وتتسع نظرية التفاؤل بمذهب أكثر تصوفا أيضا؛ أي بالمذهب القائل بمعاد النفس، وإن شئت فقل برجوعها إلى مصايرها بعد الموت من آلام، ومسرات قسمت لها في الحياة الأخرى، وينطوي هذا الموضوع على نظرية في اللذة والألم تناولها ابن سينا في «النجاة» بجمال وبفتون بلغ من الشدة ما لا نرى معه أحسن من نقل ما جاء فيها عن ذلك مع شيء من الاختصار:
46 «إن لكل قوة نفسانية لذة وخيرا يخصها، وأذى وشرا يخصها، مثاله أن لذة الشهوة وخيرها أن يتأدى إليها كيفية محسوسة ملائمة من الخمسة، وأن لذة الغضب الظفر،
47
وأن لذة الوهم الرجاء، وأن لذة الحفظ تذكر الأمور، وأن أذى كل واحد من هذه القوى ما يضاده، وتقوم لذة هذه القوى - عموما - على ما يجعلها كاملة بالفعل.»
وجميع هذه القوى - وإن اشتركت في هذه المعاني - تختلف في مراتبها، فمنها ما كماله أتم وأفضل، ومنها ما كماله أكثر، ومنها ما كماله أدوم، ومن هذا يستنتج اختلاف في درجات اللذات التي تنال، قال ابن سينا: «يجب أن لا يتوهم العاقل أن كل لذة فهي كما للحمار في بطنه وفرجه، وأن المبادئ الأولى المقربة عند رب العالمين عادمة للذة والغبطة، وأن رب العالمين - عز وجل - ليس له في سلطانه، وخاصية البهاء الذي له، وقوته الغير المتناهية، أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجله عن أن يسمى لذة، ثم للحمار وللبهائم حالة طيبة ولذيذة. كلا، بل أي نسبة تكون لما للمبادئ العالية إلى هذه الخسيسة.» ولكنا نتخيل هذا ونشاهده، ولم نعرف ذلك بالاستشعار، بل بالقياس، فحالنا عنده كحال الأصم، الذي لم يسمع قط في عمره، ولا تخيل اللذة اللحنية، وهو متيقن لطيبها.
ومما يحدث أحيانا أن يكون الكمال الخاص بقوة، والأمر الملائم الذي يمكن أن ييسره لها، في متناول هذه القوة نفسها، فتمنع هذه القوة من تلقيهما بعائق أو شاغل، وذلك ككراهية بعض المرضى للطعم الحلو، وشهوتهم للطعوم التي تكرهها نفوس الأصحاء، وربما لا يكره المريض حلو الطعوم، وإنما يكون غير قادر على الاستلذاذ بها، ولا يطيق الرديء منها على الأقل، وربما لم يحس المريض بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه وتشفى أعضاؤه، فحينئذ ينفر عن الحال العارضة له.
وقال مؤلفنا: «إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالما عقليا، مرتسما فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض في الكل مبتدئا من مبدأ الكل، سالكا إلى الجواهر الشريفة فالروحانية المطلقة، ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما من التعلق بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها، ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتنقلب عالما معقولا، موازيا للعالم الموجود كله، مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق، ومتحدا به، ومنتقشا بمثاله وهيئته، ومنخرطا في سلكه، وصائرا من جوهره.»
وإذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى، وجد في المرتبة التي يقبح معها أن يقال إنه أتم وأفضل منها، وكيف يقاس الدوام الأبدي بالدوام المتغير الفاسد؟ وكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله، حتى يكون كأنه هو هو بلا انفصال، ما دام العقل والمعقول والعاقل شيئا واحدا أو قريبا من الواحد؟ ولا يخفى أن إدراكات النفس النطقية أوثق من إدراك الحواس وأشد تقصيا وقوة؛ ولذا، فكيف تقاس لذات هذه النفس - عند إدراكها المعقولات - باللذات الحسية والبهيمية؟
والغايات العقلية أكرم على الأنفس من محقرات الأشياء، فكيف في الأمور النبيهة العالية؟ ومع ذلك فإن النفوس الخسيسة تعود عاجزة عن الإحساس بالخير والشر في الأمور العالية، كما يعود المرضى عاجزين عن الإحساس بطعم الطعوم كما قلنا.
ومتى انفصلت النفس عن البدن ذهبت نحو غايتها وبلغتها واستلذت بها، ما لم يكن ذوقها قد فسد كفساد ذوق المرضى، غير باحثة عن غايتها مطلقا، فهنالك لا تبلغ هذه الغاية وتألم.
Página desconocida