وأما ما ذكره من أنه لم لا يريد أن ينص بخلافة أبي بكر إلى آخره ففيه أنه لو احتمل إرادة النبي (ص) لهذا لما منعه عمر ومن معه لما بيناه سابقا من محبة كل واحد منهما لصاحبه وبغضهما لعلي (ع) ولأن سبق النص في يوم الغدير على علي (ع) كان قرينة واضحة على أنه (ص) أراد أن يجدد عهده ووصيته ويؤكد الحجة عليهم ففهم ذلك عمر وأبى عليه ونسبه إلى الهذيان كما مر ومن أنكر ذلك فقد اتهم وجدانه وأما ما رواه عن عايشة فلا موافقة له مع ما ادعاه وقد بينا ما فيه عند نقله الحديث بتمامه في جملة النصوص الواردة بحسب زعمه في أبي بكر نعم قد زاد ههنا لفظة له في قوله اكتب له وحدك تتمة الحديث ليخدع أمثاله من الأنبياء ويوقع في أوهامهم أنه دليل على النص وهو في هذه الخيانة والتمويه حقيق بأن يسد فمه من الجص ويختم كما ختم الله على قلبه بالفص وأما ما زعمه من أن إرادة النبي (ص) للنص على علي (ع) حال موته مناقض لسبق النص عليه حال صحته فدليل على أنه لم يعرف معنى التناقض ويلزم أن يكون تكرارا لنص على شئ في الكتاب والسنة تأكيدا وإتماما بشأنه من باب التناقض وبطلانه ظاهر وتفصيل الكلام وتحقيق المرام في هذا المقام الذي زل فيه أقدام الأفهام أن أصل الرواية المتفق عليها بين الفريقين أنه لما قام (ص) قال ايتوني بدواة وقرطاس اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي منع عمر عن ذلك وقال إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله ثم لما أظهر الشيعة شناعة هذا القول من عمر وجعلوه طعنا عليه وقدحا في استحقاقه للخلافة اضطربت الناصبة في إصلاح ذلك فوضع بعضهم رواية أنه قال أهجر بهمزة الاستفهام وصيغة الفعل الماضي وبعضهم رواية أهجر بالهمزة ولفظ المصدر وبعضهم بدله عن أصله وروى أنه قال إن النبي (ص) غلبه الوجع ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر إذ لا وجه للاستفهام في ذلك أيضا لأن الوصية كانت سنة مؤكدة في شريعة النبي (ص) ولم يكن في كلامه المشتمل على طلب الكتاب ليكتب ما يصون أصحابه عن الضلالة بعده شئ لا يليق صدوره بالعقلاء الأصحاء فما الذي حمل عمر على الاستفهام المذكور مع أن قبح مجرد الاستفهام في مرتبة قبح الجزم أيضا لدلالته على تجويز عمر صدور الهجر والهذيان عن النبي (ص) وهذا أيضا سوء أدب واستخفاف وجهل بعلو مقام النبي (ص) فلا مخلص عن الطعن هذا أيضا وأما حمله على الاستفهام الإنكاري فهو مجرد هوس ومن ذا الذي ظهر عنه من الحاضرين هناك اعتقاد أن النبي (ص) يهجر حتى احتاج عمر إلى الانكار عليه بذلك الاستفهام الإنكاري وأيضا لا ارتباط له بما ذكره بعده متصلا به من قوله حسبنا كتاب الله لظهور أن هذا إنما يلايم بعد الجزم بكون ما قاله النبي (ص) هجر غير مغن للأمة عن تجشم الاستنباط من كتاب الله تعالى وأيضا لو كان عمر قايلا لذلك على وجه الاستفهام سيما الاستفهام الإنكاري لما انجر الأمر إلى المنازعة والاختلاف بين القوم الحاضرين هناك ومن المشهور المتواتر أن منع عمر عن إحضار الكتاب وغلظته فيه بتلك العبارة المشتملة على الهذيان والهذر أفضى إلى النزاع والاختلاف هذا وقد نقل القاضي عياض المالكي في كتابه الموسوم بالشفاء في توجيه هذا الاختلاف وجوها رأينا أن ينقلها مع بيان ما فيها من الهذيان والهذر الصادر عن أولياء عمر توضيحا للمرام وسدا لباب الوساوس والأوهام فنقول قال قد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث وكيف اختلفوا بعد أمره لهم (ص) أن يأتوه بالكتاب فقال بعضهم أوامر النبي (ص) يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقراين فلعل قد ظهر من قوله (ص) لبعضهم ما فهموا أنه لم يكن منه عزمة بل أمر رده إلى اختيارهم وبعضهم لم يفهم ذلك فقال استفهموه فلما اختلفوا كف عنه إذ لم يكن عزمة ولما رأوه من صواب رأي عمر ثم هؤلاء قالوا ويكون امتناع عمر إما إشفاقا على النبي (ص) من تكليفه في تلك الحال املا الكتاب وأن تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال إن النبي (ص) اشتد به الوجع وقيل خشي عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد وحكم النظر وطلب الصواب فيكون المصيب والمخطئ مأجورا وقد علم عمر تقرر الشرع وتأسيس الملة وأن الله قال اليوم أكملت لكم دينكم وقوله (ص) أوصيكم بكتاب الله وعترتي وقول عمر حسبنا كتاب الله رد على منازعة لا على أمر النبي (ص) وقد قيل إن عمر قد خشي تطرق المنافقين ومن في قلبه مرض لما كتب ذلك الكتاب في الخلوة وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك وقالت طائفة أخرى إن معنى الحديث أن النبي (ص) كان مجيبا في هذا الكتاب لما طلب عنه لا أنه ابتدء بالأمر به بل اقتضاه منه بعض أصحابه باجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها واستدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي انطلق بنا إلى رسول الله (ص) فإن كان الأمر فينا علمناه وكراهة علي (ع) هذا وقوله والله لا أفعل واستدل بقوله دعوني فإن الذي أنا فيه خير أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر وترككم وكتاب الله وإن تدعوني من الذي طلبتم وذكر أن الذي طلب كتابة أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك انتهى وأقول الكل هذيان وهجر أما الأول فلأنه مجرد احتمال ورجم بالغيب ورمي بالظلام مع أن الأصل في الأمر الوجوب فلا يفيدك تمني ظهور قراين خلافه بلعل وليت ورميك في الظلام ما رميت وكيف لا يفهم عزم النبي (ص) في ذلك مع إتيانه بصيغة الأمر الذي للوجوب كما سيأتي تحقيقه وتأكيده بقوله لن تضلوا أبدا وأما قوله ولما رأوه من صواب رأي عمر ففيه أنه من أين علم إصابة رأيه وما وجه تصديقه لذلك اللهم إلا أن قال إنهم فهموا أنه (ص) يريد بذلك النص على خلافة علي (ع) بعده كما يقوله الإمامية فصوب الموافقون لعمر الكارهون لخلافة علي (ع) منع عمر عن ذلك وحينئذ يثبت مطلوب الإمامية ويصير جميع التوجيهات المذكورة بل جميع المناقشات التي ذكرها أهل السنة في باب الإمامة لغوا باطلا كما لا يخفى وأما ما ذكره من تعليل امتناع عمر عن كتابة ذلك بإشفاقه على النبي (ص) وأن لا يتكلف في تلك الحال مشقة إملاء الكتاب فمدفوع بأنه (ص) لم يكن يكتب تلك الوصية مع قلتها بحسب الكتابة بخطه وحركة يده وقلمه حتى يعلل لزوم المشقة بما اشتهر من قولهم مشقتان لا ثالث لهما مشي الأقدام ومشق الأقلام لأنه (ص) كان أميا لا يكتب ولا يقر من الكتاب شيئا وإن كان أملاه بأن يلقي عبارة الوصية إلى كاتبه ولا مشقة في ذلك مع قلتها كما لا يخفى وأيضا لو لم يكن قادرا على ذلك لما أمرهم بإحضار الكتاب على الوجه الآكد مع أنه (ص) مؤيد بالوحي معتضدا بالملائكة فلا وجه لذلك الاشفاق البارد فإن النبي (ص) أعلم بحال نفسه وأشفق على نفسه من غيره وأما ما ذكره من أنه خشي عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة إلى آخره ففيه أن هذا الخوف مما لا وجه له حينئذ لأنه قد ارتفع قبل ذلك في طول أيام نزول الوحي وملازمته النبي (ص) حيث علموا يقينا أن الله تعالى ورسوله لم يكلفوا أحدا بشئ من التكاليف الشاقة وقد سمعوا
Página 236