ما حالنا لولا سنة الكرى؟ نحن نجهل إلى أي العوالم يمضي بنا هذا الرسول الليلي حينما نستسلم له بعيون مغمضة وليس من يتكفل بفتحها في الغد ليعيدنا إلى يقظة العمر. لقد تعلق الإنسان بأهداب الشجاعة والإيمان يوم تلقاه الصديق المجهول فنومه النومة الأولى، ولولا ما فطرنا عليه من ثقة وامتثال لأبى الواحد منا، رغم التعب والنصب، أن يغمض عينيه بمحض إرادته ويدخل مملكة النوم. إنما هما الضعف والشقاء تشتد علينا وطأتهما فنلجأ إلى قوة عليا ونرضخ للنظام البديع النافذ في جميع الكائنات، فنسعد إبان الرقاد بحل الروابط التي تقيد ذاتنا الأبدية الخالدة بذاتنا الأرضية الزائلة.
كل ما جرى بالأمس وكان في ذهني مبهما كضباب المساء أصبح الساعة جليا. شعرت بتقاربنا الواحد من الآخر كأننا أخ وأخت، أو أب وابن، أو خاطب ومخطوبة، وأننا لا يحول بيننا انفصال. بحثت عن معنى ما يدعوه البشر «حبا» وودت، كالشاعر، أن أكون أخاها أو أباها أو أي قريب لها. وددت أن أهتدي إلى اسم يعرفني الناس به عندها لأن العالم ينكر من لم يحمل اسما وكنية. هي قالت إنها تحبني حبا طاهرا يكنه قلبها للنوع الإنساني بأسره وهو مصدر كل صنوف الحب. غير أنها خافت وتألمت لسماع اعترافي، وهذا الألم وذاك الخوف اللذان أتعساني البارحة هما اليوم في عيني حجة راسخة على عاطفة تخصني بها. لماذا نحن نسعى في تفهم نفوس الآخرين ونفوسنا مغلقة على بحثنا؟ ولماذا يستأسرنا ما لا نحسن تمييزه في الطبيعة والأفراد والقلوب؟ أما الأشخاص الذين نعرف منهم جميع الحركات النفسية والبواعث الفكرية فلا ننفعل بتأثيرهم ولا نعيرهم التفاتا، ولا شيء يكلح البهجة والرونق من محيا الحياة كزعم أولئك الماديين الذين يشرحون المعاني ويحللونها تحليلا علميا لينفوا عجائب النفوس وأسرار الأفئدة. إن في كل كائن غموضا يستحيل إدراكه ويتعذر تعريفه: أهو إلهام، أو قدر أو خلق؟ لا الفرد يعي معنى ذلك الغموض المستتر فيه ولا اهتدى الباحثون إلى تفسير مقنع مرضي. وهكذا كل ما حملني بالأمس على القنوط صار اليوم ينبوع أمل. وما زلت بقلبي أعلله حتى تبددت الغيوم من جو مستقبلي السعيد.
خرجت إلى الهواء الطلق وإذا برسول يحمل من الكونتس كتابا. عرفت خط يدها الجميل الرزين فرجوت في تلك اللحظة أعز ما يرجوه العاشق. ويا لسرعان ما خابت آمالي! سألتني في الرسالة أن لا أزورها بعد الظهر لأنها تنتظر ضيوفا من المدينة، ولم تخط كلمة مودة أو كلمة تطمين، وإنما أضافت حاشية معناها أن الطبيب يأتي غدا فاللقاء إلى بعد غد.
يومان يمزقان من كتاب حياتي! ويا ليتهما لم يكونا فلا أحتملهما فوق رأسي كسقف سجن مظلم. علي أن أصبر عليهما ولست مخيرا في التصدق بهما على ملك عوجل بالخلع عن عرشه، أو في التبرع لمتسول يدور حول أبواب المعابد. أطرقت وطال إطراقي، فذكرت صلاة الصبح لأن اليائس أحوج ما يكون إلى الإيمان، وكالفارس يرى الهوة أمامه فيحكم شد اللجام، قلت: «فليكن ما لا مناص منه! ولأقبلنه طائعا دون تذمر فالله لم يخلقنا للغم والمراثي.»
ولماذا لا أتعزى بهذه السطور التي خطتها يدها؟ ولماذا لا أتعزى بأمل الاجتماع القريب؟ سل من عالج السباحة يشر بوجوب رفع رأسك فوق الأمواج، وإلا فاغطس ولا تدع من فمك وعينيك للماء سبيلا. إن لم ترضنا الحياة كواجب فلنقبلها ونعالجها كفن. كلنا هنا أطفال، ولكن ما أغباه طفلا يستسلم للغضب أو يركن إلى العبوس كلما شعر بألم أو حبط له مسعى! وما أحبه طفلا إن بكى ظلت شمس السرور مشرقة في عينيه شروق الزهرة الناضرة وراء غيث نيسان، فلا يطول حتى تنفتح أوراقها ويفوح طيبها لأن حرارة الشمس تمتص عنها قطرات المطر.
وعادت إلي خاطرة فبدأت أنفذها: ذاك أني طالما تمنيت تدوين كل كلمة سمعتها منها وإثبات ما ائتمنتني عليه من جميل الآراء. وها قد حان الوقت الملائم، فصرفت اليومين مستحضرا ساعات اللقاء محييا آثارها. وكنت قريبا منها شاعرا بحبها كأني ممسك بيدها.
وما أغلى تلك الصفحات لدي! كم من مرة قرأتها وأعدت قراءتها! هذه شهود سعادتي الغابرة، يطل من بين سطورها علي وجه معروف وينظر إلي صامتا وسكوته أفصح من الفصاحة. يتلو علي ذكريات الأسى والهناء فيرجعني إلى الماضي وأنطرح على مجموعة حوادثه كالأم على ضريح ولدها الميت منذ أعوام ولا رجاء لها بضمه إلى صدرها مرة أخرى، هذه العاطفة نسميها حزنا، ولكن في الحزن غبطة يعرفها الذين أحبوا كثيرا وتألموا كثيرا.
سل الوالدة عما تشعر به عندما تسدل على وجه ابنتها العروس نقابا لبسته يوم زواجها، مفكرة في زوجها الذي أخذته المنية فحرمتها منه. سل الشاب عما يشعر به إزاء وردة ذابلة جاءته من حبيبته المتوفية وكان أهداها إليها قبل أن يفرق بينهما العالم. كلاهما يبكي وليست دموعهما دموع فرح ولا دموع ترح، بل هي دموع ضحية قدمت آلامها إلى الله بخورا بعد فناء الآمال، وقنعت بالإيمان والثقة بحكمته غير المتناهية.
ولنعد إلى التذكارات التي تجعل الماضي حاضرا: انقضى اليومان وجوانحي تختلج حبورا كلما ولت ساعة فآذنت بقرب اللقاء. وقد كثرت المركبات في اليوم الأول وجاء الفرسان من المدينة فامتلأ القصر بالضيوف والزائرين وخفقت فوق قببه الألوية وصدحت الموسيقى في ساحاته. وعندما أرخى الظلام سدوله ازدحمت الزوارق والقوارب في البحيرة وترددت على صفحة الماء أصداء الأناشيد والأغاني، فأطلت الإصغاء لعلمي أنها هي الأخرى مصغية من نافذتها. وظلت الحركة والجلبة في القصر إلى ما بعد ظهر اليوم التالي حيث عاد الضيوف أدراجهم، وآخر مركبة عادت في المساء إلى المدينة كانت مركبة الطبيب.
عندئذ ضاق صبري وفكرت «ها هي وحدها، أشعر أنها تفكر في وتتمنى وجودي معها. أأترك ليلة أخرى تمر دون أن ألمس يدها فرحا بانتهاء الفراق وابتداء التلاقي الجديد؟ أرى في نافذتها نورا فهل أدعها هناك بلا رفيق؟ ألا يصح أن أتمتع ولو هنية بحضورها العذب؟» وجدتني فجأة أمام بابها وقد ارتفعت يدي لقرع الجرس، فتوقفت قائلا: «ألا سحقا للضعف والتبذل! إن أنا دخلت عليها الآن وقفت أمامها خجلا كسارق يتوارى بالظلام. سآتي إليها صباح غد، سأعود إليها كبطل استحق أن تضفر لجبينه إكليل الحب.»
Página desconocida