو منسوب بدوره لسليمان، ومن بعده سفر نشيد الأنشاد وهو بدوره من أعمال سليمان حسب عنوانه «نشيد الأنشاد الذي لسليمان».
القسم الرابع:
ويسمى بمجموعة أسفار الأنبياء (النبييم)، ويشمل سبعة وعشرين سفرا تعرض لتاريخ أنبياء إسرائيل بعد موسى، وهي إشعيا، وأرميا، ومراثي أرميا، وحزقيال، ودانيال، وهوشع، ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونس، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وصفنيا، وحجي، وزكريا، وملاخي.
ويرجح العلماء أن معظم تلك الأسفار قد تم تأليفها بين النصف الأخير من القرن التاسع قبل الميلاد، وأوائل القرن السادس قبل الميلاد، وأن بعضها يمكن تزمينه بأواخر القرن الرابع قبل الميلاد. (1) علاقة النبي موسى بالتوراة
Página desconocida
بات معلوما - اليوم - أن نسبة «الأسفار الخمسة الأولى من التوراة» إلى النبي موسى، أمر مشكوك فيه تماما، وغير علمي بالمرة، بل أصبح من العلمي القطع بتأليفه على يد عدد من الكتاب الذين اختلفت مشاربهم وأمزجتهم وثقافتهم ومواقعهم الاجتماعية وتوجهاتهم العقائدية، وهو الأمر الذي فرض نفسه في النهاية على المؤسسات الدينية ذاتها، حتى إنك تجد في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادرة في عام 1960م ما نصه:
ما من عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة، منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف حتى على وضع النص؛ لأن ذلك النص قد كتبه عديدون بعده؛ لذلك يجب القول: إن ازديادا تدريجيا قد حدث، وسببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.
وقد كان السبب في إطلاق اصطلاح «أسفار موسى الخمسة» على التوراة، هو افتراض إيماني ينسب تأليفها إلى النبي موسى، حتى صار ذاك الافتراض عقيدة يهودية منذ عهد فيلون السكندري ويوسفيوس في القرن الأول قبل الميلاد، اللذين عاصرا المسيح، وأعلنا أن موسى هو مؤلف التوراة، وهي العقيدة التي ظلت تأخذ بها الكنيسة إلى زمن قريب، ولا تزال سائدة في كثير من الكنائس.
إلا أن التوراة نفسها تقدم لمن يبحثها شواهد تقطع بأن تلك النسبة إلى موسى باطلة تماما، ومن تلك الشواهد على سبيل المثال:
هناك عبارات تتعلق بموسى في التوراة، ويستحيل أن تصدر عنه وذلك مثل الآية التي تقول: «وأما الرجل موسى فكان حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض» (عدد، 12: 3)؛ فهنا واضح تماما أن الكاتب شخص آخر يتحدث عن موسى، ويذهب إلى تأكيد حلم «الرجل موسى»، كما لو كانت محاولة للتنصل من أحداث سيرة ذلك النبي التوراتية، تنفي عنه صفة الحلم بالمرة. ومثل تلك الآية، الأخرى التي تقول: «وأيضا الرجل موسى كان عظيما جدا في أرض مصر، وفي عيون فرعون وعيون الشعب» (خروج، 11: 3). هذا ناهيك عن الخبر الخاص بوفاة موسى والذي يقول: «فمات هناك موسى عبد الله في أرض موآب حسب قول الله، ودفنه في الجواء في أرض موآب» (تثنية، 34: 5)، وبالطبع يستحيل أن يكتب موسى عن نفسه أنه قد مات، بل ويحدد موضع دفنه.
إنك تجد في التوراة أسماء لمواضع جغرافية يستحيل أن يكون لدى موسى علم بها؛ لأنها كانت في عمق أرض فلسطين وموسى مات ولم تطأ قدمه أرض فلسطين. إضافة إلى أن أكثر تلك الأسماء لم تكن قد سميت زمن موسى، بل تمت تسميتها حسب ظروف ومستجدات حدثت بعد موسى بثلاثة أو أربعة قرون؛ مثل اسم مدينة دان (تكوين، 14: 14؛ تثنية، 34: 1)، ومثل مجموعة القرى المعروفة باسم يائير (عدد، 32: 41؛ تثنية، 3: 14)، وهي القرى التي لم تظهر أصلا في الوجود إلا في عصر القضاة بعد زمن موسى بقرون (انظر: القضاة، 10: 14).
وفي قصة يوسف خطأ تاريخي هائل، يطلق على فلسطين أرض العبريين (تك، 40: 15) وهو الاسم الذي لم يطلق إلا بعد ذلك بزمان، بينما قبل ذلك - بتأكيد التوراة نفسها - كانت تسمى أرض الفلسطينيين، وأرض الكنعانيين.
وفي سفر التكوين سقطة فاضحة تؤكد كتابة التوراة بعد قيام الملكية المركزية لإسرائيل؛ أي بعد أربعة قرون من زمن النبي موسى، والسقطة تتضح في حديث التوراة، وقولها إن ما ترويه عن زمن موسى، كان «قبل أن يملك ملك من أبناء إسرائيل» (تكوين، 36: 31؛ عدد، 24: 7)، وهي جملة لا يكتبها إلا شخص عاصر العهد الملكي وعرف بقيام المملكة، إنها بالقطع لا يمكن أن تكتب إلا في العصر الملكي لإسرائيل.
هناك تعبير متواتر في التوراة هو «حتى اليوم»، يلحق قص بعض الأحداث، كالقول إنه تم تسمية مدينة كذا بهذا الاسم وهذا اسمها «حتى اليوم»، أو إن الحدث قد أدى إلى تدمير مدينة كذا وظلت على حالها ذلك «حتى اليوم». والملاحظ أن كل التسميات والأحداث التي لحق بها هذا التعبير، تمت بعد عصر موسى بقرون، إضافة إلى مساحة زمنية أخرى يضيفها تعبير «حتى اليوم»؛ أي حتى يوم كتابة الحدث وتدوينه. وهو ما يشير باليقين إلى مسافة زمنية أخرى تفصل بين الحدث وبين زمن التدوين؛ مما يبعد بزمن كتابة التوراة عن زمن موسى مسافات أخرى. ونموذجا لذلك التعبير المتواتر ما يمكنك أن تجده في عدة مواضع؛ مثل «تكوين، 35: 20؛ وتكوين، 47: 26؛ وتكوين، 48: 15؛ وخروج، 10: 6؛ وعدد، 22: 30؛ وتثنية، 22: 30؛ وتثنية، 10: 8؛ وتثنية، 11: 4».
أما تعبير «ولم يظهر نبي مثل موسى» (تثنية، 34: 10) فهو يشير إلى معرفة الكاتب بظهور أنبياء بعد موسى، والمفترض أن ذلك لم يكن معلوما زمن موسى، علما أن هؤلاء الأنبياء لم يبدأ تواجدهم الفعلي إلا بعد عهد صموئيل ومع قيام المملكة الإسرائيلية.
Página desconocida
وعلى مثل تلك الملاحظات التي يمكن لقارئ مدقق أن يراها في التوراة، تتالت التأكيدات التي ترفض نسبة التوراة إلى موسى؛ فكان تأكيد توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي (1588-1679م) أن تدوين التوراة قد تم بعد موت موسى بزمن طويل. ثم تبعه الفيلسوف اليهودي باروخ اسبينوزا (1632-1677م) الذي انتهى إلى إنكار أي احتمال يمكن بموجبه نسبة التوراة إلى موسى، وقدم على ذلك شواهد عديدة، وقدم عددا من القرائن التي تشير إلى أن كتب العهد القديم بدءا من سفر التكوين وحتى سفر الملوك الثاني، قد كتبها عزرا الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان الطبيب الفرنسي جاك أوستراك (1684-1766م) أول من كشف عن احتواء سفر التكوين على روايتين مختلفتين، وأوضح حقيقة وجود اسمين مختلفين للإله في ذلك السفر وفي قسم من سفر الخروج، هما «إلوهيم = الآلهة» و«يهوه». وقد ربط «أوستراك» بين ذلك وبين روايات التوراة فاكتشف أن الأجزاء التي تستخدم اسم «إلوهيم» تروي رواية مختلفة عن تلك التي تستخدم اسم «يهوه».
ويأتي الألماني جراف (1865م) ليكمل تلك الدراسات فيقوم بعملية عكس وقلب شامل للتصور التقليدي، الذي شاع عن كون القصة الإلوهيمية هي الأقدم، ليؤكد أن القصة اليهودية كانت هي الأقدم، بينما دونت القصة الإلوهيمية في فترة العودة من المنفى البابلي زمن عزرا، وذلك خلال القرن الخامس قبل الميلاد.
1
ولعل أهم ما ينفي نسبة التوراة إلى موسى، أنها لم تكن أبدا موضوعا واحدا متكاملا دفعة واحدة، يؤكد ذلك التكرار الذي يمكنك ملاحظته في قصة الخلق، مما يشير إلى اختلاف المؤلفين، بل إنك تجد في ذلك التكرار مخالفات جوهرية، ونماذج لتلك الروايات والمخالفات ما يمكن أن نورده كأمثلة وليس حصرا:
في قصة الخلق أو التكوين التي يمكن للقارئ الرجوع إلى نصها كاملا بالتوراة منعا للإطالة، يمكننا أن نقف على ذلك التناقض في فعل الخلق، الذي يقوم به مرة من سمي في الترجمة العربية «الله» وهو في الأصل العبري «يهوه». كما في القول: «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1) أو كما في القول: «وقال الله ليكن ... كذا وكذا.» ومرة أخرى نجد الخالق في ذات القصة لكن في مواضع أخرى هو «إلوهيم» أو «الآلهة»، وذلك كما في قوله لأعضاء مجمعه الإلهي: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تكوين، 1: 26).
وفي موضع من القصة يقوم الإله بخلق السماء والأرض دفعة واحدة «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1)، بينما في موضع آخر تكون السماء والأرض موجودتين في الأصل في هيئة غمر ماء أزلي مظلم يفتقه الله عن بعضه إلى سماء و«أرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه ... وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد ... ودعا الله الجلد سماء» (تكوين، 1: 2-8).
وفي مشهد آخر من دراما التكوين، نجد الإله يقوم بإنبات النبات في الأرض ويضع فيها حيوانها ودباباتها «وقال الله لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا وشجرا ذا ثمر يعمل ثمرا كجنسه بزره فيه على الأرض» (تكوين، 1: 11)، وفي مشهد آخر نجد برية بلا عشب يقوم الرب الإله فيها بخلق آدم، ثم يضعه فجأة في مكان يدعى جنة عدن ليزرع أرضها ويفلحها «هذه مبادئ السموات والأرض حين خلقت، يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات، كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد ... وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ... وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ووضع هناك آدم الذي جبله» (تكوين، 2: 1-8).
أما أفصح الإشارات لوجود روايتين مختلفتين لقصة الخلق، فهو ما جاء عن آدم عندما وضع في الجنة، فمرة نعلم أنه لم يكن محرما عليه أكل ثمرة الخلد أساسا، بينما نفهم في موضع آخر أنه كان مخلوقا للفناء «حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب، وإلى التراب تعود» (تكوين، 3: 19).
ثم تناقض آخر؛ فلدينا رواية تؤكد أن عملية الخلق قد بدأت بخلق السموات والأرض دفعة واحدة «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين، 1: 1)، وأنه بعد ذلك تقرر إنارة الكون «وقال الله ليكن نور فكان نور. ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا» (تكوين، 1: 3-5)، بينما لدينا رواية أخرى تتحدث عن السماء والأرض كموجود واحد أصلي في هيئة محيط أزلي مظلم، وترجئ تلك الرواية إيصال الإنارة إلى ما بعد فتق هذا المحيط إلى سماء وأرض «وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه. ودعا الله الجلد سماء ... وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل» (تكوين ، 1: 6، 8، 14).
أما أبرز الشواهد على مزج روايتين مختلفتين للتكوين، فهو الكيفية التي تم بها خلق الإنسان الأول؛ ففي مواضع من القصة نجد الخالق يخلق الإنسان دفعة واحدة، ككائن واحد يجمع في ذاته الواحدة بين الذكورة والأنوثة «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله «ذكرا وأنثى، خلقه وباركه ودعا اسمه آدم»» (تكوين، 5: 1)، لكن في موضع آخر نجد الإله يخلق زوجين متمايزين ذكرا وأثنى «على صورة الله خلق الزوجين، ذكرا وأنثى خلقهم» (تكوين، 1: 27).
Página desconocida
وبالطبع لم تكن شواهد التداخل بين روايات مختلفة تم جمعها، أمرا واضحا في قصة الخلق وحدها؛ فهناك دلائل أخرى في روايات أخرى تشير إلى هذا الأمر بسفور؛ ففي قصة نوح نجد رواية تقول إن الله قد أمر نوحا أن يأخذ معه في الفلك من كل زوجين اثنين «ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل، تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك، تكون ذكرا وأنثى» (تكوين، 6: 19)، بينما نجد رواية أخرى ترتفع بهذا الرقم فتقول: «من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة ذكرا وأنثى» (تكوين، 7: 2). ثم في موضع نجد نوحا يستكشف أحوال الطوفان «وأرسل الغراب فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض» (تكوين، 8: 7)، بينما المستمر في القراءة يجد المياه لم تنشف بعد، فيرسل الحمامة، ثم بعد فترة «في الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض» (تكوين، 8: 14). والقصة النوحية مليئة بمثل تلك التناقضات التي لا تغيب على فراسة قارئ مهتم، وهي ذات التناقضات التي تغص بها بقية أسفار التوراة بلا استثناء؛ فهناك كمثال تعليلات قدمتها التوراة لتفسير بعض التسميات، كتعليلها لتسمية مدينة «بئر سبع» بهذا الاسم؛ فالتسمية في رواية تقول إنها سميت كذلك نسبة إلى سبع نعاج قدمها النبي إبراهيم لأبيمالك ملك مدينة جرار الفلسطينية، كرمز لميثاق عدم اعتداء بينهما، وهو الوارد في «تكوين، 21: 28-31». لكن في رواية أخرى نجد التسمية تعود إلى إسحاق بن إبراهيم الذي حفر له عبيده بئر ماء «فدعاها شعبه، لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم» (تكوين، 26: 33). وذات التناقض نجده في تعليل تسمية مدينة «بيت إيل»؛ فهو في رواية ينسب إلى يعقوب بن إسحاق عندما نام فأتاه الله في المنام فقام متيقنا أن هذا المكان مسكن الله فسماه بيت الإله أو بيت إيل «ودعا اسم ذلك المكان بيت إيل، ولكن اسم المدينة أولا كان لوز» (تكوين، 28: 19)، وفي رواية أخرى تنسب التسمية إلى يعقوب أيضا لكن في قصة أخرى ومناسبة أخرى حيث حدثه الله «ودعا يعقوب اسم المكان الذي فيه تكلم الله معه بيت إيل» (تكوين، 35: 15). هذا بينما نعلم من التوراة ذاتها «أن المدينة كانت تحمل اسم بيت إيل قبل يعقوب وقبل أبيه إسحاق وقبل جده إبراهيم»؛ حيث نعلم أن إبراهيم هبط أرض فلسطين غريبا «ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته، وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق» (تكوين، 12: 8).
وفي قصة يوسف نجد يهوذا أحد الأسباط وهو هو صاحب اقتراح بيع يوسف للإسماعيليين بعشرين مثقالا (تكوين، 37: 26-28)، بينما في موضع آخر نجد رءوبين أخاهم يقترح إلقاءه في الجب (تكوين، 37: 21، 22، 24)، ثم تجد نفسك هنا في متاهة: هل ألقوه أم باعوه؟ ومن الذي أنقذه أو اشتراه؟ تجار إسماعيليون أم مديانيون؟ التضارب هنا يصل قمته فلا تخرج بطائل.
وعليه فلا مناص من الاعتراف بأن التوراة، مجموعة جمة من التآليف التي اشترك في وضعها مجموعة مؤلفين، اختلفوا، ولم يلتقوا أبدا لتصفية ما بينهم من خلافات، وأن هذه المجموعة من التآليف تعنى بمسائل دينية ودنيوية وسياسية وأدبية وتاريخية. أما الذي يجب الإشارة إليه وعدم إهماله فهو شهادة العهد القديم نفسه في كثير من الإشارات الواضحة إلى أسفار يحيلنا إليها، فلا نجدها ضمن المقدس المجموع، مما يدلل بسفور على ضياع كثير من الكتب والأسفار ونموذجا لذلك، وهنا سنحاول الحصر، وسنأتي بالنصوص التوراتية التي تحيلنا لمزيد التفصيل في أسفار أخرى، بينما هذه الأسفار غير موجودة على الإطلاق.
لذلك يقال في كتاب حروب الرب: «واهب في سوفة وأودية أرنون» (العدد، 21: 14). (هنا سفر حروب الرب وهو غير موجود.) «فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر ، فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل» (يشوع، 10: 13). (هنا سفر ياشر، وهو مفقود بدوره.) «فكلم صموئيل الشعب بقضاء المملكة وكتبه في السفر ووضعه أمام الرب» (صموئيل الأول، 10: 25). (وهنا سفر قوانين المملكة، وهو غير موجود.) «وأمور داود الملك الأولى والأخيرة، هي مكتوبة في سفر أخبار صموئيل الرائي، وأخبار ناثان النبي، وأخبار جاد الرائي» (أخبار أيام أول، 29: 29). (وهنا ثلاثة أسفار هي أخبار صموئيل الرائي وناثان النبي وجاد الرائي، وهي بدورها لا يعلم شيء عنها.) «وبقية أمور سليمان الأولى والأخيرة، إما هي مكتوبة في أخبار ناثان النبي، وفي نبوءة أخيا الشيلوني، وفي رؤى يعدو الرائي» (أخبار أيام ثاني، 9: 29). (وهنا إشارة إلى سفرين آخرين مفقودين هما سفر أخيا الشيلوني، وسفر يعدو الرائي.) «وبقية أمور يهوشافط الأولى والأخيرة، ها هي مكتوبة في أخبار ياهو بن حناني، المذكور في سفر ملوك إسرائيل» (أخبار أيام ثاني، 20: 34). (وهنا سفر آخر مفقود هو سفر أخبار ياهو بن حناني.) «وبقية أمور عزيا الأولى كتبها إشعيا بن آموص النبي» (أخبار أيام ثاني، 26: 23). (والإشارة هنا إلى سفر من إشعيا المعروف؛ فالسفر المفقود هنا لإشعيا النبي، وقد دونه عن الملك الإسرائيلي عزيا.) «وبقية أمور حزقيا ومراحمه، ها هي مكتوبة في رؤيا إشعيا بن آموص النبي» (أخبار أيام ثاني، 32: 32). «وكذلك فإن أخبار الملك الإسرائيلي حزقيا بدورها ليست مدونة في سفر إشعيا المعروف؛ وعليه فهناك سفر دونه إشعيا عن أخبار هذا الملك فقد بدوره، ما كان هو ذات السفر المفقود الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة مباشرة.» «ورثى أرميا يوشيا، وكان جميع المغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم، وجعلوها فريضة إسرائيل» (أخبار أيام ثاني، 35: 25). «وهنا إشارة لمراث كتبها النبي أرميا على الملك الإسرائيلي يوشيا، الذي قتل على يد الفرعون المصري نخاو، وأن تلك المراثي كانت ترتل كطقس فرضي على بني إسرائيل في صلواتهم، أو في تاريخ المناسبة السنوي، وهي غير موجودة في أرميا أو مراثيه الموجودة بالعهد القديم الموجود بين أيدينا، مما يشير إلى كونها شكلت سفرا بذاتها فقد بدوره.» «وكان بنو لاوي رءوس الآباء مكتوبين في سفر أخبار الأيام إلى أيام يوحانان بن الياشيب» (نحميا، 12: 23). (وبالبحث في السفر الموجود بالعهد القديم والمعروف بأخبار الأيام الأول، والسفر المعروف بأخبار الأيام الثاني، لم نجد تلك الإشارات حتى يوحانان بن الياشيب، مما يقطع بوجود سفر أخبار أيام ثالث هو المقصود بتلك الإشارة، وهو غير موجود بالعهد القديم، مما يشير إلى ضياعه بدوره.)
وتأسيسا على ذلك يمكن القول إن هناك ستة عشر أو سبعة عشر كتابا قد ضاعت من العهد القديم، وربما يصل الرقم إلى عشرين إذا أخذنا بإشارات إلى ثلاثة كتب مفقودة تنسب إلى الملك سليمان، هذا عدا ما ضاع ولم تشر إليه أسفار العهد القديم، ولم نعلم بأمره. وكان ضياع تلك الأسفار وغيرها أمرا محتوما، اقتضته ظروف المنطقة والحروب التي خاضها الإسرائيليون، والتي تعرض أثناءها هيكلهم للتدمير والتلف أكثر من مرة. هذا إضافة للمدة الطويلة التي تطلبها تدوين ذلك المقدس الهائل، والتي امتدت زمنا طويلا، وكان هذا بحد ذاته مدعاة لنقص شديد تعرض له ذلك الكتاب، الذي يلقي بظله على أي بحث ديني أو تاريخي فيه. ناهيك عن خضوع الأسفار لمؤثرات مختلفة وعديدة باختلاف الأزمان والأحداث التي عملت فيها حذفا أو زيادة، حتى إنك تجد اليوم نزاعا داخل المؤسسات اللاهوتية ذاتها، حول مدى أصالة سفري الجامعة ونشيد الأنشاد، وهل هما مقدسان يهوديان، أم دخيلان من ديانات أخرى. (2) تدوين العهد القديم وترجمته
انتهى التطور الأخير لأعمال مدرسة يوليوس فلهاوزن الألمانية حول الكتاب المقدس (1844-1918م)، إلى الكشف عن وثائق أربعة مختلفة يتكون منها المقدس اليهودي التوراتي (العهد القديم)، هي على الترتيب: (1)
مصدر يهوي
Jaheist : ويرمز له اختصارا بالرمز
J
وقد أخذت التسمية من اسم الإله يهوه
Página desconocida
Jahouva
لأنه الاسم الإلهي الغالب على الاستعمال في هذا المصدر، ويرجع تأليفه إلى حوالي عام 850ق.م في مملكة يهوذا؛ أي المملكة الجنوبية. وقد ركز هذا المصدر على الوعد الذي أعطاه الله للبطاركة من إبراهيم إلى موسى. وإن كان يحق لنا أن نرى ذلك التركيز في هذا المصدر، محاولة لإضفاء الشرعية التاريخية والدينية، على الائتلاف الذي أنشأه داود، بوضعه هو وأسلافه في خضم تاريخ أقدم، لجعل مملكة داود ميثاقا وعهدا مع الله، يمتد شرعا إلى العهد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، ويمنح وحدة القبائل المعروفة بالأسباط وجودا تاريخيا قديما، وهي الوحدة التي لم تتحقق إلا بعد خروج القبائل الإسرائيلية من مصر، بقصد وضع أساس قومي تاريخي متين للدولة التي وحدت القبائل، حتى يصعد بتاريخ تلك القومية التاريخية عبر الأنساب إلى زمن الخلق الأول. (2)
مصدر إلوهيمي
Elohist : ويرمز له اختصارا بالرمز
E
نسبة إلى الاسم الإلهي الغالب في ذلك المصدر وهو إيل
EL
أي الإله، وإللوهيم أي الآلهة، ويرجع زمن تأليفه إلى حوالي 770ق.م، ويرجح أنه قد تم تأليفه في المملكة الشمالية إسرائيل، ثم تم بعد ذلك إدماج المصدرين اليهوي
J
والإلوهي
Página desconocida
E
في مجموعة واحدة يرمز إليها بالرمز
EJ
وذلك حوالي عام 650ق.م. وقد عني هذا المصدر، باستكمال النقص الذي حدث في المصدرين اليهوي والكهنوتي الذي سياتي ذكره الآن. (3)
سفر التثنية
Deuteronomy : ويرمز له اختصارا بالرمز
D
ويعني بالإغريقية «القانون الثاني»، ويعد مصدرا منفصلا، تم تأليفه خلال القرن السابع قبل الميلاد، وتزعم الرواية التوراتية أنه كان مخفيا في مكان أو فجوة بجدران المعبد، وتم الكشف عنها عام 622ق.م أثناء حكم الملك اليهودي «يوشيا» عند ترميم معبد أورشليم (ملوك ثاني، 22: 3-10؛ و22: 3-25)؛ حيث عثر المرممون في وجود كبير الكهنة «حلقيا» على كتاب الشريعة وأحضروه للملك، فترك فيه أثرا عظيما، حتى قام بموجبه يحرم كل الطقوس المختلفة عن الوثنية، وقصر العبادة على معبد يهوه في أورشليم وحده. لكن الملاحظ هو تعرض ذلك المصدر لكثير من الحشو والإضافات من عناصر ثقافية لا علاقة لها بالبيئة الصحراوية البدوية، وواضح أن كاتبها ينتمي لثقافة دولة متماسكة يحكمها ملك، ويعنى هذا السفر بالإضافة للشريعة، بوضع تشاريع الحرب وما جاء من أوامر إلهية بشأنها. (4)
المصدر الكهنوتي
: ويرمز له اختصارا بالحرف
Página desconocida
وهو تجميع كهنوتي يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ويركز على شعائر العبادة والطقوس، ويعود للتركيز على العهد مع نوح وإبراهيم وموسى وداود، ويقوم جوهره على وجوب إخلاص اليهود للعهد حتى يستحقوا الخلاص والوفاء بالعهد، وذلك عن طريق التزامهم شريعتهم بدقة، وشريطة أن يتمسكوا بلحظتين تاريخيتين جوهريتين: لحظة العهد القديم مع الله الذي أخذوا فيه الأرض مقابل الختان، أما اللحظة الأهم والأخطر فهي لحظة الإنقاذ بكبرى المعجزات (فلق البحر) عند الخروج من مصر، لذلك يكاد العزف على معجزة البحر عند اليهود، يشكل ترنيمة دائمة، وركنا أساسيا في الاعتقاد، ويرجع زمن ذلك المصدر إلى عهد «عزرا»، وقد تم إدماج هذا المصدر مع المصدر اليهوي والمصدر الإلوهيمي حوالي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد.
وانتهت المدرسة الألمانية، إلى أنه قد تم تجميع المصادر الأربعة في كتاب واحد، هو العهد القديم، حوالي عام 200ق.م، أما الأسفار المتأخرة مثل سفر المكابيين الأول والثاني (في النسخة السبعينية اليونانية)، فقد تم تحريرها خلال القرن الأول قبل الميلاد. إلا أن مدرسة «فلهاوزن» قامت بعمل جريء حقا عندما عكست الترتيب اللاهوتي التقليدي القديم لتأليف الأسفار، بناء على ما أصبح بيدها من نتائج، وبحيث أصبح الترتيب يعاد على النحو التالي: أسفار الأنبياء، فالأسفار التاريخية، ثم أسفار موسى الخمسة مضافا إليها سفر يشوع لتتشكل التوراة من ستة أسفار بدلا من خمسة، ثم أضيفت إليها الأسفار بترتيب منهجي حسب مادتها، وليس حسب الترتيب الزمني لتأليفها.
أما عن الطرق والوسائل والأدوات التي استخدمها مؤلفو التوراة ومحرروها في التدوين، فهي ما يمكن استخراجه من الكتاب المقدس ذاته؛ فنجد سفر أرميا (2: 36) يحدثنا عن تدوين الأدراج، بمعنى اللفائف، وتكتب من اليمين إلى اليسار. وقد أكدت ذلك الأسلوب في الكتابة أسفار عدة؛ مثل سفر حزقيال (2: 9؛ 3: 1) وسفر زكريا (5: 2؛ 1) وسفر المزامير (40: 8). وأما الأداة التي استخدمت في الكتابة على اللفائف، فكانت أحيانا قلم الاردواز كما يذكر المزمور (45: 2)، أو باستخدام الأحبار كما في سفر أرميا (36: 18).
ويبدو أن تلك الأدراج قد بدأت بأوراق البردي المصرية، ثم تطورت إلى الكتابة على الرق (الجلود)، وظلت تلك المخطوطات على هيئة اللفائف حتى جاء القرن الثالث قبل الميلاد حيث بدأت تأخذ شكل الكتب، مع الاستمرار في العمل بنظام اللفائف، وهو نظام لا زال معمولا به إلى اليوم في الأشكال الطقسية التي تمارس في المعابد «من باب تحنيط التاريخ»، ونجد ذلك مستعملا خاصة في أسفار التوراة وسفر أستير بشكل محدد.
إلا أن أول أسلوب اتبعه الإسرائيليون في التدوين، وإن كان غير موجود منه الآن أي أثر يشير إليه، أو لم يعثر على شيء منه حتى تاريخه، فهو أسلوب النقش المصري القديم على المسلات، وكان أول من اتبعه النبي موسى، واستخدمه في كتابه ألواح الشريعة الحجرية، والمزعوم أنها نقرت على الحجر أو نقشت بيد الإله نفسه، ووردت قصتها في عدد من الإصحاحات المتفرقة في سفر الخروج التي جمعناها ورتبناها حسب ترتيب ورودها كالتالي: «وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك، فأعطيك لوحي حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم ... ودخل الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة» (خروج، 24: 12، 13، 18). «ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء، لوحي شريعة مكتوبين بإصبع الله» (خروج، 31: 18). «فانصرف موسى ونزل من الجبل، ولوحا الشهادة في يده؛ لوحان مكتوبان على جانبيهما، من هنا وهناك كانا مكتوبين، واللوحان هما صنعة الله، والكتابة كتابة الله، منقوشة على اللوحين ... وكان عند اقترابه من المحلة أنه أبصر العجل والرقص، فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل» (خروج، 32: 15، 16، 19). «ثم قال الرب لموسى: انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين، فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين، اللذين كسرتهما ... فنحت لوحين من حجر كالأولين، وبكر موسى في الصباح، وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الرب وأخذ من يديه الحجر» (خروج، 34: 1-4).
وقد جاء في الأثر الإسلامي: «إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده.»
2
كما جاء في الآيات الكريمة:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة (الأعراف: 144).
هذا بالإضافة إلى أسفار الشريعة، التي أمر موسى أتباعه بكتابتها، وبذات الطريقة، وهو ما يتضح في قوله لهم: «يوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك، تقيم لنفسك حجارة كبيرة، تشيدها بالشيد، وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس ... حين تعبرون الأردن تقيمون هذه الحجارة، التي أنا أوصيكم بها اليوم، في جبل عيبال، وتكلسها بالكلس ... وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس، نقشا جيدا» (تثنية، 27: 2، 4، 8).
Página desconocida
أما اللغة التي دونت بها الأسفار، فهي كما جاء على غلاف العهد القديم من الكتاب المقدس: العبرانية والكلدانية، والعبرانية، كما يقرر المقدس التوراتي أن اللغة العبرية هي لغة أو لسان أو شفة كنعان الفلسطينية (إشعيا، 19: 18). وإن كان من المفيد العلم أن بعض الأجزاء قد كتبت باللغة الآرامية، وأجزاء أخرى كتبت بالخط المربع (الآشوري) بعد السبي البابلي، وقد استخدم تلك اللغة «عزرا» صاحب معظم أجزاء العهد القديم.
أما المنطق التاريخي، فيفترض أن بدء الكتابة، بل وربما اللغة، التي استخدمها الخارجون من مصر بقيادة موسى، هي اللغة المصرية، خاصة إذا كانت الأدوات والأسلوب مصريين، وهو ما يجعل المدونات العبرية أمرا متأخرا حدث بعد موسى بزمان، وهو ما سبق وأثبتناه في الصفحات السابقة، كما يستحسن الفرض تقدير أن مؤلفي الكتاب المقدس قد تكلموا اللغة المصرية القديمة، شأنهم شأن بقية الأقوام التي دخلت مصر، هذا ناهيك عن ميلاد موسى في مصر ونشأته نشأة مصرية، وشهادة المقدس له بأنه تثقف ثقافة مصرية وأنه كان متفقها بكل حكمة المصريين.
بل وربما ذهب الافتراض حد القول إن لغة التخاطب بين موسى وربه في سيناء، كانت اللغة المصرية القديمة وليست العبرية، التي لم يكن موسى يعرفها أصلا؛ حيث ولد في مصر وعاش فيها ثم خرج منها حتى مات ولم تطأ قدمه أرض فلسطين حيث شفة كنعان التي عرفت بعد بالعبرية،
3
هذا ناهيك عن كون لفظة توراة ذاتها من الألفاظ المصرية، ومعنى تورا
Torah
في العبرية (الشرعية) من
Tororh (توروث)،
4
وهي ترتبط - في رأينا - بعبادة الثور المقدس في المصرية القديمة.
Página desconocida
5
أما عن ترجمات ذلك الأثر الهائل عن لغاته الأصلية، فمعلوم أن الترجمة العربية المتداولة الآن، قد تمت عام 1865م، أما الترجمة الإنجليزية فقد تمت في عهد الملك جيمس عام 1611م، وكلا الترجمتين تمت عن الأصل العبري المعروف بالنص المازوري، الذي سبق تدوينه في القرن العاشر الميلادي ؛ أي بعد ثلاثة قرون من تدوين القرآن الكريم.
ومن المفيد العلم أن النص المازوري المدون قبل القرن العاشر كان غير مصحوب بالإشارات والحركات والنقاط فوق أو فيما بين الحروف الساكنة، وعند تدوين النص المازوري (المفترض أنه كان نصا قديما) تم اقتباس حركات النظام البابلي للحركات.
وهناك نص آخر باللغة اليونانية القديمة، يعرف بالنص السبعيني، وقد تم كتابته حوالي سنة 283 قبل الميلاد، على يد اثنين وسبعين فقيها يهوديا مصريا، بأمر ملك مصر آنذاك «بطليموس فلادفيوس». وتزيد هذه النسخة عن النص المازوري أربعة عشر سفرا، وتلك الأسفار هي:
سفر طوبيا وهو وصف لسيرة أسير إسرائيلي، في الأسر الآشوري بمدينة نينوى، في القرن السابع قبل الميلاد.
سفر الحكمة لسليمان ويشمل أمثلة حكمية وعظات ضد الوثنية.
أسفار المكابيين وعددها أربعة أسفار، تتحدث عن المكابيين الذين حكموا فلسطين حكما وطنيا في عهد الرومان، في القرن الثاني قبل الميلاد، وجاء اسمهم في الشعار الذي كانوا يتنادون به في الحروب وهو «مي كاموخا بجييم يهوفا»؛ أي «من مثلك بين الأمم يا يهوه؟» فأخذ من كل كلمة حرف «م كاب ي» شكلت الاسم «مكابي».
سفر يهوديت وهو قصة أرملة يهودية، غنية وتقية، ساعدت اليهود في الانتصار على الجيش الآشوري.
سفر الكهنوت أو سفر الحكمة ليسوع بن سيراخ، وهو مجموعة أمثال على غرار أمثال سليمان.
سفر تسبيحه الفتية الثلاثة وهي تسابيح يقال إن أصدقاء دانيال الثلاثة رنموها وهم في أتون النار (وردت قصة الإلقاء في النار بالقرآن الكريم لكن حول الأب إبراهيم، والتوراة لم تذكر ذلك في قصة ذلك البطرك).
Página desconocida
سفر سوزان
Suzane
أو قصة سوسنة العفيفة، وهو تمجيد من النبي دانيال لقاض دحض وشاية ضد سوسنة العفيفة.
سفر بعل والتنين، وهو قصة تم إلحاقها بسفر دانيال تشرح كيف تم إقناع قورش ملك فارس بنبذ عبادة الأصنام.
هذا إضافة إلى ثلاثة أسفار منسوبة إلى عزرا، وإصحاحات تمت زيادتها على الأصل المازوري في أسفار «أستير» و«دانيال »، والمعلوم أن الكنيسة لم تتخل عن النص اليوناني السبعيني إلى النص العبري المازوري، إلا بعد القرن العاشر الميلادي؛ حيث أصبح النص المازوري هو النسخة المعتمدة للعهد القديم، ورغم ذلك ما زالت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، والكنيسة الروسية، وكنائس شرق أوروبا، تستعمل النص السبعيني اليوناني. (3) الخرافة في العهد القديم
سبق وأشرنا في بحوثنا المنشورة إلى المصداقية التاريخية في النص التوراتي، والمصداقية هنا لا تعني أمرا لاهوتيا أو علاقة ما بالغيبيات، قدر ما تعني مدى مطابقة النص لوقائع وأحداث أثبتتها نصوص تاريخية أركيولوجية أي مصداقية موضوعية بحتة، وتلك الإشارة واجبة تماما وهامة، لكن مع الحذر في احتساب نص بعينه صادقا لمجرد مطابقة بعض أحداثه مع أحداث تاريخية واقعية، بل يجب القول إنه قد دخله حشو وإضافات ومتراكمات وزيادات خرجت به عن معنى المصداقية الحقة، وأنه هناك فقط ظل من حقيقة، بل وظل باهت، ونموذجا لذلك، أسماء المدن والمواضع وأخبار المعارك والحروب، وسير الأنبياء والملوك؛ لأنه من المستحيل علميا أن نتغاضى عن آلاف أسماء للمواضع الجغرافية التي وردت بالعهد القديم، لمجرد أنها وضعت في سياق من الخرافة الواضحة، خاصة إن علمنا أن هناك - كمثال - مواضع عديدة وكثيفة مرت بها رحلة الخروج من مصر إلى فلسطين، ومن العبث أن تكون كل تلك الأسماء لهذه المواضع قد ذكرت عبثا، أما الأهم حقا، فهو ما جاء في روايات تثبت معرفة مدهشة لدى الكاتب التوراتي بشئون تاريخية قديمة كانت مخفية عنا، ولم نعلم بأمرها إلا بعد كشف المناطق الأثرية القديمة في حضارات المنطقة، وفك لغات تلك الحضارات، كمعرفة العهد القديم العجيبة، لأسماء مدن مصرية، أهال عليها الزمان النسيان، بعد أن أهالت عليها الرياح تلول الرمال، ولم نكشف عنها ونعرفها إلا حديثا، كذلك أسماء بعض الفراعنة مثل «شيشنق» و«نخاو»، أو مثل اسم زوجة النبي يوسف المصرية «إسنات بنت فوطي-فا-رع، كاهن مدينة أون»، وهو ما جاء ذكره في سفر التكوين (41: 45)، ولم نعلم إلا حديثا باسم «رع» إله الشمس المصري، كما لم نعرف ما هي «أون» إلا بعد فك الطلاسم القديمة التي كشفت أن مدينة عين شمس الحالية كانت حاضرة مصرية عظيمة باسم «أون»، أو ما جاء عن مدينة «رعمسيس» في سفر التكوين (47: 11)، وهي المدينة التي لم نعثر عليها حتى الآن بشكل قاطع، لكننا وجدنا بشأنها برديات تتحدث عنها وتصف معالمها بكل دقة، إضافة لنشيد مديح مدينة «رعمسيس» المنسوب للشاعر «بنتأرو»، ناهيك بالطبع عن الاسم «رعمسيس» ذاته كدلالة تامة الصدق والمطابقة لاسم الفرعون «رعمسيس» بنطقه المصري القديم، قبل تحريفه إلى «رمسيس» بإهمال حرف ال «ع».
6
أضف إلى ذلك حديث التوراة عن مركبات فرعون (تك 41: 43 مثلا)، أو معرفة التوراة أن المصريين كانوا يعتبرون الرعاة رمزا للشر وأنجاسا ملاعين، كما في سفر التكوين (46: 34؛ و43: 32)، وهو أمر كشفت عنه علوم المصريات الحديثة، إضافة إلى معرفة التوراة الدقيقة بالأسلوب المصري في التعامل مع الموتى وطقوس التحنيط والدفن، وهو ما ذكرته التوراة عن دفن يعقوب في مصر، وأنه تحنيطه خلال أربعين يوما، ثم البكاء والندب عليه سبعين يوما (سفر التكوين، 50: 1-3)، وهو طقس لم نكن أبدا على علم به قبل فك أسرار المصريات القديمة.
وكثير مما يتعلق بشئون مصر القديمة أثبتت التوراة معرفة دقيقة به، مثل قصة سفط البردي (خروج، 2: 3)، وأسلوب البناء بالطوب اللبن، الذي يؤخذ من طمي النيل ثم يخلط بالتبن ويجفف، وذكره سفر الخروج (5: 6-17)، كذلك معرفة الكتابة بالحفر على المسلات، كما جاء في سفر الخروج (24: 12-13؛ و31: 18)، أو معرفتهم بصفات التابوت المقدس بدقة مدهشة تكاد تطابق التوابيت المصرية الملكية، وهو ما جاء ذكره في سفر الخروج (35: 10) مع إفراد إصحاحات كاملة بذات السفر لمواصفات ذلك التابوت، أو عبادة عجل أبيس في سيناء (خروج، 32: 1-19)، أو مركبات الشمس التي ورد ذكرها في سفر ملوك ثاني (23: 11)، وهي من أحدث الكشوف الحالية في المصريات القديمة.
لكن ذلك كله أمر، والتعامل مع النص بكامله كنص صادق تاريخيا أمر آخر؛ لأن التناقضات التي ينطوي عليها العهد القديم، يمكن أن تؤلف وحدها كتابا قائما بذاته، لا يقل حجما عن الكتاب المقدس، لو أردنا أن نجمعها في مدون واحد، وهذا بحد ذاته كفيل بنزع الثقة عن التوراة وأخبارها منذ البدء، وحتى الأحداث التي ترويها، كوقائع حدثت في القرن التاسع قبل الميلاد على الأقل؛ ففي التوراة مبالغات لا يمكن قبولها إطلاقا، وهي أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ الصادق.
Página desconocida
وسنحاول هنا ضرب بعض الأمثلة التي تدخل روايات التوراة في عداد الخرافات البسيطة، والمركبة؛ فسفر القضاة مثلا يحدثنا كيف قتل «شمشون» ألف فلسطيني بفك حمار (سفر القضاة، 15: 16)، وهناك روايات تحتوي على أرقام خيالية إلى حد بعيد، كما في تقرير سفر الملوك الأول «فضرب بنو إسرائيل من الآراميين مائة ألف رجل في يوم واحد» (20: 29)، والحديث هنا عن حرب دارت بين «آخاب» ملك إسرائيل، وبين «بنحدد» ملك دمشق، حوالي عام 860ق.م، ومثل ذلك الحديث ليس فقط عسير التصديق، بل هو كذب فاضح؛ لأن مملكة دمشق بكاملها لم تكن تحتوي على مائة ألف رجل يمكن قتلهم في يوم واحد بل ربما لم يبلغ سكانها جميعا رجالا ونساء وأطفالا هذا الرقم العظيم.
وفي تلك الخرافات ما يعد لونا من الأساطير المشروعة إيمانا، ولا زالت موضع تصديق وإيمان في اليهودية والمسيحية، بل وفي الإسلام مع بعض التعديل، مثل قصة وجود آدم في الجنة وأكله من الثمرة المحرمة، وحديث حواء مع الحية التي تتكلم:
7
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت الحية للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجرة الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه وتمساه، لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه، تنفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر. (تكوين، 3: 1-5)
ومن قبيل تلك المصدقات الإيمانية، المبالغة الهائلة في أعمار الرعيل الأول من البشرية:
فكانت كل أيام آدم التي عاشها تسعمائة وثلاثين سنة. (تكوين، 5: 5)
فكانت كل أيام شيث تسعمائة سنة واثني عشر سنة ومات. (تكوين، 5: 8)
فكانت كل أيام آنوش تسعمائة وخمسين سنة ومات. (تكوين، 5: 11)
فكانت كل أيام قينان تسعمائة وعشر سنين ومات. (تكوين، 5: 14)
فكانت أيام مهلائيل ثمانمائة وخمسا وتسعين سنة ومات. (تكوين، 5: 17)
Página desconocida
فكانت كل أيام يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة ومات. (تكوين، 5: 20)
فكانت كل أيام أخنوح ثلاثمائة وخمسا وستين سنة ومات. (تكوين، 5: 23)
فكانت كل أيام متوشالح تسعمائة وتسعا وستين سنة ومات. (تكوين، 5: 27)
فكانت كل أيام لامك سبعمائة وسبعا وسبعين سنة ومات. (تكوين، 5: 31)
فكانت كل أيام نوح تسعمائة وخمسين سنة ومات. (تكوين، 9: 29)
ثم هناك أحاديث أخرى عن إنجاب الله لأبناء تزوجوا من آدميات فأنجبوا جيلا من الجبابرة، وهو ما جاء نصا:
وحدث لنا وابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسان، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيغانه، هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة وكان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك إذا دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ أبد الدهر ذوو اسم.
8 (تكوين، 6: 1-4)
ومن باب تمجيد الآباء الأولين للقبيلة الإسرائيلية، نجد قصة تقول إن عددا من الملوك العظام «إمرافل ملك شنعاء، وإريوك ملك الأسار، وكدر لعومر ملك عيلام، وتدعال ملك جوييم» قد تحالفوا في حرب ضد مجموعة ملوك لدويلات أخرى في المنطقة هم «بارع ملك سدوم، وبرشاع ملك عمورة، وشنآب ملك أدمة، وشمئيبر ملك صبوييم، وملك بالع التي هي صوغر»، وتمت هزيمة الحلف الثاني، وكان بين أسرى المهزومين «لوط» ابن أخي «إبراهيم» وهنا تقول القصة ببساطة إن النبي إبراهيم أخذ ثلاثمائة رجل من أتباعه وهزم حلف الدول الكبرى، أو كما جاء في النص:
فلما سمع إبرام أن أخاه سبي، جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته، ثلاثمائة وثمانية عشر، وتبعهم إلى دان، وانقسم عليهم ليلا هو وعبيده فكسرهم، وتبعهم إلى حوبه التي عن شمال دمشق، واسترجع كل الأملاك. واسترجع لوطا أخاه أيضا، وأملاكه، والنساء أيضا، والشعب. (تكوين، 14: 13-16)
Página desconocida
هذا ناهيك عن ظهور الإله (بهيئة تشبه ما تحدثنا به الأساطير عن الجن) للبطاركة الأوائل، وحديثه معهم، وصراعه مع يعقوب، أو مثلما جاء في قصة لقائه بموسى وأتباعه وهو في هيئة أقرب إلى التماثيل. «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو، وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه «صنعة من العقيق» الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل، فرأوا الله، وأكلوا وشربوا» (خروج، 24: 9-11). (والمعلوم أن العقيق الأزرق هو فيروز سيناء الذي صنع منه المصريون تماثيل آلهتهم.)
وغير ذلك كثير وكثيف، نشير إليه في عجالة، مثل: العصا الحية (خروج، 4: 1-5)، وضرب يهوه للمصريين بضربات أسطورية (خروج، 7)، أو فلق البحر (خروج، 14)، وانشقاق نهر الأردن (يشوع، 3: 16-17)، وسقوط مدينة أريحا بمجرد أن صرخ عليها الإسرائيليون مع طبول وزمور وأبواق (يشوع، 6)، وإيقاف يشوع للشمس والقمر حتى ينتهي من القضاء على أعدائه (يشوع، 10: 12-4)، وعكاز الملاك الذي يحرق اللحم (قضاة، 6: 21)، وتحضير الأرواح (صموئيل، 28: 11-20)، ومعجزات شمشون في سفر القضاة (14: 4؛ 14: 5؛ 15: 15؛ 16: 30)، وإحياء النبي إيليا للطفل الميت (ملوك، 17: 21-22)، والأمر الذي أصدره إيليا بهبوط نار من السماء تأكل جنود الأعداء (ملوك ثاني، 1: 10-12)، ثم صعوده إلى السماء (ملوك ثاني، 2: 1، 11)، وقيام رداء إيليا بعد ذلك بدور عصا موسى في فلق الماء (ملوك ثاني، 2: 8، 14)، أو حروب الله مع التنين لوايثان (إشعيا، 27: 1).
وعليه، فإن النص التوراتي من وجهة نظرنا ليس أكثر من وثيقة أسطورية، لكنه كأي وثيقة أسطورية أخرى، وحسب منهجنا الذي اتبعناه في أعمالنا، يمكن أن يقدم لنا - إذا تعاملنا معه عمليا - مادة تاريخية نادرة لم تسعفنا بها الكشوف الأركيولوجية، وأن يضيء لنا مساحات مظلمة من التاريخ لم يكشف عنها البحث الآثاري بعد، ولكن وفق أصول وقواعد ومنهج صارم، وهو ما سبق وأن قدمنا له نماذج في أعمالنا المنشورة، لكن في نفس الوقت، يمكن لباحث مغرض أن يقرأه قراءة أخرى، بأغراض بعينها، وفق أيديولوجيا خاصة، فينطق بأمور أبعد ما تكون عن الصدق والموضوعية والعملية، وهو ما سنجد له نموذجا مثاليا في الباب الثالث من هذا الكتاب. (4) الأنبياء في العهد القديم
من الجدير بالذكر هنا، منعا للالتباس، أن الآباء الأوائل أو البطاركة، من إبراهيم إلى موسى في التوراة، لا يحتسبون أنبياء بالمعنى المفهوم والسائد وفق الطروحات الإسلامية، وتبدأ النبوات فقط في العهد القديم بموسى. أما عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب ... إلخ؛ فهم مجرد أسلاف يجب الإعزاز بهم وبسيرتهم، رغم علاقتهم بالإله، ورغم أنهم أصحاب الوعد، فهم ليسوا أنبياء بالمعنى المفهوم في الإسلام؛ لأن النبوة في الفهم التوراتي هي التنبؤ، والقدرة على قراءة المغيبات. هذا بالطبع مع أمور أخرى تفصيلية تضع هؤلاء البطاركة الأوائل على المستوى الأخلاقي، في صف الأفراد العاديين، الذين يمكن أن يرتكبوا أمورا يمجها التذوق المبني على الفهم الإسلامي لمعنى النبوة، فالنبي إبراهيم مثلا يتاجر بشرف زوجته سارة في مصر، وفي جرار الفلسطينية، للحصول على الأموال، ويتم سرد ذلك دون أي تحرج (تكوين، 12: 11-20؛ وتكوين، 20: 1-7، 14)،
9
وهو الأمر الذي يكرره بعد ذلك ابنه إسحاق في جرار كما ورد في سفر التكوين (26: 7-10).
وفي قصة هلاك سدوم وعمورة، ينجو لوط مع ابنتيه الوحيدتين، ويسكن في مدينة «صوغر»، لكنه لسبب غير مفهوم يتركها إلى الصحراء وتحكي الرواية بعد ذلك:
وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يسكن في صوغر (؟!)، فسكن في المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض، هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرا الليلة أيضا، فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، والصغيرة ولدت ابنا ودعت اسمه بني عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم. (تكوين، 19: 30-38)
وعليه فلن تصيبنا الدهشة إن وجدنا «يعقوب» ابن «إسحاق» الأصغر يحتال على أبيه ليسرق ميراث أخيه الأكبر «عيسو» (تكوين، 27)، أو حين نجد «راحيل» زوجة «يعقوب» تغادر بيت أبيها مع زوجها فتسرق الأصنام من أبيها عشقا في عبادتها (تكوين، 31: 19)، كما لن ندهش إذا وجدنا الأسباط المكرمين يلقون بأخيهم الأصغر «يوسف» في بئر للتخلص منه (تكوين، 37: 18-38)، ولا أن يتزوج «عمران» من عمته يوكابد (خروج، 6: 20)، ولا أن يوعز الرب لموسى بسرقة ذهب النساء المصريات (خروج، 3: 21-22 وخروج، 12: 35-36). وربما لا نصعق إذا ما علمنا أن الرب قرر موت موسى وهارون لأنهما قاما بخيانته (التثنية، 38: 50-50)، أو أن يتم اختيار «شاول» كأول ملك لإسرائيل، لا لميزة فيه سوى طوله وجماله (صموئيل الأول، 9: 2؛ 10: 23) أو اختيار «دواد» لأنه كان أشقر وحلو المنظر (صموئيل الأول، 16: 12؛ 17: 42)؛ ومن ثم فلا يجب أن ننزعج إذا أوعز لنا ذلك المقدس، بأمر علاقة شاذة تقوم بين «داود» وبين الصبي يوناثان بن شاول (صموئيل الثاني، 1: 26)، أو أن يبدأ «داود» حياته مطبلا للزار ومزمرا لإخراج العفاريت التي ركبت «شاول» كما في (صموئيل، 16: 23)، وربما يجب أن نقبل المبررات التي قدمها المقدس، والتي تم فيها تبخيس «نابال» وتصويره خسيسا، حتى يسوغ لداود أخذ امرأته، وهو ما جاء في سفر صموئيل الأول (25)، ولطرافته يمكن سرد نصه القائل:
واسم الرجل نابال، واسم امرأته أبيجايل، وكانت المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة وأما الرجل فكان قاسيا وردئ الأعمال ... وبعد نحو عشرة أيام ضرب الرب نابال فمات ... وأرسل داود وتكلم مع أبيجايل ليتخذها له امرأة ... وصارت له امرأة.
Página desconocida