بات معلوما - اليوم - أن نسبة «الأسفار الخمسة الأولى من التوراة» إلى النبي موسى، أمر مشكوك فيه تماما، وغير علمي بالمرة، بل أصبح من العلمي القطع بتأليفه على يد عدد من الكتاب الذين اختلفت مشاربهم وأمزجتهم وثقافتهم ومواقعهم الاجتماعية وتوجهاتهم العقائدية، وهو الأمر الذي فرض نفسه في النهاية على المؤسسات الدينية ذاتها، حتى إنك تجد في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادرة في عام 1960م ما نصه:
ما من عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة، منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف حتى على وضع النص؛ لأن ذلك النص قد كتبه عديدون بعده؛ لذلك يجب القول: إن ازديادا تدريجيا قد حدث، وسببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.
وقد كان السبب في إطلاق اصطلاح «أسفار موسى الخمسة» على التوراة، هو افتراض إيماني ينسب تأليفها إلى النبي موسى، حتى صار ذاك الافتراض عقيدة يهودية منذ عهد فيلون السكندري ويوسفيوس في القرن الأول قبل الميلاد، اللذين عاصرا المسيح، وأعلنا أن موسى هو مؤلف التوراة، وهي العقيدة التي ظلت تأخذ بها الكنيسة إلى زمن قريب، ولا تزال سائدة في كثير من الكنائس.
إلا أن التوراة نفسها تقدم لمن يبحثها شواهد تقطع بأن تلك النسبة إلى موسى باطلة تماما، ومن تلك الشواهد على سبيل المثال:
هناك عبارات تتعلق بموسى في التوراة، ويستحيل أن تصدر عنه وذلك مثل الآية التي تقول: «وأما الرجل موسى فكان حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض» (عدد، 12: 3)؛ فهنا واضح تماما أن الكاتب شخص آخر يتحدث عن موسى، ويذهب إلى تأكيد حلم «الرجل موسى»، كما لو كانت محاولة للتنصل من أحداث سيرة ذلك النبي التوراتية، تنفي عنه صفة الحلم بالمرة. ومثل تلك الآية، الأخرى التي تقول: «وأيضا الرجل موسى كان عظيما جدا في أرض مصر، وفي عيون فرعون وعيون الشعب» (خروج، 11: 3). هذا ناهيك عن الخبر الخاص بوفاة موسى والذي يقول: «فمات هناك موسى عبد الله في أرض موآب حسب قول الله، ودفنه في الجواء في أرض موآب» (تثنية، 34: 5)، وبالطبع يستحيل أن يكتب موسى عن نفسه أنه قد مات، بل ويحدد موضع دفنه.
إنك تجد في التوراة أسماء لمواضع جغرافية يستحيل أن يكون لدى موسى علم بها؛ لأنها كانت في عمق أرض فلسطين وموسى مات ولم تطأ قدمه أرض فلسطين. إضافة إلى أن أكثر تلك الأسماء لم تكن قد سميت زمن موسى، بل تمت تسميتها حسب ظروف ومستجدات حدثت بعد موسى بثلاثة أو أربعة قرون؛ مثل اسم مدينة دان (تكوين، 14: 14؛ تثنية، 34: 1)، ومثل مجموعة القرى المعروفة باسم يائير (عدد، 32: 41؛ تثنية، 3: 14)، وهي القرى التي لم تظهر أصلا في الوجود إلا في عصر القضاة بعد زمن موسى بقرون (انظر: القضاة، 10: 14).
وفي قصة يوسف خطأ تاريخي هائل، يطلق على فلسطين أرض العبريين (تك، 40: 15) وهو الاسم الذي لم يطلق إلا بعد ذلك بزمان، بينما قبل ذلك - بتأكيد التوراة نفسها - كانت تسمى أرض الفلسطينيين، وأرض الكنعانيين.
وفي سفر التكوين سقطة فاضحة تؤكد كتابة التوراة بعد قيام الملكية المركزية لإسرائيل؛ أي بعد أربعة قرون من زمن النبي موسى، والسقطة تتضح في حديث التوراة، وقولها إن ما ترويه عن زمن موسى، كان «قبل أن يملك ملك من أبناء إسرائيل» (تكوين، 36: 31؛ عدد، 24: 7)، وهي جملة لا يكتبها إلا شخص عاصر العهد الملكي وعرف بقيام المملكة، إنها بالقطع لا يمكن أن تكتب إلا في العصر الملكي لإسرائيل.
هناك تعبير متواتر في التوراة هو «حتى اليوم»، يلحق قص بعض الأحداث، كالقول إنه تم تسمية مدينة كذا بهذا الاسم وهذا اسمها «حتى اليوم»، أو إن الحدث قد أدى إلى تدمير مدينة كذا وظلت على حالها ذلك «حتى اليوم». والملاحظ أن كل التسميات والأحداث التي لحق بها هذا التعبير، تمت بعد عصر موسى بقرون، إضافة إلى مساحة زمنية أخرى يضيفها تعبير «حتى اليوم»؛ أي حتى يوم كتابة الحدث وتدوينه. وهو ما يشير باليقين إلى مسافة زمنية أخرى تفصل بين الحدث وبين زمن التدوين؛ مما يبعد بزمن كتابة التوراة عن زمن موسى مسافات أخرى. ونموذجا لذلك التعبير المتواتر ما يمكنك أن تجده في عدة مواضع؛ مثل «تكوين، 35: 20؛ وتكوين، 47: 26؛ وتكوين، 48: 15؛ وخروج، 10: 6؛ وعدد، 22: 30؛ وتثنية، 22: 30؛ وتثنية، 10: 8؛ وتثنية، 11: 4».
أما تعبير «ولم يظهر نبي مثل موسى» (تثنية، 34: 10) فهو يشير إلى معرفة الكاتب بظهور أنبياء بعد موسى، والمفترض أن ذلك لم يكن معلوما زمن موسى، علما أن هؤلاء الأنبياء لم يبدأ تواجدهم الفعلي إلا بعد عهد صموئيل ومع قيام المملكة الإسرائيلية.
Página desconocida