Hijo del Sultán: y otras historias
ابن السلطان: وقصص أخرى
Géneros
كنت في ذلك اليوم مسترخيا في الظل، أراقب ما يجري في السوق، وكان أبي قد سمع كلام الفلاحين، فلم يعد يجبرني على العمل معه، أو يؤنبني على كسلي، بل إنه قد غفر لي كل شقاوتي حين علم أنني عرفت الجهات الأربع، وأنني أضع له سجادة الصلاة ناحية القبلة تماما.
وكنت أتابع وجوه الزبائن يدخلون ويخرجون من دكاننا دون أن أجد بينها ما يلفت النظر - فقد كانوا جميعا كأنهم أولاد أب واحد - حينما وجدت رجلا يقف أمامي ويحملق في وجهي. الحقيقة أنني خفت منه في أول الأمر، وأيقنت أنه لا يمكن إلا أن يكون مجذوبا أو وليا من أولياء الله. كانت شفتاه الدقيقتان، المجروحتان في أكثر من موضع، ترتعشان بصوت خفيض. وكان وجهه شاحبا وصدغاه غائرين، وعظام خديه بارزة وعيناه المفتوحتان كعيني ذئب جائع تقاومان جفنين يريدان أن ينطبقا عليهما. وكان العرق ينضح من جبهته، ويسيل في خطوط سوداء متعرجة على خديه، كأنه دماء جمدت من أثر جرح قديم. الحق أنني استغرقت في النظر إليه فلم أتبين كلامه. ولو أنني سمعته حينئذ لقلت له: لا تتكلم. انتظر حتى أشبع منك! وانتبهت على صياح الزبائن من الداخل وعلى اثنين منهم يندفعان إلى عتبة الدكان ويجذبان الرجل وأحدهما يصرخ مهللا: شوفوا يا جماعة ... ابن السلطان!
ويصيح الرجل وهو يضربه على ظهره: والله سلامات، كنت تائها يا عم؟ ويجيب رجل آخر ترك طعامه ليشترك في استقبال الزائر الجديد: من كثرة ما لف في الأرض، قلبها من ظهرها لبطنها. ويضحك الجميع، ويقبلون على الضيف وهم يضحكون ويثرثرون ويأكلون. وكان أبي أكثرهم بشاشة في وجهه لأنه اعتبره ضيفه هو. وترك مكانه وأقبل عليه يربت على كتفه ويتحسس عظام ظهره: والله زمان! هكذا تنسى الأحباب والأصحاب؟ وحشتني، وتنسى مطعم الصدق والأمانة؟ وحشتني قوي.
ولبث الرجل جامدا كالتمثال، عيناه ذاهلتان تجولان في وجوه الحاضرين، كأنه يستعرض مخلوقات من فصيلة أخرى ربما كان يفضل في هذه الساعة أن يستلقي لينام كالميت. ونظر أبي إليه، وفحصه بعينيه فترة قبل أن يقول: ابن السلطان، ما لك؟ فأجاب كأنه لا يفهم: هه؟ فعاد أبي يقول وهو يخبط على ظهره: يعني لا تضحك ولا تتكلم؟ وتدخل رجل يمزج الحنان والشوق في صوته: ابن السلطان دائما مسافر، من أين جئت الآن؟
فقال الرجل بدون أن تطرف عيناه: من الشرق. فعاد يسأله: وكيف أحوال الرعية؟
ولكنه لم يجب، بل التفت إلى أبي قائلا: عم إبراهيم.
فقال أبي: أمرك يا سلطان.
فعاد يقول في صوت ود لو لم يسمعه أحد: ميت من الجوع. ويبدو أن هذه الكلمة قد لمست قلب أبي فأسرع إلى الأطباق يعدها. وفي لحظة كان الطعام أمام الزبون الجديد الذي أقبل عليه بنفس مفتوحة. ولما شبع الزبائن من النظر إليه، والحديث معه، بدءوا يتفرقون واحدا بعد الآخر إلى السوق أو البلد، أو القهوة المجاورة.
لم يتح لي في ذلك اليوم أن أتحدث معه. ولكنني اعتدت بعد ذلك أن أراه في دكان أبي؛ فقد كان من الزبائن المستديمين، وكان أبي يخصه بكثير من العطف، ومن الطعام الجيد - وقد يكون العطف في بعض الأحيان عملا تجاريا ناجحا - وكان وجوده يشيع في المكان جوا من الألفة والبهجة والمرح. ولكنه كان في كل يوم يبدو في زي جديد، مرة يلبس عمامة كبيرة، ويتدثر بعباءة فضفاضة كالمغاربة، وحينا نراه وعلى ظهره قربة كبيرة يمر بها على الناس في السوق، وقد أراه على فرس كما حدث في مولد صاحب المقام؛ إذ علمت أنه أصبح من السادة الرفاعية، وأنه قد حمل الراية، وتبعه المريدون، يسيرون في موكب طويل يشق طرقات البلد، ويملأ جوها بدقات الطبول، ورنين الصاجات، وعبير البخور.
وكان يمكن أن يظل «الشيخ سيد» مغمورا خامل الذكر. لولا أنه جر على نفسه المتاعب. من كان يصدق أن سيرته يمكن أن تتجاوز الفلاحين، وعمال الطرق، وجامعي الدودة، وأطفال المدرسة الأولية، إلى أسماع السلطات؟ لا شك أن الشيخ سيد هو الذي جنى هذا على نفسه؛ فلولا طيشه وسوء تدبيره لما وضع رجله في النقطة. لقد أتعب الرجال الثلاثة «الذين ندبتهم النقطة من المديرية رأسا» في تقصي أحواله ودوخهم بين الأسواق والغيطان والجوامع والشوارع.
Página desconocida