وفى المملكة الشمالية إسرائيل تحمس الملك هوشع وتوقف عن دفع الجزية لآشور وعقد حلفا مع مصر. وهنا اجتاحت آشور السامرة بأمر سرجون الثاني عام 723ق.م، وانتهت إسرائيل من الوجود. أما في الجنوب في يهوذا فقد أعلن إشعيا الموقف المطلوب وهو أنه على حزقيا ملك يهوذا عدم الاشتراك في الصراع ضد آشور وعدم الدخول في أية أحلاف ويجب ألا تطلب العون سوى من يهوه فقط.
وأملا في مساعدة مصر قامت مجموعة الدول الصغيرة في بر الشام بعقد الأحلاف، لكن حتى لا يفعل ملك يهوذا فعلهم خلع إشعيا ملابسه ومشى في البلاد عاريا ثلاث سنين يعلن أن عريه آية ضد مصر التي يعتمدون عليها؛ لأن ملك آشور سوف يغزو مصر ويعريها كما يسير هو عاريا (إشعيا، 20: 2-6).
وفي ربيع 711ق.م كانت جيوش آشور قد ابتلعت الأحلاف السورية وتجنبت يهوذا هذا المصير مؤقتا. وفي 705ق.م مات سرجون الثاني ومرة أخرى حاولت دول سوريا وفلسطين خلع النير الآشوري بمحالفة مصر، وتوجهوا ليهوذا لتحالفهم، ومن جديد وقف إشعيا ضد هذا التحالف، لكن الملك حزقيا رفض نصيحة إشعيا وأرسل لمصر بعثة للتحالف ضد آشور بينما أخذ إشعيا يندد بهذا التحالف.
وفي 701ق.م اجتاح سنحاريب خليفة سرجون سوريا جميعا، وحطمها بينما كانت يهوذا قد حصلت من مصر على دعم عسكري كاف جعلها تصمد أمام الحصار الآشوري. وأرسل سنحاريب كبير جنده ربشاقي إلى أورشليم مع كبار الضباط يحملون رسالة لأورشليم، ووقفوا خارج أسوارها يحدثون المتحصنين بالداخل وعلى الأسوار، ينادونهم بصوت عال لإسماع سكان يهوذا، يتساءلون ساخرين من اعتمادهم على مصر «على هذه القصبة المرضوضة؛ على مصر التي إذا توكأ عليها أحد دخلت في كفه وثقبتها؛ هكذا فرعون ملك مصر لجميع المتوكلين عليه» (ملوك ثاني، 18: 19-21).
ثم يلعب الوفد الآشوري بالعواطف الدينية لشعب يهوذا وينادي مؤكدا أن الملك الآشوري جاء يحتل يهوذا بأمر من يهوه نفسه:
والآن هل بدون يهوه صعدت على هذه الأرض لأخربها؟ «يهوه قال لي اصعد إلى هذه الأرض وأخربها.» وخشي حكام يهوذا استماع شعب يهوذا لهذا الكلام المقنع فطلبوا من الوفد الآشوري محادثتهم بالآرامية «كلم عبيدك بالآرامي لأننا نفهمه ولا تكلمنا باليهودي في مسامع الشعب الذي على السور.» لكن وفد سنحاريب استمر يحرض قائلا: «هل إلى سيدك وإليك أرسلني سيدي لأتكلم بهذا الكلام؟ أليس إلى الرجال الجالسين على السور ليأكلوا عذرتهم ويشربوا بولهم معكم؟»
ثم قام ربشاقي ينادي بصوت عظيم على شعب يهوذا يحرضهم على الثورة ضد ملكهم حزقيا «اسمعوا كلام الملك العظيم ملك أشور ... لا يخدعكم حزقيا ... اعقدوا صلحا معي واخرجوا إلي ... حتى آتي وآخذكم إلى أرض مثل أرضكم، فسكتوا ولم يجيبوه بكلمة لأن أمر الملك كان قائلا: لا تجيبوه.» ومع الهلع أرسل الملك حزقيا يستدعى النبي إشعيا بحثا عن مخرج وخلاص. ولم يكن بيد إشعيا سوى رفع الروح المعنوية لشعبه والصمود مدة أطول أمام الحصار حتى يحدث أي طارئ يمكن نسبته إلى يهوه وتدخله، وطمأن الناس معلنا نبوءة جديدة «كطيور مرفة هكذا يحامي يهوه رب الجنود عن أورشليم. ويسقط آشور بسيف غير رجل وسيف غير إنسان» (إشعيا، 31: 4-8).
ثم نجد في كتاب إشعيا خطابا من إشعيا موجها لوفد من الملك اليهودي حزقيا يقول: «هكذا تقولون لسيدكم: هكذا يقول يهوه: بسبب الكلام الذي سمعته الذي جدف علي به غلمان ملك آشور. ها أنا ذا أجعل فيه روحا فيسمع خبرا ويرجع إلى أرضه وأسقطه بالسيف في أرضه ... لا يدخل هذه المدينة ولا يرمي هناك سهما وفي الطريق الذي جاء فيه يرجع» (إشعيا، 37: 6-7، 33-34).
والمعنى أن يهوه سيجعل سنحاريب يسمع خبرا من بلاده يعود على إثره إلى بلاطه حيث يقتل هناك بالسيف، وهذا الكلام أمام العين الفاحصة لا يمكن أن يكون قد صدر من إشعيا، إنما هو إضافة متأخرة؛ لأن سنحاريب عاد فعلا إلى آشور ورفع الحصار عن أورشليم وسقط ضحية انقلاب في البلاط إذ قتل بيد ابنه أسرحدون. «ويبدو أن مصر لم تكن بريئة من هذه الأحداث، لكن كل تلك الأحداث لم تتم وتحدث إلا بعد عشرين عاما من الحوار الذي دار عند أسوار أورشليم؛ أي في عام 681ق.م وبالطبع لم يكن بوسع إشعيا أن يعرف ذلك. وبالطبع لم يكن يهوه هو الذي يقف وراء ما يحدث إنما كانت مصر» التي كانت تحكمها في هذا الوقت أسرة كوشية في دولة واحدة تجمع مصر والسودان الشمالي، وهو ما يرد في فلتة بسفر ملوك ثاني تقول إن سنحاريب قد سمع «عن ترهاقة ملك كوش قولا: قد خرج ليحاربك» (19: 8-9). وكان ترهاقة قد خرج بالفعل لكن سنحاريب كان قد قرر عدم الاشتباك وفضل رفع الحصار عن أورشليم والانسحاب إلى آشور، وشجعه على ذلك سر آخر لم يعلنه لنا سفر إشعيا ليجعل الفعل كله ليهوه، وهو أن ملك يهوذا أرسل لسنحاريب يقول: «قد أخطأت، ارجع عني، ومهما جعلت علي حملته.» فطلب سنحاريب جزية تعويضية باهظة، اضطر معها الملك اليهودي إلى إفراغ خزينة الدولة والمعبد، بل وقلع الكسوة الذهبية عن أبواب معبد يهوه وأعمدته. أما العهد القديم فكان يروي في موضع آخر أن حزقيا استلم رسالة تهديد من سنحاريب ونشرها أمام يهوه ليقرأها بنفسه، فأرسل الإله ملاكا من عنده «فخرج ملاك يهوه وضرب من جيش آشور مائة وخمسين ألفا، فلما بكروا صباحا إذا هم جميعا ميتة، فانصرف سنحاريب ملك آشور وذهب راجعا وأقام في نينوى.»
ولحسن الحظ أن سنحاريب قد ترك نصوصا واضحة حول هذا الأمر تؤكد أن اشتباكا قد حدث فعلا مع جيوش مصر وآشور في يهوذا، والنتائج تشير إلى هزيمة الآشوريين وتراجعهم، لكن الملك الآشوري فضل أن يبدي أنه قد انتصر وأن الجزية التي أخذها من حزقيا هي أسلاب ومغانم المعركة المظفرة. ويحكى أن مدينة عقرون الفلسطينية كانت ضمن الحلفاء الذين تجمعوا لصد آشور، وأن الشعب فيها قبض على ملكها «بادي» لأنه عقد عهدا مع آشور وخان الحلف، وسلموه إلى ملك يهوذا حزقيا الذي تحالف مع مصر بدوره، فرمى بادي ملك عقرون في السجن «رماه في السجن وعامله معاملة الأعداء، ثم خاف فدعا لمساعدته قوات ملك مصر وإثيوبيا التي لا تعد، فجاءوا لمساعدته، وفي سهل تقوع انتظمت صفوفهم ضدي وشحذوا أسلحتهم، وبعد استخارة نبوءة الإله آشور مولاي هاجمتهم وهزمتهم.»
Página desconocida