ومع ذلك لم تربط الموسوعة ولو بالإشارة بين الغزو الكاسي للرافدين، وبين الغزو الهكسوسي لمصر، وبين الآراميين وأرمينيا.
ولعل أهم ما يبطل تقسيم كلمة هكسوس إلى مقطعين «هك»، «سوس»، أنه لا يوجد في اللغة المصرية القديمة لفظة بنطق «سوس» أو ما تفيده معناها، على وجه الإطلاق،
39
وهو ما يبطل أيضا أي تخريج يقسم الكلمة إلى مقاطع، ولا تبقى سوى «ه-كاسي-س» أي الكاسيين. لكن «فليكوفسكي» كافح كفاحا مستميتا ليجد بالكتاب المقدس أي إشارة تتوافق مع معنى المقطعين «الملوك الرعاة» حسب التخريج الخاطئ، وهو ما يشير إلى تكلف وتلفيق واضح العمد، فيلجأ إلى سفر المزامير المتأخر بقرون طويلة عن زمن الخروج، ليجد فيه النص «قد أنزل عليهم الرب أشد غضبه وعقابه سخطا وزجرا وضيقا، «جيش ملائكة أشرار»» (48: 49)، ثم يعقب متغابيا فيما يبدو «فما الذي يعنيه ملائكة الشر؟» بينما هو يعلم جيدا تواتر «ملائكة الشر» بالكتاب المقدس، واصطلاح ملاك الشر يشير إلى الملك الموكل من قبل «يهوه» مع جنوده لإنزال الدمار بأعداء إسرائيل، وهر اصطلاح اعتيادي تماما لدى العارف بالكتاب المقدس، ثم يقوم «فليكوفسكي» بتفسير الاصطلاح «ملائكة أشرار» بحيث يلتقي مع «ملوك رعاة» بقوله إن الناسخ القديم للكتاب المقدس باللغة العبرية القديمة قد أضاف حرف ألف لكلمة «شرر» لتتحول عن معناها الأصلي «رعاة» إلى «أشرار»، بينما الشق الأول «ملائكة» يلتقي مع كلمة «ملوك» بلا فرق يذكر؛ وعليه فالأصل في المقدس القديم، كان «جيش ملوك رعاة»، وليس «جيش ملائكة أشرار»، والواضح أن الرجل قد بذل جهدا لا طائل من ورائه، حيث لا تعني كلمة هكسوس بالمرة «ملوك الرعاة»، لعدم وجود كلمة «سوس» بمعنى «رعاة» ولا بأي معنى أخر ولا حتى بلفظها ضمن معجم ألفاظ المصرية القديمة؛ لأن الأصل في اللسان المصري كان «حقاوكاسوه» والتي ببساطة - لدينا - «الحكام الكاسيين» أو «الكاشيين».
ولو كان «فليكوفسكي» قد اقتصر على تزييف دلالات النصوص لهان الخطب، لكنه - كما رأينا في أكثر من موضع - عمد إلى تزييف النصوص ذاتها، ومن ذلك التزوير ما فعله مع «بردية ساليه»، وهي عبارة عن تمرين مدرسي كتبه التلميذ «بيتاعور» كتدريب على النسخ، وإن نسخها يعود إلى الأسرة التاسعة عشرة، بعد طرد الهكسوس بمئات السنين، والأصل المفقود. لكن المصرولوجيين استخرجوا من ملابساتها أنها كانت تحكي قصة شعبية متواترة، من ألوان قصص الفخر الوطني وأشعار البطولة القومية، والقصة تتناول بداية حروب التحرير، وتحديدا بداية ما يمكن تسميته بالنزاع بين «سقننرع» الملك المصري الطيبي، وبين «أبوب» الملك الهكسوسي، وتبدأ البردية بوصف حال الفاقة والبؤس، وكيف بعث «أبوب» رسالة تحد ل «سقننرع» في طيبة مع رسول، تقول: «أخل البركة الواقعة شرقي المدينة من أفراس النهر؛ لأنها تحول بيننا وبين النوم ليلا، ولأن ضوضاءها تملأ آذان سكان حواريس.»
ورغم أن «فليكوفسكي» يرى في تلك الرسالة كثيرا من الازدراء والاحتقار من قبل «أبوب» للحكام المصريين الذين يحكمون في طيبة «الأقصر»، فإن آخرين ذهبوا إلى أن الرسالة لونا من «جر الشكل»، والاستفزاز، وهو استفزاز لا معنى له لو كانت الأمور مستقرة للهكسوس في الجنوب؛ لذلك ذهب آخرون إلى أنها نوع من الألغاز القديمة التي كان الملوك يخاطبون بعضهم البعض بها، وأن الأمر يشير إلى لون من الضجيج الثوري بدأ يتعالى في طيبة، وأن الأمر «أزعج» «أبوب» مما دفعه لإرسال تلك الرسالة المتحدية، التي تكاد تقول: إن المشاعر الوطنية التي ظهرت في الجنوب تقض مضاجعنا وعليك أيها الحاكم إخمادها فورا.
ثم يأتي «فليكوفسكي» بما يوحي أنه نص يقول: «وظل أمير المدينة الجنوبية صامتا، ثم بكى لوقت طويل ولم يدر بما يجيب على رسالة الملك أبوفيس.» ومن ثم «قبض على الأمير المصري، وساقه رسول الملك أبوب الثاني إلى حواريس.» ونهاية البردية مفقود (والتعقيب الأخير لفليكوفسكي)، أما الغريب فعلا فهو أن بردية «ساليه» تقطع عند مشاورة الملك «سقننرع» لحاشيته وجنوده بشأن الرسالة، وأن الاستكمال جاء من عند فليكوفسكي في حديثه عن القبض على «سقننرع» وأخذه إلى حواريس، وهنا الأمر الخطير في عمل ملفق كالذي بين أيدينا، والذي حاز شهرة عالمية لا تضارع، وربما عمد «فليكوفسكي» إلى عدم ذكر ظروف كتابة البردية، حتى لا يتساءل القارئ: كيف يمكن لمدرسة وطنية في ظل حكومة إمبراطورية تفاخر العالم آنذاك، أن يتناول موضوعا شعبيا يحكي كيف تم إهانة ملك تاريخي يفخر به المصريون، وكيف سيق أسيرا لعاصمة الهكسوس. بينما الثابت من وصف «إليوت سميث» ومن واقع الجراح التي وجدت في مومياء الملك «سقننرع»، أن الرجل مات بعد ضربات نافذة بالخناجر والبلط. وكان ممكنا القول مع «فليكوفسكي» إن الملك المصري أخذ إلى حواريس أسيرا، ولو بافتراء على وثيقة لم تقله، وإنه أعدم هناك، لولا أن جثمانه كان محفوظا بوادي الملوك في طيبة عاصمة الجنوب، والتي انطلقت منها عزمات التحرير، وهو ما يشير إلى موت الرجل في معركة شرسة، وقع فيها شهيدا وسط جنوده، الذين حملوا جثمانه من ساحة المعركة إلى مرقده الأخير في مقر حكمه (طيبة - الأقصر). ولن نفهم سر كل هذا التسفية من شأن قواد التحرير المصريين إلا في ضوء تزمين التاريخ الفليكوفسكي، الذي يصب في النهاية كل البطولة والنجدة والشهامة والمروءة في يد بني إسرائيل الكرام؛ حيث يتزامن الخروج الإسرائيلي مع الدخول الهكسوسي، ويتزامن الملك الإسرائيلي «شاول» مع زمن تحرير مصر من الهكسوس، الذي قام به «شاول» ورجاله بعدما ثبت له أنه إزاء جبروت إمبراطورية عربية، وبنص «فليكوفسكي»: «إن الإسرائيليين كانوا هم الشعب الوحيد الذي قام وقاتل ودخل حروبا وبإصرار شديد، كي يظلوا مستقلين وغير خاضعين لسيطرة العماليق ... «لقد كان زمنا بطوليا لإسرائيل انفردت به دون سائر الأمم، في الوقت الذي لم تقم فيه أية ثورة أو أي تمرد من أي نوع كان، لا في مصر ولا في غيرها»، ضد العماليق، في تلك الإمبراطورية الواسعة، خلال القرون التي حكموا فيها تلك البلاد».
ونفهم من ذلك أن الإمبراطورية العربية المتبربرة حكمت جزيرة العرب ومصر وجزر البحر المتوسط وبلاد الشام بما فيها فلسطين، تغلب على سطوتها حفنة من الآبقين الخارجين من مصر هاربين؛ بحيث كانوا الشعب الوحيد في المنطقة الذي امتلك كرامة قومية دعته للمحافظة على استقلاله في بقعة صغيرة بفلسطين، ضمن الإمبراطورية العربية العظمى. وهو مبرر واه تماما لتفسير قيام حكم القضاة اليهود لأربعة قرون في فلسطين في ظل إمبراطورية عاتية وهمجية كالتي صورها لنا «فليكوفسكي» ذاته حيث قد تم سحب زمن الهكسوس ليتزامن مع عصر «شاول» مع عصر تحرير مصر؛ لأن «شاول» - في رأيه - هو الذي قاد ألوف الإسرائيليين إلى حواريس، وضرب عليها الحصار وهزمها شر هزيمة، وشتت العماليق الهكسوس الذين انسحبوا إلى شاروهين. وترك الأرض المحررة لأصحابها المصريين (منتهى العدل! ومنتهى المروءة)، دون أن يفكر في الاستيلاء على تلك الأرض، ولو من باب انتقام واجب من عبودية بني إسرائيل بمصر قرونا، ولم يحاول بقواته العظمى التي هزمت أعظم الإمبراطوريات في زمانها أن يحتل مصر، كان همه الأوحد الانتقام من عماليق؛ لأنهم آذوا الإسرائيليين عند الخروج، منذ أربعة قرون مضت، وظل الإسرائيليون يحتفظون بذلك الحقد حتى انتقموا بتدمير حواريس وتشتيت الهكسوس العماليق. هذا رغم «جيشان» الكتاب المقدس بحقد على مصر والمصريين، وكل ما كانت تملكه تلك الأسفار هو استنزال اللعنات المرتجاة من رب العالمين على رءوس المصريين؛ لذلك من حقنا أن نبدي الدهشة والعجب من امتلاك إسرائيل تلك القوة الهائلة التي تهزم الهكسوس المحتلين أصحاب إمبراطورية الاحتلال الاستيطاني، ولا تنتقم من المصريين، في وقت كانت فيه مصر أمام تلك القدرات الإسرائيلية مجرد ثمرة ناضجة تقع دون جهد يذكر في يد «شاول» وجيوشه الجرارة.
ومن جهة أخرى، فإن مزاعم «فليكوفسكي» لا بد تفترض - ضمنا - أن بني إسرائيل قد قضوا تماما على كل أعدائهم الصغار مقارنة بالعماليق، وهو الأمر الذي يحتاج توضيحا، لكن ليس قبل أن نقف مع النص المصري الذي علم منه «فليكوفسكي» بقصة التحرير على يد «شاول»، وهو المدون في مقبرة الضابط «أحمس بن أبانا»، إضافة إلى نص آخر استشهد به هو حكاية العراف «بلعام» بالتوراة.
ولنبدأ بنص التوراة، الذي يحكي لونا فجا من الخرافة، عن كيف استدعى «بالاق» ملك الموآبيين العراف «بلعام» المدياني، ليصب له اللعنات على بني إسرائيل ليبيدهم، «فأجاب بلعام وقال لعبيد بالاق: ولو أعطاني ملء بيته فضة، ولا ذهبا، لا أقدر أن أتجاوز قول الرب ... فأتى الله إلى بلعام ليلا وقال له: أتى الرجل ليدعوك فقم اذهب معهم ... فقام بلعام صباحا وشد على أتانه (حماره) وانطلق مع رؤساء موآب، فحمى غضب الله لأنه منطلق معهم (؟!) ووقف ملاك الرب في الطريق ليقاومه وهو راكب على أتانه وغلامه معه، فأبصرت الأتان ملاك الرب واقفا في الطريق وسيفه مسلول في يده (؟) فمالت الأتان عن الطريق ... فحمي غضب بلعام وضرب الأتان بالقضيب، ففتح الرب فم الأتان فقالت لبلعام: ماذا صنعت بك كي تضربني؟ ... فقال بلعام للأتان: لأنك ازدريت بي، لو كان في يدي سيف لكنت قتلتك الآن، ... ثم كشف الرب عن عيني بلعام فأبصر ملاك الرب واقفا في الطريق وسيفه مسلول في يده، فخر ساجدا على وجهه ... إلخ» (العدد، 22: 19-31).
Página desconocida