والكلام في هذه المسألة مع القدرية يطول لأنهم لا يثبتونها على أصلهم، وهو أن العقل عندهم يوجب ويحسن ويقبح، وعند أهل الحق العقل لا يوجب ولا يحسن ولا يقبح، بل الحسن ما حسنته الشريعة والقبيح ما قبحته الشريعة «2». قال الله عز وجل وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (الإسراء: من الآية 15). فأخبرنا تعالى أنهم آمنوا من العذاب قبل بعث الرسول إليهم، فالواجب فعله ما لا يؤمن أمن في تركه عذاب، فعلم بهذه الآية أن الله تعالى لم يوجب على العقلاء شيئا من جهة العقل، بل أوجب ذلك عند مجيء الرسل من قبل الله تعالى، ولأن العقل صفة للعاقل وهو محدث مخلوق لله تبارك وتعالى، وليس بقائم بنفسه ولا حي ولا قادر ولا عالم ولا متكلم، وما هذه حالته فلا يصح أن يوجب على العقلاء ولا على غيرهم شيئا ولا أن يحرم شيئا ولا يقبح شيئا، ولا يعلم به غير المعلومات التي لا تتعلق به كجميع العلوم. إذا كان الأمر كذلك لم تصر الأفعال حسنة واجبة بإيجابه، ولا محرمة قبيحة بتحريمه، ولا مباحة كسائر الحوادث لأنه محدث مخلوق كسائر العلوم والحوادث، ولو وجب عليهم شيء من جهة العقل قبل مجيء الرسل فكان حجة عليهم مجردة في ذلك لما قال: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (النساء: من الآية 165)
بل كان الواجب أن يقول لئلا يكون لله حجة بعد العقل. ولما بطل ذلك دل على أن العقل ليس له تأثير في شيء مما ذكرناه.
فإن قيل: لم قلتم إن الله عز وجل مريد للمعاصي خالق لها فبأي شيء يستحق العبد العقوبة؟
يقال لهم: هل تثبتون أن الله عز وجل مريد للطاعة خالق لها أم لا؟
فإن قيل ليس مريدا لها ولا خالق أيضا فلا كلام معهم والأولى السكوت عنهم؛ لأنهم قد كذبوا الرب في خبره، وقال عز وجل خالق كل شيء (الأنعام: من الآية 102).
وإن قيل: إنه مريد لإيجادها وخالق لها يقال: فالعبد بأي شيء ينال الثواب والدرجات، وكل دليل لهم هنا هو دليل لنا هناك فكما أنه يقدرنا على فعل الطاعة ويخلقها لنا ثم يثيبنا عليها بفضله فكذلك أيضا يقدرنا على المعصية، ويخلقها لنا ثم يعاقبنا عليها بعدله لأنه متصرف في ملكه على الإطلاق. وقد روى في الخبر أن الله عز وجل أوحى إلى أيوب: «لو لم أخلق لك تحت كل شعرة صبرا لما صبرت» ثم بعد ذلك يمدحه ويثنى عليه بقوله إنا وجدناه صابرا نعم العبد (ص: من الآية 44) فإذا كان الرب عز وجل خلق الصبر له فبأي شيء نال هذا المدح والثناء فدل على أن الأمر ما ذكرناه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون (الأنبياء: 23).
فإن قيل: وجدنا أحدنا إذا قال لغلامه: اكسر هذا الإناء فكسره ثم عاقبه يكون ظالما، فإذا قلنا إن الله عز وجل مريد للمعاصي ثم يعاقب عليها يكون ظالما؟.
Página 377