المقدمة
لماذا يتشابه المحبان؟
رأي العرب في الحب
رأي الإفرنج في الحب
أنطونيوس وكليوبطرة
جميل وبثينة
يزيد وحبابة
كثير وعزة
قيس ولبنى
صبيحة وابن أبي عامر
ابن زيدون وولادة
أبيلار وهيلوئيز
شارل الثاني ملك إنجلترا
ماري ملكة اسكوتلاندا
الملكة إليصابات
ماري أنطوانيت
شارلوت كورداي
نابليون وماري فالفسكا
ماري لويز
بيرون وتيريزا
مدام دوستايل
أهواء جورج صاند
كارليل وزوجته
فيكتور هيجو ومدام درويه
بلزاك وإفيلينا هانسكا
لاساله وصاحبته
جامبتا وصاحبته
الإمبراطورة كاترين
خمس نسوة وبرنارد شو
قصة كارل ماركس
المقدمة
لماذا يتشابه المحبان؟
رأي العرب في الحب
رأي الإفرنج في الحب
أنطونيوس وكليوبطرة
جميل وبثينة
يزيد وحبابة
كثير وعزة
قيس ولبنى
صبيحة وابن أبي عامر
ابن زيدون وولادة
أبيلار وهيلوئيز
شارل الثاني ملك إنجلترا
ماري ملكة اسكوتلاندا
الملكة إليصابات
ماري أنطوانيت
شارلوت كورداي
نابليون وماري فالفسكا
ماري لويز
بيرون وتيريزا
مدام دوستايل
أهواء جورج صاند
كارليل وزوجته
فيكتور هيجو ومدام درويه
بلزاك وإفيلينا هانسكا
لاساله وصاحبته
جامبتا وصاحبته
الإمبراطورة كاترين
خمس نسوة وبرنارد شو
قصة كارل ماركس
الحب في التاريخ
الحب في التاريخ
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
للإنسان غريزة جنسية إذا تنبهت احتدت فاستحالت إلى عاطفة، فشهوة، فاندفاع قوي لا يكاد الإنسان يدري ما هو فاعل فيه.
ولكن للإنسان أيضا عقلا إذا تنبه لم يحتد، ولكنه يتأمل في أناة وتبصر، فيستحيل إلى وجدان يدري الإنسان ما هو فاعل فيه.
وكلنا سواء في الغريزة، بل نحن والحيوان سواء فيها، ولكننا نتفاضل في الحب الوجداني الذي ينشأ عن التعقل والتبصر، فندري ما نحن بسبيله من التقرب للجنس الآخر، ونقدر الصفات ونزن الفضائل.
والحب الغريزي هو حب العاطفة، حب الشهوة والنظرة الأولى، وهو بعيد عن الحب الوجداني، الذي يزن ويقدر ويعرف القيم البشرية العالية.
حب العاطفة هو الحب الأعشى القصير.
وحب الوجدان هو الحب الفهيم البصير.
وهناك نوعان من السعادة، كما أن هناك نوعين من الحب؛ فإن سعادة الغرائز هي سرور زائل، كما نجد في لذة الأكل أو الشرب، وهو سرور عاطفي، ما هو أن نشبع حتى ينطفئ، ولكن السعادة القيمة هي ثمرة الوجدان والتعقل، وكذلك الشأن في الحب العاطفي الذي ينشأ من أول نظرة؛ إذ هو شرور زائل، ولكن الحب الوجداني الذي تعتمد فيه على التعقل والتبصر ووزن القيم البشرية، هو أكثر من السرور، هو سعادة مقيمة.
وهناك خطأ شائع هو أن الحب بين محبين إنما يرجع إلى الغريزة الجنسية لا أكثر. وهذا التباس يحتاج إلى بعض التحليل؛ فإن الاشتهاء يرافق الحب، ولكنه ليس أصله، بل يحدث أحيانا أننا عندما نحب امرأة حبا عظيما فإننا نرفعها إلى مرتبة من الطهارة، ونسمو بجمالها إلى معاني من القداسة، بحيث تتقهقر الغريزة أمام هذه الاعتبارات.
ولكن الحب ينتمي إلى أصل آخر هو ذلك التعلق الذي نما في طفولتنا وربطنا بالأم، وهذا هو الذي يجعل في الحب حنانا ورقة ورحمة. ونحن حين نحب امرأة إنما في الواقع نحب صورة الأم في وجهها وقامتها وصوتها؛ لأننا قد نشأنا على أن نكبر من شأن الصفات التي تتحلى بها أمهاتنا.
وإذن يجب أن نقول: إن الحب العظيم ليس هو حب النظرة الأولى، حب العاطفة، وإنما هو حب التبصر، حب الوجدان والتعقل. ويجب أن نقول أيضا: إن الحب ليس هو الشهوة، وما في الحب بين رجل وامرأة من عظمة ومجد وجلال، إنما يرجع في صميمه إلى الصفات السامية التي نعزوها إلى أمهاتنا، وإلى أخلاق اجتماعية قد علمنا إياها المجتمع، وإلى عادات عائلية مارسناها في طفولتنا.
وإذن يجب أن نقول أيضا: إن الناس ليسوا سواء في القدرة على الحب، كما أنهم ليسوا سواء في القدرة على السعادة؛ لأن كليهما - الحب والسعادة - يتوقفان على مقدار ما عندنا من وجدان؛ أي تعقل، وعلى مقدار ما أحببنا أمهاتنا، وعلى مقدار ما كان عند أمهاتنا من صفات سامية.
وهناك فرق في الحب بين الرجل والمرأة؛ فإن حب الرجل يكاد يقتصر على المرأة؛ أي على زوجته، وحبه للأطفال ضعيف مشتت مبعثر؛ إذ هو مشغول بالكسب مختلط بالمجتمع أكثر من المرأة. لكن حب المرأة يختلط بأبنائها؛ ولذلك فإن الأمومة جزء خطير من الحب النسوي.
وأخيرا قد يسأل القارئ: هل يجب أن نهتم بالحب، ونؤلف عنه المؤلفات، نروي فيها تفاصيله وأساليبه بين محبين؟
والواقع أن الحياة أكبر من الحب، وأن الإنسان يستطيع أن يرصد حياته لعمل عظيم يستغرق كل عقله وقلبه وكل مجهوده؛ كأن يتوخى تحقيق مذهب، أو اختراع آلة، أو توجيه شعب إلى غاية، أو نحو ذلك، وهذا النشاط جدير بأن تؤلف عنه الكتب وتروى عن تفاصيله القصص.
ولكن الحب هو السعادة، أو هو أقرب شيء إلى السعادة، وفيه تتبلور أخلاقنا، وتبدو في جوهرها الأصيل، وهو؛ أي الحب، يربينا ويستنبط منا أسمى ما في أخلاقنا؛ ولذلك حين نروي قصة عن الحب إنما نروي أيضا أحسن ما في الطبيعة البشرية من خلال تحملنا جميعا على الإعجاب وعلى الإحساس بالسعادة.
لماذا يتشابه المحبان؟
كثيرا ما يحدث أننا نلتقي بزوجين، فنظنهما للتشابه العظيم بينهما أنهما شقيقان، مع أنهما قد يكونان غريبين، لا تربطهما قبل الزواج أية قرابة عائلية تبرر هذا التشابه؛ ذلك أن أحدنا قد يشبه ابن عمه أو ابنة خالته، وقد يتزوجها، فيكون التعليل واضحا للتشابه بينهما، ولكنا كثيرا ما نجد أن الزوج الذي نشأ في الإسكندرية، قد تزوج فتاة من قنا أو القاهرة، ومع ذلك نجد عندما نتأملهما أنهما يكادان يكونان شقيقين، فما هي علة ذلك؟
علة ذلك أن الشاب عندما يبلغ سن المراهقة ثم الشباب، إنما يتخيل صورة معينة من الجمال تلازمه مدى حياته، مهما تأثر ببعض الظروف الاجتماعية أو الفنية، وهذه الصورة هي صورة أمه وقت الرضاع، وفي أثناء السنوات الثلاث أو الأربع التالية؛ وذلك لأنه في هذه السنين لا يجد في عالمه شخصا أكثر عطفا عليه، والتفاتا إلى حاجاته، وحبا له من أمه، فوجه أمه إذن هو أجمل الوجوه، وصوتها هو أرخم الأصوات، وقامتها هي القامة المثلى للنساء الجميلات. وتبقى هذه الصورة كامنة في ذهنه، بل في نفسه إلى أن يبلغ المراهقة فالشباب، فإذا جاء ميعاد الزواج صارت جميع الوجوه قبيحة أو سمجة أو غير جميلة ، ماعدا تلك الوجوه التي أشبهت وجه أمه، فهو يستلطف هذا الوجه، ثم يعشقه، ويختار تلك الفتاة التي تشبه أمه، أو على الأقل تقاربها في الوجه واللون والقامة والصوت والبدانة أو النحافة.
ولذلك نجد أن الرجل السمين يتزوج الفتاة السمينة ويستلطفها، بخلاف الشاب النحيف الذي لا يستلطف غير الفتاة النحيفة. ومرجع ذلك أن أم السمين كانت سمينة مثله أيام طفولته، وكان يحبها لأنها أمه، وكان يعتقد أن السمن الذي هو صفة أمه من علامات الجمال، فلما كبر وسمن هو نفسه بحكم الوراثة من أمه، أو بحكم المعيشة ونظام الغذاء معها، لم يعد يجد الجمال إلا في المرأة السمينة. وقل مثل ذلك عن الرجل الأبيض، لا يرضى بأن يتزوج فتاة سمراء، أو الرجل الطويل لا يرضى بأن يتزوج فتاة قصيرة؛ لأن أم الأول كانت بيضاء، وقد غرست فيه حب البياض، ولأن أم الثاني كانت طويلة، وقد غرست فيه حب الطويلات.
فالرجل يشبه زوجته لسبب واحد هو أنه قد انغرست فيه قيم الجمال منذ طفولته، وكأن الأنموذج الذي رسم عليه، وأخذ عنه هذه القيم، هو أمه. ولما كان هو يشبه أمه بحكم الوراثة إلى حد بعيد، ثم لأنه عندما يتزوج يختار فتاة تشبه أمه، فإننا نجد الاثنين بعد الزواج متشابهين كأنهما شقيقان.
وهنا قد يرد بعض القراء: ولكن هناك أزواجا يختلف فيها الزوج عن زوجته، فهو طويل وهي قصيرة، وهو أسمر وهي بيضاء، وهو سمين وهي نحيفة، فما هو تعليل هذا الاختلاف؟
فللإجابة على هذا السؤال نقول: إن هذا الاختلاف بين الزوجين قليل الحدوث جدا، وهو حين يوجد يكون مرجعه إلى أن الزوج لم يختر زوجته لجمالها، ولكن لأغراض أخرى، كأن تكون ثرية، أو من عائلة معينة لها مكانة اجتماعية أو نحو ذلك؛ أي إنه لم يكن مسوقا في اختياره بميوله الجمالية التي نشأ عليها منذ الطفولة، وأحيانا يكون قد تربى بعيدا عن أمه، كأن كانت هناك له مرضع خاصة جمعت عواطفه نحوها، فهو عندما يشب يختار فتاة تشبه هذه المرضع. أو ربما تكون أمه قد ماتت قبل أن ترضعه، أو قبل أن تتم معه سنتين أو ثلاث سنوات، فهنا ترتبك مقاييسه وتختلط قيمه.
وهناك رأي شائع، وهو أننا نختار من الجنس الآخر من تناقضنا، كأنها بهذه المناقضة تكمل النقص الذي عندنا، ولكن نظرة عابرة شاملة للأزواج توضح لنا خطأ هذا الرأي؛ ففي تسعين في المائة من الحالات نحن نختار تلك الفتاة التي تشابهنا. وكذلك الشأن في الفتاة عندما تختار الشاب، فإنه يجب أن يشبه أباها وأمها معا؛ وذلك لأن هذا الأب هو البطل الذي نشأت على رؤيته في البيت، وهو السيد المطاع، وقد قيل «كل فتاة بأبيها معجبة»، وليس هذا المثل عبثا، ولكن لما كانت فتياتنا غير حاصلات على حق الاختيار الكامل، فإن الشاب هو الذي يختار وفق الأنموذج الذي ارتسم في نفسه منذ أيام الطفولة، بل منذ أيام الرضاع. وهو يختار فتاة تشبه أمه، وهو بالطبع يفعل ذلك على غير وجدان؛ أي إنه لا يدري أنه متأثر بجمال أمه؛ لأن صورة أمه كامنة في نفسه، وليست ماثلة.
وعلى القارئ ألا ينسى أن صورة الجمال التي ترتسم للأم في ذهن ابنها، إنما هي صورتها وهي بين العشرين والأربعين تقريبا؛ أي صورتها وهي شابة جميلة، فإذا شاء القارئ أن يفحص عن نفسه وعن ميوله الجمالية، فيجب أن يتذكر أمه كما كانت قبل عشرين أو ثلاثين سنة. وليست كما هي الآن عجوز درداء متغضنة، كثيرة الرقاد والأوجاع، تسعل وتعطس، وقد ترهل بطنها واسترخت عضلاتها.
بقي شيء آخر هو أن ننصح للشاب بألا ينخدع بصورة أمه فيقع في فتنة هذا الوجه الذي ثبت فيه منذ الطفولة؛ لأن هذه الفتاة التي تشبه أمه في التقاسيم والملامح والقامة والصوت، أو في بعض هذه الصفات، هذه الفتاة قد تكون سيئة الأخلاق، فهو يفتن بخيال يضيفه عليها، ولكنه يجهل أخلاقها. وإذن لا بد في الزواج من أن نطمئن على صفات أخرى كالذكاء والأخلاق.
رأي العرب في الحب
قال شهاب الدين النويري في «نهاية الأرب»:
أول ما يتجدد الاستحسان الشخصي ، تحدث إرادة القرب منه ثم المودة، ثم يقوى فيصير محبة، ثم يصير هوى، ثم يصير عشقا، ثم يصير تتيما، ثم يزيد التتيم فيصير ولها.
وأما سبب العشق، فهو مصادفة النفس ما يلائم طبعها، فتستحسنه وتميل إليه، وأكثر أسباب المصادفة النظر، ولا يكون ذلك باللمح، بل بالتثبت في النظر ومعاودته بالنظر، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس، ورامت التقرب منه، وتمنت الاستمتاع به، فيصير فكرها فيه، وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا، وشغلها كلها به، فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى، وكلما قويت الشهوة البدنية قوي المفكر في ذلك.
وذكر بعض الحكماء أنه لا يقع العشق إلا لمجانس، وأنه يضعف ويقوى على قدر التشاكل. واستدل بقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.» قال: وقد كانت الأرواح موجودة قبل الأجسام، فمال الجنس إلى الجنس، فلما افترقت الأجسام بقي في كل نفس حب ما كان مقارنا لها، فإذا شاهدت النفس من نفس نوع موافقة ما، مالت إليها ظانة أنها هي التي كانت قرينتها، فإذا كان التشاكل في المعاني كانت صداقة ومودة، وإن كان في معنى يتعلق بالصورة كان عشقا. وإنما يوجد الملل والإعراض من بعض الناس؛ لأن التجربة أبانت ارتفاع المجانسة والمناسبة.
وقال بعض الحكماء: «ليس العشق من أدواء الحصفاء الحكماء، إنما هو من أمراض الخلعاء، الذين جعلوا دأبهم ولهجتهم متابعة النفس، وإرخاء عنان الشهوة، وإمراح النظر في المستحسنات من الصور، فهنالك تتقيد النفس ببعض الصور فتأنس، ثم تألف، ثم تتوق، ثم تلهج.»
وقال ابن عقيل: العشق مرض يعتري النفوس العاطلة والقلوب الفارغة المتلمحة للصور لدواع من النفس، ويساعدها إدمان المخالطة، فيتأكد الألفة، ويتمكن الأنس، فيصير بالإدمان شغفا. وما عشق قط إلا فارغ، فهو من علل البطالين، وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر وطلب الحقائق، المستدل بها على عظم الخالق؛ ولهذا قلما تراه إلا في الرعن البطرين، وأرباب الخلاعة النوكى. وما عشق حكيم قط؛ لأن قلوب الحكماء أشد تمنعا عن أن توقفها صورة من صور الكون مع شدة طلبها؛ فهي أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف، وقل أن يحصل عشق من لمحة، وقل أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة؛ فإنه مار في طلب المعاني، ومن كان طالبا لمعرفة الله لا توقفه صورة عن الطلب؛ لأنها تحجبه عن الصور.
وقال الربعي: سمعت أعرابية تقول: مسكين العاشق، كل شيء عدوه؛ هبوب الريح يقلقه، ولمعان البرق يؤرقه، ورسوم الديار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتذكر يسقمه، والبعد والقرب يهيجه، والليل يضاعف بلاءه، والرقاد يهرب منه. ولقد تداويت بالقرب والبعد، فلم ينجح دواء ولا عز عزاء.
وقال داود الأنطاكي في كتابه «تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق» عن بعض البلغاء:
العشق فضيلة، تنتج الحيلة، وتشجع الجبان، وتسخي كف البخيل، وتصفي ذهن الغبي، وتطلق بالشعر لسان الأعجم، وتبعث حزم العاجز الضعيف، وهو عزيز يذل له عز الملوك، وتضرع له صولة الشجاع، وهو داعية للأدب، وتأويل باب تفتق به بالأذهان والفطن، ويستخرج به دقائق المكايد والحيل، وإليه تستريح الهمم، وتسكن به فواتر الأخلاق والشيم، يمتع جليسه، ويؤنس أليفه، وله سرور يجول في النفوس، وفرح يسكن في القلوب.
ونقل ابن خلكان في ترجمة العلاف ما ملخصه أن العشق جرعة من حياض الموت، وبقعة من رياض النكل، لكنه لا يكون إلا عن أريحية في الطبع، ولطافة في الشمائل، وجود لا يتفق معه منع، وميل لا ينفع فيه عذل.
وقال بعض «العارفين»: شرط المحبة أن تكون ميلا، بلا نيل، وشرطا لا جزاء، تزول عند زوال العرض، ويتأكد ذلك في أحباء الله عز وجل.
رأي الإفرنج في الحب
قال جوته: نحن نتكيف ونتشكل طبق ما نهوى.
وقال فولر: المحبة كالضمير، أحرى بها أن ترشد وتقاد، لا أن تجر وتغتصب. وأولئك الذين يتزوجون من لا يحبون، يحبون غير ما يتزوجون.
وقالت مدام دوستايل: العشق الذي هو عارض في حياة الإنسان يستغرق حياة المرأة بأجمعها.
وقال فنست: لست من أولئك الذين لا يؤمنون بإمكان الحب من أول نظرة، ولكني أومن بوجوب النظرة مرة أخرى.
وقالت مدام دوديفان: إن الرجل الذي تحبه امرأة جميلة فاضلة، يحمل من حبها طلسما يمنعه ويكسبه الحصانة، ويشعر كل من رآه أن حياته أعلى قيمة من حياة الآخرين.
وقال كوتون: كثيرا ما تنتهي الصداقة بالحب، ولكن لا يمكن الحب أن ينتهي بصداقة.
وقال لونجفيلو: ليس في حياتنا ما هو أقدس من الشعور بدبيب الحب الأول، تلك الرفرفة الأولى لأجنحته الحريرية، وتلك الوسوسة الأولى تتعالى وتطفو، وأنفاس تلك الريح تسارع إلى النفس فتغمرها، فإما تطهرها وإما تدمرها.
وقال كوتون: في الحب كما في الحرب، يعزى نجاحنا إلى ضعف وسائل الدفاع أكثر مما يعزى إلى عنف الهجوم وسطوته.
وقال دريدن: حسبك الحب جزاء للحب.
وقال فولتير: الحب لوحة الرسم، تزودها الطبيعة، ويوشيها الخيال.
وقال هربرت: الحب كالسعال ليس من المستطاع إخفاؤه.
وقالت مس جوزبري: الحب يطهر القلب من الأثرة، ويمنح الخلق قوة ورفعة، ويوجه الحياة في جميع الأعمال إلى المقاصد الشريفة، ويزيد الرجل والمرأة كليهما قوة وشرفا وشجاعة. وخير هبة توهب لإنسان هي تلك القدرة على أن يحب حبا صادقا أمينا. والحب نار مقدسة، يجب ألا توقد أمام الأصنام.
وقال كار: لا يحسن الإنسان الأداء عن الحب، إلا إذا كان لا يشعر به.
وقال سيجار: الحب كالقمر، إذا لم يأخذ في الزيادة أخذ في النقصان.
وقالت مس تشيلد: دواء جميع الأدواء، وعلاج هموم الإنسانية وأحزانها وجرائمها، هو الحب؛ فهو العنصر الحيوي الإلهي، الذي يحدث الحياة ويردها، وهو إذا شئنا سبيل القوة وفعل المعجزات.
وقال لاروشفوكو: قد يسلك الرجل الحكيم في حبه سلوك المجانين، ولكنه لا يسلك سلوك البله.
وقال أيضا: ليس شيء يستر الحب حيث يكون، ولا شيء يظهره حيث لا يكون.
وقالت نينون دولنكلو: لا قيمة في الحب لافتقار الرجل إلى الجمال، إذا لم تنقصه الصفات الأخرى المحبوبة؛ فإن القلوب لا تفتح إلا بالعطف، وليس الخلد أكثر عمى من المرأة العاشقة.
وقال إلجز: الطاعة وقت الحب أخف محملا من الحرية.
وقال بولور: نبرات العشق هي كل ما تخلف عنا من لغة الفردوس .
وقال إديسون: ليس يوجد في الحق نوع من الحب أكثر طهارة، وأشبه بالملائكة، من حب الوالد لابنته؛ فهو يرمقها بالعين المجردة، وبالعين التي تتلمح فيها جنسها، فحب الزوج لزوجته مشوب بالرغبة، وحب الأب لابنه مشوب بالطمع، أما حب الأب لابنته ففيه شيء لا تستطيع اللغة التعبير عنه.
وقال بتراركه: الحب هو النعمة التي تتوج بها الإنسانية، وهو أيضا أقدس صفوق النفس، وهو الحلقة الذهبية التي تربطنا بالواجب والحق، وهو المبدأ الفادي الذي يصالح بين القلب والحياة، وهو بشير السعادة الأبدية.
وقال شبانهيم: ليس حواريو المسيح الحقيقيون هم الذين يتفوقون في مقدار المعرفة، وإنما هم أولئك الذين يتفوقون في مقدار الحب.
وقال وطس: ليس يحتاج الإنسان من العواطف إذا كان سيعيش عيشة أبدية إلا لعاطفتين فقط: الحب، وتأمل العزة الإلهية.
وقالت مارجريت فولر: حب المرأة ساعة من الحب، تعرف منها علائقها الحقيقية، أكثر مما تعرف من جميع الفلسفات.
أنطونيوس وكليوبطرة
ليس في سير الحب القديمة ما هو أشهر من سيرة كليوبطرة ملكة مصر الإغريقية أو بالأحرى المقدونية؛ فقد وضع المؤلفون القصص والدرامات والتواريخ والقصائد، ومثل غرامها المصورون والنقاشون والمثالون. وأكبر ما يجذب الناس إلى قراءة سيرتها، غرابة الأطوار التي تطورتها حوادثها، والنهاية المفجعة التي انتهت إليها، وعظم التضحيات التي ضحى بها كل من المحبين أنطونيوس وكليوبطرة.
وكثرة هذه السير تزيد تاريخها إبهاما بدلا من أن توضحه؛ فقد ضرب أكثر من كتب عنها بسهم في الخيال، وأكثر من التزويق والتزيين، شأن القصاص، حتى صارت الحواشي تغطي على المتن، وحتى صار يشق على المؤرخ استخلاص الحقائق من الأوهام.
فقد كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم البطالمة، وهم سلالة مقدونية إغريقية كانت تمت إلى الإسكندر بالقرابة. وكان مؤسس أسرة البطالمة قائدا عند الإسكندر، وكانت الإسكندرية في وقت كليوبطرة أكبر ميناء على البحر الأبيض المتوسط، ومركز التجارة بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وكان أكثر سكانها من الإغريق، وكانت لهم مكتبة كبرى وجامعة يتعلمون فيها، فكان الوسط كله إغريقيا، تكسوه الحضارة الإغريقية، وتسمع فيه اللغة الإغريقية ، وتسيطر عليه الثقافة الإغريقية في الفنون والعلوم.
وارتفعت كليوبطرة إلى عرش مصر وهي في السابعة عشرة، وكانت الإسكندرية قاعدة البلاد وكرسي الحكومة، وكان يبلغ سكانها نحو مليون نفس، وتبلغ المكوس المضروبة على البضائع في جماركها نحو خمسة ملايين جنيه، وكانت صناعات الكتان والبردي والزجاج والأقمشة رائجة فيها، وكان خمس مساحة المدينة خاصا بقصور الأسرة المالكة والمكتبة والمتحف، تحفها وتتخللها جميعها البساتين والتماثيل والمسلات وما إليها، وقد شبهها المؤرخ الإيطالي فيريرو بباريس هذه الأيام، لوفرة ما كان فيها من وسائل الحضارة والترف.
ولما ارتقت كليوبطرة إلى العرش كانت تبعا للسنن المتبعة في الأسرة المالكة مخطوبة إلى أخيها، وكان لا يزال بعد صبيا في الثانية عشرة من عمره، وكان عليه أوصياء سوء، أرادوا أن يستفيدوا من صغر سنه، فنفوا أخته عن المدينة، وولوه العرش وحده.
وكانت هذه النكبة الأولى مهمازا لكليوبطرة، تنبهت منه أعصابها وتذكى عقلها، فبادرت إلى الذهاب إلى سوريا حيث ألفت جيشا وعادت به إلى مصر.
وفي هذه الأثناء كان يوليوس قيصر القائد الروماني قد احتل الإسكندرية، ولم تكن تجدي فيه المقاومة؛ لأن جيشه - فضلا عما كان له من شهرة بالبسالة والصمود في القتال، وسائر الصفات التي تتسم بها الجيوش الرومانية - كان يقوده أبرع قائد في ذلك الزمان وهو قيصر. واقتصر الملك ونصحاؤه على كسب رضاه وثقته، وجاءت كليوبطرة تنافس أخاها في اكتساب هذه الثقة، وكان أخوها أكثر منها ناصرا، ولكنها كانت تمتاز عليه عند قيصر بجمالها وفتنتها.
واتفق أكثر المؤرخين على أنها لم تكن جميلة؛ فقد كان أنفها كبيرا، ولكن الفتنة كانت في نفسها وخفة روحها؛ فقد وصفها المؤرخ بلوتارخ بقوله:
لم يكن جمالها بحيث لا يمكن أن يقرن إلى جمال غيرها، ولم يكن من الروعة بحيث يؤثر في الناظر عند أول رؤيته لها، ولكن تأثيرها في الإنسان إذا بقي مدة قصيرة في حضرتها لم يكن مما تمكن مقاومته؛ فقد كانت شخصيتها، وحلاوة حديثها، وذلك الطابع تطبع به ما تقوله أو تعمله، من السحر بحيث تستأثر الإنسان. وكان مما يلذ للإنسان أن يسمعه موسيقى صوتها الذي كان يشبه آلة وترية تختلف فيه الأنغام.
واحتالت كليوبطرة لكي تصل إلى يوليوس قيصر وتضمه إلى حزبها، فينصرها على أخيها، وكانت جيوش أخيها تحجز بينها وبينه، فوضعت نفسها في بساط لفته حولها وربط عليها، واحتملها خادم أمين لها، ونزل في زورق صغير حتى وصل إلى حيث كان قيصر، فأنزل الخادم البساط، وطلب إلى حرس قيصر أن يؤذنوه بوصول هدية إليه، فأذن قيصر في حمل الهدية، فما هو أن وضع البساط أمامه، وفكت الحبال المربوطة حوله، حتى خرجت منه كليوبطرة.
وكان قيصر شجاعا جريئا، فلا يدع أن يعرف قيمة الشجاعة والجرأة في غيره، فأحبها وأقرها على عرش مصر دون أخيها، وحكمت البلاد منذ تلك الساعة ونحو ست سنوات حكم العدل والحكمة. ثم مات قيصر في رومية مقتولا، متهما بالطموح إلى الاستبداد وإلغاء الجمهورية، وكانت كليوبطرة قد ولدت له ولدا سماه قيصرون.
وظهر في العالم الروماني عقب موت قيصر رجلان اقتسما هذا العالم بينهما؛ أولهما: أوكتافيوس الذي استولى على الجزء الغربي منه، وثانيهما: أنطونيوس الذي استولى على الجزء الشرقي.
وأخذت كليوبطرة تحسب وتقدر أيهما أفضل، لكي تنضم إليه وتستعين بقوته، فبقيت في ترجيح وتردد حتى توجس منها أنطونيوس فاستدعاها، وكان في ذلك الوقت ضاربا خيامه في كيليكة وجيوشه تحوطه، وكان أنطونيوس يمت بصلة الرحم إلى يوليوس قيصر نفسه، وكان شجاعا من هواة الجندية، وقد قضى بعض شبابه في لذاذات الشباب وسرف الفتوة، فأنفق نحو مائة ألف جنيه على الخمور والنساء وما إليهما، ولكنه كان عندما يجد الجد وتعلن الحرب يصير من مساعيرها، يقاتل فيها ويدبر لعدوه المكايد ويصمد له حتى يفوز.
ولم تكن ثم مندوحة لكليوبطرة من أن تلبي دعوته، فألفت أسطولا صغيرا وسارت إلى كيليكية عبر البحر الأبيض المتوسط حتى بلغتها وصعدت إلى نهر كيدنوس حيث كان أنطونيوس وجيوشه. وكانت سفينتها غاية في الزينة، وقد توسطتها في أفخر لباسها، ووقف جواريها سامطين أمامها في أبهى الحلل وأجمل الزينات. ولما وقفت سفينتها وجه إليها أنطونيوس يدعوها إلى العشاء، فأرسلت هي إليه تدعوه إلى السفينة.
وكانت الوليمة المعدة لأنطونيوس قد هيئت بضروب من الألوان الشرقية والغربية، وصفت على المائدة أكواب الشراب، وأضيئت آلاف الشموع تحترق فتخرج منها أنفاس الطيب، وتعبق فوقها سحابات من دخان العطور المختلفة. وجاء أنطونيوس من خيامه، وكان قد مضى عليه زمن وهو يعيش عيشة المعسكرات، بما فيها من شظف وخشونة، فرأى في الفراش الوثير، والطعام اللذيذ، والشراب الفاخر، والجمال الفتان، ما سحر لبه، وأسر قلبه وقيده إليها.
ولم تكن كليوبطرة قد أحبت قبلا؛ لأن علاقتها بيوليوس قيصر كانت قائمة على المصلحة لا على العشق، أما الآن، فقد وجدت في أنطونيوس شخصا فتيا، يلبي شهواتها ويعشقها، لا يبرحها طوال ليله ونهاره، فعشقته وعلقته. وربما كان يشوب هذا العشق شيء من مراعاة المصلحة من كلا الجانبين، ولكن ليس شك في أنهما أخلصا الحب، وتصافيا كئوسه حتى الممات.
وبقي كلاهما معا نحو عشر سنوات لم يفترقا إلا مرة واحدة، حين ذهب أنطونيوس في حملة في إحدى جهات آسيا. وقد ذكر بلوتارخ أن أنطونيوس قال مرة: إن التمليق أربعة أنواع، أما كليوبطرة فعندها منه ألف نوع. وهذا وحده يدل على سحر حديثها.
قال بلوتارخ:
كانت كليوبطرة على استعداد دائم لأن تسر أنطونيوس وتمتعه سواء أكان في حال الجد أم في حال اللهو. وكانت تلازمه ليل نهار، تلاعبه النرد، وتشرب معه، وتخرج معه إلى الصيد تقتنص معه، وإذا كان وقت المران على القتال وقفت أمامه تعجب به وتصفق له.
ثم حدث النزاع بين أكتافيوس وأنطونيوس، أيهما يسود العالم. وقد كان أكتافيوس يضمر السوء لأنطونيوس، ويتربص به الدوائر؛ لأن أنطونيوس كان متزوجا أخت أكتافيوس، وكان قد هجرها عندما علق كليوبطرة. وتهيأ كلا الفريقين للقتال، وأعد كل منهما أسطولا، والتقيا في أكتيوم. وكانت كليوبطرة تصحب أنطونيوس؛ إذ لم يكن يقدر على فراقها. ودار القتال برهة، ظنت فيها كليوبطرة أن أسطول عشيقها قد انهزم، فأمرت ربانها بالفرار. ولم تكن الهزيمة قد تأكدت ولكن قلب المرأة يساوره الهلع في ساعة الشدة ، التي لم يخلق لها إلا الرجال. ورأى أنطونيوس سفينة كليوبطرة تولي الإدبار، فجن جنونه واستطير، وأمر أسطوله أن يدركها، وهنا بانت الهزيمة الأولى.
وتحصن أنطونيوس بالإسكندرية، ولكن أكتافيوس هزمه مرتين، حتى سلمت له جميع جيوشه. وعرفت كليوبطرة عندئذ أنه قد قضي عليها هي وحبيبها، وأنها لا بد أن تقع أسيرة، وتقاد في شوارع رومية مقيدة بالأغلال من الذهب، وينظر إليها جمهور تلك العاصمة بين الاستهزاء والتشفي، فأشاعت في الإسكندرية أنها ماتت، حتى يكف أكتافيوس عن البحث عنها، وتبحث هي في خلال ذلك عن طريقة للنجاة. وبلغت الإشاعة أنطونيوس فانتحر، بأن غرز سيفه في بطنه وبلغ ذلك كليوبطرة فانتحرت هي الأخرى.
جميل وبثينة
كان جميل شاعرا، نشأ في قومه بني ربيعة بوادي القرى بين المدينة ومكة، فأحب فتاة تدعى بثينة من بنات قومه. وكان قد علقها صغيرا فاشتهر حبهما، ووصل خبره إلى أبيها. وكان من شر العادات عند العرب أنه إذا اشتهر حب بين اثنين منع أبو الفتاة المحبوبة زواجها من حبيبها؛ وذك خشية أن يتقول الناس عن سابق العلائق التي كانت بينهما قبل الزواج.
فامتنع أبوها عن تزويجه، فصار جميل يشبب بها، ويؤلف القصائد في وصفها ومقدار حبه لها، وربما كان غرضه من ذلك أن يلقي الشك في قلوب الأغراب، فيشعرهم بأن علاقته بها شديدة، ويكون من أثر ذلك فيهم أن يمتنعوا عن طلبها لأنفسهم من أبيها.
وكان ذلك في عصر الدولة الأموية في خلافة عبد الملك بن مروان، فاستعدى أهل الفتاة الوالي لكي يكف جميل عن التشبيب ببثينة. وبلغ ذلك جميلا، ففر إلى الشام، ونزل عند أحد وجوه بني عذرة، وكان يعرف خبره ويرحمه لما هو فيه من البلوى. ومما يحكى أن هذا الرجل احتال على جميل لكي ينسيه حبه، فزين سبع بنات، فكن يتصدين له متبرجات، ويعاودن ذلك حتى يعلق إحداهن، ففطن جميل للحيلة، وصد عنهن، وقال في ذلك:
حلفت لكيما تعلميني صادقا
وللصدق خير في الأمور وأنجح
لتكليم يوم واحد من بثينة
ورؤيتها عندي ألذ وأملح
لرؤية يوم واحد من بثينة
ألذ من الدنيا لدي وأملح
وكان جميل يضرب المواعيد لبثينة ويلتقيان في الخلاء. وقد روى الأغاني: «إن بثينة لما أخبرت أن جميلا قد نسب بها، حلفت بالله لا يأتيها على خلاء، إلا خرجت إليه لا تتوارى منه، فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث إليها ومع أخواتها.»
وهذا يدل على أنهما تصافيا الحب، وكان كلاهما محبا. وقد أكثر فيها من نظم القصائد التي كانت تنال إعجاب الفرزدق وعمر بن أبي ربيعة.
من ذلك قوله:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذن لسعيد
وهل ألقين فردا بثينة مرة
تجود لنا من ودها ونجود
علقت الهوى منها وليدا، فلم يزل
إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
وأفنيت عمري بانتظاري وعدها
وأبليت فيها الدهر وهو جديد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا
ولا حبها فيما يبيد يبيد
وما أنسى م الأشياء لا أنسى قولها
وقد قربت نضوي: أمصر تريد؟
ولا قولها: لولا العيون التي ترى
لزرتك فاعذرني فدتك جدود
خليلي ما ألقى من الوجد قاتلي
ودمعي بما قلت الغداة شهيد
يقولون: جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد؟
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل عندهن شهيد
روى الأغاني: لقي جميل بثينة، بعد تهاجر كان بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا فقالت له: ويحك يا جميل، أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى
وفي الغر من أنيابها بالقوادح
فأطرق طويلا يبكي، ثم قال: بل أنا القائل:
ألا ليتني أعمى أصم تقودني
بثينة لا يخفى علي كلامها
فقالت له: ويحك! ما حملك على هذه المنى؟ أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعا؟
ومما ذكر عنهما هذه الحكاية التالية: «سعت أمة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما: إن جميلا عندها الليلة. فأتياه مشتملين على سيفين، فرأياه جالسا حجزة منها يحدثها ويشكو إليها بثه. ثم قال لها: يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك، ألا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل أهذا تبغي؟ والله لقد كنت عندي بعيدا منه، ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا. فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه. ولو علمت أنك تجيبينني إليه لأدركت أنك تحبين غيري. ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد، أوما سمعت قولي:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي
أواخره، لا نلتقي وأوائله
فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها. فانصرفا وتركاهما.»
وتزوجت بثينة من آخر غير جميل، ولكنها بقيت تحفظ عهده ويزورها خفية في بيت زوجها، إلى أن علم زوجها بذلك فشكاه للوالي، فأهدر دمه إذا عاود، فانقطع جميل عن الزيارة.
روى بعضهم أنه لما منع جميل من زيارة بثينة ضاقت به الدنيا، فكان يصعد بالليل على ربوة عالية يتنسم منها الريح من نحو حي بثينة ويقول:
أيا ريح الشمال أما تريني
أهيم، إنني بادي النحول
هبي لي نسمة من ريح بثن
ومني بالهبوب إلى جميل
وقولي يا بثينة حسب نفسي
قليلك أو أقل من القليل
فإذا بدا وضح الصبح انصرف وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها: ويحكن! إني لأسمع أنين جميل من بعض الغزلان. فيقلن لها: اتقي الله، فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له.
وقد كان يتنكر أحيانا ويتخذ من اللباس ما يخفي به حقيقة شخصه، ثم يزورها ويجلس مع سائر الضيوف، فلا يعرف أحد أمره سواها؛ فمن ذلك ما رواه بعضهم أن جميلا جاء إلى بثينة ليلة، وقد أخذ ثياب راع لبعض الحي، فوجد عندها ضيفانا لها، فانتبذ ناحية، فسألته: من أنت؟ فقال: مسكين. فجلس وحده. وعشت ضيفانها، وعشته وحده. ثم جلست هي وجارية لها على صلاتهما واضطجع القوم منتحين، فقال جميل: هل البائس المقرور دان فمصطل من النار، أو معطى لحافا فلابس؟
فقالت لجاريتها: صوت جميل والله، اذهبي فانظري. فرجعت إليها وقالت: هو والله جميل. فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون، وقالوا: ما لك؟ فطرحت بردا لها من حيرة في النار وقالت: احترق بردي. فرجع القوم. وأرسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به. فحبسته عندها ثلاث ليال. ثم سلم عليها وخرج.
قال الأغاني: لما أهدر أهل بثينة دم جميل، وأباحهم السلطان قتله، أعذروا إلى أهله، وكانت منازلهم متجاورة، فمشت مشيخة الحي إلى أبيه، وكان يلقب صباحا، وكان ذا مال وفضل وقدر من أهله، فشكوه إليه، وناشدوه الله والرحم، وسألوه كف ابنه عما يتعرض له ويفضحهم به في فتاتهم، فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع، ثم انصرفوا، فدعا به وقال له: يا بني، حتى متى أنت عمه في ضلالك، لا تأنف من أن تتعلق بنات بعل يخلو بها وأنت عنها بمعزل، ثم تقوم إليك فتغرك بخداعها، وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلا وغرورا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة. إن هذا لذل وضيم، ما أعرف أخيب سهما، وأضيع عمرا منك، فأنشدك الله ألا كففت وتأملت أمرك، فإنك تعلم أن ما قلته حق، ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له، وفي النساء عوض. فقال له جميل: الرأي ما رأيت، والقول كما قلت، فهل رأيت قبلي أحدا قدر أن يدفع عن قلبه هواه، أو ملك أن يسلي نفسه، أو استطاع أن يدفع بما قضي عليه. والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي، أو أزيل شخصها عن عيني، لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، وأنا أمتنع من طروق هذا الحي، والإلمام بهم، ولو مت كمدا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه. وقام وهو يبكي، فبكى أبوه ومن حضر.
ويروى أنه على الرغم من هذه الأخطار التي كانت تحول دون لقاء بثينة بجميل، فقد التقيا وودعها، وانصرف من وادي القرى إلى مصر حيث مات!
وجميل من الشعراء الذين يمتازون بصدق اللهجة والإحساس، فكان نسيبه يعبر عن عاطفة صادقة لا رياء فيها، وكثيرا ما يحس الإنسان آلامه وهو يشكو. ومن أجمل ما نظم حين صدت عنه بثينة قوله:
فيا قلب دع ذكرى بثينة إنها
وإن كنت تهواها تضن وتبخل
وقد أيأست من نيلها وتجهمت
ولليأس إذ لم يقدر النيل أمثل
وإلا فسلها نائلا قبل بينها
وأبخل بها مسئولة حين تسأل
وكيف ترجي وصلها بعد بعدها
وقد جز حبل الوصل ممن تؤمل
وإن التي أحببت قد حيل دونها
فكن حازما والحازم المتحول
ففي اليأس ما يسلي، وفي الناس خلة
وفي الأرض عمن لا يؤاتيك معزل
بدا كلف مني بها فتثاقلت
وما لا يرى من غائب الوجد أفضل
يزيد وحبابة
كان يزيد بن عبد الملك من خلفاء الدولة الأموية، وكان يعشق جارية تدعى حبابة، عرفها مغنية جميلة فاشتهاها، ثم أحبها وأخلص في حبه حتى بلغ من جزعه على فقدها أن مات بعد موتها بخمسة عشر يوما.
ولا يعرف هل كانت حبابة تحبه بمقدار ما أحبها؛ فقد نشأت نشأة القيان، ولابست تلك الظروف التي تلابس تربية القيان وعشرتهن، وما فيهما من سرف في الشهوات والملذات. ومثل هذه المعيشة تبلد الحواس، وتزيل منها رقتها، وقلما يجد المحب المخلص مجازا إليها في هذه الظروف.
فقد كانت حبابة تسمى العالية، وهي من مولدات المدينة، وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة، حسنة الغناء طيبة الصوت ضاربة بالعود، واشتراها يزيد بألف دينار قبل أن يرقى عرش الخلافة، وبلغ ذلك سليمان خليفة الأمويين، فهم بالحجر عليه لسفهه وإنفاقه هذا المبلغ الكبير ثمنا للجارية، فردها يزيد إلى مولاها. ثم مات سليمان بعد ذلك وصار يزيد خليفة، وكانت زوجته سعدة تعرف مكانة هذه الجارية في قلبه، وتعلم أنه لا بد طالبها، فاشترتها، فلما حصلت عندها قالت ليزيد: هل بقي عليك من الدنيا شيء لم تنله؟ فقال: نعم العالية. فقالت: هذه هي، وهي لك. فسماها حبابة، وعظم قدر سعدة عنده. وقيل إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له، أن توطئ لابنها عنده في ولاية العهد، وتحضرها بما تحب.
وبقيت حبابة أثيرة عند يزيد، فكان كلفا بها يلازمها في طعام وشراب وغناء، وكان رجالات بني أمية يلومونه على استهتاره وتعلقه بهذه الجارية، فيردهم ولا يسمع لهم، وكان هي من ناحية أخرى لا تدرك شيئا من مصالح الأمة أو مصالح الخلافة، فكانت تستخدم جميع الأساليب النسائية في جذبه، وتعلقه بها.
فقد ذكر أن مسلمة أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناء والشرب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بين عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم. فقال يزيد: صدقت والله، وهم بترك الشرب، ولم يدخل على حبابة أياما، فدست حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتا في ذلك، وقالت له: إن رددته عن رأيه فلك ألف دينار. فألف الأحوص جملة أبيات، ودخل على يزيد وأنشده:
ألا لا تلمه اليوم أن يتلبدا
فقد غلب المحزون أن يتجلدا
بكيت الصبا جهدي، فمن شاء لامني
ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
وإني وإن فندت في طلب الغنى
لأعلم أني لست في الحب أوحدا
إذا أنت لم تعشق، ولم تدر ما الهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
فلم يتحرك يزيد إلى حبابة بهذا الإغراء وبقي أسبوعا لا يطلبها، فلما كان أحد الأيام قالت حبابة لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلميني. فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته والعود في يدها فغنت البيت الأول، فغطى يزيد وجهه وقال: صه لا تتغني. ثم غنت: فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي، فعدل إليها وقال: صدقت والله، فقبح الله من لامني فيك. يا غلام، مر مسلمة أن يصلي بالناس، وأقام معها يشرب وتغنيه.
وكان عند يزيد جارية أخرى تحكم الضرب والغناء أكثر من حبابة، وكانت تدعى سلامة، وكان يزيد يؤثر حبابة عليها لمكانها في قلبه، ويشهد كذبا بفضلها عليها. والحكاية التالية التي ذكرها الأغاني تمثل بعض خلال يزيد، ومبلغ استهتاره وطربه:
اختلفت حبابة وسلامة في غناء هذا البيت:
وترى لها دلا إذا نطقت به
تركت بنات فؤاده صعرا
فقال يزيد: من أين جاء اختلافكما والصوت لمعبد ومنه أخذتماه؟ فقالت هذه: هكذا أخذته. وقالت الأخرى: هكذا أخذته. فقال يزيد: قد اختلفتما ومعبد حي بعد. فكتب إلى عامله بالمدينة يأمره بحمله إليه، فلما دخل معبد إليه لم يسأله عن الصوت، ولكنه أمره أن يغني، فغناه:
فيا عز إن واش وشى بي عندكم
فلا تكرميه أن تقولي له مهلا
فاستحسنه وطرب. ثم قال: إن هاتين اختلفتا في صوت لك فاقض بينهما.
فقال لحبابة: غني. فغنت. وقال لسلامة: غني. فغنت. فقال: الصواب ما قالت حبابة. فقالت سلامة: والله يا ابن الفاعلة إنك لتعلم أن الصواب ما قلت، ولكنك سألت أيتهما آثر عند أمير المؤمنين، فقيل لك حبابة فاتبعت رضاه وهواه. فضحك يزيد وطرب، وأخذ وسادة فصيرها على رأسه، وقام يدور في الدار ويرقص ويصيح: السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان، حتى دار الدار كلها، ثم رجع فجلس في مجلسه، وأنشأ هذين البيتين:
أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر
ما للفؤاد سوى ذكراكمو وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكركم
أو عرسوا فهموم النفس والسهر
فغناها معبد، وطرب يزيد.
وقيل في وفاة حبابة إن يزيد بن عبد الملك نزل ببيت رأس بالشام ومعه حبابة، فقال يزيد: زعموا أنه لا تصفو لأحد عيشة يوما إلى الليل إلا يكدرها شيء عليه، وسأجرب ذلك. ثم قال لمن معه: إذا كان غد فلا تخبروني بشيء، ولا تأتوني بكتاب. وخلا هو وحبابة فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمانة، فشرقت بحبة منها فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثا، حتى تغيرت وأنتنت وهو يشمها ويرشفها. فعاتبه على ذلك ذوو قرابته، وهابوا عليه ما يصنع وقالوا: لقد صارت جيفة بين يديك، فأذن لهم في غسلها ودفنها. فأخرجت في نطع، وخرج معها لا يتكلم، حتى جلس على قبرها ، فلما دفنت قال: أصبحت والله كما قال كثير:
فإن يسل عنك القلب أو يدع الصبا
فباليأس يسلو عنك لا بالتجلد
فما أقام إلا خمس عشرة ليلة حتى دفن إلى جنبها.
وقيل في حكاية أخرى إنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إياها، فقال: لا بد من أن تنبش، فنبشت، وكشف له عن وجهها، وقد تغير تغيرا قبيحا. فقيل له: يا أمير المؤمنين اتق الله ألا ترى كيف قد صارت؟ فقال: ما رأيتها قط أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاءه مسلمة ووجوه أهله، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها. وانصرف، فكمد كمدا شديدا، حتى مات فدفن إلى جانبها.
وقد روى الأغاني أنه لما ماتت حبابة لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشي، فحمل على منبر على رقاب الرجال. فلما دفنت قال: لم أصل عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: نشدتك الله يا أمير المؤمنين، إنما هي أمة من الإماء، وقد واراها الثرى. فلم يأذن يزيد للناس بعد حبابة إلا مرة واحدة، ولم ينشب أن مات كمدا.
فليس يشك من هذه الروايات في أن يزيدا كان مخلصا في حبه لهذه الجارية، ولكن ليس هناك ما يدل على إخلاصها. ولو أخلصت لما تركته يستهتر كل هذا الاستهتار، ويهمل شئون الدولة، وربما لو طالت مدتهما معا، لكان يؤدي كلفه بها، ولزومه إياها، إلى خلعه. وليس يقوم الجهل عذرا لحبابة؛ لأنها لم تكن مثل سائر النساء؛ فإن القيان كن يعلمن من الأدب ما ينير أذهانهن في مستوى الرجال معرفة بالتاريخ والأشعار، وكن يتقلبن في مختلف المعايش، فيكسبن بذلك تجارب قد لا يكسبها الرجال.
كثير وعزة
ليس يعرف متى ولد كثير، إنما المشهور أنه هلك في سنة 105 هجرية. وكان شاعرا مغلقا يقرن إلى جرير والأخطل والفرزدق، وكان غاليا في التشيع، يقول بالرجعة والتناسخ. وقد نسبه الأغاني، فذكر من جدوده امرأ القيس البطريق، وهذا يوهم أن أسرته كانت مسيحية قبل أن تدخل في الإسلام. وكان قصيرا دحداحا، وكان مع ذلك من أتيه الناس وأذهبهم بنفسه، قال بعضهم: «رأيت كثيرا يطوف بالبيت، فمن حدثك أنه يزيد عن ثلاثة أشبار فكذبه. وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول له: طأطئ رأسك لا تصبه السقف.»
وقد نشأ في البادية التي بين المدينة ومكة، ومدح الخلفاء، وجوزي منهم بالتحف والألطاف.
وكانت صاحبته التي كان يشبب بها، وأكثر أشعاره فيها، تدعى عزة. وقد روى القصاص قصته كما رووا سائر قصص المحبين في القرن الأول للهجرة، مثل جميل وبثينة، وقيس ولبنى، بشيء من التزويق والتحشية، حتى صار يشق على الناقد أن يستخلص الحب من العصافة. والعجب في هؤلاء الرواة أنهم يسندون قصة خرافية، لا يمكن أن تصدق، إلى أشخاص معروفين في التاريخ الإسلامي، حتى ليعجب الإنسان كيف وهم يزينون هذه الأباطيل بالأسانيد، ويدعمونها بنسبتها إلى الثقات، نقول كيف يوثق بهم في سائر ما نقلوه إلينا من حوادث التاريخ؟
وكان أول ما عرف كثير عزة، أنه مر بنسوة ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة، فقالت: يقلن لك النسوة بعنا كبشا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع. فأعطاها كبشا وأعجبته. فلما رجع جاءت امرأة منهن بدراهمه، فقال: وأين الصبية التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها؟ هذه دراهمك. قال: لا آخذ دراهمي إلا ممن دفعت الكبش إليها. وخرج وهو يقول:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه
وعزة ممطول معنى غريمها
وأخذ من ذلك الوقت يتعشقها ويتغزل بها، يؤلف القصائد في وصفها ومدحها. وقد روت قسيمة الأسلمية قالت: «سارت علينا عزة في جماعة من قومها، فسمعنا بها، فاجتمعت جماعة من نساء الحضر أنا فيهن، فجئناها فرأينا امرأة حلوة حميراء نظيفة، فتضاءلنا لها. ومعنا نسوة كلهن لها عليهن فضل من الجمال والخلق، إلى أن تحدثت ساعة، فإذا هي أبرع الناس وأحلاهم حديثا. فما فارقناها إلا ولها علينا الفضل في أعيننا. وما نرى في الدنيا امرأة تروقها جمالا وحسنا وحلاوة.»
ولم يتزوجها كثير لتلك العادة التي أشرنا إليها، وهي أن العرب كانت تستقبح تزويج بناتها لمن يشبب بهن . وكانت على الرغم من زواجها تلتقي خلسة بكثير، فيطفئ نار شوقه، ويؤلف القصائد يبترد بها من غليل الحب.
روى كثير قال: «حججت سنة من السنين، وحج زوج عزة بها، ولم يعلم أحد منا بصاحبه، فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن لتحضير طعام لأهل رفقته، فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلي وهي لا تعلم أنها خيمتي. وعرفته وأخذت منه السمن. وعرف زوجها أنها رأت كثيرا، فأمرها أن تعود إليه وتشتمه، فذهبت وقالت وهي تبكي: يا ابن الزانية. ثم انصرفا.
ووضع كثير قصيدة عن هذا اللقاء قال فيها عن هذا الزوج:
يكلفها الخنزير شتمي وما بها
هواني ولكن للمليك استذلت
وبعض الرواة ينكر على كثير إخلاصه في حبه عزة؛ فقد قال أبو خليفة: كان كثير مدعيا ولم يكن عاشقا، وكان جميل صادق الصبابة والعشق. وروى الأغاني هذه القصة عنه:
ومما وجدناه في أخباره ولم نسمعه من أحد أنه نظر إلى عزة ذات يوم وهي منتقبة تميس في مشيتها، فلم يعرفها كثير فاتبعها، وقال: يا سيدتي قفي حتى أكلمك، فإني لم أر مثلك قط. فمن أنت ويحك؟ قالت ويحك! هل تركت عزة فيك بقية لأحد؟ فقال: بأبي أنت والله لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك. قالت: هل لك في المخاللة؟ قال: وكيف لي بذلك؟
فسفرت عن وجهها، ثم قالت: أغدرا يا فاسق، وإنك لهكذا؟ فأبلس ولم ينطق. وتأثر من هذه الحادثة، وقال فيها هذه الأبيات:
ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي
من السم خضخاض بماء الذراح
أقمت ولم تعلم على خيانة
وكم طالب للربح ليس برابح
ومات كثير، فما تخلفت امرأة بالمدينة عن جنازته. وكن يندبن، ويذكرن عزة في ندبهن.
وعاشت عزة بعده مدة، ويقال إنه لما شاعت أشعار كثير وصار المغنون يتغنون بها، وجرى ذكره وذكر عزة في سمر عظماء الدولة، طلب عزة عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، فلما مثلت بين يديه، وكانت عجوزا، قال لها: «أنت عزة كثير التي يقول فيها:
لعزة نار ما تبوخ كأنها
إذا ما رمقناها من البعد كوكب
فما الذي أعجبه منك؟»
فقالت عزة: «كلا يا أمير المؤمنين، فوالله لقد كنت في عهده أحسن من النار في الليلة القرة.»
فقال الخليفة: «هل تروين قول كثير فيك:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها
من ذا الذي يا عز لا يتغير؟
تغير جسمي والخليفة كالتي
عهدت ولم يخبر بسرك مخبر»
فقالت عزة: «ولكني أروي قوله:
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة
فمن مل منها ذلك الوصل ملت»
قيس ولبنى
كان قيس بن ذريح من سكان بادية المدينة، وكان رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب. وسبب علاقته بلبنى بنت الحباب أنه ذهب لبعض حاجاته، فمر بحيها وقد احتدم الحر، فاستسقى من إحدى الخيام، فبرزت إليه فتاة مديدة القامة بهية الطلعة عذبة الكلام، فناولته إداوة ماء، فلما روي وهم بالذهاب قالت له: ألا تبرد وترتاح عندنا؟ فأجابها، فمهدت له وطاء وقدمت إليه ما يحتاج إليه. وجاء أبوها، فلما وجده رحب به ونحر له جزورا، فأقام عندهم بياض اليوم، ثم انصرف وهو أشغف الناس بها، فجعل يكتم ذلك إلى أن طما به الحب، فعاد إلى زيارتها، وشكا إليها ما يجد من حبها، فوجد عندها أضعاف ذلك، فانصرف وهو في أشد الغبطة.
ومضى إلى أبيه، وبث إليه حاله. فقال له: دع هذه، وتزوج إحدى بنات عمك. فلجأ إلى أمه، فكان رأيها رأي أبيه، فذهب إلى الحسين بن علي، وأخبره بقصته واستنجد به. فرثى له، وتعهد أن يكفيه هذا الشأن، ومضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك، فأجابه بالطاعة وقال: يا ابن رسول الله، ولو أرسلت لكفيت، بيد أن هذا من أبيه أليق، كما هي عادات العرب.
وذهب الحسين إلى أبي قيس وحمله على تزويج ابنه من لبنى، وعاش المحبان معا نحو عشر سنوات، تبين منها أن لبنى عاقر. وكان والدا قيس يرغبان في نسله، فعرضا عليه تطليقها والتزوج من أخرى تأتيه بما يطمعان فيه من الولد، فامتنع امتناعا يؤذن باستحالة ذلك، وأخذ يدافعهما، إلى أن أقسم أبوه لا يكنه سقف أو يطلق قيس لبنى. وكان قيس شديد الحب للبنى، فكان إذا اشتد الهجير خرج إلى أبيه وأظله، واصطلى هو بالشمس، فإذا جاء الظل تركه ودخل إلى لبنى يبكي.
واطرد هذا الحال مدة، حتى قدر في النهاية أن يطلقها، فجاء أهلها وحملوها إليهم، وزوجوها من آخر. ولم يبق لقيس سوى الحسرة والندم والتفجع، فكان يؤلف القصائد يذكر حبه لها، وأيامه الماضية، وما لقي من فراقها، فمن ذلك قوله:
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها
بخير فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي
وأقررت عين الشامت المتملق
وددت وبيت الله أني عصيتهم
وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوض البحر والبحر زاخر
أبيت على أثباج موج مفرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها
عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر
ويكره سمعي بعدها كل منطق
وسعى أبوه حتى زوجه من امرأة قزارية. ولكنه لما أدخلت عليه زوجته لم يدن منها ولا خاطبها بحرف، ولا نظر إليها، وأقام على ذلك أياما كثيرة. ثم أعلمهم أنه يريد الخروج إلى قومه أياما، فأذنوا له في ذلك، فمضى لوجهه إلى المدينة، وكان له صديق من الأنصار بها فأتاه، فأعلمه الأنصاري أن خبر تزويجه بلغ لبنى فغمها، وقالت: إنه لغدار، ولقد كنت أمتنع من إجابة قومي إلى التزويج، فأنا الآن أجيبهم. وقد كان أبوها شكا قيسا إلى معاوية، وأعلمه تعرضه لها بعد الطلاق، فكتب إلى مروان بن الحكم يهدر دمه إن تعرض لها، وأمر أباها أن يزوجها رجلا يعرف بخالد بن حلزة، فزوجها أبوها منه، فجزع قيس جزعا شديدا، وجعل ينشج أحر نشيج، ويبكي أحر بكاء. ثم ركب من فوره حتى أتى محلة قومها وموضع خبائها، فنزل عن راحلته، وجعل يمرغ خده على ترابها.
ومما قاله يرثي حاله ويعزي نفسه في ذلك الوقت:
إن تك لبنى قد أتى دون قربها
حجاب منيع ما إليه سبيل
فإن نسيم الجو يجمع بيننا
ونبصر قرن الشمس حين تزول
وأرواحنا بالليل في الحي تلتقي
ونعلم أيا بالنهار نقيل
وتجمعنا الأرض القرار وتوقنا
سماء نرى فيها النجوم تجول
ومن ذلك قوله أيضا:
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت
علي، فللدنيا بطون وأظهر
لقد كان فيها للأمانة موضع
وللكف مرتاد وللعين منظر
وللحاتم العطشان ري بريقها
وللمرح المحتال خمر ومسكر
كأني لها أرجوحة بين أحبل
إذ ذكره منها على القلب تخطر
روى الأغاني أن قصائد قيس ذاعت واشتهرت، وغنى في شعره الغريض ومعبد ومالك، فلم يبق شريف ولا رضيع إلا سمع بذلك فأطربه، وحزن لقيس مما به. وجاء زوج لبنى إليها فأنبها على ذلك وعاتبها، وقال لها: لقد فضحتني بذكرك. فغضبت وقالت: يا هذا، إني والله ما تزوجتك رغبة فيك ولا فيما عندك. ولقد علمت أني كنت زوجته قبلك، وأنه أكره على طلاقي. ووالله ما قبلت التزويج حتى أهدر دمه إن ألم بحينا، فخشيت أن يحمله ما يجد على المخاطرة فيقتل، فتزوجتك. وأمرك الآن إليك، ففارقني فلا حاجة بي إليك. فأمسك عن جوابها، وجعل يأتيها بجواري المدينة يغنينها بشعر قيس كيما يستصلحها بذلك، فلا تزداد إلا تماديا وبعدا، ولا تزال تبكي كلما سمعت شيئا من ذلك أحر بكاء وأشجاه.
ومن جيد شعر قيس قوله:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها
وكنت كآتي حتفه وهو طائع
فيا قلب صبرا واعترافا بحبها
ويا حبها قع بالذي أنت واقع
ويا قلب خبرني إذا شطت النوى
بلبنى وبانت عنك ما أنت صانع
أتصبر للبين المشت مع الجوى
أم أنت امرؤ ناسي الحياة فجازع
كأن بلاد الله ما لم تكن بها
وإن كان فيها الناس وحش بلاقع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
لي الليل، هزتني إليك المضاجع
لقد رسخت في القلب منك مودة
كما رسخت في الراحتين الأصابع
قال الأغاني: وقد اختلف في آخر أمر قيس ولبنى، فذكر أكثر الرواة أنهما ماتا على افتراقهما، فمنهم من قال إنه مات قبلها، وبلغها ذلك فماتت أسفا عليه، ومنهم من قال بل ماتت قبله، ومات بعدها أسفا عليها. قال أبو عمرو المدني: ماتت لبنى، فخرج قيس ومعه جماعة من أهله، فوقف على قبرها فقال:
ماتت لبنى فموتها موتي
هل تنفعن حسرتي على الفوت
وسوف أبكي بكاء مكتئب
قضى حياة وجدا على موت
ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل، فلم يزل عليلا لا يفيق، ولا يجيب مكلما، ثلاثا، حتى مات، فدفن إلى جنبها.
وهكذا قضى قيس مضحيا بحبه لامرأته لبره لوالديه، مؤثرا قرابة الماضي على قرابة المستقبل. وكان هذا منه خطلا عظيما جديرا بأن يأسى له مدى حياته؛ فإن طبيعة العمران قد ركبت على إيثار الزوجة على الأم، وعلى أن يهجر الزوج بيت والديه، لكي ينشئ بيتا جديدا وينعم بهناء الزوجية، الذي لا يعد له ولا يقاربه هناء العيش مع الوالدين.
صبيحة وابن أبي عامر
في منتصف القرن الرابع الهجري كان الخليفة في قرطبة بالأندلس رجلا من الأمويين يدعى الحكم، وكان من رعاة العلوم والآداب، مغرما بالموسيقى والغناء. حدث أنه كان في أحد الأيام بمكتبه، فسمع غناء أشجاه وأثر في نفسه، فسأل عن صاحب هذا الصوت، فعرف أنه لفتاة تدعى صبيحة. فطلب حضورها وتحظاها، وكانت على شيء من الأدب والتفنن في الحديث، فعلقها وشغف بها، وصار لا يقضي وقته إلا معها. ورزق منها غلام في سنة 352ه ففرح به فرحا شديدا، حتى عقد زواجه عليها. وصارت هذه الجارية أميرة الأندلس وأم ولي العهد.
وكان الحكم مسنا، بينما كانت صبيحة فتاة لا تزال في مقتبل العمر. وكانت تدري من شئون الدولة مثل زوجها، وتمتاز عليه بنشاطها، فكانت تتدخل في إدارة البلاد، ويسمع لرأيها الخليفة. وحدث أنها احتاجت إلى كاتب لكي تستعين به في إدارة ضياع القصر الخاصة، وفي سائر مراسلاتها وحساباتها مع موظفي القصر.
فابتغى لها زوجها كاتبا من أولئك الكتبة الذين كانوا يحوطون القصر، يكتبون العرائض للخليفة من المتظلمين من الرعية. ووقع الاختيار على فتى يدعى محمد بن أبي عامر ، كان له حانوت بجانب القصر ينشئ فيه قصص الشكاوى وعرائض التظلم للخليفة.
وكان هذا الفتى شابا وسيما ذكيا نشيطا، وقد تردد الخليفة أولا في قبوله عندما رأى شبابه. وأخيرا وكل مهمة الاختيار إلى زوجته فاختارته.
وابتدأ كاتبا عند الأميرة، ثم لم تمض عليه مدة حتى صار وكيلا لضياعها، وارتقى من ذلك أيضا حتى ضمت إلى إدارته ضياع ولي العهد. وكان ابن أبي عامر يطمع في أكثر من ذلك، فأخذ يستميل الأميرة إليه، ويرضي جميع من في القصر، حتى أحبه الجميع، وعينه الخليفة ناظرا لخزانة الدولة. ثم عينه أيضا مديرا مطلقا لإدارة سك النقود. وهكذا صار ابن أبي عامر أكبر رجل يشار إليه في الأندلس بعد الخليفة.
وكانت الأميرة في خلال ذلك تلحظه برعايتها، ولا تذكره عند الخليفة إلا بما يسر، حتى تفتح له قلبه وسبغ عليه نعمه.
وحقيقة الأمر أن هذا الرقي السريع الذي ناله ابن أبي عامر كان يرجع إلى حب الأميرة صبيحة له أكثر مما يعزى إلى نشاطه وبراعته.
فقد أحبته الأميرة صبيحة، وكان يؤكد هذه الصفات في نظرها شيخوخة زوجها، وكان هو يطمعها في نفسه، ويظهر لها الحب نفاقا ومكرا؛ طمعا في الصعود إلى أعلى المراتب التي كان يشتهيها؛ فكان إذا غاب عنها تواترت منه الهدايا، وكان مما أهداها نموذج لقصرها «الزهراء» مصنوع من فضة، وقد نقشت جدرانه أبدع نقش، وقد حملت هذه الهدية باحتفال كبير، اصطف فيه الجمهور على جوانب الشوارع، وهو يعجب برؤية هذه التحفة الغريبة.
وأخذ الناس يتساءلون من أين يأتي ابن أبي عامر بكل هذه الأموال، ينفقها في بذل الهدايا إلى الأميرة. ولما كان أمينا على خزانة الدولة، لم يكن بد من الشك في أنه يختلس الأموال منها، فسعوا عند الخليفة حتى جعلوه يطلب من ابن أبي عامر أن يقدم حساب خزانة الدولة، وأمر أن ينظر في مطابقة الحساب على ما فيها من الأموال.
فكاد يسقط في يد ابن أبي عامر، ويأفل نجمه في هذه الصدمة؛ لأنه ينفق عن سعة من هذه الخزانة ، ولم يكن مرتبه يكفي إنفاقه، ولكن التوفيق كان لا يزال ملازمه؛ إذ تذكر أحد أصدقائه المخلصين ابن خضير، فقصد إليه وناشده الصداقة أن ينجيه من هذه الورطة، فدفع إليه ابن خضير جميع ما ينقص خزانة الدولة، وعمل الحساب وطوبق على الموجود من الأموال، فظهرت للخليفة أمانته، وأعاده إلى مركزه.
وكان الخلفاء في مثل تلك الظروف يتوجسون من الشبان، ورأى الذين كانوا يحبون ابن أبي عامر أن الخليفة يوشك أن يجفوه ويقصيه، فأوعزوا إليه أن يبرح قرطبة إلى إشبيلية، ويسافر منها إلى مراكش حتى تصفو الحال بينه وبين الخليفة، ثم يعود.
فلما كانت سنة 358ه سافر إلى إشبيلية، ثم برحها إلى مراكش، حيث بقي عاما، هدأت فيه العاصفة التي أثارها عليه أعداؤه في قرطبة، فعاد في سنة 359ه، والخليفة عنه راض وبقدره عارف؛ فقد رأى وقت غيابه مبلغ الارتباك الذي نال شئون الدولة على أيدي من قاموا بعمله، وهم لم يحصلوا على دربته وتجاربه.
وبقي في مركزه إلى سنة 365ه. •••
مرض الخليفة وأشفى على الهلاك، وكان ابنه هشام يبلغ من العمر 11 عاما. وكان للخليفة أخ يدعى المغيرة، وكان عمره نحو 27 عاما، وكان هو أحق بالخلافة من هشام؛ لأن تقاليد الشرع تشترط الخلافة للأرشد من الأسرة، بخلاف الحال عند سائر الأمم، حيث يرتقي العرش الابن عن الأب، كائنا ما كان عمره.
وكان هذا الخاطر يجول برأس الحكم وهو في مرض الموت فيزعجه، فأفضى بسريرة نفسه إلى ابن أبي عامر، ولم يكن أسرع من أن يجمع ابن أبي عامر مجلسا من كبراء الدولة ووجوهها، حملهم فيه على أن يقروا بولاية العهد لابنه هشام دون المغيرة.
وكان ابن أي عامر يرمي إلى مطامعه الشخصية في ذلك؛ لأنه كان يعرف أنه بعد وفاة الخليفة، لا تجد الأميرة صبيحة من تعتمد عليه سواه في إدارة الدولة ما دام الخليفة لم يبلغ سن الرشد، فإذا صار وصيا، اتسعت أمامه الفرص لكي يصير هو نفسه خليفة.
ومات الخليفة في سنة 366ه، ولكي يخلو الجو لابن أبي عامر ذهب في الحال إلى قصر المغيرة بثلة من الجنود، واقتحم عليه القصر وخنقه.
وهنا بدأت أطماعه تظهر، وصارت الأميرة صبيحة يتمزق قلبها غيظا من هذا الرجل الذي رفعته من أحط المراتب إلى أعلاها، وأتمنته على مستقبل ابنها فانقلب عليها يبغي إنكار ابنها وإزالته هو وأمه من الوجود!
ومما كان يقرح في صدرها ويسهدها ويروعها، أن ابن أبي عامر لم يكن ماكرا ذكيا فحسب، بل كان أيضا شجاعا محبوبا عند جميع أفراد الأمة؛ فقد كان يقود المسلمين بنفسه في حروبهم مع الإفرنج، وينتصر بحسن تدبيره وإحكام مكايده عليهم، حتى صار يسمونه المنصور، ونسي الناس اسمه القديم، وصار لا يعرف إلا بهذا الاسم.
وأخذ المنصور في تدبير أمره لكي يصل إلى الخلافة، فأخذ يرسل الأوامر وينفذ الرسائل، موقعة بتوقيعه دون ذكر للخليفة أو الأميرة. وشعرت الأميرة صبيحة بأفاعيل هذا الولي القديم، الذي قلبته المطامع فصار عدوا، فأخذت تحاربه سرا. وكانت خزانة الدولة في القصر، وبها نحو ستة ملايين دينار، فأخذت نحو 80 ألف دينار، وضعتها في جرار ملوثة بالعسل كي تزيل عنها الشكوك والشبه، وأنفذتها إلى الموالين لها في الأمصار والبلاد، حتى يخرجوا على المنصور، ويردوا السلطة إلى الخليفة.
وعلم المنصور بذلك فأخذ عددا كبيرا من أعيان الدولة، وذهبوا جميعا خفية إلى الخليفة القاصر، وجعلوه يقر ويوقع على أنه عاجز عن حكم الدولة، وأنه ليس له سيطرة أو سلطان، وأنه يرضى بنقل الخزانة إلى خارج القصر. وخرج المنصور وقد حصل على هذه الوثيقة، فحقق بذلك أطماعه القديمة، وصار حاكم البلاد الحقيقي، وذلك في سنة 387ه وذاع خبر هذه الوثيقة، ففرح الناس لأنهم كانوا يحبون المنصور. وكان أكثر ما يحببه إليهم شجاعته وفروسيته؛ فقد حارب الإفرنج 52 مرة، فاز عليهم فيها جميعا، وعاد منهم بالغنائم. ويحكى أنه سمع عن أمير إفرنجي حبس امرأة مسلمة، فحاربه وهزمه، حتى أجبره على أن يركع أمامه مستغفرا عن حبسه هذه المرأة، التي أخرجت من سجنها، وعوضت عما نالها فيه من الأذى.
وفي سنة 392ه خرج لكي يقمع فتنة بالقرب من مدينة سليم في ولاية قشتالة، فاستبسل العصاة وصمدوا له حتى أشكل عليه الأمر، ورأى من جيشه تثاقلا، فلم يكن منه إلا أن شهر سيفه، وتقدم بنفسه إلى صفوف العدو، والتحم بها، فابتعثت نجدته الحماسة في قلوب جنوده، فهبوا إلى الهجوم وانتصروا، ولكنه جرح جراحات بليغة مات بعدها بأيام.
فبكى عليه الأندلسيون، وعاشت صبيحة بعده ست سنوات؛ إذ ماتت سنة 398ه، ورأت ابنها خليفة مؤمرا بعد أن كان صورة لا قيمة له.
ابن زيدون وولادة
عاشت دول الإسلام في الأندلس (إسبانيا) من سنة 711ه إلى سنة 1492ه. وكان الأندلسيون عربا مسلمين من حيث اللغة والدين، ولكنهم كانوا آريين من حيث الدم والعنصر، ليس فيهم إلا القليل من الدم العربي.
وقد زكت الفنون والعلوم فيها حتى كان الأوروبيون ينحون إليها للتعلم في مدارسها، وظهر فيها عدد كبير من الفقهاء واللغويين والمؤرخين والشعراء والفلاسفة.
ويبدو من استقرار تاريخ الأندلسيين أن النساء لم يكن يخضعن للحجاب تمام الخضوع، كما كن يفعلن في الشرق، ولعل ذلك من أثر الجو البارد عليهن؛ لأن الحجاب وليد الجو الحار؛ فقد ذكر المؤرخون أن النساء كن يقعدن في ميادين قرطبة وغيرها، ويحترفن نسخ الكتب!
وكانت الأندلس دولة واحدة في عصر خلفائها الأمويين، ثم تمزقت الدولة فصارت دويلات صغيرة، على كل منها ملك أو أمير، لا يفتأ في شجار ونزاع مع جيرانه. وقد تتجزأ الدويلة عند موته إمارات صغيرة، يستبد على كل منها أمير، ينعت نفسه بنعوت الملك والإمارة، حتى قال أحد شعراء الأندلس يصف هذه الدويلات:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها ومعتمد
أسماء مملكة في غير موضعها
كالقط يحكي انتفاخا صولة الأسد
ففي هذا الزمن نشأ رجل يدعى أبا الوليد أحمد ... بن زيدون، ولد بقرطبة سنة 394ه وترقى بإشبيلية سنة 463ه. وقد اشتهر بحبه لامرأة تدعى ولادة، من نسل الخلفاء الأمويين. وكان كلاهما أديبا، فكانا يتراسلان، ويؤلفان قصائد الغزل، ويجتمعان سرا وعلانية.
قال ابن نباتة عن ابن زيدون: «كان من أبناء الفقهاء المتعينين، واشتغل بالأدب ، وفحص عن نكته، ونقب عن دقائقه، إلى أن برع، وبلغ من صناعتي النظم والنثر المبلغ الطائل. وانقطع إلى أبي الوليد بن جهور أحد ملوك الطوائف المتغلبين بالأندلس، فخف عليه وتمكن من دولته، واشتهر ذكره وقدره، واعتمد عليه في السفارة بينه وبين ملوك الأندلس، فأعجب به القوم وتمنوا ميله إليهم، لبراعته وحسن سيرته. واتفق أن ابن جهور نقم منه أمرا فحبسه، واستعطفه ابن زيدون برسائل عجيبة وقصائد بديعة، فلم تنجح، فهرب واتصل بعباد بن محمد صاحب إشبيلية الملقب بالمعتضد، فتلقاه بالقبول والإكرام، وولاه وزارته، وفوض إليه أمر مملكته. وكان حسن التسيير، تام الفضل محببا إلى الناس، فصيح المنطق جدا.»
وقال عن ولادة: «كانت بقرطبة امرأة ظريفة من بنات خلفاء العرب الأمويين المنسوبين إلى عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالداخل من بني عبد الملك بن مروان، تسمى ولادة ... ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله، وتغلب ملوك الطوائف، ثم صارت تجلس للشعراء والكتاب، وتعاشرهم وتحاضرهم، ويتعشقها الكبراء منهم. وكانت ذات خلق جميل، وأدب غض، ونوادر عجيبة، ونظم جيد.»
واتصل الحب بين ابن زيدون وولادة، وكان كل منهما ينظم القصائد ويتغزل بصاحبه، فمن ذلك ما قالته ولادة فيه:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي
فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان للبدر لم ينر
وبالليل لم يظلم وبالنجم لم يسر
وكانت كثيرة العبث والدعابة، تضمن أشعارها اللطائف الحلوة. ومن أقوالها عن نفسها، وفيه جرأة عجيبة:
أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأمكن عاشقي من لثم ثغري
وأعطي قبلتي من يشتهيها
ولا تعرف ماهية الحب الذي كان بينها وبين من قيل إنهم أحبوها، هل كان عشقا صحيحا أم كان حبا أفلاطونيا بريئا؟ ومن يقرأ سيرتها يرجح أنها لم تعشق أحدا. وقد يكون بعض محبيها قد عشقها وكلف بها، ولكن لا ندري هل نال وطره منها أم لا.
فقد قال ابن نباتة: «وكان ابن زيدون كثير الشغف بها والميل إليها. أكثر غزل شعره فيها وفي اسمها. ثم إن الوزير أبا عامر بن عبدوس أيضا هام بها، وكلف بعشرتها، وكان قصدهم الظرف والأدب.»
ومما يؤكد هذا الظن قول ابن زيدون:
وغرك من عهد ولادة
سراب تراءى وبرق ومض
هي الماء يأبى على قابض
ويمنع زبدته من مخض
ولما هجرت ولادة ابن زيدون، وواصلت ابن عبدوس ولزمته، قال ابن زيدون يتشفى وينتقم منها:
عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا
فيمن نحب وما في ذاك من عار
أكل شهي أصبنا من أطايبه
بعضا وبعضا صفحنا عنه للفار
و«الفار» هو لقب ابن عبدوس.
ومما يحكى عن ولادة أنها مرت يوما بدار ابن عبدوس وهو جالس بالباب وحوله جماعته من أصحابه، وأمامه بكرة تتولد من مراحيض وأقذار، فوقفت عليه وقالت:
أنت الخصيب وهذه مصر
فتدفقا فكلاكما بحر
فلم يحر جوابا، فمضت وحفظت هذه النادرة واشتغل بها الناس. وهذا البيت لأبي نواس، قاله عندما جاء مصر يمدح واليها فتمثلت به ونقلته هذا النقل الحسن من المدح إلى الهجاء.
ودامت على ولاء ابن زيدون أكثر مدة إقامته بقرطبة، فلما فر إلى إشبيلية تودد إليها ابن عبدوس، فاتصل بينهما وداد ربما قد بلغ درجة الحب. وكان ابن عبدوس قبل فرار ابن زيدون يسعى في استمالتها إليه، فلم يكن يقدر على ذلك. وبلغ خبر سعيه هذا مسامع ابن زيدون، فألف رسالة إليه على لسان ولادة، قرعه فيها وتهكم به، حتى صار يحفظها الناس لبلاغتها وقوة لذعها. وهي مشهورة تعرف باسم: «رسالة ابن زيدون» وهي مطبوعة في كتاب على حدة، مشروحة بقلم ابن نباتة المصري.
ولابن زيدون قصيدة عصماء شهيرة نظمها في ولادة، يتشوق إليها بعد فراره إلى إشبيلية، ويذكر لها ما يعانيه من فراقها ويأسه من لقائها، ويستديم عهدها، وقال فيها:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تآسينا
حالت لبينكم أيامنا فغدت
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا
ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الأنس دانية
قطوفا فجنينا منه ما شينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
أبيلار وهيلوئيز
لم يكتب في فرنسا عن عاشقين أكثر مما كتب عن أبيلار وهيلوئيز؛ فقد ذكرت قصتهما بجملة صيغ مختصرة ومسهبة، حالية بصنوف الحواشي وعارية منها. ولا يقرأ قصتهما محب عاشق إلا ويتعزى بسيرتهما، وما قاساه كل منهما من الآلام في سبيل الآخر. ولا يزال قبر أبيلار يزار في باريس في كل عام، ينثر عليه المحبون أكاليل الزهور، ويترحمون عليه، ويذكرون بلاء حبيبته وإخلاصها، وفداحة الآلام والتعس والاضطهاد التي كابدها حبيبها.
ومن العبر التي يمكن القارئ أن يستخرجها من قصة هذين الحبيبين، أن الحب مهما ارتفع ورق، لا تزال جذوره سارية في حضيض، فإذا اقتلعت الجذور فسرعان ما تندك فوقها دوحة الحب، وقد جف ورقها وماتت أغصانها.
ولد أبيلار في غرب فرنسا في سنة 1079، وكان أبوه من الأشراف، ولكنه نزل عن حقوقه في ميراث الشرف لإخوته، وعزم على أن يقضي أيامه في خدمة العلم. وشخص إلى باريس، حيث قضى مدة قصيرة في طلب العلم، صار بعدها أستاذا يجذب إليه بفصاحته وحسن بيانه جمهور الطلبة الباريسيين.
وكان ذلك العصر أظلم عصور القرون المتوسطة، فكان التعليم في يد الكهنة جامدا لا يلين أمام الفكر، يعتمد على النقل. ويدور ويحور حول الدين. ولم يكن في الدين في ذلك الوقت فسحة للحرية الفكرية. وكان النظام الإفداني (الإقطاعي) منتشرا، ليس للأقطار سلطة مركزية ينفذ كلامها وترعى أوامرها، بل كان الأشراف يحكمون، كل منهم في إقليمه، يبني حصنه، وتنشأ المدينة أو القرية حوله، يحتمون به عندما تهيج الحرب ويغزو الشريف شريف آخر مجاور له. ولم تكن المسيحية أو القوانين المدنية قد هذبت بعد من أخلاق السكان؛ فقد كان لا يزال الدم الألماني يغلي فيهم، يطلب الغزو والنهب، فكانت الثارات لا تنقطع والهمجية فاشية، وكانت باريس إذا جنها الليل عاشت في شوارعها الذئاب. والخلاصة أن أوروبا كانت في حال الفوضى الأدبية والاجتماعية والسياسية.
وكان أبيلار يدعو في تعاليمه إلى إخضاع التقاليد للعقل، فهاج عليه لذلك زعماء القديم واضطهدوه، حتى اضطر إلى الهجرة من باريس، وأخذ يضرب في آفاق فرنسا ويعلم كلما وجد أرضا خصبة لبذوره.
وكان أبيلار عند عودته إلى باريس في الخامسة والثلاثين من عمره، شريف الطلعة، نشيط الجسم والذهن. وكان يؤلف الشعر ويلحنه على الأنغام الموسيقية. وفي هذا الوقت عرف فتاة في الثامنة عشرة تدعى هيلوئيز. وكانت قد حملت بها أمها سفاحا من أحد الأشراف، وقد عنيت بتربيتها وتخريجها على أيدي مهرة المعلمين، فكانت تعرف عدة لغات، وتعشق الشعر والموسيقى مثل أبيلار، وكان يراها من وقت لآخر، ويختلس النظرات منها في رواحها إلى بيت عمها وغدوها منه، حتى علقها، وهام بها، وصار حب العلم الذي كان قد تملكه إلى هذا الوقت شيئا باردا ميتا بجانب حرقة هذا الحب الجديد.
واحتال على عمها لكي يصل إليها، حتى عينه معلما لها، يوليها بالدروس ويشرف على تعليمها، فصار يزورها كل يوم، ويتدرج معها من الدروس الجافة من العبرانية والإغريقية، إلى السير والتاريخ، يحكي لها تجاربه الماضية، وما قيل من الأشعار، وما جد في الموسيقى. ويخرج من ذلك إلى ما يمس إحساسها من عواطفه، حتى بلغ قلبها، فرأى فيه مثل ما عنده، فكانا يقعدان إلى المائدة، وأمام كل منهما كتاب مفتوح يتعللان به، وكلاهما مشغول بصاحبه، حتى إذا تلاقى النظران شاع الخجل في كل منهما، فيعودان إلى الكتاب، وقد راعهما الارتباك والحياء. ثم تمس اليد اليد وكأن ذلك قد حدث سهوا، فتحصل الرجفة، تؤذن ببزوغ الحب، أو تخرج الزفرات من صدريهما على غير وعي منهما، فيعرف منها أبيلار كيف سرى في جسمها تيار الحب.
ولم يمض عليهما طويل زمن حتى تصارحا بالحب، وأسلمت هيلوئيز نفسها إليه، وكثرت ملازمة أبيلار لها حتى لحظ الناس ذلك، وأخذوا يتقولون. وحدث أن ألف أبيلار مقطوعة غرامية عنها، فوقعت في أيدي أعدائها، الذين بادروا إلى عمها بها، فهاج هائج عمها، الذي لم يكن قد دخله أي شك قبلا فيهما، وأمر بطرده من البيت، ومنع هيلوئيز من لقائه.
ولكن طرق المحبين كثيرة؛ فقد أخذت هيلوئيز تخرج سرا إلى بيت تقطنه أخت أبيلار، فيلتقيان هناك. ولم تمض مدة حتى وضعت هيلوئيز ولدا ذكرا سمته - أو بالأحرى سماه أبوه - أسطرلاب، وهذه اللفظة اسم آلة كان يستعملها قدماء الفلكيين.
وعرف عمها خبر هذا الولد، فأراد أن ينتقم من هذا الرجل الذي ائتمنه على بنت أخيه فخانها في عرضها، وفضح البيت فضيحة أبدية. وأخيرا وجد أن أسلم الأعمال عاقبة أن يقترنا، فطلب إليهما ذلك. وكان أبيلار يرغب في أن يعيش عزبا لأنه كان ينوي أن يسلك في سلك الكهانة، فرضي بالزواج، ولكنه اشترط أن يكون سرا لا يذاع، ولكن هيلوئيز أبت أن تكون زوجته؛ خشية أن يذاع خبر هذا الزواج، فلا يرتقي أبيلار في الكنيسة. وجعلت تعارض عمها وحبيبها. ومما يؤثر عنها قولها: «إني أفضل أن أكون خليلتك عن أن أكون زوجة إمبراطور.»
ولكنها بعد أن بذلت كرامتها وعرضها فداء حبيبها، رضيت بعد الإلحاح أن تتزوج منه. وتم الزواج سرا، وعاد أبيلار إلى محاضراته العلمية، وعاد الناس إلى التقول والتخرص، فكانوا كلما التقوا بعمها عيروه وثلبوه، فساء هذا عمها، حتى باح بالسر، وأعلن أنهما متزوجان، فذهبوا يسألون هيلوئيز، فقالت: «لست زوجته، وما اقترن بي قط، وإنما يقول عمي ذلك ضنا بسمعته.»
فتحدوها إلى اليمين، وأحضروا لها الإنجيل، فلم تتأخر عن القسم بأنه ليس بينها وبين أبيلار زواج ما. وبلغ ذلك عمها، فأخذ يحرق الأرم غيظا وحنقا، وعاد فمنع الحبيبين من اللقاء، ففرت إلى دير قريب، فكان أبيلار يلقاها هناك، وكل منهما يبث الآخر سريرة نفسه.
وهنا ينبغي أن نتريث قليلا للمفاضلة بين الاثنين، فليس شك في أن هيلوئيز بذلت من نفسها أكثر مما بذل أبيلار؛ فقد سلمت نفسها إليه قبل الزواج، ثم رفضت أن تتزوج به عندما وجدت أن زواجه يؤخر ارتقاءه في المناصب العليا، ثم أنكرت زواجها ورضيت أن يقال عنها إنها خليلة.
كل ذلك فعلته هذه الفتاة النبيلة، مضحية بعرضها وكرامتها وسمعتها لأجل حبيبها. وأما هو فقد أصر أن يكون الزواج سرا مكتوما؛ حتى لا يمنعه هذا عن الارتقاء إلى المناصب العليا، فلم يكن الحب في نظره يساوي الرفعة والشهرة بالتفوق على الأقران.
وعرف العم أن أبيلار يلقاها في الدير، وأنه مصر على إخفاء أمر الزواج، فأراد أن ينتقم انتقاما سافلا تجبن دونه الأبالسة، فاكترى جملة رجال طغاة، ذهبوا إلى غرفته وهو نائم في جوف الليل، ورشوا خادمه ففتح لهم، وكانوا أربعة، قبض ثلاثة منهم على أبيلار وأوثقوه، وأخرج الرابع موسى جبهه بها، ثم تركوه غارقا في دمه، وهو يملأ الفضاء بصراخه وبكائه.
وشاع خبر هذه الجناية السافلة في باريس، فما جاء الصباح حتى هرع الناس إلى البيت. وكانت النساء يبكين كأنهن فقدن أزواجهن، ولكن أبيلار، وإن فقد ذكورته، فإنه لم يفقد رجولته، فما كاد أن يلتئم جرحه حتى استأجر هو الآخر بعضا من السفلة، تعقبوا الخادم وأحد الجانين فجبوهما، وقدمت القضية لمحكمة كنسية فعاقبت عم الفتاة بأن استصفت جميع أملاكه.
أما هيلوئيز فقد كانت نكبتها تجل عن الوصف؛ فإن حبيبها لما فقد ذكورته فقد أيضا حبه أو بالأحرى شهوته، فلما التقت به حبيبته طلب إليها أن تترك الدنيا وتدخل إلى أحد الأديار، وصرح لها بأنه لا يثق بأمانتها، فكان هذا التصريح أقصى ما صدمت به الفتاة في حياتها، وقد قالت بعد ذلك في خطاب إليه: «يعلم الله أني ما كنت أتردد أن أسبقك أو ألحقك إلى الدير.» ودخل هو ديرا آخر، وصار راهبا وأكب أبيلار من ذلك الوقت على خدمة العلم، دون أن يشغله شاغل الحب السابق، فجعل يكتب ويعلم، وفي كل ذلك يفضل سلطان العقل على سلطان الدين، ولكن الزمن لم يكن يؤاتيه على هذه الجرأة، وانعقد مجلس لمحاكمته، انتهى بأن أمر بإحراق كتبه، وهب الرهبان الذين كانوا معه في الدير، وكان هو رئيسهم، إلى الثورة، حتى طردوه.
وخرج أبيلار من الدير وهو كسير الخاطر مقهور النفس، فبنى لنفسه خصا من القصب والطين في سهل منفرد، ولكن تلاميذه سمعوا به، وسرعان ما رحلوا إليه، وبنوا حوله خصاصا ، وصاروا يتحلقون حوله كل يوم، يتلقون منه دروسه وآراءه في العلم والدين ، وبنى بعد ذلك بناء من الخشب والحجر سماه «الفارقليط» لا تزال رسومه وبعض أطلاله باقية للآن.
وبعد مدة أصدر أبيلار كتابا دعاه: «تاريخ ما نزل بي من المصائب».
فلما اطلعت عليه هيلوئيز أرسلت إليه خطابات متواترة تبثه حبها وولاءها، كأنها في أول سني حبها، وهذه الخطابات من أجمل وأروع ما كتبها عاشق؛ فقد أرسلت إليه تسأله أن يدلها على الطريق إلى الله، كما دلها قبلا على طريق اللذة والحب، فأجابها إجابة القسيس للراهبة، ويكفي أن نذكر السطر الأول من خطابه لندل إليه:
من أبيلار الأخ في المسيح إلى هيلوئيز الأخت في المسيح.
وقد وجددت هيلوئيز من جفاء عبارته ما أثار في نفسها الغضب، وأشعرها أن حبيبها القديم قد نسيها، فكتبت إليه تقول:
حبيبي
كيف استطعت أن تعبر عن هذه الأفكار، وكيف اهتديت إلى ألفاظ تؤديها؟ ليتني أجرؤ على أن أقول إن الله يقسو علي! إلا أني أشهد أني أتعس مخلوق. لقد كانت أيام حبنا لذيذة حلوة، حتى لا أقدر الآن أن أرد ذكراها عني، فأينما ذهبت تتخيل لي هذه الذكرى وتشعل في الرغبة القديمة.
ولكن أبيلار كان يحس في نفسه موت العاطفة الجنسية، فكان يكتب إليها بلهجة التباعد المتعفف المتزهد، فيأخذ في شرح الرهبانية واللاهوت والآداب وما إليها من الأشياء، التي لا تلبي نداء العاطفة التي كانت تختلج في صدر هيلوئيز، فكانت تحتج وتثور على هذا الجفاء بلا جدوى. وأخيرا أدركت ما ألم بصاحبها، فهدأت ثائرتها، واطمأنت إلى حالها ونكبتها.
وحكم على أبيلار بعقوبة كنسية لأقوال أخذت عليه، فسافر إلى رومية لكي يقضي حدها، فمات في الطريق، وحملت جثته إلى «الفارقليط». وعاشت هيلوئيز بعده 22 سنة، ترعى قبره وتحفظ عهده، ثم ماتت، فدفنت إلى جانبه، واختلطت عظامها بعظامه كما كانت تهوى، ونقلت رفاتهما إلى باريس حيث هما الآن.
شارل الثاني ملك إنجلترا
كانت أمه فرنسية، ونشأ هو يجيد اللغة الفرنسية، فلم تشق عليه المعيشة في ذلك الوطن الثاني. وكان لويس الرابع عشر متبوئا في ذلك الوقت عرش فرنسا، وكان يعرف أن الأمة الإنجليزية متى ذهبت عنها ذكرى هذه الخصومة بينها وبين ملكها لا بد عائدة إلى الملوكية، وستطلب ملكها الشرعي وتبوئه عرش آبائه، فرتب لذلك معاشا سنويا لهذا المليك الطريد، وأسكنه في قصره، وحاطه بحاشية، بحيث لم يكن شارل يشعر بأنه منفي غريب عن بلاده.
واجتهد شارل في أن ينجو أبوه في إنجلترا من القتل، وصار يكاتب أعضاء البرلمان في ذلك، بل بلغ من شدة رغبته في تخليص أبيه أن أرسل إليهم ورقة بيضاء موقعة باسمه، طلب إليهم فيها أن يضعوا جميع شروطهم وينزلوا عن قتل الملك.
فلما أخفق في ذلك هيأ أسطولا به 18 بارجة، وصار يغزو به الشواطئ الإنجليزية، ثم ذهب إلى اسكوتلاندا، وتتوج فيها ملكا في سنة 1651، وانحدر إلى إنجلترا، ولكن كرومويل كان في أوج قوته، فتلقاه وصمد له وهزمه، ففر ناجيا بنفسه إلى فرنسا، وعرف شارل من ذلك الوقت أنه يجب عليه أن ينتظر حتى يموت كرومويل، ويعود عندئذ إلى عرشه.
وكانت ملكة البرتغال امرأة حصيفة، بصيرة بالسياسة الأوروبية، وكانت بلادها في ذلك الوقت في الصف الأول بين الدول الكبرى، وكانت تعرف، مثل لويس الرابع عشر، أن شارل سيعود إلى عرشه، وتصير لكلمته تلك المكانة العظيمة في المفاوضات السياسية، وكانت البرتغال تسعى في الاهتداء إلى حليف يعينها على جارتها إسبانيا، فعزمت على أن تزوج ابنتها لشارل، وتغريه في الوقت نفسه بمليون جنيه.
وكانت ابنتها قليلة الجسم سوداء الشعر، وقد تربت تربية الأديار، فكانت فتاة ساذجة متدينة، لا تعرف سوى العبادة وأعمال البيت، ولكن شارل كان يقدر المليون جنيه حق قدرها في ذلك الوقت، فلم يرفض هذا الزواج.
وكان الإنجليز قد ضجروا من حكم كرومويل، الذي أبطرته القوة فطغا، وارتكب هو نفسه الجناية التي قتل من أجلها شارل الأول؛ إذ طرد أعضاء البرلمان واستبد بالحكم، فلما مات تنفس الناس الصعداء، وطلبوا شارل، فدخل إلى لندن بين الموسيقى والطبول، تخفق فوقه الرايات. وكان فرح الناس عظيما، حتى يقال إنه مات كثيرون لشدة ما أثر فيهم الطرب بعد أن ثابت الملوكية إلى عرشها.
وانعقد البرلمان، وقرر اعتماد مبلغ سبعين ألف جنيه لإقامة تمثال للملك المقتول شارل الأول، ولكن شارل الثاني لم يكن حريصا على ذكرى والده، فأخذ المبلغ وأنفقه في ملذاته الشخصية.
وكان شارل شهواني المزاج، لا يفتأ يبحث عن امرأة جديدة مكان أخرى مملولة، وكان له جملة عشيقات قد تقسمن حبه. وعرف فيه لويس الرابع عشر ملك فرنسا هذه الخصلة، فأرسل إليه امرأة جميلة تتعشقه وتكون في الوقت نفسه عينا عليه، وكانت تدعى لويز دو كيرواي، وقد رزقت منه بولد صار فيما بعد دوق لوتوكس.
وكانت زوجته كاترين، تلك الفتاة البرتغالية الساذجة، ترى هؤلاء النساء حوله، وتسمع ما كان يقال من أنهن قد رزقن منه أولادا، فتتحرق غيظا، وتعاتب زوجها، فيردها خائبة، ويقول لها إن الملكة يجب أن تسكت على أشياء، قد لا تسكت عليها الزوجة العادية. وكانت كاترين في تواضع وتدين وسذاجة، بحيث كانت تجتذب إليها قلب الملك أحيانا، حتى لقد دافع عنها ووقف إلى جانبها عندما أخذ الرعاع من الإنجليز البروتستانت يتصايحون عن طرد هذه الفتاة الكاثوليكية.
وإلى هنا كان حب شارل الثاني من النوع الشهواني، لم يثبت على ولاء واحدة من النساء اللاتي عرفهن. وليس شك في أنه كان يحب زوجته، ولكن حبه لها كان عطفا وحنانا، أشبه بما عند الوالد لولده، منه بما عند المحب لحبيبته.
وفي إحدى الليالي خرج متنكرا وذهب إلى أحد التياترات، فرأى فتاة جميلة، فأخذ في التحدث إليها، وبينما هما في ذلك إذا بصاحب الفتاة وهو رجل غني قد أقبل، فخرج الجميع إلى مطعم قريب، وتناولوا بعض الطعام، وشربوا بعض القداح من الجعة، وأراد الملك أن يدفع ثمن الطعام والشراب، فلم يجد في جيبه شيئا، وأخذت الفتاة تضحك من إفلاسه وإملاقه وتطفله على الناس لكي يسكروه ويطعموه.
وكانت هذه الفتاة تدعى نل جوين، عاشت طوال حياتها وهي لا تعرف لها أبا أو أما، نشأت على الدعارة، تكري نفسها لمن شاء ، لم تعرف قط معنى الطهارة؛ فقد كان يعيش في أيامها عصابات من الأشرار يختطفون الفتيات ويؤجرونهن، وكانت هي إحدى هؤلاء البائسات، فكانت تنتقل من صاحب يملها إلى آخر يستظرفها، ثم يملها، وهكذا.
فلما كان اليوم الثاني من لقائها بالملك استدعيت إلى القصر، وباح لها شارل بحبه، فعاشت من ذلك الوقت في كنفه، وأخلصت له الحب إخلاصا لم يجد ما يماثله فيمن عرفهن؛ فقد كان هم كل امرأة عرفها أن تثري، وتثقل نفسها بالجواهر، وتقتني القصور، عدا هذه الفتاة، فإنها على الرغم من أنها عاشت طول حياتها بين الفجرة من اللصوص والغواة، كانت لا تزال نفسها سليمة ساذجة، فلم تتطلع إلى اقتناء الأموال من الملك، بل كانت لا تهتم إلا بمصلحته.
ويحكى أن شارل جلس يوما، وأخذ يتضجر من أن الناس غير راضين عن حكمه، فقالت له نل جوين على الفور: «اطرد نساءك، وانظر في الواجبات التي تجب على الملك وهم يحبونك.»
ومما يؤثر عنها أنها كانت السبب في إنشاء مستشفى كلزي؛ فقد رأت أن الجنود الذين قتلوا في سبيل شارل الثاني وأبيه المقتول شارل الأول، قد أسنوا وعجزوا عن كسب معاشهم، فأسست لهم هذا المستشفى يأوون إليه.
وربما كان أكبر شاهد على فضل هذه المرأة التي فقدت طهارتها الجسمية ولكنها لم تفقد طهارتها الروحية، أنها عند وفاة شارل لم تكن تملك شيئا، حتى يقال إن الملك وهو يحتضر، والناس حوله وقوف، أخذ يعتذر إليهم لأنه أتعبهم لطول ما يقضي من الوقت في الاحتضار، ثم صاح وهو في السكرات الأخيرة: «أرجو ألا تدعوا نل المسكينة تموت جوعا.»
ماري ملكة اسكوتلاندا
بين كليوبطرة وماري شبه عظيم من جملة وجوه؛ كلتاهما كانت ملكة، وكانت الفتنة في جمال كل منهما ناشئة عن الشخصية لا عن قسامة الوجه ووسامة الأعضاء، فكان أول ما يراهما إنسان لا يجد فيهما شيئا من الجمال، فإذا ما أخذتا في الحديث رأى من الخفة والرشاقة ما يجذبه إليهما، ويجعله يعترف بفتنتهما، وتتشابهان أيضا من حيث أن كلا منهما لقيت حتفها عن سبيل الحب، وقد كانت حياتهما موضوع الشعراء والقصصيين والدراميين.
كانت ماري ابنة ملك اسكوتلاندا جيمس الخامس، وكانت أمها من نبيلات اللورين الواقعة بين فرنسا وألمانيا، امرأة ضخمة طوالا، يزيد ارتفاعها عن ست أقدام. وكان ملك إنجلترا يحاول أن ينال يدها، ويبعث إليها بالسفراء لكي تقبل الزواج به، وكان يقول: «أنا رجل ضخم، أحب أن أتزوج امرأة ضخمة مثلي.»
ولكن ملك اسكوتلاندا كان أذكى منه وأركن فطرة؛ فقد عرف أن العامل الشخصي في الزواج هو أهم العوامل؛ ولذلك عمد إلى اجتذابها بنفسه، ورحل إليها، وأخذ في تعشقها حتى رضيته زوجا وتزوجته وجاءت ابنتهما ماري مديدة القامة بيضاء، تكاد تكون شاحبة، حتى كان يقال عندما شبت وتزوجت، إنها كانت عندما تشرب النبيذ يتراءى للناظر بلونه الأشهب خلال عنقها الصافي البشرة. ومات أبوها في السنة الأولى من عمرها، فصارت بذلك ملكة اسكوتلاندا. وكانت فرنسا في ذلك الوقت بلاد الحضارة، يرسل أشراف ألمانيا وإنجلترا أبناءهم إليها للتعلم فيها، والتأديب بآداب باريس، والحذق في معرفة عوائد الأشراف والطبقات الراقية، فما كادت ماري تشب حتى أرسلت إلى ملك فرنسا. وكان حاكم فرنسا الحقيقي زوجته الإيطالية كاترين دومديشي، وكان البلاط الفرنسي في ذلك الوقت شبكة عاتية من الدسائس السياسية ومسارقات الغرام، والتأنق في إشباع الشهوات الجنسية. ونشأت ماري في هذا الوسط، فاصطبغت أخلاقها به، وعرفت منه شجرة الخير والشر.
وكانت ذكية الطبع، فلم يمض عليها وقت طويل حتى حذقت الفرنسية والإيطالية واللاتينية، وتدربت على الفروسية، وتعلمت الرسم والنظم، ثم حدث لها ما عجل في إذكاء قريحتها؛ فقد صارت زوجة لولي عهد فرنسا ولما تبلغ السابعة عشرة، ولم يكن زواجها به عن حب، وإنما روعيت فيه المصلحة؛ فقد كانت هي ملكة اسكوتلاندا، وكان هو ملك فرنسا. وكانت إليصابات ملكة إنجلترا عانسا لم تتزوج، فكان عرش إنجلترا لا بد مقضيا عليه بأن يئول إلى السلالة الحاكمة في اسكوتلاندا للصلة القديمة بين ملوك إنجلترا واسكوتلاندا، فكانت النية من هذا الزواج أن تجمع الأقطار الثلاثة في مملكة واحدة يحكمها هذان الزوجان.
كانت ماري عند زواجها في السادسة عشرة، وكان زوجها في الخامسة عشرة، ولم يكن بينهما حب، بل كانت تحتقر زوجها، ولا تبالي أن تظهر ذلك؛ فقد كان عليلا يقضي ليله في التأوه، وكان في أذنه خراج، يقض مضاجعه، ولم يكمل عامه الأول حتى مات، ولم تكن علاقتها مدة حياة زوجها بحماتها حسنة؛ فقد كانت كلتاهما تبغي الاستئثار بالحكم في فرنسا، وكانت ماري تعيرها بأنها «ابنة صيدلي».
فلما مات زوجها زالت سلطتها عن فرنسا، وعزمت على أن ترحل إلى اسكوتلاندا، حيث عرشها الشرعي الذي ورثته عن أبيها. وكان يستغرق لبها الآن عاطفتان قويتان؛ إحداهما: الطموح إلى القوة والسيادة، بحكم هذا الدم الذي ورثته عن سلالة ممتدة من الملوك. والأخرى: عاطفة الحب التي هاجها الوسط، وأثارها الزواج، دون أن تجد فيه ما يرضيها. وحكي أنه عندما بلغت الثامنة عشرة اهتاجت عواطفها اهتياجا عظيما، فكانت تخفف شدتها بتقبيل الأطفال ومعانقة الفتيات، وتأذن للشعراء في إنشادها ووصف محاسنها وتقبيل يديها.
وكانت كاثوليكية المذهب، في حين أن رعاياها الاسكوتلانديين كانوا من غلاة البروتستانتية، فلما نزلت أرض بلادها استقبلها الناس بفتور، وبخاصة لأنها كانت محوطة بحاشية من الأجانب الذين كانوا يخدمونها وهي في فرنسا، وكان رعاياها يخشون منها، ويتوجسون خيفة أن تغير المذهب الرسمي الذي اختارته البلاد.
وكانت عقب وفاة زوجها قد عرفت أحد نبلاء بلادها اللورد بوثول، وكان أكبر منها قليلا في السن، زارها وهي في فرنسا، فشعرت لأول رؤيته بتلك الهزة التي تختلج الجسم، وتنبئ بانبثاق الحب الصحيح بين طبيعتين مؤتلفتين. وقد وصف الأديب المعروف موريس هيولت هذا اللورد بقوله:
كان رجلا مفراحا يتوهج بالدم، عريض الكتفين مربع الفكين، وكانت ضحكته عاجلة عالية، يحسب من يسمعها أنه لن يكون غم حيث تكون هذه الضحكة، وكان يتفنن في اللباس والركب ومصاحبة الإخوان، له على الدوام سيماء الشجعان، وكان لون وجهه يدل على حبه الطعام، ولكنه كان يدل أيضا على موفور العافية والقوة، وكانت أرنبة أنفه قد هشمت، ولكن قل من كان يلحظ ذلك، أو يفكر في العربدة التي أدت إلى هذا الهشم، وكانت صراحته وعدم اكتراثه لشيء، من أكبر أسباب فتنته.
وكان إلى شجاعته وفتوته وحبه للنساء، وتسرعه إلى تجريد سيفه عند الغضب، يعشق الآداب، يقرأ الإيطالية والفرنسية، ويكتب اللاتينية، ويقتني الكتب، فكان شخصه لذلك جماع ما تطلبه ملكة متوثبة العواطف من عشيقها؛ ولذلك أقبلت عليه ماري ومحضته حبها فلازمها، وصار أحد بطانتها.
وكانت كراهية الاسكوتلانديين حافزا على أن تسير سيرة العدل معهم، فلم تمض سنوات حتى عرف لها رعاياها عدلها فأحبوها. وكان جون نوكس نفسه - وهو من غلاة الشيعة البروتستانتية - يضطر إلى الإشارة إليها باللطف والأدب.
وأرادت ماري أن تبالغ في اجتذاب عطف رعيتها عليها، فتزوجت من ابن عمها البروتستانتي اللورد دارنلي، واعتزمت من ذلك الوقت أن تصرم حبل صلتها السابقة باللورد بوثول، حتى طلبت إليه أن يتزوج، وأطاع اللورد بوثول نصيحتها، وتزوج بالفعل.
ولكن ماري كانت مخطئة، لم تصدق الحدس عن دخيلة قلبها، ولم تبحث البحث الكافي لمعرفة حقيقة خلق زوجها وابن عمها اللورد دارنلي؛ فقد دخل عليها في أول ليالي زواجها وهو سكران لا يعي، وكان خلوا من العقل، قد حشي رأسه بالغرور وقلبه بالأنانية، وكان يعتقد أن الملكة قد ترامت عليه لكي تتزوجه افتتانا به، فكان يتيه عليها ويبرمها.
وحدث أن خرج عليها بعض لورداتها عقب زواجها، فجندت بضعة من الرعاع، وقامت على رأسهم، وسارت نحو هؤلاء الخارجين فأخضعتهم، ومزقت شملهم، وعادت منصورة إلى عاصمة البلاد، فعلت ذلك كله دون أن يشاركها زوجها الذي امتلأ جبنا ونذالة.
فاستوثق لها الملك بعض الاستيثاق بهذا النصر، حتى تراخت له، وعادت إلى سيرتها الأولى في العشق، فاستدعت اللورد بوثول، وأخذت معه في ارتشاف كئوس الغرام، وصارت لا تبالي بما يتقول الناس عنها، حتى بلغ بها تحدي العرف والعادة أن صارت تلبس ملابس الرجال، وبلغ سوء الظن بها من أحد شعرائها الفرنسيين، أن اعتقد لكثرة ما رأى استهتارها ومزاحها معه، أنها تحبه وتؤثره على سواه، فانسرق مرة إلى سريرها ونام تحته، فلما عرفت فعلته أخرج بالجر والعنف، ثم حدث مرة أخرى أن دخل إلى فراشها، ونام تحت لحافها، فأخرج أيضا وحكم عليه بالموت، فلما وقف على النطع لم يزد على أن قال: «ويحك أيتها الملكة القاسية، ها أنا ذا أموت لأجلك.»
وكان عندها شاعر إيطالي آخر كان ينظم لها المديح ومقطعات الغزل، لتجيبه بمثلها، وأغلب الظن أنه لم يكن بينهما سوى الإعجاب واللذة الفكرية من تقارض النظم، ولكن الغيرة كانت تأكل زوجها، حتى حدث بينما كانت جالسة إلى المائدة تتعشى هي وشاعرها الإيطالي هذا، واسمه ريتسيو، أن دخل عليها اللورد دارنلي زوجها، وجرد خنجره وطعنه جملة طعنات كانت القاضية عليه.
ومن هذا الوقت صارت ماري تكره زوجها، وكانت تداريه وتسايره؛ لأنها كانت حاملا، وتخشى ألا يعترف بالطفل الذي على وشك أن تلده، وقد صار بعد ذلك ملكا على إنجلترا واسكوتلاندا باسم جيمس الأول.
وكان اللورد بوثول يلازمها لا تطيق فراقه، ويؤثر عنها قولها عنه، وهي في سورة الغرام: «ليس كبيرا علي أن أفقد عرش اسكوتلاندا وعرش إنجلترا معا ما دام هو لي.»
وقد كتبت إليه في هذه الفترة جملة خطابات، فكانت تفضي إلى حبيبها بدخيلة سريرتها، وتظهره على سويداء قلبها.
وحدث بعد ذلك أن قتل زوجها في حادثة تفجر بارود لم يعرف الجاني فيها، ثم عقب ذلك أن ماتت زوجة اللورد بوثول موتا أثار الشكوك، ثم لم يمض على موتها قليل، حتى تزوج اللورد بوثول من ماري.
ولكن هذا الزواج لم يدم طويلا؛ فإن الاسكوتلانديين هاجوا لهاتين الجنايتين؛ فقد خرجا في أدنبره فسارت مركبتهما بين نعيق العامة، وكانت النساء تطلق أوقح الأسماء على الملكة، ونصبت لها رايات كبيرة، رسمت فيها صورة دارنلي وهو يقتل.
ثم ثار عليها النبلاء، فقادت إليهم جموعا من الرعاع ممن اختارتهم لخدمتها، ولكنها انهزمت أمام جيوش النبلاء المنظمة، وقبض عليها، واعتقلت في أحد الآطام، حيث ولدت توأمين هما ثمرة زواجها باللورد بوثول.
وقد قلنا إنه كان لشخصيتها فتنة لا يقوى أحد على مقاومتها، وهذا ما أفادها في معتقلها؛ فقد أغرت الحرس وأغوتهم حتى أطلقوا سبيلها، ومهدوا لها الفرار، وخرجت متنكرة كأنها غسالة ، ولكن رقة يديها وجمال أناملها نما عليها، فقبض عليها وأعيدت، ولكنها عادت ثانية وفرت، يحرسها هذه المرة خمسون فارسا، وواصلت السير حتى دخلت الحدود الإنجليزية، ولكنها لسوء حظها كانت قد استجارت من الرمضاء بالنار؛ فقد قبض عليها الإنجليز، ولفقوا لها تهمة قتلوها بها، بعد أن اعتقلوها مدة.
أما زوجها فقد فر إلى الدانمرك، حيث اعتقله ملكها أيضا، ومات غريبا عن بلاده.
الملكة إليصابات
يؤثر عن إليصابات ملكة إنجلترا قولها وهي تصتبي: «أحب إنجلترا أكثر من أي شيء في العالم.»
ولم تكذب في هذا القول؛ فقد كانت تخطط الخطط، وترسم الترسيمات؛ لكي تفوز إنجلترا في معترك السياسة الأوروبية. ومن أجل إنجلترا نزلت إليصابات عن جملة وافرة من حقوقها الملوكية، ونزلت أيضا عن كرامتها، فكانت تكذب، وتخون، وتخنث، من أجل إنجلترا، بل كثيرا ما نافقت في الحب، وتظاهرت به رياء، لكي ترفع من مجد بلادها وعزها.
وقد كانت مع ذلك امرأة تحب الدلال، ركبت نفسها على ما ركبت عليه نفوس سائر النساء من حب التمليق، ورؤية الناس يعجبون بها، ويعترفون بجمالها؛ ولذلك كانت على الدوام محوطة بنخبة شباب البلاد الذين فاقوا أقرانهم في الجمال والفروسية، تقضي وقتها معهم في المداعبة البريئة، التي فيها شيء من أشمام الحب.
ولكن نفسها كانت تظمأ إلى الحب الصحيح في هرج هذه المداعبات؛ ولذلك ما هو أن عرفت وألفت إرل لستر، حتى وجدت فيه ريها وعلقته، وصارت تكتوي بنار حبه.
ارتقت إليصابات عرش إنجلترا وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، وقد وصفها مبعوث ألماني أرسله مولاه لكي يتعرف حال هذه الملكة، فكتب عنها يقول:
إنها تعيش عيشة لا يكاد الإنسان يتصورها، لفرط ما فيها من البذخ وإيلام الولائم. وهي تقضي كثيرا من وقتها في المراقص والولائم والصيد وسائر هذه الملاهي، تفعل هذا كله في مظاهر وزينة، ومع ذلك فهي حريصة على أن تكون محترمة عند الناس أكثر من الملكة ماري. وهي تعقد البرلمان، ولكنها تجعل الأعضاء يفهمون ضرورة إطاعة أوامرها في أية حالة.
وكانت بيضاء، صهباء الشعر ، رشيقة القوام، وكانت لها يدان عجيبتان، لا تزالان موضوع إعجاب من ينظر إلى صورتها. ويكاد يكون تاريخ حياتها معروفا بالتفصيل، لكثرة ما كتب عنها في مدتها، وما نقب عنه المؤرخون بعد ذلك، ويؤخذ من ذلك أنها كانت مزيجا من العمل والهوى، تنتابها نوبات من الجد، تعقبها فترات من المزاح، وكانت إذا مازحت تمادت، حتى يبعث تماديها الشكوك، ومما يؤثر عنها أنها وهي فتاة لم تبلغ السادسة عشرة، اتهمت أو اتهم بالأحرى وصيها لورد سيمور بمداعبتها، وقيل في التحقيق الرسمي الذي عمل بشأن هذه التهمة، أنها كانت تلاعبه وهي في قميص النوم. ولكن تبين في التحقيق أن هذا اللورد لم يحضر قط إلى غرفتها إلا وهو مصحوب بامرأته.
وكان ملك إسبانيا يتعشقها ويراودها على الزواج، حتى تصير إنجلترا إحدى ولايات مملكته العظيمة، فكانت تطاوله وتمطله خدمة لمصالح بلادها. وكانت تطاول أيضا لهذا السبب عينه، جميع من تقدم إليها بطلب يدها من الملوك والأمراء؛ فعلت ذلك بدوق دالنسون شقيق ملك الدانمرك، وأمير أسوج وأرشيدوق النمسا، وغيرهم. واستطاعت بهذا المطل والتسويف، وإيهام المتقدمين إليها بأنها تنوي الزواج بهم، أن توجد الشقاق بين أسوج والدانمرك، وبين فرنسا وإسبانيا. واحتفظت بسلامة إنجلترا حتى أذن الوقت بضرب إسبانيا، فضربتها ضربة لم تبرأ منها للآن.
وقد خطر الزواج على بالها، وكانت تشتهي أن يكون لها عقب، ولكن حرصها على مصالح البلاد جعلها تتردد كثيرا حتى فاتتها الفرصة، وكثيرا ما كانت تذكر الأولاد وهي تتحرق أسى وكمدا؛ فقد أثر عنها أنها عندما ذكرت أمامها ملكة اسكوتلاندا أن قالت: إن لملكة اسكوتلاندا ابنا سريا، أما أنا فأرض قاحلة.
وقد أحبت - وأخلصت في حبها - جملة رجال من حاشيتها، ولكن كبرياءها أبى عليها أن تنزل عن مرتبتها الملوكية إلى الاقتران بأحدهم؛ فقد كانت كلفة بسير ولتر رالاي، لا تطيق فراقه، حتى منعته من السفر إلى أمريكا لهذا السبب. وأحبت إرل إسكس، ولكنها عندما رأته يتعالى ويشمخ لم تتراجع عن التوقيع على ورقة إعدامه.
ولكن ربما كان أعظم من نال قلبها وتسلط على عقلها، وعواطفها هو إرل لستر. وقد جعل القصصي المعروف سكوت علاقته بها موضوعا لإحدى قصصه في كتاب كنلورث. ومما لاحظه أحد المؤرخين أن إليصابات أنعمت على جميع من أحبتهم، فحبتهم بالمناصب السامية إلا لستر هذا؛ وذلك لأنها كانت تشعر بخطورة ترقيته ورفعه إلى مركز سام، كأن قلبها كان يحدثها بعظم مكانته في نفسها، وأنها إن فعلت ذلك لم تقو على رده عن التزويج بها أو التسلط عليها في شئون المملكة.
وكان إرل لستر جميلا شجاعا، ويقال إنه قتل امرأته لكي يتفرغ للملكة، وإن الملكة كانت تعرف هذه الجناية، وتسترت عليها؛ لأنها أرادت أن تحتكر قلبه، وتحظى بشخصه قريبا منها في كل وقت.
وقد كان والد إليصابات، الملك هنري الثامن، مشهورا بحبه للنساء، ونزوعه إلى تغييرهن، حتى تزوج ثماني نساء، فلا عجب أن تكون ابنته قد نشأت على طبعه، وربما منعها من الزواج هذه الطبيعة التي ورثتها عن والدها، فما كانت تثبت على حب، إلا حب إرل لستر الذي حال كبرياؤها دون أن تستسلم له كل الاستسلام، وترضى بزواجه.
وقد عاشت إليصابات إلى أن بلغت السبعين، وكانت تدهن بالأدهان وجنتيها، وتصبغ شفتيها، وتخفي نحول الشيخوخة بملابس منقوشة. وكان رجال حاشيتها يتملقونها وهي في هذه السن، فتستجيب لهم بالابتسامات والدعابات، كأن هذه الفطرة التي نشأت عليها لم تبل بتقادم الزمن.
وليس بين ملوك إنجلترا من هو أقرب إلى قلوب الإنجليز من الملكة إليصابات، وأكبر ما يحببها إليهم أنها رفعت شأن البروتستانتية، وجعلت البحرية الإنجليزية تسود البحار، وكانت تسوغ كل شيء لرفع شأن إنجلترا، فالإنجليزي لا يضن عليها بإكرامه ذكرها، مع تقلب أهوائها، وكثرة محبيها، وغدرها بهم أحيانا.
ماري أنطوانيت
ولدت ماري أنطوانيت سنة 1755، وكانت أمها ماري تيريزا إحدى ملكات النمسا وأوروبا الشهيرات، وكان وجهها معروفا، يكاد يكون نحيلا، وكانت عيناها صغيرتين تشبهان عيني الخنزير، وكانت شفتها غليظة. وزاد الطين بلة أنها لم يكن قوامها معتدلا، حتى كانت وهي طفلة تلف وتعصب حتى يعتدل ما اعوج من قوامها.
وعندما بلغت الرابعة عشرة خطبت إلى ولي عهد فرنسا، وكانت في ذلك الوقت قميئة الهيئة، ليس فيها من صفات الجمال سوى تاج ذهبي من الشعر الكثيف. وبعد عام تزوجت من ولي العهد، وانتقلت إلى البلاط الفرنسي في باريس.
وكان لا يزال للبلاط الفرنسي في حكم لويس الخامس عشر بعض الكرامة في عين الجمهور، وكان لا يزال فيه شيء من لألاء البلاط السابق؛ فكان الناس يأتون كل صباح لكي يروا الملك وهو يلبس ملابسه ويتناول فطوره. يفعل كل ذلك علانية أمامهم، في أبهاء القصر المكشوفة، كأنه ممثل على مسرح، فكان بينه وبين الجمهور ألفة وتعلق.
وعندما تزوج العروسان أمرهما الملك ألا يناما في غرفة واحدة، وأن يأخذا نفسيهما بالوقار، ولكن ماري أنطوانيت لم تكن لها هذه النفس التي تعرف معنى الوقار، وتتخذ سمت الملوك، فسارت سيرة النزق والطيش في القصر، وبلغت أخبار سيرتها إلى والدتها، فأرسلت إلى السفير النمسوي تقول له: «أخبرها أنها ستفقد عرشها، وقد تفقد حياتها أيضا، إذا لم تصطنع التبصر والتقية.»
ولكن النصائح لم تكن تجدي في ماري أنطوانيت، وربما كان يكون لها وقع لو أن زوجها كان على شيء من «الخلق العظيم». ولكنه هو الآخر لم يكن أهلا لأن يكون ملكا؛ فقد كان غبيا، لا يهتم إلا لشيئين في العالم، وهما الصيد والحدادة، فإذا لم يكن في الحقول والغابات، يقفو أثر طير أو ثعلب، كان أكثر ما يكون في دكان حدادة صنعها لنفسه، يقضي فيها وقته بين الكير والسندان، يصنع قفلا أو نعلا أو مسمارا، فإذا خرج من دكانه وقد كساه نواس الدخان، لقي زوجته وهي في ملابسها الهفهافة، وقد علاها زبد من النسيج المحزم، وعبق حولها أريج العطور.
وقد يكون في هذا الاختلاف بينهما في المزاج، ما يخفف من تبعة ماري أنطوانيت؛ فقد كانت تحب اللهو، بمقدار ما كان هو يحب الصيد وصنع الأقفال.
وقد كثرت الإشاعات عن ماري أنطوانيت كما كثرت الظنون، فكان البعض ينتقدها، بينما البعض الآخر يدافع عنها دفاع المتهكم المعتذر عنها. ولكن نتيجة ذلك كله كانت احتقارها هي وزوجها، في وقت كانا فيه في أشد الحاجة إلى احترام الجمهور؛ فقد كانت أمائر الطوفان الذي تنبأ به لويس الخامس عشر قد بدأت تظهر، وأخذ الاستياء تدب عقاربه بين طبقات الأمة. ومات الملك لويس الخامس عشر بالجدري، وأخرج من القصر في عربة قذرة، ليس حوله أحد من خاصته أو حاميته. وصارت بذلك ماري أنطوانيت ملكة تطاع، لا تجد من حميها ما يعارض أهواءها ويكبح جماح شهواتها.
وكانت هذه الأهواء، وهذه الشهوة، قوية، فانطلقت الألسنة حولها لا تتحرج في شيء تقوله عنها. وكان من أهواء ماري أن تلبس قبعة طويلة مزينة بعشرات من الريش الزاهي المختلف الألوان، وكانت تختار من الملابس الرحب المتهدل على الجسم، ولم تكن تستعمل الكورسيه، فكانت إذا خرجت إلى حفلة، بدت للناس كأنها في غرفة نومها.
وكان مسلكها هذا مدعاة إلى اتهام الناس لها بأفظع التهم، وكان الملك جامدا نحوها، لا يأبه بما تفعل. وبقيا مدة طويلة بلا عقب، حتى اهتم لذلك البلاط النمسوي، وكتب سفير النمسا يلمح إلى ضرورة وجود وارث للعرش.
وحدث في هذه الأثناء أن زار شريف أسوجي البلاط الفرنسي، وكان وسيما ذا طلعة بهية نبيلة، يدعى الكونت فرزن، وكان شابا صافي السريرة، ورأى الملكة فعلقها، وكتم هواه، فلم يكن يبدو للملكة منه سوى العطف الخفي، والإشارة المختلسة، والإيماء الكاسي بالوقار.
وكانت ماري أنطوانيت قد عرفت جملة محبين، ولكنهم كانوا يستغلون حبها لمصلحتهم، أما فرزن فلم يكن يبغي من الحب سوى الحب، فأكبرت الملكة هذه العاطفة الشريفة فيه، وكان قلبها قد ظمئ إلى الحب الصحيح الدائم، تركن إليه في وسط هذه الشهوات الجامحة الزائلة، فلما أيقنت بحبه لها استجابت له، ولبت رغبته فيها، وتبادلا كئوس الغرام.
ولم يمض قليل حتى أعلن أن الملكة قد حملت، وأنها على وشك الوضع، فكثرت تقولات الناس وتأولاتهم، وصار الهمس الخافت صوتا جهيرا؛ لأن حرمة الملوكية كانت قد زالت من النفوس، وتهيأت الأمة للوثوب على العرش.
وبلغ من عماية رجال البلاط أن شقيق الملك وقف شبينا للطفلة التي ولدت، وبينما الجموع تحتشد في الكنيسة الكاتدرائية الكبرى نوتردام، تقدم القسيس قبل التعميد، يسأل عن اسم الطفلة، فقال الشبين: «لا يحسن بنا أن نبتدئ بهذا السؤال، فلنسأل أولا عن أب الطفلة وأمها من هما؟» وتنوقلت هذه الكلمات، حتى صار يلوكها كل ساكن في باريس، وصار الناس ينظرون إلى فرزن نظرات التلويح والتلميح. ومما يؤثر عن علاقته بالملكة هذه القصة التالية التي كتبها في أحد خطاباته السفير الأسوجي في باريس إلى ملك أسوج:
إني أسر إلى جلالتكم أن الكونت فرزن قد تقبلته الملكة قبولا حسنا، حتى أساء الكثيرون ظنا بذلك. وأنا أعترف بأنها تحبه؛ فقد رأيت على ذلك البراهين التي لا يتسرب إليها الشك؛ ففي الأيام القليلة الأخيرة لم تحول الملكة نظرها عنه، وكانت عيناها طول ذلك الوقت مملوءتين بالدموع. وأرجو جلالتكم أن تتحفظوا بهذا السر.
وكانت الملكة تبكي لأن فرزن قد أجمع على أن يسافر إلى أمريكا؛ ضنا بشرفها وعرضها أن تلوكهما الألسن؛ فقد رأى أن العيون ترمقه وتلحظه لحظا ذا معنى، فأراد أن يقطع عن حبيبته مع شدة تعلقه بها ألسنة الناس، فعزم على مبارحة فرنسا للالتحاق بجيش لافاييت الذي كان يعاون الأمريكيين على نيل حريتهم من الإنجليز، وأذاع قبيل سفره أنه قد عزم على أن يتزوج من إحدى الأسوجيات المثريات.
وبقي فرزن في أمريكا ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى فرنسا، وعادت علاقته بالملكة. وكان تيار الثورة قد أوشك أن يطغى بالملوكية، وجاء الجزاء العادل للمظالم الغابرة، فحاول فرزن في سنة 1791 أن يأخذ الملك والملكة، ويفر بهما، حتى يخرج من الحدود الفرنسية، ودبر لذلك التدابير اللازمة، ولكنه أخفق على حدود فرنسا، وقبضت العامة على الملك والملكة، وعادوا بهم يتغنون بأناشيد الثورة.
وجاءت سنة 1792، فأخذ الملك، وفصل رأسه بالمقصلة، وقضت الملكة بعد ذلك مدة في السجن، وهي عرضة لمختلف الإهانات المتنوعة من وحوش الثورة الفرنسية، حتى أخذت هي أيضا إلى المقصلة وقطع رأسها.
وعاش بعدها فرزن عشرين سنة، ومات هو الآخر في شوارع ستوكهولم على أيدي الرعاع، الذين مزقوه وهم في جنون الحنق والغيظ، فكانت موتته تشبه موتة الملكة؛ إذ مات كلاهما على أيدي الرعاع، وكان قد عاش بعد موت الملكة، أمينا على حبها، لا يذكر سواها، ولا يتعزى بشيء آخر.
شارلوت كورداي
كانت شارلوت كورداي فتاة فرنسية تنتمي إلى أسرة شريفة قديمة، يعد منها كورناي الشاعر. ولكن الدهر أخنى على الأسرة، حتى صار جملة من أفرادها في عداد الأكارين، ولكنها نشأت في وسط بعيد عن الريف والطبيعة؛ فقد قضت صباها في أحد الأديار، حيث لقنت القراءة والكتابة، وجال فكرها جولة صغيرة في الكتب المقدسة. وخرجت من الدير، فلزمت عمة لها عجوزا، وكان بمنزلها بعض الكتب فالتهمتها التهاما، وكان أحب الكتب إليها تراجم فلوطرخس وتاريخ الرومان، حتى امتلأ رأسها بقصص المجد والبطولة والتضحية، فكان مناها أن تخدم بلادها، ويخلد ذكرها في صحف التاريخ، وتقرن ترجمتها إلى تراجم أولئك الأبطال الذين قرأت عنهم.
وشبت الثورة الفرنسية وهي في حوالي العشرين من العمر، فاهتمت لها، وأخذت تدرس أسبابها، وترقب تطورها، وكانت تعطف على العامة لقيامهم على الحكومة، ورغبتهم في قلبها؛ لأنها رأت بعينها عسف النبلاء والموظفين بالأهالي، الذين كانوا يئنون من الضرائب الباهظة، يلي بعضها بعضا طوال العام، حتى عم الفقر البلاد، وشمل الشقاء جميع الطبقات، عدا الأشراف والموظفين وكل متصل بالبلاط.
ولكن الثورة الفرنسية تولى قيادتها فئة من الغلاة، أخذت في التقتيل واضطهاد المخالفين لمذهبها، القائلين بالتؤدة والاعتدال، فضج الناس من ظلمها؛ إذ بعد أن قتلت الملك والملكة، وأتبعتهما بعدد كبير من الزعماء وقادة الرأي، أخذت تبث العيون بحثا عن الخونة، و«الخونة» في عرف هذه الفئة لم يكونوا سوى كل معتدل يجرؤ على نقد رجالها وأعمالهم.
وكان «مارات» زعيم الفئة السفاكة، قد بدأ حياته بمزاولة الطب، ودرس العلوم الطبيعية، وبرع في هذا الدرس بعض البراعة، أقر له جوته، الأديب الألماني، وفرانكلين العالم الطبيعي المعروف، بما أداه من الخدمة في درس الكهربائية، ولكن ما نشبت الثورة الفرنسية حتى نفض مارات عنه رداء العلوم، وتقمص ثوب السياسة، وانغمس في حمأتها، حتى جلب على نفسه عداء عدد كبير من الناس، لغلوه في الدعاية إلى الجمهورية، واضطهاد المعتدلين القائلين بتقييد الملكية بدستور على النحو الإنجليزي. وأخذ أعداؤه في مناوأته، والبحث عن أذاه، حتى اضطر إلى الهجرة إلى الريف خوفا منهم، وبقي هناك مدة، عاد بعدها إلى باريس خفية.
ولكنه وجد أعداءه يقظين، يترقبون مجيئه، ويفتشون عنه، فاختفى منهم في مكان لا يخطر ببالهم أن الكلاب تعيش فيه؛ إذ لم يكن هذا المكان سوى سرداب تجري فيه أوساخ مراحيض باريس، فكمن فيه مختبئا، يرسل على أعدائه منه سهاما من المقالات المسمومة، ويحرض عليهم، ويغوي العامة بهم. وناله من مقامه في ذلك السرداب مرض جلدي شنيع، يقذي عين الناظر، ويؤلمه أشد الألم، حتى انتهى به الحال أن يخفف وطأته عليه بأن يقعد طول نهاره في حوض ماء دافئ.
وكانت شارلوت تسمع عن مارات أنه زعيم الفئة السفاكة، وأن المقصلة لا تهدأ عن قطع الرءوس، ما دام هذا الرجل حيا، وكانت تعيش في نورماندي، حيث أكثر السكان من الجيرونديين - أي المعتدلين - «فكانت تغشى اجتماعاتهم، وتتشرب بآرائهم، حتى وقر في ذهنها، وثبت في قلبها، أنه لا نجاة لفرنسا إلا بقتل مارات.»
ففي سنة 1793 قر قرارها أن تذهب إلى باريس وتقتله، وحصلت على جواز سفرها من بلدتها كاين في نورماندي إلى باريس (ولا يزال هذا محفوظا). وقد جاء فيه ما يلي: «أجيزوا مرور ماري كورداي عمرها 24 عاما، وطولها خمسة أقدام وبوصة، ولون شعرها وحاجبيها كستني، وعيناها سنجابيتان، وجبهتها عالية، وفمها متوسط، وفي ذقنها ندبة، ووجهها بيضوي.»
ويوجد أيضا لها رسمان باقيان للآن، يتبين منهما أنها كانت جثلة الشعر، عيناها تنطقان بالإخلاص والشجاعة، وكان قوامها معتدلا، ينطوي على الجمال والرشاقة.
ولما وصلت باريس أرسلت إلى مارات ورقة تقول فيها: «أيها الوطني، لقد وصلت من كاين هذه الساعة، وليس شك في أن حبك بلادك، يرغبك في أن تعرف الحوادث التي حدثت في هذا الجزء من الجمهورية، وسأزورك بعد ساعة، فأرجو من إحسانك أن تتكرم بمحادثتي، وسأفيدك بما فيه منفعة فرنسا .»
فرفض مارات أن يتلقاها، فعاودت الطلب، وعاود الرفض. ثم جاءت مرة ثالثة، وأخذت تتكلم مع الخادم، وتلح في رؤية مارات، وسمع مارات صوتها فاستدعاها، وكان قاعدا في حوض يغمر الماء معظم جسمه، وهو يقرأ ويكتب، فلما دخلت حيته، وأخذت تصف له جماعة الجيرونديين المعتدلين في بلدتها وما ينوون فعله، فلما سمع مارات ذلك قال لها: «جميع هؤلاء الذين تذكرينهم سيقتلون قريبا في بضعة أيام.»
وكانت شارلوت قد اشترت سكينا من نوع السكاكين التي تستعمل في المطبخ، فأخرجته من صدرها، وطعنت مارات به عدة طعنات، مزقت قلبه ورئته، وصاح مستغيثا، فدخلت خادمتاه، وأوثقتا شارلوت وسرعان ما جاءت الشرطة وقادوها إلى المخفر.
والآن قد يتساءل القارئ: أين هو الغرام في هذه القصة الطويلة، وقد أدركنا خاتمتها أو كدنا؟
والحقيقة أن غرام شارلوت كورداي من أعجب ما روته كتب التواريخ؛ فإنها عندما قدمت للمحاكمة كان قد تسامع الناس عن الجناية، وأخذوا في الحديث والمبالغة في الرواية عن هيئتها وسيرتها، حتى بلغ الخيال من بعضهم أن صار يصفها كأنها غول بشع، فازدحم الناس إلى المحكمة لرؤيتها، وكان بين هؤلاء المتزاحمين شاب ألماني يدعى آدم لوكس، بعثه الاستطلاع على أن يذهب هو الآخر ليرى هذه الغولة.
ولكنه ماذا رأى؟ رأى وجه فتاة قد جلل وجهها الشعر الجميل، يزيد حسنه منديل أبيض قد ربط فوقه على عادة الفتيات النورمانديات، ورأى عينين يتجلى فيهما الوقار والجد، وتكاد أن تختفيا وراء الأهداب الطويلة السوداء، ورأى وجها ينبض بالصحة الوفيرة، وقد احتقن بفعل الشمس والهواء الطلق، هذا إلى صدر منتفخ، وذقن كأنها ذقن قيصر، كلها إرادة وعزم، تكسو جميع ذلك هالة قدسية من التضحية وبذل النفس، في مصلحة الوطن. ولم يرها آدم لوكس سوى مرة أخرى في 17 يوليو وهي تحت المقصلة، ولكنه سحر بجمالها فأخذته روعته، وافتتن بجلالة نفسها، وذهب يوم إعدامها إلى المقصلة، وسمعها بأذنه وهي تقول قبل أن تهوي على عنقها: «حسبي أني أديت واجبي ، وما عدا ذلك فباطل.»
فجن جنون آدم لوكس، وذهب في كل مكان يلعن القضاة الذين حكموا عليها، ووضع رسالة في ذلك قال فيها:
ليست المقصلة عارا الآن؛ إذ قد صارت منذ 17 يوليو مذبحا قد غسل من كل دنس بهذا الدم البريء. أجل يا شارلوت المقدسة، اغفري لي إذ لم يبد مني في الساعة الأخيرة تلك الشجاعة، وتلك الوداعة، اللتان هما من صفاتك. إنه لمن مجدي أن أجدك تفضلينني؛ لأنه حق أن يفضل المعبود عابده.
وانتشرت هذه الرسالة بين الناس، وقبض على آدم لوكس، وقدم إلى المحاكمة، وكان كما قلنا ألمانيا، فكان القضاة على الرغم من أن موضوع الرسالة لا يعدو أن يكون شرحا لعسفهم وسبا فيهم، يميلون إلى تبرئته، على شرط أن يجحد ما قاله، وأن يعود إلى ألمانيا.
ولكن القضاة كانوا يجهلون الطور الذي بلغه آدم لوكس في حبه شارلوت؛ فقد كان حبه لها قد بلغ حد العبادة، حتى صار يخشع لذكراها، ويتأوه عندما تخطر بباله، فكانت في الحقيقة وسواسه وهمه؛ ولذلك ما كاد أن يسمع من القضاة اقتراحهم جحد ما قال في الرسالة، حتى انهمرت من فيه ألفاظ السباب، فأخذ يشتمهم ويحقرهم، ويمجد ذكر شارلوت تمجيد العابد لربه.
وحكم عليه بالإعدام، فأسفر عندئذ عن وجهه، وسار إلى المقصلة مستبشرا، واثقا أنه أدى ما عليه نحو شارلوت.
نابليون وماري فالفسكا
كانت هموم نابليون في الفتح والحروب، ومشاغله في مكايدة أمراء أوروبا وملوكها، وسوس رعاياه، تحول دون صرفه اهتمامه إلى الحب والغرام، فكان لا ينظر إلى المرأة إلا بمقدار ما فيها من المحاسن التي تلبي شهواته الدنيا، فكان يشتهي دون أن يحب. ولكن المرأة التي كان يشتهيها كانت تجد فيه من صفات الرجولة وسمات العظاميين والتفوق النادر والطموح الدائم إلى السيادة، ما كان يجعلها تتعلق به وتعشقه وتحبه حب التضحية. وقد عرف نابليون جملة نساء قل منهن من خنه، وكثر منهن من أخلصن له وعشن على ولائه.
ومن هؤلاء النساء مدام ماري فالفسكا، كانت فتاة بولندية في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت غاية في الجمال، كأنها دمية إغريقية. وكان في عينيها حور ، وفي أهدابها طول يزيد قوة هذا الحور وأثره في نفس الناظر. وكانت تنتمي إلى أسرة فقيرة، ورآها أحد أشراف بولندا، وكان رجلا فانيا مسنا فأحبها حب العشق والوله، وتزوج بها.
وحدث أن دخل نابليون بولندا في سنة 1807 بعد أن هزم النمسا وقضى على جيوش ألمانيا. وكان البولنديون يتوسمون فيه المخلص لبلادهم، المعيد لهم استقلالهم من الأمم الثلاث التي اقتسمتها، وهي روسيا والنمسا وألمانيا، فقابلوه بمظاهر الحماسة والتهليل، وكانت عربته لا تدخل إلى بلدة من بلادهم، حتى كانت طاقات الزهر تغمرها وتنثر تحت أرجل خيولها. وكان قد تطوع في الجيش الفرنسي آلاف من البولنديين، الذين كانوا يرجون أن يحققوا استقلال بلادهم على يدي نابليون، وكان نابليون يعرف قيمة هذا الأمل في تقوية جيشه، فكان يمني البولنديين بالوعود الخلابة، ويعللهم بالأماني التي كان يعرف هو نفسه كذبها، وعدم إمكان تحقيقها.
فبينما كان نابليون في مدينة برونية، سائرا في عربته والهتاف يتعالى والنساء يزحمن الرجال، وعطر الزهور يعبق في الهواء، إذا بصوت حلو يقول: دعوني أمر حتى أراه ولو لحظة واحدة.
وكان هذا الصوت ماري فالفسكا. وما هو أن شقت طريقها إليه، وصارت أمام العربة حتى قالت: أرحب بك ثلاثا يا مولاي، إننا مهما قلنا أو فعلنا، فلسنا نقدر على أن نترجم عن شعورنا بالفرح لمقدمك، وعن رجائنا بأن تخلص بلادنا من الظلمة.
فتأثر الإمبراطور من جمالها، وانحنى أمامها، وأخذ طاقة من الورد وقدمها إليها قائلا: خذي هذه برهانا على إعجابي. وإني أرجو أن ألتقي بك في فارسوفيا لكي أسمع من هاتين الشفتين كلمات الشكر.
ولم يكن نابليون ممن ينسون شيئا يسر أو يضر، فما هو أن وافى فارسوفيا حتى سأل عن الفتاة، وطلب قدومها إليه.
ولم تمض ساعات حتى كان الأمير بونياتفسكي، يرافقه آخرون من نبلاء بولندا، قد وصل إلى منزل الفتاة، يسألها التوجه إلى الإمبراطور. وتعجبت الفتاة من هذه الدعوة، وحرص نابليون على معرفة منزلها، واحتفاله بها حتى يرسل إليها بضعة من أشراف قومها، لكي تحضر معهم إليه، فغمرها الحياء حتى صبغ وجنتيها، ثم قال الأمير: «هذا يا سيدتي هو ما أمرني به جلالته؛ طلب إلي أن أدعوك إلى الحضور إلى الاحتفال الذي سيعقد للرقص هذه الليلة، ولعل الله قد قدر أن تكون نجاة بلادنا على يديك.»
وكانت ماري تغالي في وطنيتها، وتتوق إلى استقلال وطنها، فكانت هذه الوطنية تغريها بالذهاب إلى نابليون، ولكن شيئا وسوس في صدرها بأن نابليون لا يبغي خيرها من هذه الزيارة، فترددت ثم أحجمت.
وما كاد هؤلاء الأشراف يخرجون حتى جاءها فوج آخر من الأهالي الذين عرفوا بخبر هذه الدعوة، وصاروا يلحون عليها في تلبية دعوة الإمبراطور، حتى زوجها نفسه لم يحجم عن التضحية بعرضه الشخصي لأجل منفعة وطنه، فأخذ هو الآخر يلح عليها بالذهاب.
فذهبت تلك الليلة إلى الاحتفال، وقعدت منزوية في إحدى نواحيه؛ لأنها كانت تجهل فن الرقص. وبينما هي تكلم الأمير بونياتفسكي، وإذا بشخص قد وقف إلى جانبها، شعرت هي أنها لا تجسر أن ترفع نظرها في وجهه. وكان هذا الواقف نابليون، الذي فاجأها بقوله: لقد أخطأت في اختيارك هذا اللباس الأبيض؛ لأن الأبيض لا يشاكل الأبيض.
ثم انحنى عليها، وقال وهو يهمس: كنت أنتظر استقبالا آخر.
فلم تقو ماري على التبسم، أو على التطلع إلى وجهه. ثم تركها في مكانها، وسار بعيدا عنها. وانتهت الحفلة، وخرج المدعوون، وذهبت ماري إلى دارها، وقلبها مفعم بالإحساسات المختلفة.
وفي الصباح، وماري تتقلب على فراشها تحاول ترتيب هذه الإحساسات، وإذا بالخادمة تدخل وتناولها مظروفا، فضته وقرأت فيه هذه العبارة الموجزة:
لم أر أحدا غيرك. لم أعجب إلا بك. لا أرغب إلا فيك. أجيبي فورا وهدئي روعي.
ن
فلم يبق شك عند ماري في الغرض السافل الذي يطلبها من أجله نابليون، فأخذتها العزة بالعرض، وشاع الغضب في جسمها، وحمي رأسها، ثم تفجرت عيناها بالدموع، فأخذت تنشج أحر نشيج، وتبكي مر البكاء، وتندم على تحيتها له وهو مار في العربة.
ولم تجب على رسالة نابليون، وبقيت إلى اليوم التالي. ولكن ما أتى عليها صباحه حتى سلمتها الخادمة خطابا آخر، فأخذته ورفضت أن تفتحه. ثم توافد الزائرون إلى بيتها، وهي راقدة في سريرها ترفض استقبالهم، وكان جميع الزائرين يعرفون غرض نابليون، ويستهينون بعرض المرأة يبذل في سبيل تحرير الوطن، حتى زوجها نفسه، صار يعنفها على عدم تلبيتها دعوة الإمبراطور. وأخذ الناس من أهالي بولندا، المشتغلين بتحرير بلادهم، يرسلون إليها الخطابات، يسوغون لها فيها التضحية بالعرض، من أجل رفعة الوطن وكرامته واستقلاله.
وهكذا قضى أن تتألب جميع القوى على هذه المرأة، لكي تذعن لإرادة نابليون، وكانت قد أقيمت وليمة كبرى ودعيت إليها، فأجابت.
فلما التأمت الوليمة مر نابليون على المدعوين، ووقف عندها، وقال: سمعت أن المدام كانت متوعكة، فعسى أن تكون قد شفيت.
ولم يزد على ذلك كلمة طوال السهرة، يوهمها بذلك أنه لم يعد يبالي بها، وكان نابليون داهية، يرمي إلى غرض بعيد في كل ما يفعل، فأخذ في تلك السهرة ينظر إلى بعض النساء، ويقبل عليهن بالحديث، كأنه مشغوف بهن، وكأنه قد نسي ماري التي أعرض عنها تمام الإعراض، وفي خلال ذلك تلحظه ماري، وتأسف على تلك الفرصة التي عرضت وفاتت، دون أن تنتفع بها.
وانتهت السهرة، وطلب إلى ماري أن تبقى، فبقيت، فجاءها أحد قواد نابليون وناولها رسالة، فلما فضتها وجدت أن نابليون يضرب لها ميعادا تلك الليلة للقائه، ويهيئ لها الوسائل اللازمة لإخفاء أمرها.
ثم لم تمض برهة قليلة حتى طرق الباب ودخل خادم، وناولها ما تستر به وجهها وجسمها. ثم خرجت معه، وركبت عربة صارت تنهب بها الشوارع، حتى أنزلتها أمام قصر كبير صعدت درجه، وصارت في إحدى غرفه الرحبة.
فما كادت تستريح حتى جاءها نابليون، وجلس قريبا منها دون أن يلاصقها، وأخذ معها في الحديث حتى اطمأنت، وأنست به، حتى إذا وشك النهار أن يطلع قال لها: «والآن يا حمامتي، اذهبي إلى دارك واستريحي. لا تخشي النسر (نابليون) فسيأتي وقت تحبينه فيه، فينفذ لك جميع أوامرك.
ثم ودعها إلى الباب، ووقف عنده ، وقال إنه لن يفتحه حتى تعده بالمجيء في اليوم الثاني. فوعدته ذلك .
وفي اليوم التالي جاءتها منه هدايا الزهر والألماس، فتناولتها وأذرتها في الغرفة وهي مغضبة، ولكنها مع ذلك ذهبت إلى الوليمة، وعندما انتهت السهرة بقيت كما فعلت في الليلة الماضية. وجاء إليها نابليون والغضب يقدح عينيه، وقال لها: «لم لم تلبسي الألماس الذي أرسلته لك؟ لم كنت تعرضين وتتحامين أنظاري هذه الليلة؟ هذه مسبة لا أطيقها، يجب أن تعرفي أني منتصر عليك، وأنه يجب أن تحبيني، يجب أن تحبيني؛ فإني قد رددت إلى بلادك اسمها، وحظها الآن في كفي.»
ثم أخرج ساعته وقبض عليها، وقال: «انظري إلى هذه الساعة، إن بلادك في يدي الآن مثل هذه الساعة. وإني أقدر على أن أمزقها شذر مذر، إذا لم تجيبي طلبي، وأتركها شظايا كما أفعل بهذه الساعة.»
قال ذلك، ورمى الساعة بكل قوته إلى الحائط، فذهبت شظاياها في كل جانب من الغرفة، وارتاعت ماري لهذا المنظر، فأغمي عليها، وأفاقت وهي بين ذراعي نابليون.
وبعد ذلك صارت ماري خليلته، لا يفارقها في حروبه أو وقت السلام في باريس. وأحبته هي حب العبادة، فكانت تضحي بكل شيء من أجله، ولم تكن تطمع في شيء سوى حبه، وحتى إنه عندما انهزم واستأسر في سنة 1815، ونفي إلى جزيرة القديسة هيلانة طلبت أن تذهب معه، ولكن حيل بينه وبينها، وعاشت مدة وجيزة بعده، وماتت فقيرة. وكانت آخر كلمة لفظتها في نزع الموت هي: نابليون!
وكانت كلما استأدت نابليون وعدها بتحرير بلادها يراوغها ويقول: «إني أحب بلادك، ولكني لا أستطيع أن أسفك دماء الفرنسيين من أجل بلاد أجنبية عنهم.»
وقد ولدت لنابليون ولدا، هو الوحيد الذي عاش إلى سن الشيخوخة من نسل نابليون، وقد استخدمه نابليون الثالث، وعينه في المناصب العليا، فأداها بذمة وأمانة.
ماري لويز
في سنة 1809 كان نابليون في أوج عزه وسلطانه، قد خضعت له أوروبا كلها أو معظمها، وعندئذ أخذ صباغ الثورة الذي تخضب به ينصل عنه، وصار يرتدي رداء الملوك، ويحمل شعارهم، ويبحث عن زوجة تلد له ولي عهده الذي يحمل اسمه ويخلد ذكره.
وكان إلى هذا الوقت متزوجا جوزفين، تلك الأرملة الجميلة التي عشقها وهو بعد ضابط فقير، فانفصل منها، وحصل على طلاقها، وأجال نظره في قصور الملوك في أوروبا، ينشد أميرة من سلالة ملوكية قديمة، تكون أما لملك أو إمبراطور، يحمل اسم نابليون.
وكان لقيصر روسيا أخت جميلة، فطلبها نابليون من القيصر، فأبى أنفة من مصاهرة هذا الإمبراطور المحدث، وإشفاقا على أخته أن تقع بين براثن هذا النمر، فتحول عنه إلى إمبراطور النمسا والمجر، ولم يكن له بين ملوك أوروبا وأمرائها من هو أعدى له منه؛ فقد حاربه خمس مرات وهزمه، ودخل نابليون مدينة فينا على رأس جيشه الظافر، وأذاق أهلها ذل الهزيمة ومهانة الانكسار، فكان الإمبراطور فرانسز يكرهه كما يكره الإنسان مبدأ ومذهبا يريد أن يمحقه من الوجود.
ولكن سياسة النمسا في ذلك الوقت كانت في يد الأمير مترنيخ، وكان داهية عظيما، فلما علم برفض قيصر روسيا اغتنم هذه الفرصة وعرض على نابليون أن يتزوج ابنة الإمبراطور فرانسز، وكان يقصد من هذا الزواج ضمان العرش النمسوي، وتأمين الإمبراطورية من غزوات نابليون، وإن كان في ذلك يضحي بهذه الفتاة الغريرة.
ولم تكن هذه الفتاة، ماري لويز، قد بلغت التاسعة عشرة من عمرها، ولم تكن قد رأت نابليون، وإنما كانت تسمع عنه ما كان يحكيه أبوها وعمومتها، وكانوا كلهم يدعونه «الغول».
وكانت ماري لويز مديدة القامة، بيضاء يجلل وجهها شعر كستنائي اللون، يميل إلى البياض، وكانت وجنتاها متوردتين، يتدفق ماء الشباب بل الصبا من وجهها. وكان فمها واسعا، عليه طابع آل هابسبورغ في تلك الشفة السفلى المتدلية، التي ترى للآن في ألفونسو ملك إسبانيا.
وأدرك أبوها قيمة الاتحاد مع نابليون، فرضي بذلك. وقبل نابليون الزواج، وحدد له ميعادا. وذهب الإمبراطور فرانسز إلى ابنته وكاشفها بهذه النية، فارتاعت لأول وهلة، وسألتهم كيف كانوا يدعونه «غولا»، وكيف تتزوج برجل هذه صفته؟!
فأخذ أبوها في طمأنتها، حتى استكانت إلى حظها، ورضيت بالتضحية بنفسها لأجل أمان بلادها . وكان مما قالته لمترنيخ عندما كان يغريها بأن يقدم لها جميع ما تطلب: «لست أطلب سوى ما يأمرني الواجب أن أطلب.»
وأعلنت بعد ذلك خطبة نابليون لها، وصارت فينا وباريس كلتاهما تتنافس في الاحتفال بالزواج القادم وتعد له معداته.
وأرسل نابليون في هذه الفترة خطابا إلى خطيبته، قد امتزجت فيه لهجة الحب بلهجة السياسي الدائب في المفاوضة، قال:
يا ابنة عمي
إن الصفات الباهرة التي يتزين بها شخصك قد أوحت إلى نفسي الرغبة في أن أخدمك، وأكون على ولائك. وعندما عرضت رغبتي هذه على والدك الإمبراطور، ورجوته في أن يأتمنني على سعادتك، كنت أمني نفسي بأنك سوف تدركين العواطف التي دفعتني إلى هذا العمل، فهل لي بأن أملق نفسي، وأقول بأن قرارك لن يكون عائدا إلى الطاعة الأبوية فقط، ومهما يكن إحساسك من ناحيتي، أو ميلك إلي ضعيفا، فإني أريد أن أحتفظ بهذا الإحساس وهذا الميل، وسأجتهد في أن أكون سبب مسرتك، حتى إني من الآن أملق نفسي، ومعتقدا بأنك سوف تستحسنين شخصي، وهذا غاية ما أريد أن أصل إليه، ولأجل هذه الغاية أريد من سموك التعطف علي.
وكثيرا ما فوجئت الأميرة وهي تبكي في تلك الفترة قبيل الزواج بأيام، وقد قضى أبوها معها يوما كاملا وهو يطمئنها ويقويها، وكان الجميع يشعرون أنها قد ضحي بها في سبيل سلامة الإمبراطورية.
وجاء ميعاد مغادرتها، فاحتفل الأهالي بذلك احتفالا عظيما. ومما يدل على حالتها العقلية في ذلك الوقت، أنها كتبت هذه الرسالة إلى والدها، عندما وقفت العربات لاستراحة الخيل بعيد فينا:
إني أفكر فيك على الدوام، وسوف أفعل ذلك دائما؛ فقد منحني الله القوة لأن أتحمل هذه الصدمة الأخيرة، وفيه وحده أضع كل ثقتي، فهو سيكون في معونتي، ويمنحني الشجاعة، وبذلك أتقوى في تأدية واجبي نحوك؛ إذ إني قد ضحيت بنفسي لأجلك.
وبهذه الحالة العقلية دخلت ماري لويز فرنسا. وكان نابليون يذكر ماري أنطوانيت وحاشيتها النمسوية، وكراهة الفرنسيين لهذه الذكرى؛ لهذا أمر جنوده بمنع النمسويين المصاحبين للأميرة من دخول فرنسا، فرجعوا من الحدود، وبقيت الأميرة وحيدة بين هؤلاء الأغراب، وشعرت بوحشة بينهم آلمتها، وأعادت إليها ذكرى صباها وشبابها بين بني وطنها.
فلما صار بينها وبين باريس نحو ستين ميلا، تلقاها نابليون في ليلة مكفهرة عاصفة ممطرة، فركب إلى جانبها، وهي لا تتبين وجهه، حتى وصل إلى قصره في ساعة متأخرة من الليل. •••
واستيقظت في الساعة الحادية عشرة، ولم تقدر على مبارحة سريرها وعاشا معا في وقار الملوك. وكان نابليون في سن والدها، ولذلك لم يكن يأذن لرجل أن يخاطبها إلا في حضرة إحدى وصيفاتها.
وفي عام 1811 نال مبتغاه، وولدت له زوجته ولي عهده «ملك رومية». ثم جاءت سنة 1812، وبدأ حملته المشئومة على روسيا.
وفي ذلك العام عرفت ماري لويز الكونت نيبرج، وكان نمسويا، وعدوا لدودا لنابليون ولجميع الفرنسيين، جرح في إحدى المعارك، ففقد إحدى عينيه، وتأثر وجهه بندوب الجرح، فكان يخفي عينه وهذه الندوب بعصابة سوداء، وكان يمت إلى أسرة نبيلة في النمسا، وكان شجاعا مقداما، يجيد البراز ويفهم الأساليب السياسية، ويعمل بعقله وقلبه في أن يعكس على نابليون أغراضه. وكان مع ما أصاب وجهه من التشويه، يجذب إليه النساء بحلاوة حديثه، وشرف سمته، ونبالة حركاته.
ثم كانت سنة 1814 عندما ترك نابليون السياسة والحروب، وذهب إلى جزيرة إلبا كأنها منفى اختياري؛ فقد رأى الساسة النمسويون أن زمان التضحية بفتاتهم قد انتهى، وعقدوا النية على ألا ترجع ماري لويز إلى زوجها ثانيا، وذهبت ماري لويز إلى فينا، ولم تر نابليون بعد ذلك.
وعقدت لها حكومة النمسا دوقية بارما في إيطاليا، بما يلحقها من الأرضين والأملاك، وسافرت إليها بصحبة الكونت نيبرج.
وكان نابليون وهو في جزيرة إلبا يرسل في طلب زوجته وابنه، فلا تصل الرسائل؛ إذ كانت حكومة النمسا تتسلمها وتمنع وصولها. ورأى الكونت نيبرج أن ينتقم من نابليون، فصار يتودد إلى ماري لويز، يغني لها في لغتها، ويتندر لها القصص، ويتنزه معها في الجبال والوديان، ويتلطف لها في الرعاية والخدمة، وكان قلبها أجوع ما يكون إلى مثل هذه المعاملة، بعد أن رأت من نابليون جفاء الطبع وقساوته.
لذلك مالت إلى الكونت نيبرج، وتزوجت به زواجا سريا بعد وفاة نابليون، وولدت له ثلاثة أولاد، قبلما مات سنة 1829.
ونسيت نابليون، ولم تعد تفكر فيه، ولما بلغها موته لم تعر الخبر أقل أهمية، بل خرجت على الفور في نزهة مع الكونت نيبرج.
أما نابليون فكان في جزيرة سانت هيلانة يتحرق غيظا لمنعه من مراسلة زوجته، ولم يكن يعرف قصة حبها لنيبرج، ولكنه عندما عرف لم يقل شيئا في ماري لويز، ولم يقدح في عرضها.
وقبيل موته قال لطبيبه: «أرجو أن تأخذ قلبي بعد موتي، وتضعه في كئوس، وتحمله إلى بارما حيث حبيبتي ماري لويز، وأرجو أن تخبرها بأني أحببتها، وأن حبي لها لم ينقطع، وأخبرها بما رأيت، وجميع ما يختص بمركزي ومودتي.»
وتكاد تكون قصة نابليون وامرأته أن تكون مأساة، لولا أنها مشوبة بفظاظة نابليون وجمود ماري لويز، ومع ذلك ففيها عبرة جديرة بأن يفهمها كل إنسان، وهي أن الحب لا يأتي اقتسارا، ولا يؤخذ غصبا؛ فإن مفاتيح القلوب هي العطف والحنان والولاء.
بيرون وتيريزا
كان بيرون من أكبر شعراء إنجلترا. كان ينظم الشعر عن سليقة عجيبة، تؤاتيه في التعبير والخيال عن جميع ما تناوله من الموضوعات، وكانت حياته أيضا أشبه شيء بقصيدة حافلة بمجازفات الحب والحرب والسياحة.
وقد كان بيرون، وهو بعد صبي، يشعر بدوافع الغريزة الجنسية، قبل أن يتم نموها فيه، فكان وهو في الثامنة من عمره متعلقا بصبية تدعى ماري دف أشد تعلق. ولما بلغ العاشرة أحب ابنة عمه، وعندما بلغ الخامسة عشرة أحب فتاة في السابعة عشرة حبا أعمى، فكان يقفو أثرها أينما ذهبت، لا يسمع لنصيحة ولا يرعوي إلى كلام أصدقائه وذوي قرباه.
وقد ولد في يسار، من أصل نبيل، فهوى الشعر ثم احترفه. وما بلغ الرابعة والعشرين، ونشر على الجمهور علياءته الكبرى (تشايلد هارولد) حتى صار شاعر إنجلترا الأول. وقد ربح من هذه العلياءة نحو أربعة آلاف جنيه، فقويت عزيمته في الشعر والحب، فلم يكن له من شغل وسلوى سواهما ، يراوح بينهما، حتى أجمهما في النهاية، كما يأجم الإنسان نوعا طيبا من الطعام قد لزمه مدة طويلة.
وقام في نفسه في النهاية أن يحقق حياة الخيال التي يصفها في أشعاره، فخلع عن نفسه رداء الترف، وشخص إلى بلاد الإغريق، حيث انضم إلى الجيش اليوناني الوطني، الذي تألف لطرد الأتراك واستقلال البلاد وبقي يجاهد حتى مات.
وكان مما امتاز به بيرون، صورة وجه قال عنها سير والتر سكوت القصصي المعروف: «إنها شيء يحلم الإنسان به.» فكانت النساء يشغفن به لأول مرة يشاهدنه، وكن يتصدين ويستهدفن له، حتى ينلن منه كلمة مديح أو إشارة حب. وزاره أحد الألمان، فقال: إن النساء يحاصرنه حصارا لافتتانهن به.
وكانت لذلك حوادث حب عديدة، كان هو فيها المطلوب لا الطالب؛ فقد رأته السيدة كارولين لام، زوجة رئيس وزراء إنجلترا، فهامت به أشد هيام، حتى كان يهرب منها. وعندما رأته لأول مرة صاحت قائلة: «هذا الوجه الشاحب هو ما قدرته لي المقادير.» فلما أنست به قليلا قالت: «كله سوء، وكله جنون، وكله خطر.»
وكان مما يغيظ بيرون منها أنها كانت تنظم الشعر وتطلب منه الإطراء الدائم لنظمها وجماله، وكانت تلح عليه في حبها، حتى سئمها، وصار يهرب منها. ودخلت عليه مرة متنكرة في هيئة غلام، ورأت منه إعراضا، فقبضت على مقص، وحاولت أن تطعن بطنها به.
وتخلص منها بيرون أخيرا في سنة 1815؛ إذ عقد زواجه على آنسة إنجليزية، ولم يكن الدافع إلى هذا الزواج حبا صادقا لها، وإنما كانت الحقيقة أنه اعتزم أن ينتهي من حياة الحب المحرم، ونزغات الهوى، ويدخل في حظيرة المتزوجين الهادئين، ولكنه لم يحسن الفراسة في هوى قلبه، ونزعة نفسه؛ فقد كان يجيب على أسئلة الكاهن وقت الإكليل أجوبة خطأ، وتفلت من لسانه عبارات يعتبرها الناس في مثل تلك الظروف نذير شؤم للحياة الزوجية؛ وذلك لأنها دليل على أن العقل الكامن لا يطابق الوجدان في أغراضه ومناحيه.
وافترق الزوجان بعد ولادة أول طفلة لهما فراق الأبد، وأخذ الناس بالتشهير ببيرون لسوء معاملته زوجته ، وصار أكثرهم يتحامون لقاءه، حتى هجر إنجلترا إلى القارة الأوروبية، وقضى معظم حياته بعد ذلك بعيدا عن بلاده.
وقد كان بيرون فوق حد شهواته، لا يعير الأخلاق العامة قيمة. ومما يعزى إليه أنه عشق أخته، وقد كان يظن أولا أن قالة السوء هم الذين أذاعوا عنه هذه الفرقة، ولكن تبين من خطاباته التي نشرت حديثا، أن التهمة ثابتة عليه، لا وجه لنقضها، وفي أشعاره ما يوهم القارئ أنه يسوغ هذا العشق، وكان قد افترق من أخته هذه وهو طفل، وبقي على هذا الفراق إلى سن الشباب، حين التقى بها، فوجد فيها وجها أنور كالمصباح، وقامة مديدة، كأنها علم وذكاء يلتقي بذكائه، ثم أنس الأخوان أحدهما إلى الآخر، واشتعل الحب بينهما، وأنجبا طفلا، ويقال إن هذا الحادث الأخير كان السبب الأصلي لفراق زوجته، التي بقيت سنين وهي تكتم حب هذين الأخوين.
وفي سنة 1815 كان في مدينة البندقية، فالتقى بسيدة متزوجة تدعى تيريزا، كان زوجها كونتا من أشراف إيطاليا، وكانت هي في التاسعة عشرة، بينما كان زوجها في الستين، ولم يكن وجهها يجري على النمط الإيطالي؛ إذ كان أبيض شديد البياض، وشعرها أصفر ذهبيا، وكانت سحنتها أشبه بأهل شمال أوروبا منها بأهل إيطاليا.
وما هو أن عرفت الشاعر وجالسته مرات قليلة، حتى رأت نفسها قد علقته، ولم تعد تقدر على فراقه؛ فقد كانت قبلا تمزح بالعشق، أما الآن فقد شعرت أنها أمة قد استرقها حب بيرون، فإذا نظرت إليه، وتملت من طلعته، شعرت كأن جسمها يتوهج بالرغبة فيه.
وكان بيرون في ذلك الوقت قد جاوز الثلاثين، وكان قد اعتاد الخمر والترف، فظهرت عليه أعراض السمن والترهل، وبدت عليه دلائل الفتور والخمول، وذهبت عن وجهه تلك المسحة الروحانية التي كان يفخر بها الشاعر قبلا.
وفرت تيريزا من زوجها، وعاشت مع بيرون في بيت واحد، ولم يفترقا بعد ذلك إلا عندما أراد بيرون أن يبدأ حياة جديدة في تحرير اليونان من الأتراك. واستفاد بيرون من عشرة تيريزا، التي قطعته عن إدمان الخمر، وأصلحت عاداته التي كان قد أفسدها الترف، ولم يكن بيرون يحبها أولا، ولكنه عندما رأى إخلاصها وتعلقها به، مع تلك السحنة الشمالية التي يحبها الإنجليز، تفتح لها قلبه وعشقها هو الآخر.
وكان زوجها يحاول طوال الوقت أن يقتل بيرون، فكان يكتري له الأوغاد لكي يغتالوه، فكان بيرون لا يسير إلا مدججا بالسلاح.
وقد كانت تيريزا تؤثر حبيبها على نفسها، تحثه على النظم، وتعمل لإذاعة شهرته، وتخلص له الخدمة والولاء، وتمنعه من متابعة عاداته في الانغماس والاستهتار، وربما كانت هي الوحيدة من النساء اللاتي عشقن الشاعر، ولم ترج من عشقها اللذة والتمتع؛ فقد كانت تنظر في كل ما تفعل إلى مصلحته دون مصلحتها.
قال أحد المترجمين لحياة بيرون: «لقد أصلحته، ورفعته، وانتشلته من الحمأة، ووضعت على رأسه تاج الطهارة، ثم لما استنقذت هذا القلب العظيم، لم تعمد إلى احتكاره لشخصها، وإنما سخت وجادت به للإنسانية.»
وعاشت بعده 27 عاما، وماتت في سنة 1873، ونشرت كتابا عنه، ضمنته ذكرياتها عن أيام الحب التي قضتها معه في إيطاليا، وبلغ من ولائها له، أن زارت وهي عجوز فانية، بيت بيرون في إنجلترا، وأذرفت الدموع لذكرى حبيبها.
ولا يذكر اسم بيرون دون أن يذكر أيضا شيلي الشاعر، ولا يذكر الاثنان دون أن تذكر علاقتهما بالفيلسوف جودرين وبنتيه؛ فإن جودرين هذا كان من دعاة الحرية الفكرية والتنظيم الاجتماعي، وكانت له بنتان، تتلألأن بالجمال والذكاء، وقد تزوجت إحداهما شيلي، أما الأخرى فقد عشقت بيرون. وكان الجميع يقضون وقتهم معا، سائحين أو مقيمين في إيطاليا، وبقوا على هذا الحال إلى أن غرق شيلي بعيد الساحل الإيطالي، فتبدد الشمل.
مدام دوستايل
ليس في جميع ما ألفته مدام دوستايل شيء جدير بالإعجاب، وهي إنما تقرأ الآن للقيمة التاريخية التي لمؤلفاتها، من حيث إنها دليل نزعة فشت قبيل الثورة الفرنسية وبعيدها. وهذه النزعة تتلخص في الميل إلى رفع قيمة الحنان، والنظر إلى شئون العالم عن سبيله. ولم يكن الأدباء في عصر مدام دوستايل يكبرون قدرها، وإنما كان يأتي احترامها من العامة؛ لأنها كانت متطرفة من أكثر العلوم والآداب، تعرف شيئا يسيرا عن كل منها، وتستطيع الكلام أو الكتابة عنها، بحيث تسترعي احترام العوام واحتقار الخواص. ومما أذاع شهرتها أن نابليون خاصمها، ونفاها من فرنسا. ونزول نابليون إلى مخاصمة امرأة، جدير بأن يرفعها بعض الرفعة، وكانت أيضا ابنة نيكر وزير المالية في فرنسا، وقد اشتهرت أمها بأنها وقت أن كانت في سويسرا، عرفت المؤرخ الإنجليزي الشهير جيبون وعلقته، وأوشكت أن تتزوج به.
وقد قضت مدام دوستايل شبابها في باريس، واختلطت بعلية الفرنسيين، وكانت منذ طفولتها مجدة في الدرس، تقرأ كل ما يقع في يديها، وترغب في معرفة كل شيء، فكانت تدرس التاريخ الطبيعي، كما تدرس الأدب، وتقرأ في الاقتصاد والقوانين، كما تقرأ في التاريخ والفلسفة.
وكان جميع الكبراء من رجال السياسة أو الأدب في فرنسا، يرون نذر الثورة قبل وقوعها ويحتاطون لها. وكان نيكر مثريا عظيما، فخشي على ثروته أن تضيع إذا هبت العاصفة، وأزالت الأشراف عن إقطاعاتهم، فعقد الزواج لابنته على البارون ستايل هولستين، سفير أسوج في باريس؛ وذلك لكي تحتمي بدولته فيبقى مالها.
ولم تعش كثيرا مع البارون؛ فقد رزقت منه ولدا، ولما حدثت الثورة انضمت في ابتدائها إلى العامة، تروج دعوتهم وتنادي بحقوقهم، فلما أفرط زعماؤها في اضطهاد الأشراف، ومن خالفهم في الرأي، عادت فصارت ملوكية. وأخذت تؤوي أعداء الثورة إلى السفارة الأسوجية، معتمدة في ذلك على حرمة السفارات. وعرف رجال الثورة ما تفعل فهاجموها، واضطروها إلى الفرار من فرنسا؛ حيث عاشت بقية أيامها بعيدا عنها.
وكان نابليون يكرهها، وقد أمر بنفيها خارج البلاد. ويحكى أن ابنها، وكان يبلغ الخامسة عشرة، مثل أمام نابليون، وتوسل إليه أن يأذن لأمه بالرجوع إلى فرنسا، فقال نابليون: إذا أذنت لأمك بأن تذهب إلى باريس، فإني أضطر إلى سجنها بعد شهرين في إحدى القلاع، ولست أرغب في أن أعاملها بمثل هذه المعاملة، فلتذهب أينما شاءت، فهذه أوروبا كلها مفتوحة الأبواب أمامها. هاكم رومية والبندقية وبطرسبورج. وإذا كانت تريد أن تؤلف عني مقالات القذف، فلتذهب إلى إنجلترا؛ حيث لا يكلفها هذا العمل شيئا عظيما، أما في باريس، فإنها تكون قريبة منا أكثر من اللازم.
وقد أحبت مدام دوستايل جملة رجال غير زوجها الذي لم تحبه قط، وإنما تزوجت به مراعاة لمصلحة ليس غير؛ فقد عرفت هنري كونستان، السياسي الأديب، وعشقته، وتبادل الاثنان الحب، وإن كان حظها منه أكثر من حظه؛ فقد كانت هي قصيرة ممتلئة جاحظة العينين، فكان محبوها، على حد قولها، يحبونها أقل مما تحبهم. وعندما نفى نابليون هنري كونستان سنة 1802 التقت به في ألمانيا وعاشا معا سنوات طويلة.
وليس هناك ما يدل على أنها كانت تخلص الحب لجميع من أحبوها؛ فقد كانت تنفضهم من يديها واحدا بعد آخر؛ ففي سنة 1811 مثلا، كانت تبلغ الخامسة والأربعين، فعرفت شابا إيطاليا في الثالثة والعشرين من عمره يدعى روكا، فتزوجت به، واشترطت عليه أن يكون الزواج سرا، وألا تحمل اسمه، وذلك ضنا باسمها الذي شاع في أوروبا. وقد ساء حظها في هذا الشاب؛ إذ أصيب بالصمم بعد الزواج بمدة قليلة.
وخلاصة القول أن مدام دوستايل لم تفلح كل الفلاح، لا في الحب ولا في الأدب؛ لأنها كانت تطمع في كل شيء، ومعرفة كل شيء، وكانت تسوم نفسها من الجهد ما لا قبل لها به؛ فقد كانت لا تنام إلا بضع ساعات في الليل، وتقضي طول النهار في الكتابة، فكتبت شيئا كثيرا، دون أن تحسن أو تجيد في بعضه، حتى لقد قيل إن وصيفتها كانت تسرح شعرها، وهي لا تكف طول وقت التسريح عن الكتابة، وأحبت عددا من الرجال دون أن تخلص الإخلاص كله لأحدهم، فكان حبها على الدوام أشبه شيء بنزعة من نزعات الشهوة، تهيج ثم تخمد.
ولعل القطعة التالية التي كتبتها عن شقاوة الزواج من أحسن ما كتبت في جميع ما ألفت من الكتب، قالت:
في شقاوة الزواج نوع من المحنة، يعدو طور جميع الآلام في هذا العالم؛ فإن كيان المرأة يتوقف على الرباط الزوجي. والوحدة التي تعيش فيها المرأة الشقية في زواجها تجالد القدر وحدها، وتحمل إلى القبر وحيدة، بلا رفيق يودعها أو يأسف عليها، هي وحدة دونها وحدة السائح في صحاري جزيرة العرب. وعندما تشعر المرأة بأن شبابها قد أنفق وذهب ضياعا لا فائدة فيه، وأن هذه الأشعة الأولى لن ينعكس منها شيء في نهاية الحياة، وعندما تشعر بأنه ليس في ظلام الغسق ما يذكرها بضوء الفجر، عندئذ تثور النفس، وتشعر المرأة أنها قد حرمت من عطايا الله على هذه الأرض.
وربما كانت بلاغة هذه الكلمة راجعة إلى إحساسها الشخصي؛ فإنها هي نفسها هذه المرأة.
أهواء جورج صاند
جورج صاند اسم مستعار لأديبة شهيرة.
لم يكن لجورج صاند هوى واحد، وإنما كانت لها أهواء، تقسم الحب قلبها، وتتنقل من خليل مملول، إلى آخر طريف محبوب، لا تمضي عليه برهة حتى تصير طرافته سآمة وحبه قلى. وكان لها قدم راسخة في الكتابة، وبخاصة في الفن القصصي، الذي كانت تبذ فيه فيكتور هيجو؛ فقد كان هيجو لغرامه بالصناعة اللفظية، وتيهه بنفسه، يميل إلى الضخامة والأبهة في وصف أشخاص قصصه؛ فإذا وصف شقيا، بالغ في شقائه، حتى يخرج عن الصورة المألوفة للشقاء. أما جورج صاند فكانت كاتبة ملهمة، ترسم الناس كما هم، وتخطط أخلاقهم تخطيطا صحيحا، فإذا قرأ الإنسان إحدى قصصها شعر أنه في وسط أناس حقيقيين، يقرأ قلوبهم، وتطالعه سرائرهم في أحاديثهم وسلوكهم.
ولدت جورج صاند سنة 1804، وكان اسمها أورور، وكان أبوها ينتمي إلى أسرة شريفة قديمة، في حين أن أمها كانت من العامة؛ ولذلك لم تعش أورور كثيرا مع والدتها؛ فإن جدتها الشريفة أبت أن تؤوي هذه المرأة العامية إلى بيتها. ولكن الجدة عنيت أكبر عناية بتربية أورور، فعينت لها معلما خاصا، ثم أرسلتها إلى مدرسة ملحقة بأحد الأديار في باريس، بقيت فيها مدة طويلة، أتقنت فيها اللغة الفرنسية، وانكبت على قراءة آدابها القديمة والحديثة.
ونشأت أورور على أذواق غربية، قلما تنشأ عليها الفتيات؛ فقد تخلقت بأخلاق الرجال، تلبس لباسهم، وتدخن مقادير هائلة من التبغ. وكان لها أخ، رزق به أبوها عن طريق غير شرعي، تعلمت منه ركوب الخيل كما يركبها الرجال، حتى لهجت الألسنة بانتقادها.
وماتت جدتها سنة 1821، وأوصت بترك جميع أموالها لها، وكانت تقدر بمبلغ 25000 جنيه، فرغب في زواجها مزارع، سليل بيت شريف قديم، قريب من مدينتها نوهان في إقليم أندر، فتزوجت منه في سنة 1822 زواج المصلحة لا الحب، ورزقت منه بعدة أولاد، ولكنها سئمت العيشة الريفية، ولم تكن ترى في زوجها شيئا من رقة الطباع، وذكاء القريحة، وتنبه الذهن، وهي صفات كان لها منها حظ كبير في نفسها. وكانت هي في حديثها تميل إلى الفكاهة والمداعبة، بينما كان هو يكره ذلك، فلم تتفق رقتها وجفوته، حتى لقد حدث بينهما مرة جدال، انتهى أن عمد إلى ضربها، فلكمها على وجهها بقبضة يده جملة لكمات، كانت القاضية على علاقتهما الزوجية.
وارتضت على أن تترك أولادها عنده، وترحل هي إلى باريس مع ابنتها فقط، وتترك له ريع جميع أملاكها، لا تأخذ منه سوى 60 جنيها في العام.
وعندما ذهبت إلى باريس، ذهبت إلى جريدة «الفيجارو» فاشتغلت فيها بأجر بسيط، ولم يمض عليها زمن كبير حتى عرفت الحي اللاتيني؛ حيث وطن الأدباء، فنفضت عن نفسها جميع اللياقات التي يحتمها العرف على النساء، ولبست لباس الرجال، وتخلقت بأخلاقهم، تغشى القهوات والحانات، وتشرب النبيذ الحار، وتدخن السيجار الكبير.
وعرفت في ذلك الوقت صحفيا صغيرا، يقل عنها في العمر نحو سبع سنوات، جمعت آصرة الصحافة بينهما فتآخيا، وانتهت الزمالة بصداقة. وكان في هذا الصحفي، الذي يدعى جول ساندو، فتوة وصباحة تغري بالحب، فما هو أن جثا أمامها مرة، يطلب إليها أن تمنحه قلبها، حتى لبت طلبته، وقام في نفسها له هوى ربما كان أول أهوائها؛ فقد استسلمت للحب، وانتشت به، والتذته، حتى كتبت في ذلك تقول:
إني أود أن أشعرك بهذا الإحساس - إحساس الفرح بالحياة وقوتها - التي أشعر بها في عروقي. الحياة، أجل الحياة، ما أحلاها وما أطيبها، على الرغم مما فيها من عنت، وأزواج، وديون، وأقارب، وقولة سوء، وآلام، ومكابدات! هذه الحياة مسكرة. وهذا الحب أن أحب، وأن أحب، هذه هي السعادة . هذه هي السماوات.
وقد وضعا بالاشتراك قصة تدعى «روزوبلانش» وجعلا اسم مؤلفها جول صاند، ونجحت القصة نجاحا شجعها على احتراف الفن القصصي، فصارت بعد ذلك تؤلف وحدها، وجعلت اسمها في التأليف جورج صاند. ووضعت قصة أخرى لفتت نظر النقاد والأدباء، ونالت إطراءهم، حتى اقترحت عليها مجلة العالمين أن تعطيها في العام 160 جنيها؛ لكي تخصها بمقالاتها وقصصها. وعرضت عليها مجلات أخرى أن تكتب لها.
وكان أهم ما يجذب النظر إلى قصصها، أنها كانت تدعو إلى «الحب الطليق» وتدافع عنه. وقد أثرت عنها عبارة، قالتها عقب انفصالها من زوجها، وهي: «ليس هناك ما يسوغ للإنسان أن يمتلك نفس إنسان آخر، كما ليس له أن يمتلك شخص العبد.»
وكانت تقول: إن الرابطة بين الرجل والمرأة يجب أن تكون مقدسة، إذا كان الحب قد قدسها. ومن الحكم التي اشتهرت عنها قولها في التمييز بين الحب والشهوة: «الحب يعطي، أما الشهوة فتأخذ.»
وكانت في ذلك الوقت في السابعة والعشرين من عمرها، ولم تكن جميلة، وإنما كان فيها شيء من الملاحة والخفة؛ فقد كانت ربعة، تميل إلى النحافة، وكان بعينيها شيء من الجحوظ. وكان في حركاتها رشاقة تفتن الناظر، فيها شيء من الجرأة والخوف معا، فإذا تكلمت تفتحت فيسقط بذلك حاجز الخجل بينها وبين من يخاطبها لأول تعارف، فإذا جودلت واستثيرت تدفقت، فتنكشف عندئذ شخصيتها عن طبيعة حافلة بالكنوز، تائقة إلى بذلها والسخاء بها.
وانتهت صلتها بجول ساندو بحادثة غريبة؛ فقد سافرت إلى زوجها لكي ترى أولادها، وعادت دون أن تؤذنه قبلا بعودتها. ولعل غرضها كان أن تفاجئه مفاجأة الحبيبين، ولكنها عندما دخلت عليه وجدته يعانق فتاة، فانتهى هذا الهوى الأول بقطيعة نهائية.
ووقعت خيانة حبيبها في نفسها أشد وقع، حتى شعرت بعدها كأن عواطفها قد ماتت، فصارت تتجنب الرجال، وتتحامى لقاءهم. وتعرفت إلى فتاة ممثلة تدعى ماري دورفال، كانت ترافقها وتلازمها حتى ذهب عنها أثر تلك الصدمة.
وبعد سنوات من هذه الحادثة عرفت الكاتب الشاعر القصصي ألفرد دو موسيه، وكان غاية في الجمال والذكاء. وكانت جورج صاند أكبر منه بسبع سنوات حين التقت به، وتعلق كل منهما بالآخر، وذهبا إلى إحدى ضواحي باريس لكي يقضيا - كما قالت جورج صاند - شهر العسل، دون زواج. وبعد ذلك عقدا نيتهما على رحلة طويلة في إيطاليا، وسافرا إلى البندقية؛ حيث استأجرا مسكنا فيها، وأقاما مدة قصيرة، انتهت بقطيعة عاجلة، وكان سبب ذلك أن «دو موسيه» أصيب بمرض أقعده، ولم يكن حب صاند له إلا حب الشهوة؛ فقد كان شابا في الثالثة والعشرين من عمره، وكانت هي في الثلاثين، فلما مرض سئمته، وقد مرضته بمعونة طبيب إيطالي وسيم يدعى باجالو، شفاه من مرضه، وشفاها هي من حب دو موسيه.
وعلقت هذا الطبيب، فهجرت حبيبها السابق في البندقية، يعض أصابع الندم، وسافرت هي مع هذا الطبيب الإيطالي إلى باريس، وشاعت حكاية حبها مع ألفرد دي موسيه، والمسلك السافل الذي سلكته معه، فصار يحذرها كل أحد، ويتحامى مراوداتها جميع الأدباء. وقد حاولت أن تصيد قلب فيكتور هيجو فأبى، وحاولت أن تفعل مثل ذلك بدوماس الكبير، فقهقه في وجهها. ولم تنل شيئا من بلزاك.
وحاولت أن تصلح ما بينها وبين ألفرد دو موسيه بعد ذلك، حتى جزت شعرها، وأعطته له علامة ولائها وأمانتها، ولكنه منذ حادثة البندقية لم يكن ينظر إليها إلا بالتوجس والحذر.
ونالت مكانة كبيرة في الأدب، حتى ربحت منه نحو خمسين ألف جنيه. وقد كان هذا مبلغا في عصرها، وعندما أوشكت أن تشعر أن سوقها في الحب قد كسدت، نالت حظوة في عيني الموسيقي العظيم شوبان، فعاشت معه نحو ثماني سنوات، وقد زار كلاهما في بدء غرامهما جزيرة ميورقة، فأصيب شوبان بسعال، حتى كتبت عنه جورج تقول: «إنه يسعل برشاقة عجيبة.» وقالت أيضا: «إنه كثير التقلب، وليس فيه شيء ثابت لا يريم عنه، سوى سعاله.»
وقد كتبت مجلدات عن علاقتهما، وكان لجورج صاند نفسها نصيب كبير فيما كتب، اعترفت فيه بأشياء وتفصيلات كثيرة عن علاقتهما بما عهد الناس فيها من الصراحة.
وانقطعت علاقتهما في سنة 1847. وقال شوبان عنها في ذلك الوقت: «لم ألعن واحدا قط، ولكني سئمت الحياة حتى أراني أكاد ألعنها .» ومات شوبان في سنة 1849.
وبموته تغيرت جورج صاند، فهدأت طبيعتها، وتحول نظرها عن متجهه الأول؛ فقد صارت من حيث العواطف كالبركان الميت، في حين أن ذكاءها تنبه، فأخذت تكتب قصصا ساذجة عن الحياة الريفية، وقصصا أخرى للأطفال غاية في الإتقان والبراعة. وماتت سنة 1876، فكان لموتها دوي عظيم في جميع أندية الأدب في أوروبا.
ويحسن بنا أن نختم مقالنا هذا بكلمة قالها عنها بلزاك، وهو أستاذ في استكناه النفوس، قال:
كانت أنثى تعيش عيشة الأعزب من الرجال. وكانت أديبة سخية، ولية، طاهرة. وكانت صفاتها السائدة صفات الرجل، وعلى هذا يجب ألا ننظر إليها نظرنا إلى النساء. وكانت أما طيبة، يعبدها أولادها. أما من حيث الآداب، فقد كانت تنظر إليها نظر الشاب في سن العشرين؛ وذلك لأنها كانت في سويداء قلبها طاهرة، بل كانت أكثر من ذلك، كانت حيية خجولا. لم تكن هذه الفوضى البادية على خلقها إلا شيئا ظاهرا على السطح فقط، وما نزقاتها وطيشاتها إلا عنوان المجد في أعين أولئك الذين لهم نفوس شريفة.
وهذا حكم غريب. ولكن بلزاك كان يعرفها أكثر مما يعرفها عامة الناس. وكان ذا بصيرة نافذة إلى النفوس والقلوب، يعرف مستكناتها، ويقرأ ما تضمره مما تظهره.
كارليل وزوجته
كان كارليل من رجال الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، وكان يعنى بانتقاء الألفاظ، يتخير منها ذوات الرنين الفخم والصوت الضخم، وكان يبعد في هذا حتى يسف ويبهرج، ولكنه كان مع ذلك يفكر تفكير العبقري، ويستشف الحقائق من أستار الأوهام، ويخلص في تفكيره إخلاص العابد في صلاته. وهو أول أديب إنجليزي عني بالأدب الألماني عناية جدية، وعرفه إلى أمته. وقد ألف جملة كتب خالدة، أهمها كتاب «الثورة الفرنسية»، وكتاب «الأبطال»، و«فريدريك ملك بروسيا».
وتؤثر عنه حكم وأقوال بارعة، هي مضرب الأمثال الآن عند الكتاب، وباعثة التفكير عند جملة القراء، فمن ذلك قوله: «إنما الإنسان الحي أحجية ظاهرة، فهو يمشي بين أبديتين. ولو لم نكن عميانا كالخلد، لقدرنا إنسانيتنا بالخلود، ولما صارت قيمة مركز الشخص ونفوذه وما إليهما إلا كل شيء، فإذا قلت إنك إنسان فقد قلت كل شيء.»
وقوله: «أليست حقيقة الفكر أنه وحي؟»
وقوله: «إذا فكرت وأنضجت الفكرة، هل تجد شيئا أعجب من شيء؟ إني أنا لم أر أحدا قام من بين الموتى، ولكني رأيت آلافا قاموا من العدم. وليست بي قوة تحملني طائرا إلى الشمس، ولكن لي من القوة ما أرفع به ذراعي، وهذا العمل ليس أقل غرابة من ذلك.»
نشأ كارليل في عائلة أمية في اسكوتلاندا، وقد انتظم في سلك طلبة الدين بنية أن يصير راعيا لإحدى الكنائس، ولكنه لم يسر إلى نصف الطريق حتى عرف من سريرة نفسه أنه لم يخلق لهذا العمل، فتحول عنه إلى الأدب، وسار إلى أدنبره حيث قرر أن يكتب ليعيش، وأن يعيش ليكتب.
وعرف وهو في أدنبره فتاة تدعى مس ولش، كانت متطرفة من بعض العلوم والآداب، تغشى أندية الأدباء، وتكثر من المناقشة والبحث، وكانت إلى ذلك جميلة ممشوقة. فلما تعارف الاثنان رغب كل منهما في الزواج بالآخر؛ فقد رأت فيه الفتاة أمائر العبقرية والشهرة المستقبلة، ورأى هو فيها فتاة ذكية جميلة، فاتفقا على الاقتران.
وتم زواجهما سنة 1826، وكان عمرها 26 عاما، أما عمره فكان 32 عاما، وكان كلاهما يحب الآخر؛ إذ لم يكن كارليل يطمع في شيء من هذا الزواج إذا لم يكن يحبها، ولكن من الناس من يتهم مس ولش بأنها تزوجته وهي لا تحبه، وإنما كانت ترمي إلى اكتساب الشهرة باقتران اسمها إلى اسم أديب كبير لا بد أن سيشتهر قريبا. ولكن يرد على هؤلاء بأنها تزوجته وهو في فاقة بالغة، بحيث إنها ضحت براحتها وعانت معه صنوف الآلام، وهي تخدمه خدمة العبيد عدة سنين، فإن كانت قد أدركت بذكائها أنه سيشتهر، وأنها ستنتفع من هذه الشهرة، فهي لا بد أيضا قد أدركت أن هذه الشهرة بعيدة، وربما لا تتحقق مطلقا.
وكلا الفرضين جائز، وإنما دعانا إلى افتراضهما أن زوجة كارليل عانت في زواجها آلاما عدة، واتهم زوجها بالقسوة والفظاظة والخروج عن طور المروءة، فإن كانت قد تزوجته عن حب وإخلاص فعدم اتفاقهما بعد ذلك من صنوف الصدف، التي قد يكون فيها كارليل مسئولا أو غير مسئول. أما إذا كانت قد تزوجت به وهي لا تحبه، فقد وقعت تبعة شقائهما عن كارليل.
وعاش الزوجان في بدء زواجهما في كوخ منفرد في نجد مقشعر شمال أدنبره، لا ينبت فيه إلا الضئيل من النباتات. وكانا وحيدين لا يؤنسهما أنيس سوى أخ لكارليل كان قد ابتنى كوخا قريبا من كوخهما. وأخذت الوحدة تفعل أفاعيلها في أعصاب الزوجة؛ فقد كانت تقوم بأداء جميع ما يحتاج إليه البيت، ولم يكن كارليل ممن يرتاحون إلى مؤانسة الزوجة، وبخاصة إذا كانت هذه المؤانسة تنطوي على جدال علمي أو أدبي؛ لأن كل لذته في ذلك الوقت، بل كل عمله كان ينحصر في القراءة والكتابة والتفكير. وهذه الأعمال جميعها تحتاج إلى الوحدة.
وأخذت زوجته لكي تهدئ أعصابها، تتعود معاطاة الشاي والتبغ ثم الأفيون، ولكن هذه المخدرات لم تكن إلا لتزيد التوتر في أعصابها؛ فكانت حياتها تتراوح بين توتر قد يكون مصحوبا بتهيج، وبين إعياء قد يبلغ حد الخور والمرض.
وانتقلا بعد ست سنوات من كوخهما إلى لندن، وكان يزورهما لورد أشيرتون وزوجته، فقام في ذهن زوجة كارليل أن زوجها يعشق زوجة هذا اللورد، وصارت الغيرة تأكل في صدرها كالسوس، حتى كانت تقضي الليالي وهي مسهدة لفرط اهتمامها لهذا الأمر. والأغلب أن هذه الغيرة لم تكن سوى نتيجة تهيجها وضعف أعصابها؛ لأن كارليل كان على خلق عظيم. وكان اللورد أشيرتون يزوره ويستزيره، دون أن تدخل إلى قلبه أقل ريبة.
وماتت زوجة كارليل قبل وفاة زوجها بنحو 15 عاما. ويقال إن كارليل حزن عليها حزنا عظيما، وتذكر ما قاسته معه، فأذن للمؤرخ فرود أن يكتب تاريخ حياتها، يجمعه من الخطابات المتفرقة المرسلة إليها منه أو من غيره، والمرسلة منها إليه أو لغيره من الناس. وقد فعل ذلك فرود واستخرج من هذه المجموعة أن كارليل أساء معاملتها.
وهناك من يعزو آلام هذه الزوجة الشقية إلى أنها كانت تشتهي أن يولد لها ولد، فلما لم تنل مأربها من ذلك، تحولت هذه الشهوة المحبوسة، وانطلقت في ميادين أخرى، فصارت تكايد زوجها وهو يكايدها، حتى ساءت العشرة، وفسدت بينهما الزوجية.
ولكن من الخطابات التي أرسلتها إلى زوجها ننقل هذا الخطاب التالي، وهو لا يقرؤه رجل إلا ويشعر بأن فيه من التعبيرات ما يدحض هذه التهمة:
حبيبي
لقد قلت إنك ستسأم، وإني أرجو في قلبي أنك الآن تسأم، فما أحلى أن أشفيك من هذا السأم بالقبلات عندما أعود، فستأخذني، وتسمع مني كل صغيرة جرت لي، وسيخفق قلبك عندما تعرف مقدار اشتياقي لكي أرجع إليك. يا أعز أعزائي، ويا أحب أحبائي! ليباركك الله. إني أفكر فيك في كل ساعة، في كل لحظة. وإني أحبك، وأعجب بك كإعجابي بأعظم شيء. ليتني الآن عندك، فأطوقك بذراعي، وأجعلك تنام نوما هنيئا ما شعرت بأرق منه منذ سافرت. لك المساء الخير. اذكرني في أحلامك.
وخلاصة القول وأرجحه، أن كارليل لم يسئ إلى زوجته، وإنما كانت ظروف صناعته تحبب إليه الوحدة، وهذا شر ما تكرهه المرأة في زوجها. ولم يرزقا الأطفال، وهم سلوى الأم وعزاؤها وقت فتور الحب. ثم كانت عادة تعاطي المخدرات، وهي وحدها تكفي لهدم أقوى الأعصاب، فكانت هذه الظروف مجتمعة علة شقاء هذين الزوجين وسببا في ذهاب حبهما السابق.
فيكتور هيجو ومدام درويه
الأدباء صنفان، أحدهما يرمي إلى غاية فلسفية، أو إلى مثل أعلى، يتحرى في أكثر ما يكتب أن يبلغهما، ويحث غيره على بلوغهما، فهو يعد نفسه مركزا للكون، قد تمركزت فيه مقاصده العليا، فيرى من ذلك أن واجبه الحتم يقضي عليه أن يحقق هذه المقاصد؛ لأنها ليست مقاصده فحسب، بل هي مقاصد الكون أيضا، فهذا هو رجل الفن.
وثم صنف آخر ليس له مثل أعلى ولا غاية فلسفية، تعنيه الصيغة، فلا يبالي بالغاية، قصاراه أن يترنم ويشدو، فإذا كتب ذهب جهده في وصف الألفاظ وتنسيقها، وتنسيق عبارته وتزيينها، فهذا هو رجل الصنعة؛ أدبه أدب الفسيفساء والدنتله.
وكان فيكتور هيجو من هذا الصنف الثاني، يؤلف القصائد والقصص والدراسات، فيصوغها أحسن صياغة، يجيد حبك العبارة، ويأتي بالعجب في تشبيهاته واستعاراته ومجازاته، ولكنه كان في جميع ما كتب خلوا من الغاية الفلسفية. والناس في كل مكان، وبخاصة إذا كانت عواطفهم تسود عقولهم، تفتنهم الصنعة في الكتابة؛ لأنها نوع من أنواع الشدو والترنم، فللأسلوب الحسن المحبوك المزين إيقاعات تشبه إيقاعات الموسيقى، تبعث في النفس السرور، فكان فيكتور هيجو محبوبا لهذا السبب عند العامة، مشهورا بينهم. وقد عاش مدة طويلة، واشتغل بالسياسة، فصارت حياته ومؤلفاته رمزا ودليلا على فترة طويلة من الزمن في تاريخ فرنسا. وهذا وحده هو ما سيضمن بقاء مؤلفاته وكتاباته، واعتبارها سندا من أسانيد تاريخ عصره.
وكان مما يتسم به هيجو، فوق إتقانه الصنعة وتماديه فيها، وإغراقه في الانكباب على وصف الألفاظ، أنه كان لا يدري معنى الفكاهة، فكان لذلك لا يلحظ السخف الذي يحدثه الإغراق في الصنعة، وكان أيضا على شيء كبير من الغرور والتيه، فلا يأبه للنقد.
حدث مرة أن وضع قصة تدعى «الرجل الذي يضحك»، وجعل أحد أفرادها من نبلاء الإنجليز، ودعاه باسم توم جم جاك. وكان هذا الاسم أشبه بالمهرجين منه بالنبلاء، فانتقد عليه ذلك أحد الإنجليز في لطف وكياسة، فما كان من هيجو إلا أن شمخ بأنفه منكرا عليه ما لاحظه، مدعيا أنه يدرك من الذوق في التسمية عند الإنجليز أكثر من هذا الإنجليزي.
وفي كتاب آخر أخطأ في اسم الموسيقى الاسكوتلاندية المعروفة، فكتبه
Bugpipes ، فلاحظ ذلك عليه أحد الاسكوتلانديين، وطلب إليه تحرير اللفظة بأن يجعل الحرف الثاني
a
بدلا من
u ، فأبى وتعنت وكابر، بأن اللفظة يجب أن تكون كذلك!
كان هذا التيه هو الذي جعله ينتمي في الأصل إلى الجمهوريين؛ لأنه لم يكن يطيق أن يكون في فرنسا إمبراطور، لا يقف وإياه على مستوى واحد. وكان، مع أنه جمهوري في المبدأ، يتمحل الحكايات والأباطيل لكي يثبت أنه من بيت نبيل قديم، وذلك مع أن جده كان نجارا، وكانت إحدى عماته متزوجة من خباز، وعمة أخرى متزوجة من حلاق، وأخرى كانت خياطة. ولو كان هيجو ديمقراطيا حقيقيا لافتخر بحقيقة نسبه، ولكنه - كما قلنا - لم تكن له غاية فلسفية في هذا العالم، وإنما كان يبغي الشهرة برصف الألفاظ والتدجيل على العامة.
ولد في سنة 1802، وشغف في صباه بالشعر، فنال عدة جوائز عليه، وذكرته الندوة الفرنسية في سنة 1817. ولما بلغ العشرين وقع في هوى فتاة تدعى إديل فوشيه، كانت حوراء دعجاء، على رأسها إكليل جثل من الشعر الأسود، وكان بها حياء يغري، ورشاقة تفتن من ينظر إلى حركاتها، فتعرف فيكتور هيجو إلى أبويها، وصار يكثر من زيارتهما، حتى أدركت أم الفتاة أنه عالق بابنتها. ولم يكن للشاعر دخل ثابت تعتمد عليه عائلة في المعيشة، فلما اقترح على الأبوين أن يتزوج ابنتهما رفضا، واعتلا عليه بصغر سن الفتاة، وأنها لا تملك شيئا، وأنه ليس له صناعة. وحدث أن الملك لويس الثامن عشر قرأ بعض قصائد فيكتور هيجو، فأعجب بها، ورتب له معاشا سنويا قدره 40 جنيها، وكان قد باع ديوانه الأول في تلك السنة، فربح منه 30 جنيها، ففرح بذلك، وذهب إلى أهل إديل، وأخذ يلح في زواجه الفتاة، ويحتج بأنه لا بد ناجح في الأدب، وأن معاش الملك باكورة دخله العظيم الذي يتوقعه من رواج أدبه.
وتزوج من إديل، وعاشا طويلا، ورزقا أولادا، فكان بيتهم مثال البيت السعيد، ونجح فيكتور هيجو كما توقع، وذاع اسمه وكبر دخله.
وحدث أنه كان ممن يترددون على صالون هيجو أديب معروف يدعى «سانت بوف» كان قد مدح بعض كتب هيجو، فأحبه الشاعر، وصار يقبل عليه، ويفتح له صدره، ويبسط له مائدته، فكان يقصد إلى داره كل يوم، وقد لا يجد الشاعر هناك فيجالس زوجته، ويأخذان في أطراف الأحاديث وشجونها.
هذا هو الواقع الذي كان يعرفه كل إنسان يتردد على دار فيكتور هيجو، ولكن سانت بوف كان سافلا، بل كان غاية ونهاية في السفالة؛ فقد نشر كتابا قال فيه إنه عشق مدام هيجو، ولو صح هذا العشق لكان أحرى به أن يخفيه عن الناس، ضنا بكرامة هذه المرأة أن تبتذل في الأفواه، وبخاصة إذا كان يحبها، ولكن من الأسرار ما يجذب صاحبه على البوح، ولا يفتأ يعنته حتى يفشيه.
وهنا جدير بنا أن نقف هنيهة، وننظر في تلك الطبيعة اللاتينية التي يتسم بها أهل جنوب أوروبا، ونقابلها بطبيعة الأمم الجرمانية الإنجليزية التي يتسم بها أهل شمال أوروبا، فأدباء اللاتين يتفتحون ويصارحون القراء ويكشفون عن قلوبهم، لا يعتدون في ذلك بأي اعتبار أدبي، وهذا دأبهم من قديم ومن حديث؛ فإن اعترافات «سان أوغسطين» و«جان جاك رسو» تدل على ذلك، كما تدل أيضا عليه كتابات «ألفرد دو موسيه» و«جورج صاند». وهذا الأديب الإيطالي «دانونتسيو» الذي باح بحبه للممثلة المعروفة إليانوره ذوز. وهذا بخلاف ما يحصل في الأمم الشمالية؛ حيث الطبائع أميل إلى الكتم، وأقدر على حفظ السر، وأكره ما تكون للفضائح، يظهر عليها الجمهور وتقف عليها العامة؛ فقد مات «بارتل» أسى وكمدا عندما ذاعت عنه قصة غرامه بإحدى السيدات. ومات «أوسكار وايلد» غما وجزعا عندما اشتهرت عنه قضية فسق.
ولو كان سانت بوف إنجليزيا ووضع مثل هذا الكتاب، لما لقي من الجمهور سوى البصق في وجهه، ومن المحاكم سوى الحبس السريع.
فلما تلطخت مدام هيجو بهذا العار سقطت من عين زوجها. ولم يكن هناك ما يدل على أن القصة التي ذكرها سانت بوف صادقة، ولكن الجمهور صدقها، وكان هذا كافيا لأن يغض من كرامة فيكتور هيجو ويقرح في صدره. وقد كظم غيرته، وأغمض عينه على القذى، وعاش مع زوجته محافظا على جميع الظواهر. والحقيقة أن تيهه وغروره منعاه من أن يعترف بوقوع هذه الإهانة أمام الجمهور.
وحدث في سنة 1833، بعد هذه الحادثة، أن زارته في أحد الأيام فتاة من المشتغلات بالتمثيل تدعى «مدام درويه» وطلبت إليه أن يخصها بتمثيل أحد أشخاص درامته، التي كان على وشك أن يقدمها لأحد التياترات، وكانت هذه الفتاة حاصلة على نصيب كبير من الجمال. رآها تيوفيل جوتيه الكاتب المعروف، فوصفها وصف المدله بجمالها، في قطعة نثرية كأنها مقطوعة من الشعر. وكانت في بدء أمرها فقيرة، فعاشت مدة مع برادييه المثال، ثم أعرض عنها وجفاها، فلجأت إلى نبيل روسي، وعاشت معه دهرا. ثم دخلت التمثيل، وعرفت عن سبيله فيكتور هيجو.
ولما تركته، وحصلت منه على وعد بتخصيص جزء من الدراما لها كانت قد وقعت في نفسه، فما هو أن برحته، حتى قام يرد إليها الزيارة، وصارا بعد ذلك يتزاوران، وانبسط كل منهما إلى الآخر وأقبل عليه. وكانت مدام هيجو ترى ذلك فلا تبدي تذمرا أو انتقادا، لما تعلم من ذيوع قصتها مع سانت بوف. وكان هيجو نفسه يستغل هذه القصة، لكي يسوغ لنفسه خيانة الأمانة الزوجية وعشق مدام درويه.
وتمادى العشق بينهما، حتى أهملت مدام درويه صناعتها في التمثيل، وعندما نفي هيجو من فرنسا بأمر نابليون الثالث ذهبت معه إلى جزيرة جرنزي. وكانت مدام هيجو تزورها، وتدعوها إلى بيتها، وتتجاهل أمام الناس كل ما بينها وبين زوجها، ولا بد أنها كانت تعاني آلاما عظيمة من هذه الإحساسات المحتشدة في صدرها؛ حبها لزوجها، وغيرتها من هذه المرأة، وهوان نفسها أمام ما ذاع عنها عن علاقتها بسانت بوف.
ويحكى أن بعضهم زار دار هيجو في مساء أحد الأيام في جرنزي، فلما دخل إلى منظرته وجد زوجته مضطجعة وهي تعاني أشد الآلام، فسألها: أين زوجها وأولاده؟ فقالت: ذهبوا كلهم إلى دار مدام درويه لكي يقضوا المساء هناك في انبساط وتمتع. اذهب أنت أيضا؛ لأنك لن تجد هنا ما يسرك.
وهكذا عاشت مدام هيجو 33 عاما، وهي تعرف أن المكان الأول ليس لها في قلب زوجها، وكانت في خلالها مكسورة الخاطر مقهورة العواطف، فلو كان ما ذكره سانت بوف عن حبها حقيقيا، فقد لاقت جزاء خيانتها، بل أكثر مما تستحق. وإن كان ما ذكره كاذبا، فهو جدير باللعنة في كل زمان، وهي جديرة بالشفقة من كل إنسان.
أما مدام درويه، فقد عاشت حتى بلغت الثمانين. وماتت قبيل وفاة فيكتور هيجو بمدة قصيرة. ودفنت في باريس، بعد أن حملت جنازتها في مشهد فخم لا يدري الإنسان أية لطائف كان يتفاكه بها المشيعون لجنازتها، وهم يسيرون وراء هيجو وكلهم يعرف قصة عشقهما.
ولكن هذا هو المزاج اللاتيني، يتغاضى عن مثل هذه الخطيئات، بل يذكرها كأنها شيء مألوف لا غبار عليه.
بلزاك وإفيلينا هانسكا
ليس في القرن التاسع عشر من يفوق بلزاك في فرنسا في الفن القصصي. وهذه الحقيقة لا يعترف بها إلا القليل من الفرنسيين، ولكن أدباء العالم الأوروبي الذين يقرنون الأدب الفرنسي إلى غيره من الآداب، يعرفون هذه الحقيقة، ويقرون لبلزاك بالتفوق والتبريز.
ونظن أن هناك معيارا نستطيع أن نعاير به الفن القصصي في الوقت الحاضر، وهو القصص الروسية، فما اقترب منها من القصص عند سائر الأمم، وما أشبهها في معالجة الموضوع أو تخطيط الخلق، وما نزعتها في استكناه النفس والبعد عن البهرجة اللفظية، كان أحرى بأن يكون في الطراز الأول.
وبلزاك من هذه الوجهات، وبخاصة من حيث درس نوازع النفس، أقرب المؤلفين في المزاج الروسي، فهو لذلك أفضلهم وأبقاهم على مر الأزمان. وربما يمتاز بلزاك أيضا على كثير من أدباء روسيا، بتنوع أسباب العيش التي يعيش بها أشخاص قصصه؛ فقد قال تين عنه: «نجد في بلزاك سمسارا وعالما أثريا ومهندسا معماريا، ومنجدا وخياطا وتاجر أهدام ووكيل تجارة وطالب صناعة وطبيبا ومحاميا.»
وهناك وجه آخر للشبه بين بلزاك والقصصيين الروس، وهو تلك الصوفية التي كثيرا ما كانت تدفعه إلى الاعتماد على غرائزه وبصيرة نفسه، أكثر من الاعتماد على عقله.
ولد بلزاك سنة 1799، وعني أبواه بتربيته. وعندما بلغ الرابعة عشرة جيء به من المدرسة إلى البيت، وهو خائر القوى لا يدري أحد من الأطباء علته. وكان أكثر أوقاته منطرحا على الفراش، وبقي مدة طويلة وهو على هذه الحال. ولعله من هذه العلة اكتسب ذلك الذوق إلى إدمان القراءة، وانغرز في مزاجه الميل إلى الكتابة والتأليف. وكثيرا ما تكون العلة، وما تقتضيه من سكون الحركة وعدم النشاط، داعية إلى تقوية النزعة الأدبية في بعض الأشخاص، ممن تميل طبائعهم إلى الأدب.
وأخذ في درس القانون، ولكنه لم يزاول المحاماة؛ فقد قام في ذهنه أن يحترف الأدب، وبقي أمينا لهذه الحرفة، لا يبغي بها بديلا، على ما عانى منها من الفاقة، حتى أوتي في آخر أيامه النصر والشهرة.
ومما يدل على بعض ما لقيه من الشدائد في بدء حياته الأدبية، هذه القطعة من خطاب أرسله إلى أخته لورا يقول فيها: «إني شاب، وبي جوع، وليس على طبقي طعام. آه يا لورا! لي رغبتان عظيمتان: أن أنال الشهرة وأن أحب، فهل أحققهما؟»
وأخذ بلزاك في مزاولة فنه، يكادح من الصنعة صعابها، ويضع الترسيمات العظيمة للكوميديا الإنسانية التي أخذ على عاتقه أن يصف فيها مختلف معاشات الناس وأحوالهم وآمالهم وأحزانهم وأتراحهم. ومما يدل على أن هذه الترسيمات كانت في ذهنه، وقت محاولاته الأولى لكي يكون أديبا معروفا، قوله في إحدى قصصه التي ألفها أيام خموله:
عليك أيها القارئ أن تتفهم أخلاق هؤلاء الأشخاص الذين أقدمهم لك، وأن تقفو حظوظهم في ثلاثين قصة ستأتيك بعد.
وحدث في سنة 1829 أن جاء البريد إلى بلزاك يحمل خطابا من قلم سيدة، فما إن جاء على آخره حتى شعر كأن نفسه قد غمرها نوع من الوحي؛ فقد كان الخطاب ينبض فهما وعطفا، وكان فيه شيء من النقد الذي يبعث إليه الإخلاص والحب؛ إذ أومأت الكاتبة إلى بعض عاداته التي ألفها في أسلوبه، وصار يكررها على غير وعي منه، حتى باتت تمج من القراء.
وأخذ بلزاك يتلو الخطاب، ويعيد تلاوته وهو في سرور يشبه اللذة، ويسائل نفسه عن هذه الكاتبة التي تفيض حبا وعطفا وحكمة، ثم تواترت عليه الخطابات من هذه الكاتبة، وعرف منها أن كاتبتها سيدة بولندية تدعى إفيلينا هانسكا، وكانت متزوجة من أحد الأشراف البولنديين، وكان متمرضا بزمانة لا يبرأ منها، وكان كلاهما في نيوشاتل في سويسرا.
ولم تمض مدة طويلة على تبادل المكالمات بينهما، حتى سافر إليها بلزاك، والتقى بها في نيوشاتل. ويقال إنها عند أول لقائها به أغمي عليها، من فرط التأثر. ولم تكن هذه السيدة البولندية جميلة، ولكن كان على وجهها مسحة جذابة من روحانية نفسها، جعلت بلزاك يعلق بها.
وعندما فارقها وعاد إلى باريس، لم يكد يمضي عليه يوم واحد حتى كتب لها يخبرها عن أتفه الأشياء وأقلها خطرا، وكان طول هذا الوقت تتوالى خسارته في مؤلفاته، بحيث باتت ديونه أربعة آلاف جنيه وهو في الأربعين من عمره، وكانت أكبر خسارته ناشئة عن شدة عنايته بتحرير مؤلفاته، حتى كان يتفق أحيانا مع أحد الناشرين على مقدار من المال لطبع كتابه، فإذا جاءته التجارب الأولى للطبع، أعمل فيها قلمه تحريرا وتغييرا، حتى تزيد كلفة الطبع عن مبلغ الإنفاق الذي بينه وبين الناشر، فكان يخرج من كتابه بعد تأليفه بخسارة غير قليلة. ومثل هذه الشدائد كانت جديرة بأن ينكسر أمامها قلب أي مؤلف آخر، فيتثبط بها عن المضي في إتمام عمله. ولكن بلزاك في ذلك الوقت كانت نفسه تتأجج بنار الحب التي أشعلتها في نفسه إفيلينا هانسكا؛ فقد كان يقضي في عمله نحو 18 ساعة، فإذا أعيا وانطرح على فراشه، يبغي النوم، تذكر إفيلينا، فيهب نشيطا مسرعا، ويكتب لها خطابا يشع بالحب والرجاء.
ومما يؤثر عن بلزاك قوله لها: «ليس يرضي الرجل في أول حبه سوى المرأة في آخر حبها.» وقوله: «الحب عندي هو الحياة، وما شعرت بالحياة قط كما أشعر بها الآن.»
وفي سنة 1842 مات زوج إفيلينا، وكان بلزاك ينتظر أن يتزوج حبيبته، ولكن ما أشد دهشته إذ لم تقبل حبيبته الزواج به على شدة حبها له وتعلقها به، وكانت تتعلل بالعلل، للرفض أو الإرجاء، فساعة تحتج بأولادها، وأخرى تحتج بأملاكها في بولندا، وما إلى ذلك.
وحقيقة الحال أن بلزاك كان يحبها ويشتهيها، أما هي فكان حبها إعجابا وعطفا في الأصل ليس غير، فلما عرض عليها الزواج لم تجد في نفسها تلك الدوافع التي تبعث في المحبين الرغبة في العيشة معا، ودوام قرب أحدهما من الآخر.
وأخيرا تزوج الاثنان في سنة 1850. وكان من حسن حظ بلزاك، أو حظهما معا، أن هذا الزواج لم يدم أكثر من خمسة أشهر، مات في نهايتها بلزاك بضعف القلب؛ لأنهما لو عاشا أكثر من ذلك، لما أطاقا العشرة ؛ فإن إفيلينا هانسكا إنما أحبت من بلزاك روحه وعبقريته، وهذا الخيال الذي تكون في رأسها من إدمان قراءة كتبه.
وقد وصف بلزاك علاقته معها في قصة صغيرة له تدعى «سيرافيتا» ليست من أجود قصصه، ولكنها تظهر القارئ على سر من أسرار النفس في الحب والقلى.
لاساله وصاحبته
كان القرن التاسع عشر بدء نهضة الاشتراكية وقيام العمال، الذي نرى أثره الآن في ظهور الأحزاب الاشتراكية على مسرح السياسة، وتقلدها زمام الحكومات، وهذا الانقلاب الهائل في روسيا.
وقد كان أكبر زعماء الاشتراكية في ذلك القرن يهوديين، أحدهما كارل ماركس، والآخر فرديناند لاساله.
وكان لاساله من يهود ألمانيا، نبت في عائلة غنية، وتربى أحسن تربية يحصل عليها شباب تلك الأيام في جامعات ألمانيا. وقد أراده أبواه على أن يسلك سبيل والده في تجارة الحرير فأبى، واختط لنفسه خطة خاصة، آثر فيها المجد على الثروة، ووجاهة الاسم على وجاهة المادة، فأخذ على نفسه أن يعين العمال في نهضتهم نحو تحقيق الاشتراكية، وأخذ يدعو إليها بماله وقلمه، يخطب ويكتب في كل مكان، ونشر النشرات، ويؤلف الرسائل في تحبيذها والدعوة إليها، حتى صار محور الحركة الاشتراكية في ألمانيا، ينضوي إلى لوائه آلاف العمال في جميع أنحاء ألمانيا.
وكان لاساله مثقفا كثير الاطلاع والفحص عن الآداب والعلوم، فكان لذلك كثير الاختلاط بالعلماء والأدباء، يجلونه ويكبرون فيه اجتهاده وأمانته لحركة العمال. وقد شهد فيه هينه الأديب الألماني المتفرنس هذه الشهادة التالية، التي كتبها لكي يقدمه بها إلى المؤرخ أنسيه، وناهيك بشهادة يكتبها هينه، قال:
صديقي لاساله، الذي يحمل إليك هذه الرسالة، هو رجل ذو مواهب ذهنية عظيمة؛ فهو يمزج قوة الإرادة إلى كفاية العمل، ويضمهما إلى أبعد مدى من الثقافة وأكبر مقدار من العلم. وهذا كله إلى ميزة الفهم والإفهام بما لم أر لهما شبيها. ولست أعرف أحدا قد اجتمع فيه مثل هذا المقدار من الحماسة إلى هذا المقدار من الذكاء.
وقد كان هينه من كبار أدباء القرن التاسع عشر. وحسب القارئ دليلا على مزاج لاساله الأدبي، وأنه من الطراز الأول، إعجابه بهينه في هذه الفقرات التالية:
إني أحب هينه، فهو شخصي الثاني، ما أبلغ جرأته وما أعظم فصاحته! فهو يعرف كيف يهمس همس الصبية عند تقبيلها الورد في كلماته، وكيف يتنفس اللهب عندما يجيش ويحصد ما حوله. وهو يستثير أرق العواطف وألطفها، كما أنه يستنهض منها أكثرها شراسة وأبعدها جسارة، فهو يملك ناصية القيثارة، يعزف على جميع أوتارها.
وبلغ لاساله من الشهرة والقوة، أن صار بسمارك يدعوه ويفاوضه في الحض على حركة الاتحاد بين الإمارات الألمانية، يستغل بذلك نفوذه لترويج الدعوة إلى الإمبراطورية الألمانية.
وفي حياة لاساله امرأتان، قد كان لهما أكبر أثر في تاريخه؛ أولاهما تدعى الكونتس هاتزفلد، ولم يكن لاساله يعشقها؛ فقد كانت تبلغ من العمر ضعفي عمره، وكانت تخاطبه في رسائلها إليه بقولها: «يا ولدي العزيز»، وكان هو الآخر عندما يكتب إليها يذكر لها أسماء من التقى بهن من النساء، وما قاله لهن، ويصف جمالهن لها، وليس هذا شأن من يحب.
وقد نشرت بعض الكتب لبث الاعتقاد بأنه كان يحبها، ولكن فحص خطابات كل منهما للآخر يثبت أنه كان هناك ود بينهما، لم يصل إلى درجة العشق، ولا فكر أحدهما في ذلك.
وخلاصة علاقته بهذه المرأة أنه عرفها في سنة 1846، وكان عمره إذ ذاك 21 سنة، وهي تناهز الأربعين، وامتدت صلة الصداقة بينهما حتى صارت تبثه شكايتها من زوجها. وكان زوجها قد عرف خليلة ملكت لبه، واستأثرت بأمواله، حتى خشيت الزوجة أن يوصي بأمواله لها دون أولاده، وعرفت أنه أوصى بالفعل بجزء كبير من أمواله لها، وأن وثيقة الوصية موجودة عند هذه الخليلة، فأعمل لاساله فكرته لكي يحصل على هذه الوثيقة، وعرف أن الكونت وخليلته ذاهبان إلى أكس لاشابل، فاندس وراءهما يصحبه صديقان، حتى نزلوا في الفندق الذي نزل فيه الخليلان، وسرقوا هذه الوثيقة، ولكن لسوء الحظ تنبهت المرأة للسرقة، وصاحت بخدم الفندق، فقبضوا عليهم، وساقوهم إلى مركز البوليس؛ حيث أخذ التحقيق مجراه ، وانتهى بالحكم على الصديقين دون لاساله؛ لأنه لم يثبت عليه شيء. وعاد لاساله إلى الطرق السلمية لمكافحة هذا الزوج، وبقي في مكافحته تسع سنوات، ربح فيها القضية لأبناء الكونتس، وألغيت الوثيقة. ولكن ذلك بعد أن أضاع مقدارا كبيرا من ماله الخاص.
أما المرأة الثانية فتدعى هيلين فون دوتنجس، وكانت فتاة قد نالت حظا كبيرا من التربية، ونشأت نشأة حرة طليقة، وكانت وهي فتاة قد ساحت في سويسرا وإيطاليا، فأكسبتها الغربة من التجارب ما جرأها على الحديث والاختلاط، وكانت مخطوبة إلى رجل إيطالي في سن الأربعين، فقبلته مكرهة بضغط من أبويها، ثم انخلعت منه، وعرفت شابا شريفا من أهل الفلاح، فمالت إليه حتى خيل إلى من حولهما أنهما لا بد متزوجان قريبا.
ولم تكن إلى ذلك الوقت قد عرفت لاساله، وإنما كانت تسمع به، ففي إحدى الليالي، وهي جالسة وقد تفتحت للحديث، وصارت تجهر بآراء قد جرى العرف على أن تكتمها من في سنها، قال لها بارون من الحضور: «هل تعرفين فرديناند لاساله؟»
فقالت: «كلا.»
فقال: «كيف ذلك؟! أحقا أنك لم تريه؟ هذا عجيب، فقد خلق كل منكما للآخر.»
فاستحيت من أن تستزيده عن غرضه. ولكن لم تمض برهة حتى قال آخر: «يبدو من حديثك أن أفكارك وآراءك قريبة جدا من أفكار فرديناند لاساله وآرائه.»
فتطلعت نفسها من ذلك الوقت إلى رؤية لاساله، وصارت تسأل عن أخباره، وتهجس بذكره قبل أن تراه. وفي إحدى الليالي غشيت «صالون» إحدى العائلات، ورأت شابا مديد القامة أشقر، ذهبي الشعر جعده، فرأت نفسها تسير نحوه كأن به قوة قد جذبتها إليه، وكان هذا لاساله، وأخذا في الحديث، وشعر كل منهما أنه يرى في شخص الآخر صديقا قديما، وبلغ من ألفة الواحد بالآخر أنهما عندما خرجا صار لاساله يتحبب إليها ويدللها ويسميها بأسماء الغرام.
ومضت تسعة أشهر بعد ذلك لا يلتقيان. ثم التقيا في «صالون» آخر، وبث كل منهما إلى الآخر لواعجه. ومما قاله لاساله لها في تلك الليلة، وكان الخطر محدقا به، والحكومة تنوي القبض عليه لمحاكمته، لإثارة الهياج بين العمال: «هبيني حكم علي بالإعدام، فما أنت فاعلة؟»
فأجابته على الفور: «أنتظر حتى يقطع رأسك، حتى تتمتع برؤية حبيبتك إلى آخر لحظة من حياتك، ثم بعد ذلك أتناول السم.»
ومضيا في الحب حتى اشتهر عنهما، وصار جميع من يعرفونها يرقبون زواجهما، ولكن والدي الفتاة كانا يعارضان في هذا الزواج أشد معارضة، ويعتبرانه مهينا للعائلة، حاطا بكرامتها، فلاساله لم يكن اشتراكيا فحسب، بل كان أيضا يهوديا. وكلتا الصفتين كانت من القبائح في نظر العائلة.
ولكن الفتاة لم تكن لتخضع لوالديها الخضوع الأعمى الذي كانت تفرضه عليها التقاليد المأثورة، ففرت إليه، واحتملت معها حقائبها، وطلبت إليه أن يسافرا معا إلى باريس حتى يتزوجا.
ولكن لاساله لم يكن يحب أن يتزوج منها خفية في بلاد الغربة؛ إذ كان يرى من واجبه نحو حبيبته أن يتمم الزواج علنا باحتفال وأبهة جديرين بعروسه الجميلة. وكان واثقا أن معارضة أبويها سوف يتغلب عليها، ويميلهما إلى رأيه.
ولكنه أخطأ في حسبانه؛ فإن والديها كانا قد عقدا نيتهما على أن يزوجاها من ذلك الشريف الفلاخي راكوفتز، فلما رجعت هيلين إليهما أخذا في تقريعها، وحبساها في غرفة لا ترى أحدا سواهما.
وطالت مدة حبسها، وأهلها وذوو قرابتها يترددون عليها ويترضونها بكل الأساليب. وكانت في نفسها رفعة من لاساله، أحدثها عدم موافقته على السفر والزواج. وأخيرا بعد طول الجدال رضيت أن تكتب إلى لاساله خطابا، تقطع فيه ما بينهما من صلة الحب السابق، وتنبئه بعزمها على الزواج، وعقدت خطبتها على راكوفتز.
وبلغ ذلك لاساله فاستشاط غضبا، وأرسل في الحال إلى راكوفتز يطلب مبارزته. ولم يكن راكوفتز يحسن شيئا في العالم قدر المبارزة، فسارع إلى تلبية الطلب.
التقى الاثنان في جنيف في سويسرا، وأخذ كل منهما شاهديه، وخرجا بعيدا حتى جرت المبارزة، وانتهت بأن جرح لاساله جرحا بالغا، كان شديد الألم، لم ينقطع تأوه لاساله منه إلا عند وفاته بعد ثلاثة أيام من المبارزة.
وتزوجت هيلين من هذا الفلاخي، ولم يدم زواجهما سنة؛ إذ مات بالسل بعد نحو خمسة أشهر. وتزوجت بعد ذلك من رجل آخر، ثم احترفت التمثيل. وقد وضعت كتابا عن ذكرياتها عن لاساله، أدر عليها ربحا كبيرا، وصفت فيه زعيم الاشتراكية الألماني، وضمنته أهم خطاباته إليها. وقد ألف الكاتب الإنجليزي جورج ميريديث قصة عن حب لاساله وهيلين، وهي من أبدع قصصه.
جامبتا وصاحبته
مضى على الجمهورية الفرنسية أكثر من نصف قرن. وقد ماتت النزعة الملوكية في فرنسا أو كادت. وليس يعزى انتشار الفكرة الجمهورية، وخمول المذهب الملوكي، إلا إلى جامبتا.
كان ليون جامبتا من أهل جنوب فرنسا، ولم يكن خالص الدم الفرنسي؛ إذ كان أبوه إيطاليا. وكانت صفات أهل الجنوب متجسمة فيه. ومن الناس من يقول إنه كان بدمه عرق شرقي. وعلى كل حال، فإنه من حيث الخلق، كان مندفع العواطف ثائرها، يميل إلى البلاغة الخطابية شأن الفرنسيين والشرقيين. والفرنسي أقرب الناس طبعا وخلقا إلى الشرقيين.
ونال جامبتا شهادة المحاماة وهو في الحادية والعشرين، وسار توا إلى باريس، حيث أخذ في مقاومة نابليون الثالث، فكان يخطب في تبيان الأضرار الناشئة عن نظام الإمبراطورية، وعرقلته للحرية ولرقي البلاد، ووجوب استبدال هذا النظام بالجمهورية.
وكان جامبتا في هيئته يخالف الفرنسيين بعض المخالفة؛ فقد كان لون بشرته زيتونيا، وكان جافي الطبع، مغرما بالثوم والزيت، إذا خطب تحركت جميع جوارحه، كأنه كان يترنح ببلاغته، وكان لعابه يتطاير من فيه، فكان أعداؤه لهذا السبب يلقبونه بلقب: «المجنون الغضبان».
ولكن هذه الصفات نفسها كانت تحببه إلى الجمهور المؤلف من العمال والصناع، فكان يلتف حوله، ويزيد سخطه على النظام الإمبراطوري، يعزو إليه كل نقيصة في الحالة الاجتماعية أو الاقتصادية.
وفي سنة 1869 انتخب جامبتا عضوا في المجلس الاشتراعي، وأخذ أيضا في متابعة حملاته على الإمبراطورية، حتى صار له حزب في المجلس يناوئ الحكومة، ويفتش عن عيوبها ويشهر بها. وكانت قاعة المجلس مبنية بهيئة دور التمثيل؛ فهي من جانب نصف دائرة يجلس فيها النواب، ويجلس فوقهم الجمهور والصحفيون، فإذا وقف الخطيب لم يوجه كلامه إلى رئيس المجلس كما هو الشأن في إنجلترا أو أمريكا، وإنما يواجه النواب والجمهور. ومثل هذا يستثير الروح الخطابية، ويبتعث في الخطيب الفصاحة والذلاقة، بخلاف ما يجري في إنجلترا مثلا؛ حيث الخطيب يواجه الرئيس الذي يطالبه بالموضوعية ويمنعه من الاستطرادات أيا كانت.
وحدث أن جامبتا وهو يخطب، جالت عيناه بين الجمهور، فرأى فتاة هيفاء تكاد تكون نحيفة، قد كست يديها بقفازين أسودين، وكان سائر ملابسها قاتما، فتأكدت من ذلك نصاعة لون بشرتها. وكانت هذه الفتاة تحدق فيه بنظرها، فإذا حملته موجة الحماسة وهو يخطب رأى الفتاة تتحمس لحماسته، يرتفع صدرها ويهبط، وتختلج أعضاؤها، وتحمر وجنتاها، كأنها هي التي تخطب.
واطرد الحال على هذا المنوال جملة أشهر، حتى لم يشك جامبتا في أنها تحبه كما يحبها. وحدث في سنة 1780 أن وقف جامبتا خطيبا في المجلس، وأخذت فصاحته تتدفق عن فضائل النظام الجمهوري. وأخذ يصرح بهذه الفضائل، ويجهر بصوته عاليا، بما لم يسبق أن فعل مثله قبلا. وكان وزراء الإمبراطور يسمعون له وهم خانسون، وقد تقنفذ كل منهم في مكانه، وسائر الأعضاء صامتون، قد ذعر بعضهم بهذه الصراحة حتى وجم، وسحر البعض الآخر بحسن بيانه وبلاغته حتى بقي مبهوتا يحدق النظر في الخطيب وكله آذان مستمعة.
وما انتهى جامبتا من خطبته حتى التقى النظران، فرأى وجه هذه الحبيبة ينطق بالإعجاب والعطف.
وقد قلنا إن جامبتا كان جافي الطبع، لم يعاشر من الناس إلا طبقات العمال والصناع، ولذلك لم يكن يعرف ذلك العرف الذي يجري بين الطبقات العليا، وتلك العادات المألوفة بينهم في احترام الإحساس ومراعاة الذوق، والتلطف في الإشارة والكياسة في السلوك. ولذلك عندما انتهى جامبتا من خطبته أخرج ورقة من محفظته، وكتب سطرا أو سطرين، ثم هتف بأحد الخدم، وأعطاه هذه الورقة، وطلب إيه أن ينفذها إلى السيدة، وكان هذا حدث علنا أمام الأعضاء والجمهور.
ولكن الفتاة كانت أرق حاشية وأوفر أدبا من جامبتا؛ فإنها أخذت الورقة والعيون ترقبها، فلم تفتحها، بل مزقتها وألقتها على الأرض، وهي صامتة هادئة، كأن لم يحدث لها شيء. وتنبه بعد ذلك جامبتا، وعرف أنه يعامل امرأة لها كرامة النساء الشريفات.
ثم حدثت حرب السبعين بين ألمانيا وفرنسا، وحوصرت باريس، وكان جامبتا بها يهيئ وسائل الدفاع. وبقي على ذلك مدة، ثم رأى أن يجهز جيشا لاستخلاص باريس ورد الألمان عن فرنسا، فركب بالونا طار به من باريس في جنح الظلام، وهبط في جنوب فرنسا؛ حيث أخذ يؤلف الجيوش لمحاربة الألمان. وكانت الهزائم من نصيبه في أكثر ما وقع بينه وبين جيش العدو، ولكنه كان مع ذلك دءوبا على حشد الجيوش ومناوأة الألمان، وكان يقول في ذلك: «يجب ألا نرضى بالصلح، ما دام في فرنسا مائتا ألف جندي قد عبئوا للقتال، وما دام عندنا ألف مدفع نسددها نحو خطوطه.»
ولكن فرنسا كانت قد ملت القتال، وفترت عن مجاهدة عدوها ورضيت بالصلح الذي عقد في فرساي!
واجتمعت «الجمعية العمومية» في فرساي، وصار جامبتا عضوا فيها. وبينما هو في إحدى خطبه، لاحت منه نظرة إلى مكان الزائرين، فرأى الفتاة، فتحول إلى إحدى غرف المجلس، وكتب لها هذه الرقعة: «ثم ها أنا ذا أراك مرة أخرى، فهل حقيقة أنك أنت هي؟»
وذهب الخادم، وناولها الرقعة في لطف وخفية، فأخذتها ودستها بين صدرها وملابسها ولم تجب.
وكان جامبتا قانعا بهذه المعاملة، راضيا منها بهذا المقدار من العطف، بعد أن ارتكب غلطته الوقحة منذ سنوات، فاستبشر خيرا، وامتلأ قلبه آمالا، ولكنه سقط في يده عندما رآها قد انقطعت عن زيارة الجمعية.
ولكنه مع ذلك بقي يشعر في نفسه بأنه لا بد ملاقيها في المستقبل، وأنها قد كتبت له في لوح القدر، وكانت نفسه صادقة البصيرة في ذلك.
فقد حدث أن أحد أصدقائه أصيب بجرح ولزم فراشه، فذهب يعوده. وبينما هو في منظرة البيت، وإذا به يرى الفتاة التي كانت موضوع خياله، وحديث هواجسه، ماثلة أمامه.
فتقدم منها، وجعل يحادثها بتحفظ، وهي تجيب بأخصر الألفاظ. ثم استأذنت وخرجت، وخرج جامبتا في أثرها حتى أدركها في الشارع.
ثم قال لها بلهجة التوسل والتضرع: «لم مزقت خطابي، وكيف وأنت تعرفين حبي لك طول هذه السنين، تلزمين الصمت ولا تجيبينني؟»
فترددت الفتاة وتلعثمت، وشرقت عيناها بالدموع ، ثم قالت: «لا يمكنك أن تحبني لأني غير جديرة بك، فلا تلح علي، ولا تعدني شيئا، فليودع كل منا الآخر. ويجب على الأقل أن أفضي إليك بقصتي؛ لأني من أولئك النسوة اللاتي لا يتزوجن أحدا.»
ثم أخذت تشرح له قصتها، وخلاصتها أن أباها كان ضابطا في الجيش، توفي فجأة، ولم يترك لها شيئا تعيش منه، فاشتغلت مربية في بيت أحد قادة الجيش مدة الإمبراطورية، فأغري بجمالها، وفسق بها، وهي بعد في غرارة الشباب، لا تحسب للمستقبل، ولا تدرك قيمة عذرية الفتيات، فلما تفكرت وتدبرت في أمرها اتضح لها مبلغ جرمها، فأخذت تشتغل في أعمال وضيعة، وقد اعتزمت على أن تقضي حياتها في هذه الأعمال، لا تفكر بزواج أو رفاهية، تكفر عن ذلك الذنب القديم، حتى تنتهي حياتها.
ولكن جامبتا كان قد تعلق قلبه بها، لم تؤثر فيه هذه الأقوال، وطلب إليها أن تتزوج منه، فلما ألح عليها في ذلك قالت له: «إن زواجنا يؤثر في شهرتك؛ فإن شرفي قد ضاع، وحياتي قد ذهبت، فليس لي مستقبل، وخير لكل منا أن يفارق صاحبه.»
ولكن الحب كانت قد لج بينهما، واشتد تعلقهما الواحد بالآخر، وكانا يلتقيان على مواعيد، وفي أمكنة بعيدة عن الأعين. وأخيرا رضيت ليوني (وهو اسم حبيبته) بأن تعقد معه خطبة كاثوليكية تقوم بمقام الزواج، فيعيشان بعيدين منفصلين، ولكن تكون الخطبة بمثابة الزواج، ينال منها المحبان جميع ما يناله المتزوجان.
وكانت ليوني شديدة الإيمان بالدين، وكانت تعتقد أنه لا يغسلها من خطيئتها الماضية سوى عقد كنسي يعقد بينها وبين حبيبها، محوطا بجميع ما في الدين والكنيسة من الروعة والهيبة والوقار.
وكان جامبتا في ذلك الوقت يعارض الكنيسة، ويدعو إلى فصلها عن الدولة، فطلب أن تتزوج منه أولا زواجا مدنيا، ولكنها رفضت هذا بتاتا، ولكيلا يقوم عليه خصومه، ويعيرونه بزواج كاثوليكي من جهة، ولكي يرضي ضمير حبيبته، اتفق كلاهما على هذه الخطبة الكاثوليكية.
وعند الكاثوليك نوعان من الخطبة، إحداها عادية لا تجيز بين الخطيبين أية علاقة زوجية، والأخرى تجيز هذه العلاقة . وقبل جامبتا أن تعقد هذه الخطبة الأخيرة بينهما، وذلك بعد أن حصل من حبيبته على وعد بأن تتزوج منه زواجا رسميا عندما يترك الحياة السياسية.
وتمت الخطبة، واستأجرت ليوني بيتا منعكفا، وصارت تلتقي بحبيبها في الأماكن التي يقل غشيان الناس لها، دون أن يزورها جامبتا في منزلها. وبقيت على ذلك مدة طويلة، لا يدري أحد من خصوم جامبتا بعلاقتها به.
وعاشت على ذلك طول مدة اشتغاله بالسياسة، مضحية بهناء الزواج، وشرف علنيته، مؤثرة أن تكون علاقتها سرية، حتى لا ينال جامبتا شيء من عار تاريخها الماضي.
وكان جامبتا يسرف في إنفاق قوته في الحب والسياسة، وقد قال فيه مرة عدوه اللدود بسمارك: «إنه هو الوحيد الذي يفكر في الانتقام من ألمانيا، وهو أكبر من يهدد ألمانيا من الساسة الفرنسيين، ولكنه لحسن الحظ لن يعيش كثيرا. ولست ألقي هذا القول جزافا، فإني أعرف من التقارير السرية التي ترسل إلي معيشة هذا الرجل كما أعرف عاداته؛ فهو يجهد نفسه أكثر مما يتحمل، لا يستريح في الليل أو في النهار. وجميع من عاش هذه العيشة من الساسة ماتوا صغارا. ويجب على رجل السياسة، لكي يخدم أمته حق الخدمة أن يتزوج امرأة دميمة، وأن يكون له أولاد كسائر الناس، وأن يكون له مسكن ريفي يستطيع أن يعيش فيه كما يعيش الفلاحون، ويذهب إليه من وقت لآخر للراحة.»
وكان نظر بسمارك صادقا في جامبتا؛ فقد حدث أنه هزم في البرلمان في سنة 1882، فاعتزل السياسة، وعزم على أن يقترن بليوني، ويعيش معها سائر حياته، مغتبطا بالحياة المنزلية التي لم يتمتع بها للآن، ورضيت ليوني بالزواج الآن، وصارت تنتظر اليوم الذي يعقد فيه لكي يعيشا معا بلا حياء أمام الجمهور.
وبحث جامبتا عن منزل في الريف لكي يكون مسكنهما، ولم يكن يملك من المال بعد طول هذا الجهاد السياسي، وعظيم ما أبلاه في سبيل وطنه، سوى نحو خمسمائة جنيه، وذلك على الرغم من الملايين التي مرت في يديه، وكان ينفقها بلا حساب على الجيوش والأساطيل وغيرها، فاشترى بهذا المبلغ منزلا كان يسكنه القصصي الشهير بلزاك وأخبر حبيبته بذلك، واستعد كلاهما للانتقال إليه.
وبينما هو في ذلك، وإذا بإشاعة غريبة قد انتشرت في باريس، مؤداها أن جامبتا قد قتل، فبعض يقول إن أحد الفوضويين قد حاول قتله، وآخرون يقولون بل هو انتحر.
واتضحت الحقيقة بعد قليل؛ فإن جامبتا وهو يتهيأ للانتقال إلى منزله الجديد في الريف، كان ينظف مسدسا، فغفل عن رصاصة كانت موجودة به، فبينما هو يقلبه ويشد زنده، وإذا بالرصاصة قد انطلقت وخرقت كفه، ولم يكن الجرح مميتا، ولكن بسمارك كان صادق النظر؛ فإن جامبتا كان قد ضعف من الإفراط في تحميل جسمه ما لا يتحمل، حتى صار مثل هذا الجرح الذي يبرأ منه غيره في أيام، خطرا كبيرا؛ فإنه تقيح، وأحدث حمى شديدة، مات منها جامبتا.
وعلمت ليوني بما جرى لحبيبها، فخرجت من بيتها لا تلوي على شيء، تهيم في الغابات، وكأنها قد فقدت رشدها، ثم وجدت ديرا فدخلت فيه، ولكن نفسها المضطربة بقيت ثائرة حانقة على هذا القدر الذي حرمها من حبيبها في الساعة الأخيرة التي كانت تنتظرها. وخرجت من الدير، وذهبت إلى باريس؛ حيث عاشت في بعض المنازل القذرة بين الفقراء والميئوسين.
وعلم بها أصدقاء جامبتا، فانتشلوها من هذه الوحدة التي ألقت نفسها فيها، وعنوا بها إلى يوم وفاتها في سنة 1906. وكان آخر ما كتبه جامبتا وهو يعاني سكرات الموت الأخيرة، هذه الكلمات التي أرسلها إلى حبيبته، وقرأتها بعد وفاته:
إلى نور نفسي، إلى نجم حياتي ليوني ليون، وداعا يا حبيبتي.
الإمبراطورة كاترين
من غرائب التاريخ أن أكبر رجل فرنسي امتلك قلوب الفرنسيين، ورفع شأنهم التاريخي، لم يكن فرنسيا بل كان إيطاليا. وكذا الحال في روسيا؛ فإن أكبر من ملك زمام الأمة ونال أكبر مكانة في قلبها، كان امرأة ألمانية.
ولكن هذين الأجنبيين، نابليون في فرنسا، وكاترين في روسيا، كانا يمتازان بالميزة الكبرى التي رفعتهما إلى مقامهما السامي، وهي أن كلا منهما اندغم في الأمة التي تولى حكومتها، فصار منها قلبا وقالبا، يخدمها بعقله وقلبه.
فقد كانت روسيا في منتصف القرن الثامن عشر تحكمها الإمبراطورة إليصابات، ابنة بطرس الأكبر، ولم يكن لها خلف شرعي لكي يرث العرش، فأخذت تبحث عمن يليها، وأخيرا عقدت ولاية العهد على ابن أختها الأمير بطرس في سنة 1742، وكان فتى في السابعة عشرة، خلوا من جميع خصال الملوك، يقضي نهاره في الشراب، ولا يجالس سوى أوشاب الناس وحثالتهم. وكان أبله، يتسلى بالسخائف، يجمع الكلاب فيصفها ويعاملها كأنها جنود، ويجمع الفئران، ثم يأخذ في تعليمها وتأديبها، فإذا أخطأت عقد لها مجلسا عسكريا، وحاكمها، وحكم عليها بالإعدام.
وبحثت الإمبراطورة إليصابات عن زوجة له، وطلبت له أخت الإمبراطور فريدريك الثاني الألماني، فأبى رأفة بأخته أن تقع فريسة لهذا الوغد الأبله، وشفقة عليها أن تعيش في ذلك الوسط الروسي. وكانت روسيا إذ ذاك معدودة بين البلاد الهمجية في العالم. والحق أنها كانت في ذلك الوقت أقرب إلى آسيا في العادات والأخلاق والأنظمة منها إلى أوروبا.
وأخيرا اهتدت إلى أميرة ألمانية فقيرة تدعى صوفيا، وكانت فتاة في السادسة عشرة من عمرها، بروتستانتية المذهب كسائر أهل بلادها، فلما كانت سنة 1744 عقد زواجها على الأمير بطرس، بعد أن غيرت مذهبها واسمها؛ صارت أرثوذكسية، وصارت تدعى كاترين.
وعاشت مع زوجها جملة سنين وهو يناكدها وينغص عليها عيشها، لا هم له سوى كلابه وفئرانه وشرابه، ولا يأنس إلا بإخوان الكأس، يصابحهم ويماسيهم، وهو في سكر متواصل، وقد تعلم منهم صنوفا من السفالات، وكثيرا ما أعنت زوجته، وهي فتاة ساذجة قد نشأت على الصرامة الألمانية، يساومها ممارسة هذه السفالات، فتأبى وتستغيث.
وكان طبيعيا جدا أن تفتح كاترين عينيها بإزاء هذا الحيوان الذي صار زوجها، تشيم بارقة حب في أولئك الأمراء الذين يترددون على القصر، وكانت قد أكبت على اللغة الروسية حتى ثقفتها، وصارت لا تخرج للناس إلا في مظاهر روسية، فأحبها الجمهور، ومالت إليها القلوب. وكان من بين المترددين على القصر رجل تبدو على وجهه أمارات الرجولة ، يدعى أورلوف، فجرأته على أن يتقرب منها، ونشأ بينهما حب دام عدة سنين.
ولم تبلغ كاترين الثلاثين حتى كان لها جملة أولاد، يشك الكثيرون في أنهم كانوا أولاد زوجها، لعلاقتها بأورلوف هذا؛ ولأن الشجار بينها وبين زوجها لم يكن ينقطع.
وماتت الإمبراطورة إليصابات، وارتقى الأمير بطرس العرش، وهنا يذكر المؤرخون إصلاحين عظيمين قام بهما بطرس هذا، ولكن الحقيقة أنه ليس له فيهما أدنى فضل.
فإنه عندما ارتقى العرش، شد من عزيمته، ونوى أن يستقيم وينظر في شئون أمته، ولكن هذه العزيمة الشريفة، كما يحدث كثيرا في أمثاله، لم يكن فيها من القوة سوى ما في المصباح، يشب لهبه قبيل الانطفاء الأخير، فسرعان ما عاد إلى شرابه وكلابه. ولكن حدث، وهو في جمع حافل من هؤلاء الأوشاب، الذين كان يجمعهم حوله للشراب، أن دخل عليه ضابط غيور يغار على العرش وعلى مصلحة البلاد، فوجده سكران، فأخذ يخطب فيه، ويحثه على خدمة بلاده، ويذكر له مجد آبائه، وقدم له خلال ذلك مشروعين للإصلاح. وامتزجت حماسة خطبة الضابط بحرارة الخمر، حتى تنحى الإمبراطور، وأخذ أوراق المشروعين ووقع عليهما، وهو لا يدري ما يفعل.
وكان أحدهما يقضي بإلغاء مكتب الشحنة السرية التي آذت الناس كثيرا، والآخر يرد إلى النبلاء بعض حقوقهم التي كانت قد انتزعت منهم.
ولكن بطرس عاد ثانيا إلى شرابه، وعادت إليه عصابة السوء التي كانت تساقيه، وأبطره السلطان، فصار يستبد ويقذف السباب على زوجته الإمبراطورة كاترين جهرا أمام الناس في الحفلات الكبرى، فمن ذلك أنه أعلن مرة أن ابنها البكر ليس ابنه، وإنما هو من نسل عشاق الإمبراطورة.
وكانت هذه التهمة تكفي وحدها لطلاق الإمبراطورة أو قتلها، فأخذت هي الأخرى تكيد له، وتبحث عن طريقة تقضي بها على حياته، وأخيرا دبرت بعناية مع عشيقها أورلوف مؤامرة لخلعه. ولكن قبل أن تختمر المؤامرة علم الإمبراطور بطرس بها، وتحرجت عندئذ الحال، وخشيت هي أن تقدم للمحاكمة وتعدم، فسارعت إلى جواد وامتطته، وسارت إلى الثكنة التي يقيم بها الجنود الروس في بطرسبرج، وناشدتهم المعاونة على خلع الإمبراطور. وكان هؤلاء الجنود يكرهون بطرس لميله إلى الألمان، وتأليفه حرسا منهم ويؤثره على الروس.
فتقدم إليها الضباط بجنودهم، وأقسموا لها يمين الولاء، وخرج الجميع في أثرها حتى قبضوا على بطرس، وساقوه أسيرا في إحدى القلاع، وذهب إليه أورلوف، وحاول أن يجرعه سما، ولكن بطرس، كما هو الشأن في عدد كبير من البله، لم يكن ضعيف العضلات، فقاوم أورلوف فعمد أورلوف إلى جوزة عنقه، فقبض عليها، واعتصرها، حتى خرج الدم من أذني بطرس، ولم يتركه إلا بعد أن مات.
ولم تكن كاترين ترغب في كل ذلك، ولكنها لم تجد بدا من الرضى بعد أن نفذ السهم، وصارت من ذلك الوقت إمبراطورة روسيا المتحكمة في حظوظها.
وكانت عندما لجأت إلى الثكنة تستنجد بالجنود، قد خرج إليها ضابط جميل الوجه والقوام، وقد وقف أمامها وقفة الأدب والاحترام، ثم أشار إلى أن خوذتها ليس عليها ريشة، وفي الحال انتزع ريشته، وتقدم ووضعها برفق على خوذة الإمبراطورة. وليس من شأن هذا العمل أن ينسى في تلك الظروف الخطيرة؛ ولذلك تذكرته الإمبراطورة بعد قتل زوجها، واستدعته إليها.
وكان هذا الضابط يدعى بوتمكين، وكان يختلف عن أورلوف من حيث تمدينه، وتوحش أورلوف؛ فقد كان رجلا مهذبا أنيقا في ملابسه، يحب الكتب، ويدير الحروب، بينما لم يكن في أورلوف من الصفات التي تحبها الإمبراطورة سوى جرأته ورجولته.
فأنعمت على أورلوف، وغمرته بألطافها، حتى تركها راضيا مسرورا، واستأثرت ببوتمكين. وتبين لها بعد أن عرفت بوتمكين، أن حبها الماضي لم يكن سوى شهوات متوثبة، أما هذا الحب فهو دائم متواصل، ذلك فيه حرقة الجوع وأنانية الطمع، أما هذا، فكله عطف واستسلام وحنان.
ولم تكن كاترين جميلة من حيث الجسم؛ فقد كانت ربعة، متناسبة أعضاء الوجه، الذي لم يكن فيه مما يفتن سوى حاجبين أسودين ثقيلين، يشتد ظهورهما؛ لأن شعر رأسها لم يكن فاحم اللون مثلبا. ولكنها كانت ذكية، لها قدم في الآداب، وكانت تكاتب فولتير، وكثيرا ما دعته إلى القدوم إليها فأبى.
وأحبت كاترين بوتمكين، وأنعمت عليه إنعام الإغداق، حتى بلغت ثروته بعد سنتين من معرفته بها نحو 9 ملايين روبل، وكان لا يعرف ضياعه، لكثرتها وسعة مساحتها، ولكنه هو نفسه كان أيضا مخلصا في حبه لها، فلم يكن يبالي أن يضيع هذه الثروة الضخمة لكي يرضيها أو يترضاها؛ فقد بنى لنفسه قصرا في بطرسبرج، وكان يدعوها إليه فيه، ويعقد لها الولائم الفخمة، تزري ولائم الملوك، وتذكر الناس أنطونيوس وكليوبطرة؛ فقد دخلت الإمبراطورة في إحدى زياراتها مكتبة بوتمكين، فوجدت من الكتب ما زين جلدته بالجواهر الثمينة، كالماس والياقوت، وفتحت بعض الكتب الأخرى، فوجدت الأوراق مؤلفة من البنكنوت الإنجليزي، وحدث أن الإمبراطورة أرادت أن تزور وادي نهر الدينيبر في صحبة بوتمكين، فلكي يسرها ويوهمها بعمار البلاد أمر فبنيت أكواخ على شط النهر من الخشب والقماش، كما تبنى على مسارح التمثيل. وأمر أناسا يقفون إلى جنب هذه الأكواخ، ويهتفون لها كلما مرت بهم.
وقد حارب بوتمكين الأتراك، ونال عدة انتصارات، اتسعت بها الإمبراطورية الروسية، ولكن كاترين لم تكن تحبه لهذه الانتصارات وإنما لشخصه، وما ترى فيه من شدة تعلقه بها وولائه لها، فكان إذا بعد عنها، ورافق الجيوش في الجنوب لمقاتلة الأتراك، لا تهتف إلا باسمه، وإذا كان في بطرسبرج فلا تفارقه.
ومات بوتمكين وهو في جنوب روسيا، وحزنت عليه كاترين أشد الحزن، وبقيت لا تذكره إلا باللوعة والأسى، حتى ماتت بعده بخمس سنوات.
خمس نسوة وبرنارد شو
توفي برنارد شو وله من العمر ست وتسعون سنة. وهذا الامتداد المسرف في عمره يجيز لنا أن نعالج ناحية الحب في حياته كما لو كان قد مات ودفن قبل سبعين سنة؛ لأن القسم الأكبر من حياته قد أصبح جزءا من التاريخ.
وبرنارد شو هو فيلسوف هذا العصر، وسوف يخلد الكثير من مؤلفاته التي انتفع بها معاصروه. ولكن حياته نفسها هي خير مؤلفاته؛ فإنه اختط لنفسه خطة في هذه الدنيا، واتخذ أسلوبا للعيش، وانفرد بميزات أخلاقية جمعت حوله الكثيرين، وجعلته موضع إعجاب الآلاف الذين يتسقطون أخباره ونوادره.
وكان مديد القامة، أشهب، أشهل، ولحيته حمراء قبل المشيب، وقد اقتصر على الطعام النباتي ومشتقات اللبن مثل غاندي منذ ثلاث وستين سنة. وهو أيرلندي الأصل، احترف الأدب، وعاش في لندن معدما إلى الأربعين تقريبا، حين انفتحت له أبواب الحظ، فمثلت دراماته على المسرح الإنجليزي والمسارح الأوروبية والأمريكية.
وقد عرف كثيرا من النساء، أو بالحري عرفته نساء كثيرات. ولا يستطيع من ينظر إلى صورة برنارد شو في شبابه أن يقول إنه كان جميلا، ولكنه على الأقل كان غريبا، يغري بغرابته، ويجذب بشذوذه؛ شاب أصهب اللحية، يتجنب اللحوم والخمور والشاي والقهوة والدخان، إذا تحدث امتلأ حديثه بفقاقيع النكات المؤلمة، وأحيانا المحزنة، وهو فوق ذلك اشتراكي، يقف في صف المعارضة الاجتماعية للدولة والمجتمع والأخلاق، وينتقد بحرارة تخفف من وقعها الفكاهة. وكان هو نفسه دائبا في نشر اسمه وإذاعة صيته حتى لم يكن يمر أسبوع دون أن تتحدث عنه إحدى الصحف، مادحة أو قادحة. وانتشر له صيت بأنه ذكي، ينطق بالكلمات التي تؤثر وتروى.
ومما يروى أن الراقصة «إيزادورا دونكان» عرضت عليه عرضا فاجرا، بقولها إنها أجمل النساء، وإنه هو أذكى الرجال، وأنها لو أنجبت منه طفلا، لجمع بين جمالها وذكائه، فرفض برنارد شو العرض، وقال إنه يخشى أن يخرج الولد وقد جمع عقلها هي إلى جسمه هو!
وحياة برنارد شو حافلة بالأدب الكفاحي، الذي ينأى عن البرج العاجي. وهو لم يعش قط محايدا، يتجنب الأحزاب أو يكره الانغماس في المشكلات؛ ولذا كانت جميع دراماته مشكلات اجتماعية، تخلو أحيانا من الحب، الذي هو الموضوع الرئيسي للقصة أو الدراما، أو هي تضع الحب أحيانا كثيرة في المكان الثاني، أما المكان الأول فللمشكلة الاجتماعية أو الفلسفية أو السياسية.
ويجب أن نستنتج من هذا أن حياة برنارد شو نفسه كانت مليئة بالكفاح الاجتماعي والسياسي والفلسفي، وأن التفاته إلى الحب كان عابرا، يطفو على السطح، ولا يتعمق حياته، وكان ينشد به السرور لا السعادة؛ لأن سعادته كانت ولا تزال في كفاحه لتغيير المجتمع البشري. وقد أفلتت منه كلمة في إحدى دراماته، دلت على موقفه من الحب، حين قال: إن البشر يتعلقون أحيانا، ولكنهم يسلكون سلوك الحمير حين يحبون.
ويذكر برنارد شو أنه بقي إلى الثلاثين تقريبا وهو بكر كالفتاة العذراء، إلى أن تعرف إلى أرملة، أو تعرفت هي إليه، فكان بينهما حب بقي سنين كثيرة لم تشبه سوى علاقته - في نفس الوقت - بامرأة أخرى؛ إذ شبت بين المرأتين غيرة جنونية، كانت تحمله على المصالحة بينهما، أو على الملق في إيثار إحداهما وقت غيبة الأخرى. وواضح أنه في هذا «الحب» كان يسلك سلوك الحمير الذي ذكره في إحدى دراماته!
على أننا هنا يجب أن نفهم أن «سلوك الحمير» هذا، لم يكن ينطوي على إسراف، فلم تتأجج فيه شهوة، أو يستمر فيه شوق؛ فإنه في تلك السنين كان قد شرع في اتخاذ النظام النباتي في طعامه، وشهوات الإنسان «تتكيف» بطعامه إلى حد بعيد. وقد أومأ فرانك هاريس في ترجمته لبرنارد شو إلى أنه كان ناقصا من الناحية الجنسية، وكاد يقول إن التزامه للطعام النباتي هو علة ذلك. وقد أنكر برنارد شو في صراحته المألوفة هذه الشبهة. والواقع أنه ليس هناك ما يدل عليها بتاتا، وإن كان هناك بالطبع ظن بأن انغماس هذا الأديب الكبير في المشكلات الأدبية، ووقوفه منها على المستوى العالي في التبعات الاجتماعية والفلسفية، قد خفف عنده من هذه الحدة الجنسية التي تكون عند نظرائه من الناس. أما تجنبه اللحم والخمر، فيأتي بعد ذلك في تخفيف حدته الجنسية.
وقد عرف برنارد شو ثلاثا من النساء ارتفع بينه وبينهن الحب إلى درجة سامية؛ إذ كان ينطوي على كثير من الألم والتضحية، وما نصطلح على تسميته أحيانا بالروحية. وقد كان «لاروشفر كول» يقول إن هناك كثيرا من الناس، ما كانوا ليعرفوا الحب لولا أنهم قرءوا أو سمعوا عن قصصه. ومعنى هذا الحب أن الحب «يتكيف» بثقافتنا، وأن لكل منا طريقة في معالجته أو معاناته، هي ثمرة الثقافة التي حصلنا عليها من بيئتنا الاجتماعية، ومن آدابنا الموروثة؛ ولذلك يجب أن نجزم بأن هناك فرقا عظيما، بين الشاب الذي لم يقرأ من قصص الحب سوى ما جاء في كتاب «ألف ليلة وليلة» وبين شاب آخر قد قرأ «أبيلار وهيلوئيز»؛ فإن ما يستنبطه أحدهما من معاني الحب ولذاته، تختلف اختلافا جوهريا عما يستنبطه الآخر. ولكل منهما أسلوبه في الحب تبعا لهذا الاختلاف.
وأحس برنارد شو لوعة الحب الأولى حين عرف آنسة تدعى ماي موريس، وكان أبوها اشتراكيا من طراز تولستوي، ينزع إلى الاشتراكية؛ لأنه يجد فيها المجال للفنون الجميلة والرحمة بالفقراء. وكانت ماي تختلط بالاشتراكيين الفابيين، الذين كان برنارد شو يعد زعيمهم. وكان يزور منزل والدها ويستمتع بالحدث إليها. وكانت مديدة هيفاء، تحسن لقاء برنارد شو ولكنها كانت تجهل ما يكنه نحوها من حب غامر، يلجم لسانه، ويربك حركته، عندما يلتقي بها. وكان في ذلك الوقت فقيرا، يكاد يكون محروما من الكسب. وكان موريس ميسور الحال، فلم يجرؤ برنارد شو على أن يطلب يد ابنته، ولكنه لم ينكر على نفسه زيارتها، على أننا مع ذلك لا نحس أنها قد التفتت إليه أكثر مما كانت تقتضيها مجاملة الضيافة. وهو يروي عن نفسه أنه ذات مرة كان يهم بالخروج من منزل أبيها، فبرزت إليه في أناقة، وودعته في رقة وحنان، حتى أحس أنه تمت بينهما الخطبة «في السماء». وفي هذا التعبير ما يدل على أنه هام بها هياما عظيما، ولكن هيامه كان مكتوما في نفسه!
وذات يوم عرف أنها خطبت إلى أديب اشتراكي يدعى سبارلنج، ثم تزوجته، واستكان إلى حظه، وتقبل هذا الحرمان من حبيبته التي كان يعدها خطيبته «في السماء». ولكن حدث بعد ذلك أن هذين العروسين اللذين سكنا في دار نائية، دعوا برنارد شو إلى زيارتهما، فزارهما على براءة وأمانة، وبقي معهما أسابيع، والجميع هانئون، من دون أدنى دليل على خيانة أو مخالفة زوجية. ولكن الناقد لا يشك في أن ماي موريس قد وجدت في برنارد شو من روعة العبقرية والعظمة ما جعلها تفكر، وتقارن بينه وبين هذا الزوج الأليف؛ لأنه ما كاد برنارد شو يتركهما، حتى وجد الزوج أن زوجته قد استحالت إلى حجر مثلج لا يتحرك، كأن كل عواطفها قد جمدت. وغشي البيت جو من المرارة، يكاد كل من الزوجين يطعم علقمه، حتى لم يجدا مندوحة عن الفراق!
ولم يتهم الزوج برنارد شو بإغراء زوجته، ولكنه قال إن زيارته كانت سبب هذا الفراق. وبقيت ماي بعد ذلك في عزبتها حتى ماتت.
أما المرأة الثانية التي أحبها برنارد شو فهي ألين تري، الممثلة الإنجليزية، وكانت رائعة في جمالها وفنها، وهي عند الإنجليز بمقام سارة برنار عند الفرنسيين. وأحب كل منهما الآخر على بعد، لا يلتقيان، وإنما كانا يتراسلان. وقد طبعت بعد ذلك هذه الرسائل، فكانت كشفا رائعا عن أسلوب في الحب لا يطاق بين المحبين.
وقولنا إنهما «لا يلتقيان» ليس بمعنى أنهما لا يتقابلان بالعين؛ فقد كانت «ألين تري» تظهر على المسرح كل مساء، وكان برنارد شو يواظب على الحضور، ويتخذ مقعده قريبا من خشبته، فكانت العين تلتقي بالعين لقاء صامتا، حتى إذا بلغ برنارد شو منزله، كتب إليها رسالته، وبثها فيها لوعته وشجنه، فإذا كان الصباح ردت هي عليه في رسالة أخرى.
ومثل هذا الحب الذي لا يعرف لقاء جدير بأن يحتدم ويدوم احتدامه. وقد بقي الاثنان على هذا البعد، يستمتعان ويعانيان لذة الفراق الأليمة. وكانت ألين تري تمثل درامات هذا الصديق أو الحبيب النائي، ومع ذلك لم يكن برنارد شو يختلس الزيارة من خلف الستار، كي يشكر أو ينبه أو ينتقد، كما هو المألوف بين المؤلفين، بل كان يقنع برسالته التي يسكب فيها نفسه، ويبعثها إليها، وبقيت على ذلك حتى ماتت. ولما نشر الكتاب الذي يحوي هذه الرسائل كتب ابن ألين تري نقدا لها فقال: إن برنارد شو لم يكن يحب أمه وإنما كان يخدعها بهذه الكلمات العذبة كي تمثل دراماته، وإن أمه خدعت، فأحبته، وخدمته بتمثيل هذه الدرامات. ولكن المتأمل لهذه الرسائل يحس فيها طابع الصدق والإخلاص، ويكاد يكون من المستحيل للأديب الكبير أن يخدع ويكتب، كاذبا على إحساسه وعاطفته. ولكن يمكن أن يقال إن برنارد شو لم يكن يعجب بما نسميه الجمال في جسم ألين تري ، وإنما كان إعجابه ينصب على شخصيتها الرائعة، التي كانت تتلألأ على المسرح. ولعل هذا هو السبب في أنه استطاع أن يحب على بعد، وأن يحجم عن اللقاء؛ لأن جمال الجسم يثير الشهوة، ويغري بالقرب. ولكن جمال الشخصية يبعث الإعجاب، والعبادة عن بعد. ولعل هناك تفسيرا آخر، هو هذه الرغبة العامة التي يحسها الأديب الصادق في التجربة؛ كيف يكون الحب على بعد، وكيف تستحيل اللوعة إلى فن، وكيف تستغني عن العناق المطفئ للشهوة، بالخيال الذي يشبع في النفس ويملؤها بمباهج الألوان والأشكال؟
وكانت ألين تري رائعة الجسم، يدل على ذلك أن خمسة تزوجوها واحدا بعد آخر، ولكن برنارد شو على ما يبدو، كان يفتتن بها وهي تمثل؛ أي إنه كان يعشق ميزاتها الفنية، وليس ميزاتها النسوية، وهو يقول: «إن الحب الأمثل هو الذي يجري عن طريق البريد. وقد كان تراسلنا حبا كاملا شافيا. وكنت أستطيع أن أقابلها في أي وقت أردت، ولكني لم أشأ أن أعكر هذا الحب الصافي.»
وستبقى هذه الرسائل المتبادلة بين برنارد شو وألين تري أدبا خالدا، وتجربة للبشرية سامية، بين نفسين ارتفعتا إلى مستوى عال من الإحساس والخيال، والتعقل وكظم «نهيق الحمار».
أما المرأة الثالثة التي أحبها برنارد شو، فيبدو أن حبها له أو حبه لها، كان من النوع الذي لا يلتهب، فينير أو يدمر، ولا يسمو، فيقوم الخيال فيه مقام اللقاء، ويغني عنه، وهو النوع الذي يعيش في مجتمعنا وتبنى به العائلات.
وهذه المرأة هي شارلوت بين تونسهد، وكانت فتاة ثرية، تعرفت إلى «بياتريس ويب» وتعلمت منها الاشتراكية، وكانت قد سئمت أولئك الشبان العديدين الذين طلبوا يدها طمعا في ثرائها. ووجدت برنارد شو نجما يوشك أن يبزغ ويتلألأ، فسعت بياتريس ويب بينهما كي تربطهما بالزواج. وكانت تنشد في هذا الزواج تحقيق مآرب مختلفة؛ منها التخفيف عن برنارد شو من الفاقة التي ألحت عليه إلى أن كاد يبلغ الأربعين، ومنها استخدام هذا الثراء الذي كانت تتمتع به هذه الآنسة لترويج المذهب الاشتراكي، ولكن برنارد شو كان - كما هو شأن الأديب المخلص لرسالته - يتوجس خيفة من الزواج؛ إذ لا يستطيع الأديب أن يخدم سيدين معا: الفن والزوجة.
ولكن شاءت الظروف غير ما شاء برنارد شو؛ فقد مرض، ولزم السرير، وساءت حاله. وكانت شارلوت في نزهة مع بياتريس ويب في البحيرات الإيطالية، فأرسل إليهما صديق ينبئهما بخطورة المرض، وبأن برنارد شو لا يجد من يعنى به، فلم يكن من شارلوت إلا أن سافرت على أول قطار، وقصدت إليه عقب وصولها إلى لندن، فألفته في حال يرثى لها من الإهمال.
وهنا يقول برنارد شو في صراحته البشعة: إن النفس وقت المرض تضعف فترق، ويغمرها الحنان؛ ولذلك يسهل غزوها بعروض الحب والزواج، وقد قبل الزواج. وما هو إلا أن سرت في عروقه بوادر العافية، حتى قصد مع شارلوت إلى الكنيسة حيث تم زواجهما. وهو لا يزال يذكر أن رفيقه إلى الكنيسة كان جراهام وولاس، المفكر المشهور والمعروف بكتابه «فن التفكير»، وكان يمتاز بقوام وصحة وإشراق، ويتزين بوردة على صدره، لما رآه القسيس حسبه العريس، ونحى برنارد شو عن كرسي الزفاف، مستهينا به لهزاله وضعفه.
ثم اعتذر القسيس، وأتم الزواج.
قصة كارل ماركس
ولد سنة 1818، وكان أبوه يهوديا قد احترف المحاماة. وكان قد تنصر سياسة لا دينا، وذلك لكي يقبل على مكتبه الناس. وكان أهله يعيشون في بلدة تريف في الموزيل في فرنسا، قريبا من التخوم الألمانية، وهذه البلدة كثيرا ما تناوبتها سيادة فرنسا وألمانيا على التوالي.
وكانت أمه مؤمنة دينة، تميل إلى الهدوء، والجري على أوضاع العرف، فعاشت طول حياتها وهي في أشد الحزن والأسى لنزوع ابنها إلى أفكاره الثورية، ومطاردة الحكومات له. ونشأ ماركس عبلا مديد القامة. وكان أسمر اللون، يكاد يكون آدما، حتى كان إخوانه يسمونه الزنجي. ولكن ملامحه كانت أبعد ما تكون عن الملامح اليهودية المألوفة.
وكانت مدينة تريف بعد سقوط نابليون، قد انتقلت إدارتها من فرنسا إلى ألمانيا. وكان يسكن بجوار منزل ماركس المستشار الألماني البارون وستفالين. وكان والد ماركس قد عرف هذا البارون، وصارا صديقين يتزاوران . وتعرف عائلة كل منهما إلى عائلة الآخر. وكان للبارون ابنة جميلة تدعى برتا، وكانت سنها أكبر من كارل ماركس بأربع سنوات، ولكنه شب معها، وقضيا عصر الصبا معا، فلما بلغا سن الشباب، تعلق ماركس بها، وصار يلهج بذكرها، ولا يطيق فراقها. وكانت هي أعقل منه بحكم سنها، وكانت تجد في نفسها له، مثل ما يجد هو أو أكثر، ولكنها كانت تداري وتطاول.
وأرسله أبوه إلى جامعة بون، ولكنه لم يكن خليا، فاشتغل باله بحبيبته، وانتشرت عليه لذلك دروسه، فلم يأت بنتيجة. وصارت أخباره تصل إلى والده، فيبعث إليه يبكته ويؤنبه بلا طائل. وأخيرا استدعاه والده، ومنعه من الذهاب إلى بون.
فلما حضر أخذ في حض حبيبته على الزواج منه، وألح عليها في ذلك، وأظهر لها من الحب والإخلاص ما جعلها تقبل يده، وتعده بالزواج بعد تردد طويل وممانعة جدية؛ فقد كانت برتا لزيادة سنها على سنه، تخشى أن يكون تعلقه بها عن هوى زائل لا عن حب مقيم.
وبقيت خطبتهما سرا مكتوما، لا يدري بها أبواهما. وعاد ماركس إلى جامعة برلين، وأخذ يدرس بنشاط، ولكنه كان كثير الدأب في تحصيل ما لم يكن قد اختص له من الدروس، فكان يكثر من مطالعة التاريخ والفلسفة والاقتصاد مهملا في ذلك دروسه القانونية الأصلية. وهذه القطعة التالية المأخوذة من أحد خطابات والده إليه، تبين حالته في ذلك الوقت:
إنك في تشوش هائل، تكثر من التجوال في مختلف العلوم، وتقضي وقتك عبثا في التأمل حول المصباح.
ولكنه مع هذا التشوش استطاع أن ينال شهادة الجامعة. وكان أبوه قد مات في هذه الفترة، فعزم على أن يحترف التعليم، ولكنه عدل عنه إلى الصحافة، وتعين محررا في إحدى الجرائد الحرة. ثم غلا في سياسته حتى اضطر أصحاب الجريدة إلى فصله.
وكان أهل برتا قد عرفوا علاقتها بماركس، وصاروا يمانعون في عقد هذا الزواج، ولكن حب الحبيبين كان أوثق من أن تفكه شكوك العائلة، وتزوجا على الرغم من استياء أهل الفتاة في سنة 1843.
وخرج بها ماركس مهاجرا إلى باريس، حيث تعرف إلى برودون وباكونين وسان سيمون، وكان هؤلاء الثلاثة من أقطاب الاقتصاد في ذلك الوقت، ومن غلاة الحاملين على مبدأ الملكية، فأشرب ماركس آراءهم، وأخذت هذه الآراء تتطور في نفسه وتتكشف، حتى تفتحت أزهارها عن الاشتراكية الحديثة.
وعرف ماركس في ذلك الوقت أيضا هينه، الأديب الألماني الذي لا يفوقه في الأدب الألماني سوى جوته. وكان هينه يفتن كل من يقترب منه أو يقرأ له، بل كان بيته يحاصر أحيانا بمن أحبه من النساء والرجال.
وتعلقت زوجة ماركس بهينه بعض التعلق، وكان هينه يحبها، ولكن أكثر الرواة يجمعون على أن هينه احترم في ماركس صداقته، ولم يخنه في زوجته، وأن الزوجة عاشت أمينة للزوجية، لم تخل بشروطها، ولم يكن حبها لهينه إلا حبا أفلاطونيا بريئا.
وأوعز ملك روسيا إلى حكومة فرنسا أن تنفي ماركس من بلادها، فنفته، وبقي من ذلك الوقت إلى حين وفاته، وهو في فقر مدقع، دائم الرحلة من بلد إلى بلد، لا ينزل مكانا حتى يرى الشرطة قد احتاطته، وأخذت في إعناته بضروب من المكايدات، وانتهى به المطاف إلى لندن؛ حيث طبع كتابه «رأس المال» بعد أن عانى المشاق في وجود من رضي بطبعه.
ولم يكن يعوله سوى جريدة التربيون بنيويورك؛ إذ كانت ترسل إليه جنيها كل أسبوع، لكي يوافيها ببعض المقالات.
وانتهت هذه الحياة المعذبة بشيخوخة غير مطمئنة، فقد ماركس إيمانه بالله، وكفر بقوانين الزواج، وصارت الحكومات في نظره شرا عظيما، يجب أن يزال من الوجود. وماتت زوجته قبل وفاته بعام، ويحكى أنه عندما ذهب هو وأولاده الستة لكي يدفنوها، عثر فوقع في حفرة قبرها، ومنذ ذلك الوقت إلى يوم وفاته، انطفأت حماسته، ولم يعد يهتم لشيء في هذا العالم.
Página desconocida