vulgate
أو الصيغة «الشائعة». وتلك الصيغة ليست نصا منفردا بعينه، كحال نسخة «الفولجاتا اللاتينية» للكتاب المقدس، وهي ترجمة القديس جيروم للأصل العبري للعهد القديم إلى اللغة اللاتينية الدارجة في القرن الخامس الميلادي. وإنما هي، حسبما نعلم، تقليد نصي تكون فيه التباينات بين المخطوطات المختلفة طفيفة وهناك عدد ثابت من السطور. والصيغة الشائعة، أو صيغة الفولجاتا، التي تعود إلى القرون القليلة الأولى بعد الميلاد، والمدرجة في مجلدات للمخطوطات، تكاد تكون هي صيغتنا النصية المعاصرة، وإن خلت من قواعد الكتابة الحديثة.
سمحت المتانة الأكبر لجلد الرق (إلى جانب كلفته المفرطة) بصحيفة أكبر مما كان ممكنا في حالة لفيفة البردي، وتغطى الهوامش الرحبة لمخطوطة «فينيتوس إيه» النادرة بشروح كتبت بخط من العصور الوسطى يدعى «مينوسكول» وتعني الصغير، وهو أصل «الحروف الصغيرة» في وقتنا الحالي في مقابل خط «ماجوسكول» أو «الحروف الكبيرة» التي كان يكتب بها كل المخطوطات اليونانية، بما في ذلك ملحمتا هوميروس، حتى ذلك الوقت (قارن بشكل
1-3 ). (3) الإسكندريون
أتاح الخط الصغير من العصور الوسطى بالإضافة إلى الهوامش الكبيرة للنساخ أن يسجلوا في مخطوطة فينيتوس إيه مقتطفات مأخوذة من علماء عملوا في مكتبة الإسكندرية في مصر، تلك المكتبة التي أسسها الملك المفعم بالنشاط بطليموس الثاني (285-246 قبل الميلاد)، ابن قائد جيش الإسكندر، كجزء من «معبده المكرس للميوزات (ربات الإلهام)»، الذي يسمى الموزيون. وتقدم هذه الملاحظات الهامشية، المسماة «سكوليا»
scholia ، آراء حول كل موضوع يمكن تخيله فيما يتعلق بالقصائد الهوميرية. ودراسة الملاحظات الهامشية هي وسيلتنا الوحيدة لإعادة تشكيل تصور لما كان يعتقده العلماء الإسكندريون في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد بشأن المشكلات الهوميرية، على الرغم من أن طبقات إعادة الصياغة في هذه الملاحظات الهامشية تجعل من المستحيل التيقن بشأن من من العلماء اعتقد أمرا ما وماهية ما اعتقده. مما لا شك فيه أن الإسكندريين قد عاشوا بعد هوميروس بمئات السنين ولم يكن لديهم أي معرفة مباشرة بشأنه أو بشأن أصول نصه. وكان أقدم المعلقين هو زينودوتوس من أفسوس (القرن الثالث قبل الميلاد)، وتبعه أرسطوفانيس البيزنطي (حوالي 257-180 قبل الميلاد)، وأرسطرخس الساموسي تلميذ أرسطوفانيس (حوالي 217-145 قبل الميلاد)، وتبعهم في القرن الأول قبل الميلاد ديديموس العظيم الموقر الملقب ب «ذي الأحشاء البرونزية»، الذي قيل إنه كتب 3500 كتاب (فقدت جميعا)! ويود علماء فقه اللغة لو أنهم استطاعوا أن يشقوا سبيلهم رجوعا وصولا إلى النص الذي وضعه هوميروس نفسه بطريقة ما، ولكن علينا أن نعترف بأننا نكاد لا نملك أي دلائل بشأن الوضع الذي كان عليه النص فيما قبل المحررين الإسكندريين.
شكل 1-3: بردية بانكيس، تظهر «الإلياذة» الكتاب 24، الأبيات 649-691، وترجع إلى القرن الثاني الميلادي. كل الرموز «بالأحرف الكبيرة»؛ ولا يوجد تقسيم للكلمات أو أي علامات تشكيل أخرى. الصورة بإذن من المكتبة البريطانية. مجموعة: بردي (114).
بطريقة ما حقق العلماء الإسكندريون التوازن في نص ملحمتي هوميروس وضبطوه، بل إنهم أنشئوا صيغة «الفولجاتا» أو الصيغة «الشائعة» التي نقلت فيما بعد من البردي إلى مجلدات المخطوطات. ويأتي أفضل الدلائل لدينا على المشكلات التي واجهها الإسكندريون من الشذرات العديدة من قصائد هوميروس والتي كتبت لها النجاة على برديات وجدت في مصر (في الغالب الأعم على أغلفة مومياوات لتماسيح مقدسة)، أكثر بكثير مما ينسب لأي مؤلف آخر. فما يقرب من ثلث كل الشذرات الأدبية التي عثر عليها في مصر لهوميروس؛ وتظهر أجزاء من «الإلياذة» ثلاث مرات أكثر من أجزاء «الأوديسة». ولا يزال يوجد ما يقرب من أربعين شذرة من القرن الثالث وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد، وغالبا ما تحتوي هذه الشذرات على «أبيات دخيلة» لا وجود لها في نص الفولجاتا. المثير للانتباه أن التبدل في النص يسير باتجاه الإضافة فقط؛ إذ لا نجد أبياتا تسقط. ففي الأغلب الأعم تكرر «الأبيات الدخيلة» بيتا أو أبياتا توجد في موضع آخر أو تكون عبارة عن تنويعات محدودة لأبيات موجودة في مواضع أخرى، أو توليفات لأجزاء من أبيات تظهر في مواضع أخرى، ولا تحدث بأي حال من الأحوال تغييرات في السرد بإضافة شخصيات أو أحداث، رغم أنه في حالة متطرفة تحتوي شذرة بردي من القرن الثالث قبل الميلاد على ثلاثين بيتا مزيدا من بين تسعين بيتا محفوظا.
إننا نود بالتأكيد أن نعرف مصدر هذه الأبيات وعلاقتها بأي نص سابق، ولكن يتعين علينا أن نعتمد على التكهنات. أحيانا ما يتصور المعلقون أنه لا بد وأن يكون «إبداعا رابسوديا (الرابسوديون في التراث الشعري الإغريقي يقصد بهم رواة الملاحم)» هو المسئول عنها، كما لو أن شاعرا مؤديا أضاف أبياتا جديدة تسللت إلى النص. على أي حال، ليس المهم ما يقال، وإنما ما يكتب. فقد كان تدوين نص من قصائد هوميروس يعد من المهام الجسام، وليس شيئا كان يقوم به شاعر مؤد في كل مرة يكرر بيتا أو يعيد صياغته. ويتصور آخرون أن «الأبيات الدخيلة» تعكس تعددية أساليب التعبير التي اعتدناها في أشكال التراث الشفهي، كما لو أن النساخ دونوا «الإلياذة» و«الأوديسة» مرة بعد أخرى من منشدين مختلفين في مرات مختلفة، فيبدلون في مرة هذه الكلمة، وفي مرة أخرى تلك الكلمة، ويضيفون بيتا هنا أو آخر هناك، ونطاق التباينات محدود جدا بحيث لا يدعم أي تصور من هذا القبيل. إن «الأبيات الدخيلة» لا بد وأن تنتج عن تدخل من الناسخ وأن تعتمد على الدراية الوثيقة للناسخ بالنص، حتى يتذكر ويسجل صياغات لجمل وأبيات كاملة مرتبطة بالنص وهو يصنع مخطوطته. والتحريفات من هذا النوع شائعة في أي تقليد نصي.
ومن ثم فإن «الأبيات الدخيلة» لا تدل على وجود نسخ أصلية متعددة للقصائد. ولعل من الأمور البالغة الأهمية في محاولة فهم ملحمتي هوميروس حقيقة عدم وجود خطوط أصل متوازية لنصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، كما هو كائن، على سبيل المثال، في حالة القصيدة اليونانية «ديجينيس أكريتاس» التي تعود إلى العصور الوسطى (حوالي 1000 ميلاديا)، أو ملحمة «النيبلونجن» الألمانية (حوالي 1200 ميلاديا)، أو الملحمة السنسكريتية «مهابهاراتا» (حوالي 400 ميلاديا). فهذه الأعمال باقية في نسخ متعددة ومتمايزة، وأحيانا بلغات وأوزان شعرية مختلفة، وأحداث وشخصيات مختلفة، حتى إنه لا يتسنى لك مطلقا القول إن نسخة ما هي «الأصلية». على النقيض، فإن النسخ الأصلية من «الإلياذة» و«الأوديسة» كانت بالفعل موجودة، وليتنا نتمكن من استرجاعها. ورغم أنه ليس في مقدورنا ذلك، فإن علماء فقه اللغة مستمرون في جهودهم الحثيثة.
Página desconocida