La gestión islámica en la gloria de los árabes

Muhammad Kurd Ali d. 1372 AH
96

La gestión islámica en la gloria de los árabes

الإدارة الإسلامية في عز العرب

Géneros

38

ويقبل المال والثياب، ويوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية. وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فاستأدى من الخراج النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث وقعت المطالبة والمطل فأحضر أهل الخراج والتجار فطالبهم فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس، وأحضر الجهبذ؛

39

فوزن ما فيها، وأجزى أثمانها عن أهلها، ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا مالنا. فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر، فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره.

40

ولقد كان الرشيد على أشد ما يكون من الانتباه لكل ما دق وجل من شئون الملك «ومن أشد الملوك بحثا عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية، وأحزمهم فيها أمرا.» يصطنع الرجال، ويحلم عن مساوئ تغتفر من رجاله، ويسعى في عمران البلاد، ويكف الأذى عن الرعية، ويأخذ بأيدي العلماء والباحثين، ويجتمع إليهم ويأنس بهم. ولما رأى أن ملكه في خطر محقق من نفوذ آل برمك وزرائه وخاصته؛ لانصراف الوجوه إليهم لكثرة ما أحسنوا إلى الناس، ولإجماع القاصي والداني على حبهم حتى ساموا الخليفة أو أربوا عليه في المكانة، أمر بالقبض عليهم ومصادرتهم وقتلهم، وما أراد أن يبوح بسر ما أتاه، فرجم القوم الظنون به؛ وذلك لأنه خافهم على ملكه، وهم فرس لهم قديم يمتون إليه من الإمارة، والفرس يحاولون منذ القرن الأول أن يعيدوا الملك فيهم فارسيا، ويخرجون عن صبغته العربية. ونشأت من قتلهم قصة طويلة سداها ولحمتها المبالغة، بل الاختلاق، شغل الرشيد بها الناس عن نفسه وعن سياسة بلاده.

ووضع الرشيد عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف، وترك بعض أهل الضياع في فلسطين أرضهم فوجه إليهم أحد كبار قواده فدعا قوما من أكرتها ومزارعيها إلى الرجوع إليها، على أن يخفف عنهم من خراجهم وتلين معاملتهم، فرجعوا فأولئك أصحاب التخافيف. وجاء قوم منهم بعد فردت عليهم أرضوهم على مثل ما كانوا عليه فهم أصحاب الردود. والرشيد يسد كل خلل في مملكته، ويهتم كل الاهتمام أن يخفف عن الفلاحين. وكان رجاله لا يألونه نصحا؛ لأنه يهتم لكل ما ينفع. وفي الرسالة التي كتبها له قاضيه أبو يوسف في الخراج نموذج من هذه العناية، ومما قال فيها: «وقد بلغني أن عمال الخراج يبعثون رجالا من قبلهم في الصدقات فيظلمون ويعسفون ويأتون ما لا يحل، وإنما ينبغي أن يتخير للصدقة أهل العفاف والصلاح، فإذا وليتها رجلا ووجد من قبله من يوثق بدينه وأمانته أجريت عليهم من الرزق بقدر ما تجري، ولا تجري عليهم ما يستغرق أكثر الصدقة ... ويكون من يولى فقيها عالما مشاورا لأهل الرأي مؤتمنا على الأموال، إني قد أراهم لا يحتاطون فيمن يولون الخراج، إذا لزم الرجل منهم باب أحدهم أياما ولاه رقاب المسلمين وجباية خراجهم، ولعله أن لا يكون عرفه بسلامة ناصية ولا بعفاف ولا باستقامة طريقة ولا بغير ذلك ... وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفا لأهل عمله، ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا بهم، ولكن يلبس لهم جلبابا من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء، من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم، واللين للمسلم والغلظة على الفاجر، والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم والعفو عن الناس ... فإن كل ما عمل به والي الخراج من الظلم والعسف؛ فإنه يحمل على أنه قد أمر به وقد أمر بغيره، وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تعدوا على أهل الخراج ، واجترءوا على ظلمهم وعسفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم، وإذا صح عندك من العامل والوالي تعد بظلم أو عسف وخيانة لك في رعيتك واحتجان شيء من الفيء، أو خبث طعمته أو سوء سيرته، فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئا من أمر رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك، بل عاقبه على ذلك عقوبة تروع غيره من أن يتعرض لمثل ما تعرض له.»

وقال: «بلغني عن ولاتك على البريد والأخبار في النواحي تخليط كثير ومحاباة فيما يحتاج إلى معرفته من أمور الولاة والرعية، وأنهم ربما مالوا مع العمال على الرعية وستروا أخبارهم وسوء معاملتهم للناس، وربما كتبوا في الولاة والعمال بما لم يفعلوا إذ لم يرضوهم، وهذا مما ينبغي أن تتفقده، وتأمر باختيار الثقات العدول من أهل كل بلد ومصر فتوليهم البريد والأخبار. وكيف ينبغي أن لا يقبل خبر إلا من ثقة عدل، ويجري لهم من الرزق من بيت المال وليدر عليهم، وتقدم إليهم في أن لا يستروا عنك خبرا عن رعيتك ولا عن ولاتك، ولا يزيدوا فيما يكتبون به عليك خبرا، فمن لم يفعل منهم فنكل به، ومتى لم يكن أصحاب البرد والأخبار في النواحي ثقات عدولا فلا ينبغي أن يقبل لهم خبر في قاض ولا وال. إنما يحتاط بصاحب البريد على القاضي والوالي وغيرهما فإذا لم يكن عدلا فلا يحل ولا يسع استعمال خبره ولا قبوله.»

41

بمثل هذا اللسان يتلطف أبو يوسف، وينصح لخليفته في اختيار عمال الخراج والأمناء على الأخبار لمراقبة العمال والولاة والقضاة. على أن الرشيد أخذ العمال

Página desconocida