وهكذا المصنفون في التواريخ، مثل "تاريخ دمشق" لابن عساكر وغيره، إذا ذكر ترجمة واحد من الخلفاء الأربعة، أو غيره يذكر كل ما رواه في ذلك الباب، فيذكر لعلي ومعاوية من الأحاديث المروية في فضلهما ما يعرف أهل العلم بالحديث أنه كذب، ولكن لعلي من الفضائل الثابتة في الصحيحين وغيرهما، ومعاوية ليس له بخصوصه فضيلة في الصحيح، لكن قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا والطائف وتبوك، وحج معه حجة الوداع، وكان يكتب الوحي، فهو ممن ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على كتابة الوحي، كما ائتمن غيره من الصحابة.
فإن كان المخالف يقبل كل ما رواه هؤلاء وأمثالهم في كتبهم، فقد رووا أشياء كثيرة تناقض مذهبهم. وإن كان يرد الجميع، بطل احتجاجه بمجرد عزوه الحديث بدون المذهب إليهم. وإن قال: أقبل ما يوافق مذهبي وأرد ما يخالفه، أمكن منازعه أن يقول له مثل هذا، وكلاهما باطل، لا يجوز أن يحتج على صحة مذهب بمثل هذا، فإنه يقال: إن كنت إنما عرفت صحة هذا الحديث بدون المذهب، فاذكر ما يدل على صحته، وإن كنت إنما عرفت صحته لأنه يوافق المذهب، امتنع تصحيح الحديث بالمذهب، لأنه يكون حينئذ صحة المذهب موقوفة على صحة الحديث، وصحة الحديث موقوفة على صحة المذهب، فيلزم الدور الممتنع.
وأيضا فالمذهب: إن كنت عرفت صحته بدون هذا الطريق، لم يلزم صحة هذا الطريق. فإن الإنسان قد يكذب على غيره قولا، وإن كان ذلك القول حقا، فكثير من الناس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا هو حق في نفسه، لكن لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يلزم من كون الشيء صدقا في نفسه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وإن كنت إنما عرفت صحته بهذا الطريق، امتنع أن تعرف صحة الطريق بصحته، لإفضائه إلى الدور.
فثبت أنه على التقديرين لا يعلم صحة هذا الحديث لموافقته للمذهب، سواء كان المذهب معلوم الصحة، أو غير معلوم الصحة.
Página 43