ففي مواجهة مقاتلين بالأسلوب الهوميري، يمكن لطابور منظم أن يكون فتاكا، وما إن يجربه شخص ما، فسيكون من شأن المجتمعات الأخرى أن تتبعه أو تهلك. (3) هوميروس وعصر التوسع الاستعماري «الإلياذة» هي حكاية تراثية عن أعمال بطولية، ولهذا السبب تتسم بأسلوب منمق أكثر من «الأوديسة» وأقل اهتماما بالعالم المعاصر لهوميروس. أما «الأوديسة» بتناولها لفكرة الترحال إلى بلاد بعيدة، فهي، على النقيض، تقدم صورة حية لعالم مثير وخطر مستوحى من مغامرة العوبيين في الغرب الأقصى في القرن الثامن قبل الميلاد. في هذا العالم الخطر يبحر الرجال لمسافات طويلة على مراكب مكشوفة، ويواجهون العواصف والأخطار الأخرى الأكثر خيالية، وأحيانا يعودون إلى ديارهم محملين بالغنائم. في الفقرة التالية، في «حكاية مكذوبة» يرويها أوديسيوس لراعي الخنازير إيومايوس عندما يرجع إلى إيثاكا، يصف الروح القلقة، الشرسة التي كانت تغير البنية السياسية والاقتصادية للشعوب التي كانت تعيش حول البحر المتوسط إبان حقبة النهضة الإغريقية في القرن الثامن قبل الميلاد:
وهبني آريس وأثينا شجاعة، وقوة تشق صفوف الرجال. وكلما كنت أتخير أفضل المحاربين لنصب شرك، باذرا بذور الوبال على الأعداء، لم تكن روحي الفخورة أبدا تهاب الردى، وإنما كنت دوما أول من ينطلق متقدما وأجهز برمحي على كل من كان يتراجع هاربا قدامي من أعدائي. هكذا كنت في الحرب، بيد أن الكد في الحقل لم يكن ليروق لي، ولا رعاية منزل، ينشئ أطفالا صالحين. كنت دوما مشغوفا بالسفن ذات المجاديف والحروب والرماح المصقولة والسهام، وما إلى ذلك من أمور خطيرة يقشعر فزعا منها الآخرون. (الأوديسة ، 14، 216-226)
ولكونه بحارا ذا خبرة واسعة، يستطرد أوديسيوس في تفصيل كيف هاجم مصر نفسها، وكيف أسر، ثم سلم إلى الفينيقيين الذين كانوا ينوون استعباده. يقلع الفينيقيون من مكان ما في بلاد الشام ويبحرون في اتجاه الريح نحو ليبيا، ولكن سفنهم تتحطم جراء العواصف في جنوب جزيرة كريت. ويصل أوديسيوس إلى ثيسبروتيا، وهو إقليم في أقصى شمال كريت على البر الرئيسي قبالة إيثاكا، وهو أمر مستبعد الحدوث على أرض الواقع.
في نهاية العصر الحديدي، في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن الثامن قبل الميلاد، كان الفينيقيون خصوما لليونانيين عرقيا وثقافيا، أو عاشوا معهم جنبا إلى جنب؛ إذ كان كلا الفريقين يستغل الثروات المعدنية وغير ذلك من ثروات قارة إفريقيا، وجزر صقلية، وسردينيا، وقبرص، وإيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا. أنشأ الفينيقيون مدينة كيتيون في جنوب شرقي قبرص في فترة ما في القرن التاسع قبل الميلاد على مقربة من مدينة سالاميس اليونانية في الشمال الشرقي. كان الفينيقيون يعيشون في مدينة كوموس على الساحل الجنوبي لجزيرة كريت منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد أيضا؛ ربما على نفس المسار الذي ذكره أوديسيوس في حكايته المكذوبة. وفي القرن الثامن قبل الميلاد أقاموا معبدا حجريا ثلاثي الجوانب في مدينة كوموس على الطراز السامي الشامي. وقد عثر على كتابات فينيقية قديمة جدا، ربما من أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، على جزيرة سردينيا. وكان صانعو جواهر فينيقيون يعيشون بالقرب من مدينة كنوسوس حوالي عام 900 قبل الميلاد، وهو ما يستند إلى اكتشافات مادية ونقش واحد طويل. نستنتج من الأدلة الأثرية أن التوسع الفينيقي بدأ في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، ولا شك أن ذلك كان ردا على ضغوط مورست من قبل الآشوريين الأشداء الذين كان يحكمهم آشور ناصربال الثاني (حكم من 883-859 قبل الميلاد)، الذين هزموا في ذلك الوقت الآراميين الذين كان موطنهم شمال سوريا (إذ كانت مملكة آرام تقع في دمشق والمناطق المحيطة بها)، ثم زحفوا عبر مدينة كركميش على نهر الفرات إلى البحر المتوسط واحتلوا الموانئ الشامية.
تتوافق تصويرات هوميروس للتنافس والعداء الفينيقي -اليوناني - رغم وجود مودة عارضة (إذ كانت مربية إيومايوس فينيقية) - توافقا دقيقا مع الدلائل الأثرية على أن الفينيقيين واليونانيين عاشوا معا على جزيرة إسكيا في خليج نابولي في القرن الثامن قبل الميلاد. وبطبيعة الحال يأخذ اليونانيون في اقتباس كتابتهم من كتابة الفينيقيين. وفي حين أننا لا نستطيع أن نتتبع رحلات أوديسيوس الشهيرة والأسطورية على الخريطة، إلا أن هيسيود في ملحمته «ثيوجونيا» (سلالة الآلهة) يعين مقام سيرس على جزيرة قبالة الساحل الإيطالي (ثيوجونيا، 1015-1016)، ويرجع المؤرخ ثوسيديديس موقع وحشتي البحر الأسطوريتين سيلا وكاريبديس (أو تشاريبدس) إلى مضيق مسينا الخطر بين جزيرة صقلية وبر إيطاليا (الكتاب 4، الفصل 24). كذلك يعتبر ثوسيديديس (في الكتاب 1، الفصل 25) أن فياشيا هي جزيرة كورسيرا. وإيثاكا هي موضع الانطلاق للترحال من الشرق إلى الغرب.
يمتلك أوديسيوس عيني المستعمر الخبير الواثقتين اللتين تملكان القدرة على التقييم في وقت كانت فيه أولى المستعمرات اليونانية على وشك الظهور في جنوب إيطاليا وصقلية. وكانت أقدم مستعمرة موجودة على جزيرة إسكيا في حوالي 775 قبل الميلاد؛ وتبع ذلك ظهور معظم المستعمرات الغربية الأخرى في الثلث الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد. إن مخلوقات السايكلوب الوحشية مثل الشعوب الأجنبية التي تفتقر إلى البراعة والمهارات اليونانية، والخيال اليوناني، وتطغى الوحشية على نمط حياتها مثلما تطغى على مظهرها. وعن الجزيرة التي تقع قبالة كهف السايكلوب، يقول هوميروس:
وهناك توجد جزيرة منبسطة تمتد عند منعرج خارج الميناء، وهي ليست قريبة من شاطئ أرض السايكلوب، كما أنها ليست بعيدة عنها مع ذلك، وهي جزيرة شجراء. هناك يعيش قطعان لا حصر لها من الماعز البري؛ إذ لا تجفل من صوت وطء أقدام الرجال، ولا يأتي إلى هناك الصيادون، وهذا الماعز يصبر على المشقات في الأرض المشجرة وهو يركض فوق قمم الجبال. ولا يستوطن ذلك المكان قطعان، ولا الأرض محروثة، وإنما بائرة وغير مفلوحة في كل الأيام التي لم يعرف فيها البشر عنها شيئا، وإنما يطعم منها الماعز ذو الثغاء. لا يملك السايكلوب في المتناول أي سفن ذات عوارض قرمزية، ولا يوجد على أرضهم بناءو سفن يمكن أن يبنوا لهم سفنا مزودة بمقاعد تجديف قوية لتلبي كل حاجاتهم للعبور إلى مدن الناس الآخرين؛ إذ كثيرا ما يعبر البشر البحر في سفن لزيارة بعضهم لبعض. الصناع المهرة الذين سيكون من شأنهم أن يجعلوا من هذه الجزيرة مستوطنة جميلة؛ فالجزيرة ليست جدبا بأي حال من الأحوال، وإنما من شأنها أن تنتج كل شيء في موسمه. ويوجد فيها مروج على شواطئ البحر الرمادي، مروج ريا وغيداء، لا تنفد فيها الكروم أبدا، وفيها أرض مستوية سهلة الحرث يمكن أن يجنى منها من موسم إلى موسم قطاف عظيمة، والتربة تحتها بالغة الخصوبة، وفيها أيضا مرفأ يوفر مرسى آمنا، حيث لا حاجة إلى أدوات رباط للسفن، سواء لإلقاء حجارة مرساة أو لصنع حبال متينة لمؤخرة السفينة، وإنما يمكن للمرء أن يرسو بسفينته وينتظر حتى يعن لأذهان البحارة أن يغادروا، وحتى تهب نسائم معتدلة. (الأوديسة، 9، 116-139)
قد يكون أوديسيوس في هذا الموضع يمتلك عيني رجل لديه مسعى استعماري، ولكن شخصية أوديسيوس الخيالية في القصة التي يحكيها لإيومايوس هي شخصية رجل عنيف ينبذ البيت والأسرة، وهو قرصان وقاتل ولص، يأتيه الثراء عن طريق السلب والنهب، ولهذا السبب يحظى بالاحترام في بيته الكريتي حيث لا عار أخلاقيا يتصل بسلوكه. ويبدو أننا لا نكون من الجو العام «للأوديسة» صورة عن واقع الحياة اليونانية في القرن الثامن قبل الميلاد فحسب، وإنما من السلوك القاسي لرجالها المتصلبين ذوي القلوب الشجاعة. (4) هوميروس والفن
يقدم انبهار هوميروس بالأغراض الفنية النابضة بالحيوية والحياة مثالا جيدا للمعضلات التي نواجهها في محاولتنا لإقامة علاقة بين عالم واقعي تاريخي والقصة التي يرويها هوميروس؛ إذ لا بد أن تكون قصائده مستوحاة من أشياء رآها، ولكنه حولها من خلال الإبداع الشعري إلى شيء جديد. في الكتاب الثامن عشر من «الإلياذة» يصف هوميروس هيفايستوس وهو يصنع درعا لآخيل. إن هذا الدرع هو غرض جميل نادر، إنه كائن حي. ومع ذلك فالقصة المرسومة على الدرع لا تدور في العهد الملحمي الذي تدور فيه قصة هوميروس نفسها ، الذي تتحاور فيه الآلهة مع البشر، وإنما في عالم عادي لا بد وأنه عالم هوميروس.
على الدرع توجد مدينتان، إحداهما في حالة سلم والأخرى في حالة حرب. في مدينة السلم يوجد عرس وقرار شعبي في جريمة قتل؛ عالم ما قبل «الدولة المدينة» وما بعد العصر البرونزي لا يقضي فيه الملوك، كما في سائر القصائد الهوميرية، ولا دور القضاء، كما هو الحال في «الدولة المدينة» الكلاسيكية القديمة، وإنما يقضي فيه «قضاة»، رجال مشهود لهم بالحكمة والعدل:
Página desconocida