Ibrahim Segundo
إبراهيم الثاني
Géneros
فشق عليها أن يسبح هذه السبحة، ورق له قلبها، فقد أيقنت أنه هو أيضا يتعذب، وأنه يتألم لنفسه ولها، لنفسه على الاثر لأنه فقد ما يطيب به نفسا، ولكن الذى فقد، هو الذى أحب منها. فصاحت: «إبراهيم.. أرجو ... أرجو أن لا تتكلم هكذا».
فصاح بها هو أيضا: «لماذا؟ لماذا تطبقين جفونك وتحجبين عقلك؟ لست أمية ولا أنت عمياء، ولا أنت بليدة. ألا تعرفين أن النظر إلى الجمال والإعجاب به، بل حبه، كقراءة الشعر يجعل الإنسان أعرق فى الإنسانية؟ ألا تعرفين أن الرجل البليد كالسفينة التى تسير بغير بوصلة؟ ألا تدركين أن الفطنة إلى الجمال فى مظاهره المتنوعة يعينك حتى على حسن الاختيار، حتى حين تشترين حذاء أو تفصلين ثوبا؟ أهملى ما فى الدنيا من مباهج العيش، وفتن الحياة، وحلاوة الحسن، وروعة الجلال، وانظرى كيف تصير الدنيا والناس؟ بهائم فى مرعى، لا تدرك حتى أن ما ترعاه أخضر. لا ترفع عينها مرة إلى السماء، لأنها لا تدرى أن فوقها سماء. إن الإنسان إنما صار إنسانا لأنه رفع عينه، وأجالها، وأحس وأدرك.. ماذا جرى لك؟ أتبغين الموت فى الحياة؟ أتريدين أن أكون مخلوقا ذا بعدين اثنين فى عالم ليس فيه حتى ولا أشباح؟»
فقالت بلهجة وديعة: «إنى لم أعد أدرى ماذا أنا حتى أعرف ماذا أريد». قال: «ولست مع ذلك بالغبية، ولو كنت، لأقصرت. فما يلام النبات من أجل أنه نبات.. وإنك لذكية، وفيك فكاهة، وذهنك سريع، وحيويتك دافقة.. ولكنك تنفقين كل ذلك عبثا، تبعثرينه سدى، تضيعينه فى غيرة سخيفة. لقد تعبت ونشفت ريقى فاسقنى شيئا».
فأشارت إلى إبريق الشاى، فأشار إليها أن لا، فجاءته بقدح صبت فيه قليلا من الويسكى، وهمت أن تشعشعه بالماء، فهز رأسه، وتناول القدح، وقلبه على فمه، فاكتوى حلقه، وقطب، ونهض واتجه إلى الباب فى صمت. فلحقت به ووضعت راحتها على كتفه، وقالت بلهجة هى أعذب وأرق ما صافح سمعه فى سنوات: «آسفة ... مسكين ... اعذرنى وسامحنى ...».
وارتمى على سريره فى تلك الليلة وهو يقول لنفسه: «ألا إنها لمعذورة، وتالله لأنا الذى جنيت هذا كله.. فما أقدر الإنسان على الثرثرة والمغالطة».
وأدركه النوم وهو يحاور نفسه ويسألها: «أترانى كنت أغالطها؟ أكنت أتفلسف عليها لأرد عنها ما يسوءها، ويثقل عليها، ولأدفع عنها ما يعذبها، كما يفتح أحدنا الشمسية ويرفعها فوق رأسه ليتقى الشمس أو المطر؟ وهل ينفى هذا أن الشمس عظيمة الوقدة أو أن المطر يهطل؟»
ودخل فى عالم آخر قبل أن يجيب أو يعرف الجواب.. عالم ملؤه السكينة التى لا تخلو مع ذلك من مغالطة الأحلام.
الفصل الرابع
1
ثم كانت «ميمى».
Página desconocida