ونظن أن هناك معيارا نستطيع أن نعاير به الفن القصصي في الوقت الحاضر، وهو القصص الروسية، فما اقترب منها من القصص عند سائر الأمم، وما أشبهها في معالجة الموضوع أو تخطيط الخلق، وما نزعتها في استكناه النفس والبعد عن البهرجة اللفظية، كان أحرى بأن يكون في الطراز الأول.
وبلزاك من هذه الوجهات، وبخاصة من حيث درس نوازع النفس، أقرب المؤلفين في المزاج الروسي، فهو لذلك أفضلهم وأبقاهم على مر الأزمان. وربما يمتاز بلزاك أيضا على كثير من أدباء روسيا، بتنوع أسباب العيش التي يعيش بها أشخاص قصصه؛ فقد قال تين عنه: «نجد في بلزاك سمسارا وعالما أثريا ومهندسا معماريا، ومنجدا وخياطا وتاجر أهدام ووكيل تجارة وطالب صناعة وطبيبا ومحاميا.»
وهناك وجه آخر للشبه بين بلزاك والقصصيين الروس، وهو تلك الصوفية التي كثيرا ما كانت تدفعه إلى الاعتماد على غرائزه وبصيرة نفسه، أكثر من الاعتماد على عقله.
ولد بلزاك سنة 1799، وعني أبواه بتربيته. وعندما بلغ الرابعة عشرة جيء به من المدرسة إلى البيت، وهو خائر القوى لا يدري أحد من الأطباء علته. وكان أكثر أوقاته منطرحا على الفراش، وبقي مدة طويلة وهو على هذه الحال. ولعله من هذه العلة اكتسب ذلك الذوق إلى إدمان القراءة، وانغرز في مزاجه الميل إلى الكتابة والتأليف. وكثيرا ما تكون العلة، وما تقتضيه من سكون الحركة وعدم النشاط، داعية إلى تقوية النزعة الأدبية في بعض الأشخاص، ممن تميل طبائعهم إلى الأدب.
وأخذ في درس القانون، ولكنه لم يزاول المحاماة؛ فقد قام في ذهنه أن يحترف الأدب، وبقي أمينا لهذه الحرفة، لا يبغي بها بديلا، على ما عانى منها من الفاقة، حتى أوتي في آخر أيامه النصر والشهرة.
ومما يدل على بعض ما لقيه من الشدائد في بدء حياته الأدبية، هذه القطعة من خطاب أرسله إلى أخته لورا يقول فيها: «إني شاب، وبي جوع، وليس على طبقي طعام. آه يا لورا! لي رغبتان عظيمتان: أن أنال الشهرة وأن أحب، فهل أحققهما؟»
وأخذ بلزاك في مزاولة فنه، يكادح من الصنعة صعابها، ويضع الترسيمات العظيمة للكوميديا الإنسانية التي أخذ على عاتقه أن يصف فيها مختلف معاشات الناس وأحوالهم وآمالهم وأحزانهم وأتراحهم. ومما يدل على أن هذه الترسيمات كانت في ذهنه، وقت محاولاته الأولى لكي يكون أديبا معروفا، قوله في إحدى قصصه التي ألفها أيام خموله:
عليك أيها القارئ أن تتفهم أخلاق هؤلاء الأشخاص الذين أقدمهم لك، وأن تقفو حظوظهم في ثلاثين قصة ستأتيك بعد.
وحدث في سنة 1829 أن جاء البريد إلى بلزاك يحمل خطابا من قلم سيدة، فما إن جاء على آخره حتى شعر كأن نفسه قد غمرها نوع من الوحي؛ فقد كان الخطاب ينبض فهما وعطفا، وكان فيه شيء من النقد الذي يبعث إليه الإخلاص والحب؛ إذ أومأت الكاتبة إلى بعض عاداته التي ألفها في أسلوبه، وصار يكررها على غير وعي منه، حتى باتت تمج من القراء.
وأخذ بلزاك يتلو الخطاب، ويعيد تلاوته وهو في سرور يشبه اللذة، ويسائل نفسه عن هذه الكاتبة التي تفيض حبا وعطفا وحكمة، ثم تواترت عليه الخطابات من هذه الكاتبة، وعرف منها أن كاتبتها سيدة بولندية تدعى إفيلينا هانسكا، وكانت متزوجة من أحد الأشراف البولنديين، وكان متمرضا بزمانة لا يبرأ منها، وكان كلاهما في نيوشاتل في سويسرا.
Página desconocida