Confesiones de un joven de la época
اعترافات فتى العصر
Géneros
فكان الشعب يرتضي بهذا القول. أما الشبيبة فما كانت لترضى به.
لا ريب في أن الإنسان تتنازعه قوتان مجهولتان تصليان داخله حربا عوانا إلى آخر حياته، فإحداهما تبحث وتسبر المستقبل بسكون متحسبة تستنبط أحكامها من العبر، والأخرى تتحفز للوثوب إلى المستقبل منجذبة إلى ما لا تعلم، وعندما تسود الإنسان عاطفته يتبعها العقل منذرا باكيا، وإذ يقف الإنسان مجيبا لدعوة العقل تهتف الأهواء قائلة: «وأنا، هل يجب أن أموت؟»
وابتداء الأسى يختمر في القلوب الفتية؛ إذ حكم ملوك الأرض على الشبان بالراحة والسكون، وقذفوهم بأشد الأمراض أوجاعا: بالبطالة والضجر، فأحسوا باضمحلال الأمواج التي كانوا أعدوا لمصارعتها سواعدهم القوية، وسادت المسكنة على هؤلاء المصارعين الذين كانوا مرخوا أعضاءهم عبثا بالزيوت، فاندفع الأغنياء منهم إلى ميادين الفحشاء، وخضع المتوسطو الحال للقضاء، وتحولوا إلى الكهنوت والجندية. أما الفقراء فلم يجدوا سوى الحماس البارد، فارتموا فيه بالأقوال الجوفاء كما يترامى المجازف إلى البحر الذي لا ساحل له: بحر الابتلاء بالجدل بعيدا عن العمل.
إن الضعف البشري يقود الناس إلى الاجتماع والتعاون، فلم يلبث هؤلاء الشبان أن اجتمعوا، فوجدت السياسة مرعاها الخصب بينهم، وهكذا كانت الشبيبة تخرج من مصارعة حراس المجلس التشريعي لتتجه إلى المسارح؛ حيث تشاهد «تالما» لابسا قبعة تشبه قبعة الإمبراطور، أو تسير إلى المدافن لتحتفل بمأتم نائب من الأحرار، وتعود إلى مساكنها كل مساء شاعرة بفراغ حياتها وعبث محاولتها.
وما كانت حياة المجتمع الداخلية بأقل بؤسا من الحياة الخارجية، فساد الناس الأسى والجمود، وتسلط الرياء على العادات، وأصبح الدين مشوبا بالأفكار الإنكليزية، فاكتسح الحزن كل ما كان من دلائل المرح القديم.
ولعل العناية كانت تمهد بذلك طرقها الجديدة، فظهر الملاك المبشر بالمجتمع المنتظر ملقيا في قلوب النساء بذور الحرية التي كانت ستطالب المرأة بها في آتي الزمان.
وانشق الرجال عن النساء في المجتمعات الباريسية، فلبست النساء البياض كالعرائس، واتشح الرجال بالسواد كالأيتام، وتبادل الفتيان لفتات العداء، وما هذا الثوب الأسود الذي يلبسه رجال عصرنا إلا دليل انقلاب مريع؛ لأنهم ما لبسوه قبل أن تساقطت شارات الشرف، فتمزقت الأزياء القديمة، وتناثرت أزهار الأثواب المزركشة على الحضيض، فكأن الإنسان بعد أن تحكم بعقله وهدم ما كان يغتر به من الآمال، وقف متشحا بالسواد ليتلقى كلمات التعزية على المفقود، وسادت عادات طلاب العلم وأرباب الفن تطورات نشأت من التطور العام، بعد أن كانت تلك العادات مجلى الحرية الحقيقية، ومسرات الشباب النقية. انفصل الرجال عن النساء فأصلت بينهما الاحتقار نصلا لا شفاء لجراحه: فقد الرجل حب المرأة فاندفع إلى الكئوس ليستعيض ما فقد، ونظر الناس إلى الحب نظرهم إلى الدين والمجد، فرأوا كل ذلك أوهاما تلاشت مع الزمان القديم.
وغصت المواخير بالرجال، فأصبحت الفتاة مهملة بعد أن كانت تغذي الشبيبة بحبها الطاهر السامي، وعندما احتاجت إلى غذاء ورداء باعت نفسها. فيا للشقاء! ويا للعار! لقد أهمل الشاب الفتاة، وكان في وسعه أن يستنير وإياها بأشعة شمس الله، وأن يقاسمها لقمته مأدومة بعرق جبينه، ولكنه تركها وسار إلى مزابل الإنسانية ليجد هنالك تلك الفتاة نفسها مثقلة بالهموم، شاحبة مضعضعة يجول على فمها الجوع، ويرعى قلبها الابتذال.
في ذلك الزمان ظهر شاعران هما أعظم عباقرة العصر بعد نابليون، فخصصا حياتهما لجمع ما تبدد في الأرض من مبادئ الشقاء والآلام، فكتب جوته عميد الأدب الجديد «آلام فرتر»، واصفا الوله الذي يقود إلى الانتحار، ثم عاد فرسم في «فوست» أعظم صورة تمثل الشر والشقاء، واجتاحت كتاباته فرنسا كلها وهو جالس في بيته تحوطه السعادة، وتخدمه الثروة، فكان يرسل إلينا رشاش قلمه الأسود وعلى شفتيه ابتسامة الأب لبنيه ...
وجاء بيرون من جهته يرفع صوت الحروب والفجائع، كأنه لم يجد من حل لسر الوجود غير كلمة العدم المروع.
Página desconocida