جاء الصباح وذهبت إليها. أواه! لا تقولوا، أيها الروحيون، إن الروح تحيا بلا جسد! الحياة الحقيقة والسعادة التامة لا يجتمعان إلا حيث يتوحد الروح والجسد فيصيران روحا جسدية وجسدا روحيا. الروح بلا جسد شبح، والجسد بلا روح جثة. وهل تخلو زهرة الحقل من الروح؟ أليس إنها تبرز بقدرة الفكر الباري الذي ينيلها الحياة والجمال؟ ذلك الفكر هو روحها ولكنه أبكم فيها بينا هو ناطق في الإنسان. الحياة الحقيقية حياة الروح والجسد معا، والاجتماع الحقيقي اجتماع الأرواح الأجساد جميعا. أما العالم الذي عشت فيه سعيدا يومين كاملين فقد اضمحل الآن كالخيال، أو كتنهد العدم، لأني الساعة أراها بالروح والجسد.
تمنيت أن أضع يدي على جبهتها وألمس أجفانها لأتثبت من وجودها بالذات وليس بالصورة الحائمة حول روحي ليل نهار، بل كشخص غير شخصي يحبني ويتوق إلي، شخص أثق به ثقتي بنفسي، بعيد عني إنما أقرب إلي من نفسي وبدونه ليست حياتي بالحياة، ولا موتي بالموت، وما أنا سوى لهاث ضائع في الفضاء غير المتناهي.
استقرت عليها طويلا أنظاري وأفكاري فشعرت بتكامل الحياة في ولم يعد يرهبني الموت لأنه لا يقوى على إفناء هذا الحب العظيم إنما هو يكسبه متانة ونبلا.
ما أعذب السكوت قربها وقد تجلت نفسها في وضع أعضائها ومجموع هيئتها وتتابعت السرائر في عينيها! بقيت صامتا وشيء في يصغي كأني سمعتها تهمس في قلبها: «إنك تؤلمني.» ثم بعد هنيهة: «هل اجتمعنا مرة أخرى؟ كن هادئا ولا تيأس ، لا تسل ولا تستفهم، إني أرحب بك فلا تسخط علي.» كل هذا قرأته في عينيها ولكنها لم تتلفظ بكلمة منه. وفتحت شفتيها أخيرا وقالت بصوت متهدج: «ألم يصلك كتاب من الطبيب؟»
أجبت: «كلا.»
فقالت: «الأفضل إذن أن تسمع الخبر مني. اعلم يا صديقي أننا نلتقي اليوم للمرة الأخيرة، فلنفترق بلا تذمر. لقد أسأت إليك عن جهل إذ كيف أعلم أن للنسيم العليل من القوة ما يسقط عن الزهرة وريقاتها! كنت قليلة الخبرة فلم أتوقع أن توحي إليك فتاة بائسة نظيري سوى عواطف الرحمة والإشفاق. ولقد أنزلتك على الرحب والسعة لأنك صديقي منذ أعوام طويلة، وسعدت بلقياك، لماذا أخفي الحقيقة؟ لأني كنت أحبك. إنما المجتمع لا يفهم هذا الحب ولا يسمح به. لقد فتح الطبيب عيني وأخبرني أن حكايتنا شائعة تتفكه بتفاصيلها أندية المدينة، وكتب إلي أخي الأمير يسألني أن أقطع كل علاقة بيني وبينك. إن أسفي لألمك شديد. ولكن قل إنك تعفو عني، ولنفترق صديقين كما التقينا.»
قالت هذا وأسبلت أجفانها لتخفي عني دموعها. فأجبت: «لي يا ماري حياة واحدة وهي قربك، وإرادة واحدة وهي إرادتك. أحبك بحرارة الحب وحرقته، ولكني لست أهلا لك. أنت أرفع مني مقاما وشرفا وطهرا فكيف أرجو أن أدعوك يوما زوجتي؟ وليس ثمة من وسيلة أخرى لنسير معا في سبيل الحياة. ماري، أنت حرة ولا أريد أن تضحي لأجلي شيئا ما. العالم واسع وإن أردت الفراق فلن نجتمع. ولكن إذا شعرت بحب لي وبأنك خاصتي فأعرضي عن المجتمع وانسي أحكامه البلهاء، ودعيني أحملك على ذراعي إلى الهيكل فأجثو هناك وأقسم أن أكون لك في الحياة والموت.»
فأجابت متمهلة: «تمني المستحيل حرام يا صديقي. لو شاء الله أن يجمع بيننا لما بعث إلي بهذه الأوجاع التي تجعلني طفلة عاجزة بائسة. لا تنس أن ما ندعوه قضاء وقدرا، أو ظروفا، أو فروقا اجتماعية إنما هو في الحقيقة إرادة الله، ومن طمع في التغلب عليها فقد عصى الله وكان غرا داعيا إن لم يكن شاذا أثيما. إنما الناس على الأرض كالكواكب في عرض الفضاء يسلكون سبيلا خطتها يد الله فإن تواجه فيها اثنان فذاك إلى حين ثم يفترقان مسيرين. وباطلا يحتجان ويقاومان فنظام الكون باق على ما هو إلى الأبد. أنا لا أرى موضع الخطأ في حبي لك. غير أن الآخرين يرونه فحسبي يا صديقي. ولنمتثل بتواضع وإيمان.»
كان صوتها هادئا يئن فيه الألم العميق، ولم أشأ أن أتخلى عن الجهاد منذ الخطوة الأولى، فضبطت انفعالي ما أمكن لئلا أتهور مجازفا بكلمة تزيد في ألمها وقلت: «تقولين إن هذه مقابلتنا الأخيرة فدعيني أعلم لمن نضحي ذواتنا. لو خالف حبنا نظاما علويا لامتثلت معك بتواضع وإيمان. ولكن الحب هو إرادة الروح السامية وتسخير تلك الإرادة هو إنكار إرادة الله. طالما حاول الإنسان مخادعة الله كأن دهاءه كفيل بتضليل الحكمة الربانية. وهذا محض جنون، نصيب من اقتحمه نصيب قزم يبارز جبارا فليس أمامه من عاقبة سوى أن يسحق ويتلاشى. لا شيء يقوم في وجه حبنا غير التقول والافتراء، فما هو التقول والافتراء؟ أنا أحترم أنظمة المجتمع، أحترمها حتى في تشعبها وارتباكها الحالي لأن الجسم العليل لا يشفى بغير العلاج المركب. وبدون الفروق الاجتماعية والاصطلاحات والعادات التي كثيرا ما نضحك منها يستحيل ترابط البشر فيما بينهم والتعاون لبلوغ غاية وجدنا على الأرض لننتهي إليها، فيتحتم إذن تضحية الشيء الكثير لتلك الآلهة الكاذبة، وكأهل أثينا الذي كانوا يرسلون كل عام سفينة مشحونة بالشبان والفتيات يقدمونهم قربانا، علينا أن ننحر الضحايا على هيكل الحيوان المسيطر على تركيب نظامنا الاجتماعي. ولكن ثقي أنه ليس من قلب حساس رقيق إلا تعذب وتفطر، ولا من رجل ذي إدراك وشعور إلا وأرغم على إطباق جناحي حبه ليسجنه في القفص الاتفاقي الضيق وذلك حادث أبدا قديم جديد. أنت لا تعرفين المجتمع. ولكني لو قصرت الكلام على أصحابي لأسمعتك من المفجعات ما يملأ أسفارا: أحب أحدهم فتاة فأحبته هي كذلك. ولكنه كان فقيرا وكانت هي غنية، فتخاصم الأهل والمعارف وتقاذفوا السباب والشتائم وكانت النتيجة انسحاق القلبين. لماذا؟ لأن المجتمع يرى منتهى الحطة والذل في أن ترتدي السيدة ثوبا مصنوعا من صوف النبات الأمريكي وليس من نسيج الدودة الصينية.
أحب آخر فتاة فأحبته أيضا. ولكنه كان بروتستانيا وكانت هي كاثوليكية، فقامت عليهما قيامة الكهنة والأمهات وانسحق القلبان. لماذا؟ لأنه حصلت مناورات سياسية بين تشارلس الخامس وفرنسيس الأول وهنري الثامن منذ ثلاثة قرون.
Página desconocida