ومتى انتهت القوة العقلية، التي هي النفس الخالدة إلى درجة من الكمال في أثناء الحياة حازت هذا الكمال بالفعل حين مفارقتها للبدن، ونالت اللذة مع الكمال؛ أي اللذة التي هي من نوع ما تنطوي عليه الجواهر المحضة؛ فيعد أكرم من لذة الحواس وأعلى، وهذا يسمى السعادة.
ومن الصعب أن يقال بالضبط ما تعرف النفس عندما تقترب من الحد الذي تتحقق به هذه السعادة، ولكن مما يظن أن نفس الإنسان في ذلك الوقت تكون حائزة لصورة دقيقة عن المبادئ العقلية أو العقول المحضة، وأنها تعرف أسرار الحركات الكلية، لا جميع الجزئية التي لا نهاية لها، وأن صورة الكل تتجلى فيها، وذلك مع الصلة المتبادلة بين أقسامها وبين النظام الذي تلتحم به في سلسلة الموجودات.
والسعادة لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس، وعلى هذا تقوم الأخلاق، قال ابن سينا: «إن الخلق هو ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية.» وأغلب ما يكون أن خلق الإنسان في أثناء حياته لا يكون إلا متوسط الصلاح، ولا يكون إذعان العقل العملي للعقل النظري كاملا، ولا يكون للنفس شوق محض إلى الأمور الروحانية، وهي تحتفظ بميل إلى الأشياء البدنية يمنعها من الوصول إلى كمال تام بعد الممات، وتشعر النفس المفارقة للبدن بتناقض هذه الميول الفاسدة، التي كانت عادة لها، وخيرها الحق، فيكون هذا التناقض سبب ألم شديد لها، ومع ذلك فبما أنها كانت صالحة مبدأ فإن هذا الألم لا يكون أمرا ضروريا جوهريا لها، وهو لا يكون سوى حال غريبة عنها.
وبما أن ما يكون عرضيا أجنبيا لا يدوم عندما يأتي الموت لقطع الأعمال التي يغذي تكرارها في النفس هذه العادات السيئة، فإن هذه العادات تمحي وتزول ، وينقص ألم النفس الناشئ عنها كلما زكت، فبعد ذهاب هذا الألم العابر تبلغ النفس سعادتها، وتصير النفوس الروحانية الخالصة عند الموت إلى سعة من رحمة الله. وأما النفوس الرديئة تماما، والتي لا تميل إلى غير البدن، فإنها تتعذب عذابا شديدا بفقد البدن؛ «لأن آلة ذلك قد بطلت، وخلق التعلق بالبدن قد بقي.»
وكذلك يمكن قبول ما يقوله بعض العلماء من أن النفس المفارقة للبدن يمكن أن تؤثر في المواد السماوية، وتواصل تخيل صور بهذه المواد مثل موضوعات، ويتخيل صالح النفوس حالات السعادة التي تاقوا إليها في أثناء الحياة، ويتخيل سيئ النفوس أنواع العقوبات والآلام، وليست الصور الخيالية أضعف من الحسية، بل تزداد عليها، كما يشاهد ذلك في المنام حيث يرى - أحيانا - ما هو أشد مما يرى في اليقظة، فالارتسامات التي تتكون في باطن النفس تصدر عن علة ذاتية، والارتسامات التي تتكون من الخارج تصدر عن علة عرضية.
وتبلغ الأنفس المقدسة كمالها بذاتها وتنغمس في اللذة الحقيقية، وتتبرأ عن النظر إلى ما خلفها، وتطهر من آثار العوالق الحسية التي كانت لاصقة بها، متخلفة لأجل عن درجة عليين. •••
وبقصة سنختم هذا الكتاب على الطريقة الأفلاطونية.
توجد قصص كثيرة بين آثار ابن سينا كقصة الطير وقصة حي، اللتين تصلحان لموضوع رسالتين في التصوف، وليست قصة سلامان وأبسال، التي سنوردها معروفة عن ابن سينا مباشرة، وإنما ذكرت في موضعين من كتب هذا المؤلف، ولنا نقلات بشرح نصير الدين الطوسي على «الإشارات»، ولهذه القصة أشكال مختلفة جدا، وكثيرا ما وقع تناولها وإصلاحها، ثم وسعت على شكل ملحمة بقلم الشاعر الفارسي جامي. وأما الشكل الذي ننقلها به الآن فقد قدم إلينا على أنه مترجم من اليونانية من قبل حنين بن إسحاق، والواقع أنه يوجد لدينا ما يحمل على الاعتقاد بأنها من أصل إسكندراني.
48
كان في الزمن القديم - وقبل طوفان النار - ملك اسمه هرمانوس بن هرقل، وكان لهذا الملك مملكة الروم إلى ساحل البحر مع بلاد يونان وأرض مصر، وكان ذا علم غزير، وكان شديد الاطلاع على تأثيرات الصور الفلكية.
Página desconocida