هذا حقيقي تماما يا سقراط. إن التفسير كان، بكل تأكيد، الجانب الأكثر إرهاقا في فني، وإنني أراني قادرا على التكلم عن هوميروس أفضل من أي رجل. فلا ميترودوروس من لامبساكوس، ولا ستيسيمبروتوس من ثاسوس، ولا كلوكون، ولا أي أحد آخر في الوجود يمتلك أفكارا صحيحة عن هوميروس كالتي أمتلكها، ولا تعدلها عددا. (كتاب أفلاطون: المحاورات الكاملة، «محاورة أيون»، 530ب-530د [ترجمة شوقي داود تمراز (بتصرف )، ص14].)
خلافا للشاعر الشفاهي - الذي هو عبارة عن فنان ترفيهي - يعتبر الرابسودي شكلا قديما من الباحثين. فهو لا يلقي النص على الأسماع فحسب، وإنما يبينه، ويستخدمه كأساس للتعليم. تعليم ماذا؟ هكذا يستطرد أفلاطون متسائلا.
من المهم ألا نخلط بين «الشعر الشفاهي»، وهو ما يغنيه المنشد الملحمي/المغني، وبين النص الهوميري، الذي أملاه منشد ملحمي/مغن ويحفظه الرابسودي عن ظهر قلب ويلقيه على الأسماع. فقد أدي اختلاط الاثنين معا إلى قدر هائل من الالتباس في الدراسات الهوميرية الحديثة، حتى إن البعض يظنون أن هوميروس قد غنى شيئا شبيها بالنصوص التي بين أيدينا من «الإلياذة» و«الأوديسة» خلال حياته العملية، أو أن «القصائد عينها» قد «حفظت عن ظهر قلب»، وإن لم تكن قد كتبت، ثم أنشدها شعراء آخرون ولاحقون أثناء حياتهم العملية. عندئذ سيكون من الممكن أن يكون أشخاص مختلفون في أماكن مختلفة وأوقات مختلفة قد كتبوا «الإلياذة» أو «الأوديسة»، مثلما توجد الملحمة الشعرية الفرنسية «أنشودة رولان»، التي ترجع إلى العصور الوسطى، في نسخ عديدة متباينة. ومع ذلك فإن «الإلياذة» و«الأوديسة» التي بين أيدينا هي، حسب نموذج باري/لورد، نسخ فريدة من نوعها خرجت إلى حيز الوجود مرة واحدة عندما أملى شاعر أنشودته على ناسخ في ظل ظروف غير اعتيادية. وقد ناقشنا فيما سبق استحالة تجاوز حاجز نص الفولجاتا الإسكندرية لإيجاد «النص الصحيح» للقصائد الهوميرية، ولكن يمكننا أن نكون على يقين تام من أن ذلك النص كان بالفعل موجودا فيما مضى.
لا نملك إلا التخمين بشأن الأشكال السابقة أو اللاحقة للأغاني الشفاهية حول غضبة آخيل أو عودة أوديسيوس إلى الديار، ولكن يمكننا أن نكون متيقنين من أن هذه الأنشودات، سواء أنشدها هوميروس أو شخص آخر، لم تكن تحوي إلا قدرا ضئيلا من التشابه مع «الإلياذة» و«الأوديسة» بصورتيهما المعروفة لدينا. وتظل هاتان القصيدتان الملحميتان لغزا مبهما في تاريخ الأدب، بسبب طولهما الهائل؛ إذ يبلغ طول «الإلياذة» حوالي 16 ألف بيت و«الأوديسة» حوالي 12 ألف بيت. يمتد متوسط طول الأغنية الشفاهية، وفقا لدراسات باري وللدراسات الميدانية الحديثة، لنحو 800 بيت، ما يعادل تقريبا طول كتاب واحد من «الإلياذة». وكما سنرى في الجزء الثاني من هذا الكتاب، تتشكل القصائد الهوميرية من عناصر أقصر كهذه، تلك التي ربما كانت قائمة بذاتها بشكل أو بآخر يوما ما. ويظل المغني الشفاهي، على أي حال، مقيدا بمدى انتباه وتركيز جمهوره وبقدراته الصوتية وقوة تحمله.
ما الغرض الذي يمكن أن تكون قد نظمت من أجله قصائد مكتوبة بهذا الطول الهائل؟ على الرغم من مئات السنين من الدراسات الحديثة، علينا أن نعترف بأننا لا نعرف. ولا بوسعنا أيضا أن نتصور. قطعا ليس من أجل القراء الذين يقرءون بداعي التنوير أو المتعة؛ لأنه ما كان ممكنا أن يوجد قراء كهؤلاء عندما كان هوميروس، الذي يجهل عالمه الكتابة، على قيد الحياة. بيد أنه يبدو أن القصائد كانت موجودة مكتوبة منذ بزوغ فجر معرفة الأبجدية في القرن الثامن قبل الميلاد.
لا شك أن هوميروس، تلك الشخصية التاريخية، بوصفه «منشدا ملحميا» محترفا، قد أنشد مرات عديدة عن غضبة آخيل وعن عودة أوديسيوس للديار، إلا أنه يبدو أن النسخ النصية التي بحوزتنا محكومة بظروف نقلت في ظلها القصص من عالم الأغنية الشفاهية غير المنظور والسريع الزوال إلى عالم النص المكتوب المنظور والمحسوس. يؤدي الطول الفائق والصعوبة والتعقيد الواضحان للغة هذه النسخ النصية - وهي الأمور التي تزعج القارئ العصري، ودائما ما ينتج عنها إطالة السرد - إلى تمييزها كأعمال ترفيهية عن الأغاني الحقيقية التي أنشدت في الواقع أمام جمهور حقيقي. فلا بد وأن يعتمد شكل القصائد وطولها على الظروف الفريدة التي نشأت في ظلها النصوص. في تجربة باري ولورد، ساعدت عملية الإملاء على إلقاء قصيدة أطول وأكثر توسعا. فمع تحرر «الجوسلار» من تحديات وقيود الأداء المباشر، وعدم استعانته عندئذ بموسيقى مصاحبة، وتسبب الوتيرة البطيئة للكاتب في بطئه، صار في استطاعته أن يطيل أمد الحكاية كما شاء. ومثلما رأينا، استحث باري عبدو مجيدوفيتش، منشده المفضل، من أجل إملاء أنشودة تماثل في طولها «الأوديسة». لا وجود للكتابة في زمن هوميروس ، ومع ذلك فإن قصائده قد كتبت، وهو ما اعترض عليه وولف منذ 200 عام. (8) بقايا التأليف الشفاهي في نصوص هوميروس
إن الانحرافات والمخالفات التي استند إليها المحللون القدماء في حججهم تعد هي ذاتها الأثر الذي يتعذر محوه الذي خلفه التأليف الشفاهي لهذه القصائد ووضع نصها عن طريق الإملاء. فعلى سبيل المثال، يعصف زيوس من السحب، فلا يكون من شأن فتاة أمة إلا أن تخرج وتلاحظ كم هو غريب انبعاث البرق من سماء بلا سحب (الأوديسة، 20، 102-119). يقتل ديفوبوس هيبسينور، الذي يستمر في إطلاق الأنين (الإلياذة، 13، 402-423). في نهاية الكتاب السادس عشر من «الإلياذة»، يضرب أبولو باتروكلوس بطريقة غامضة على الظهر والكتف، حتى إن دروعه تتطاير بعيدا، تاركا إياه عاريا وأعزل. وبعد قتل هيكتور له، يعود و«ينزع عن باتروكلوس أسلحته المجيدة» (الإلياذة، 17، 125). ومن المستغرب أيضا عبارة زيوس التي تأتي بعد ذلك «وأخذت درعه [الضمير يعود على باتروكلوس] عن كتفيه» (الإلياذة، 17، 205). ويقتل الجندي الطروادي ميلانيبوس ثلاث مرات عبر تسعة كتب. ويقتل مينلاوس بيلامينيس، قائد البافلاجونيين (الإلياذة، 5، 576-579)، ولكن بعد ذلك بثمانية كتب يحمل بيلامينيس ابنه القتيل من ساحة المعركة (الإلياذة، 13، 643-659). يرى العراف ثيوكليمينوس فألا على الشاطئ (الأوديسة، 15، 495-538)، ولكن عندما يتكلم عنه مستحضرا إياه، يزعم أنه كان على متن سفينة (الأوديسة، 17، 160-161). يستفيض أوديسيوس في ذكر تفاصيل خطة معقدة بموجبها سوف يجلي تليماك الدروع عن القاعة، عند إشارة معينة، مختلقا المبررات للخطاب وتاركا فقط أسلحة لهما، ولكن عندما تحين تلك اللحظة لا يكون ثمة إشارة، ويزيلان كل الدروع (الأمر الذي سيندمان عليه عما قريب)، ثم يختلقان المبررات للخادمة. ولعل أكثر الأمور خضوعا للدراسات هي مسألة البعثة إلى آخيل، حيث يشار فجأة إلى هذه المجموعة، بعد أن يرسل أجاممنون ثلاثة أبطال ورسولين إلى خيمة آخيل، بصيغ نحوية «مثناة» (الإلياذة، 9، 165-198؛ تحتوي اللغة اليونانية على عدد مثنى - عندما يشار إلى شيئين فقط - بالإضافة إلى المفرد والجمع انظر: مشهد «البعثة إلى آخيل»، الكتاب 9، الفصل 4).
إن مثل هذه الحالات الغريبة (إلى جانب حالات أخرى عديدة) هي بالضبط نوعية الاختلالات التي يسفر عنها الجمع الميداني للأغنية الشفاهية في العصور الحديثة . يبلغ عدد الأسماء الشخصية في الملاحم الهوميرية ما يقارب 1000 وحوالي 500 من أسماء الأماكن، وهي من السمات البارزة الدالة على أسلوبه، وسيكون من دواعي دهشتنا لو أنه كان في مقدور هوميروس التمييز بين كل تلك الأسماء دون أن تختلط في ذهنه. بدراسة النص يمكننا أن نرى الاختلاف بين المكان الذي كان فيه ثيوكليمينوس والمكان الذي قال إنه كان فيه، ولكن في الإلقاء الشفاهي لا يمكن لأحد أن يلاحظ مثل تلك التباينات، أو يلقي لها بالا. في حالة البعثة إلى آخيل، بدا في ظاهر الأمر أنه ورد في رواية سابقة أن بطلين فقط، هما أوديسيوس وأياس، هما من ذهبا إلى خيمة آخيل. ولم يحدث هوميروس صيغة المثنى التي يستخدمها لتتناسب مع الرواية الجديدة التي يرويها.
والعجيب في أمر مثل تلك التناقضات أن المصححين اللاحقين، بمن فيهم الإسكندريون، لم يتناولوها بالتصحيح على الإطلاق. وتنوقل المخطوط الأصلي عبر النساخ الذين أرادوا المحافظة على النص المتلقى. ويتجلى إكبار مماثل للنص المتلقى من الصيغ النحوية المتقادمة والمهجورة، التي يختص بها القرن الثامن قبل الميلاد. فقد أجرى الكتبة الأتيكيون ما لا يعدو أن يكون تنقيحات سطحية على نص الفولجاتا، إلا أنهم بتاتا لم يحدثوا أو يكيفوا الصياغة لتتوافق مع أسلوب التعبير الأتيكي في المواضع التي كان بمقدورهم أن يصنعوا فيها ذلك. إن الصيغ النحوية المتقادمة والمهجورة التي يتعين على كل دارس للغة اليونانية أن يتعلمها حتى يقرأ القصائد الهوميرية تبرهن على أن القصائد الشفاهية قد صارت نصوصا في وقت مبكر جدا؛ إذ لو كانت قد بقيت شفاهية حتى الحقبة الكلاسيكية (كما يقال في بعض الأحيان)، لتلاشت الصيغ المهجورة، كما هو الحال في حالات أخرى للتراث الشفهي.
ولكن متى، على وجه التحديد، صاغ هوميروس قصائده؟ على هذا السؤال الذي كثر الجدل بشأنه، يمكننا أن نعطي إجابة نوعا ما. (9) زمن النصوص الهوميرية
Página desconocida