96

يصر أجاممنون على تقديم الهدايا التي عرضها سابقا. ويوافقه أوديسيوس؛ فليس ثمة سبيل إلى المحافظة على قواعد المجتمع إلا عن طريق الطقوس المناسبة، مهما يكن من ترفع آخيل عن الحزن وعدم اكتراثه بتلك الهدايا، لدرجة أنه يتمنى لو أن بريسئيس، التي لم يمسسها أجاممنون أبدا، كانت قد ماتت. فهي عنده الآن ليست إلا امرأة تسببت في تناحر لا داعي له وفي موت صديقه.

إن آخيل جاف وحديثه مقتضب وفي صلب الموضوع فيما يتعلق بنبذه لغضبه، ولكن في اعتذار مطول يتسم بالإطناب الممل يبين أجاممنون كيف أنه لم يرد مطلقا لأي من هذا أن يجري. إن الأمر كله كان من جريرة «آتي»؛ فهي من فعلتها. وحتى يثبت قدرة «آتي»، فإنه يحكي أسطورة. ذات يوم احتالت هيرا على زيوس حتى خضع ابنه الحبيب هرقل، الذي كانت هيرا تكرهه، لسلطان يوريسثيوس المستبد. ورماها زيوس من السماء ملقيا اللوم على «آتي» كبرى بناته.

تعرض الهدايا أمام الجميع ليروها ويبدوا إعجابهم بها. ومع أن آخيل يرفض تناول الطعام، يصر أوديسيوس على أن يمنح الآخرون فرصة للأكل. ويكشف آخيل لأول مرة عن أن له ابنا، وهو نيوبتوليموس، على جزيرة سكيروس (شرقي جزيرة عوبية)، لا يظهر أبدا في «الإلياذة» ولكن كان له دور مهم في القصص التي تتناول خراب طروادة وما أعقبه من أحداث. يرتدي آخيل درعه الجديدة، المصنوعة بيد إله ولكنه قاصر عن إنقاذ حياته. حتى إن حصانه الخرافي كسانثوس «وتعني الأحمر» يتنبأ بموته في نهاية المطاف، قبل أن تسكته الإيرينيات، اللواتي يحافظن على النظام الطبيعي، بما في ذلك الفصل بين البشر والحيوانات. (23) «مجد آخيل» (الكتاب 20)

مع عودة آخيل إلى المعركة يبدأ حل عقدة الحبكة الذي سوف تصل فيه حرب آخيل مع العالم إلى نهايتها. ربما يكون هوميروس قد جعل آخيل يندفع إلى السهل، ويلاحق هيكتور حتى يمسك به ويقتله، ولكنه يبتغي عوضا أن يبطئ الأحداث، حتى يؤجل اللحظة الكبرى. ويبتغي كذلك أن يظهر آخيل وهو يلحق هزيمة ساحقة بالجيش الطروادي كله، لا أن يقتل قائده فحسب.

لقد شهدنا الكثير من القتال، ولكن هذا القتال سوف يكون أكبر وأفضل من كل ما سبق. يلفت هوميروس، بطريقة درامية، الانتباه إلى جسامة الصراع الوشيك بجعل زيوس يدعو الآلهة جميعها، بمن فيهم الأنهار والحوريات، للمشاركة في القتال، متحيزين لأي جانب شاءوا. يقسم هوميروس الآلهة تقسيما يدعو إلى التعجب. فمعظم الآلهة يذهبون إلى جانب الآخيين: هيرا، وأثينا، وبوسيدون، وهيرميس، وهيفايستوس؛ ولكن يحصل الطرواديون على آريس، وهو بصرف النظر عن كل شيء إله الحرب، وبالطبع فويبوس أبولو، ومن ثم أيضا أخته أرتميس وأمه ليتو (التي لا يكاد يوجد ذكر لها على الإطلاق من قبل هوميروس). واستشرافا لمشهد «المعركة مع النهر»، ينضم النهر كسانثوس (الذي يسميه البشر سكاماندروس) إلى جانب الطرواديين.

يضاهي هذا المشهد، الذي يمثل المعركة الأخيرة في القصيدة، مشهد «مجد ديوميديس»، أول معركة في القصيدة، ويقوم فيه آخيل مقام ديوميديس. في كلتا المعركتين نجد الآلهة ماثلين. يحرض أبولو، المتخفي في هيئة بشري فان، إنياس ليتصدى لآخيل، الذي تحول الآن إلى آلة للقتل آخذة في الاندفاع عبر السهل على رأس الآخيين. يقبل إنياس التحدي ويرمي [رمحه] ولكنه يخفق. يقذف آخيل [رمحه] ليمر عبر حافة درع إنياس ويكاد يقتله وحينئذ يختفي إنياس في غمامة من الغبار، وينقل بعيدا على يد بوسيدون (مثلما أنقذ أبولو إنياس أثناء مبارزته مع ديوميديس). وشاءت الأقدار أن ينجو إنياس من حرب طروادة وأن يحكم أحفاده منطقة ترود، حسبما يقول بوسيدون للآلهة الآخرين:

هيا؛ لننقذه من الموت حتى لا يغضب ابن كرونوس [أي زيوس] إن قتله آخيل؛ لأنه مقدر له أن يفلت فلا ينقطع نسل داردانوس [الطرواديين] ولا تفنى له ذرية؛ فداردانوس كان ابن كرونوس الذي أحبه حبا فاق كل أبنائه الذين ولدوا له من نساء البشر. وإذ صار ابن كرونوس مؤخرا يكره نسل بريام، والآن حقا سيصبح إنياس الجبار ملكا على الطرواديين، وسيحكمهم أحفاده، وسلالتهم في مقبل الأيام. (الإلياذة، 20، 300-308)

على هذه الفقرة استندت أسطورة تأسيس إنياس لروما ذات التأثير الهائل، والمستوحى منها القصة التي استعان بها فيرجيل لصياغة ملحمته العظيمة «الإنياذة» بعد هوميروس بثمانمائة سنة؛ فقد اعتقد كثيرون أن هوميروس يشير إلى سلالة حاكمة حقيقية ادعت انحدارها من نسل إنياس وحكمت منطقة ترود في زمن هوميروس، ولكن ليس ثمة دليل مباشر على أي سلالة حاكمة من هذا القبيل.

بعد قتله للكثيرين، يعثر آخيل على هيكتور، بيد أن أبولو يبعده ويخفيه عن الأنظار. إن هوميروس لا يزال يبتغي إرجاء قتل هيكتور لوقت أطول، إلى أن يكون قد برهن على نحو أوفى السبب الذي من أجله كان ينبغي على أجاممنون أن يوليه المزيد من الاحترام من البداية. أضف إلى ذلك أننا نستطيب هذا التعطيل. هذه هي المرة الثالثة التي يبعد فيها إله بطلا ويخفيه عن الأنظار في غيمة، وهو ما شهدناه أول مرة في مشهد «المبارزة بين مينلاوس وباريس». (24) «المعركة مع النهر» (21، 1-382)، و«معركة الآلهة» (21، 383-513)

يقسم آخيل الطرواديين نصفين، مرسلا نصفا إلى المدينة بينما يسقط النصف الآخر في مياه نهر سكاماندروس، الذي يعرف أيضا باسم كسانثوس، «المخضب بالحمرة» (مثل حصان آخيل). ولكن حتى قبل هذا المشهد لم يكن النهر قد صار بارزا في طوبوغرافية ساحة المعركة. ويمضي آخيل عبر المياه الضحلة، معملا سيفه في الجميع. ويصادف ليكاوون، أحد أبناء بريام والأخ غير الشقيق لهيكتور. كان آخيل قد أسره في السابق وحصل على فدية مقابله. وعندما يتوسل إليه ليكاوون كي لا يقتله، يذكره آخيل أن الجميع هالكون لا محالة؛ كباتروكلوس مثلا، الذي كان رجلا أفضل من ليكاوون، ثم يغمد سيفه في عظم ترقوته بجانب رقبته. نتبين الكراهية المفعم بها آخيل واستبداده الفكري؛ إذ صاغ أساسا فلسفيا لمسلكه الذي تنعدم فيه الشفقة، مثلما فعل الكثير من القتلة المتعمدين عبر التاريخ.

Página desconocida