وقام في نفسه في النهاية أن يحقق حياة الخيال التي يصفها في أشعاره، فخلع عن نفسه رداء الترف، وشخص إلى بلاد الإغريق، حيث انضم إلى الجيش اليوناني الوطني، الذي تألف لطرد الأتراك واستقلال البلاد وبقي يجاهد حتى مات.
وكان مما امتاز به بيرون، صورة وجه قال عنها سير والتر سكوت القصصي المعروف: «إنها شيء يحلم الإنسان به.» فكانت النساء يشغفن به لأول مرة يشاهدنه، وكن يتصدين ويستهدفن له، حتى ينلن منه كلمة مديح أو إشارة حب. وزاره أحد الألمان، فقال: إن النساء يحاصرنه حصارا لافتتانهن به.
وكانت لذلك حوادث حب عديدة، كان هو فيها المطلوب لا الطالب؛ فقد رأته السيدة كارولين لام، زوجة رئيس وزراء إنجلترا، فهامت به أشد هيام، حتى كان يهرب منها. وعندما رأته لأول مرة صاحت قائلة: «هذا الوجه الشاحب هو ما قدرته لي المقادير.» فلما أنست به قليلا قالت: «كله سوء، وكله جنون، وكله خطر.»
وكان مما يغيظ بيرون منها أنها كانت تنظم الشعر وتطلب منه الإطراء الدائم لنظمها وجماله، وكانت تلح عليه في حبها، حتى سئمها، وصار يهرب منها. ودخلت عليه مرة متنكرة في هيئة غلام، ورأت منه إعراضا، فقبضت على مقص، وحاولت أن تطعن بطنها به.
وتخلص منها بيرون أخيرا في سنة 1815؛ إذ عقد زواجه على آنسة إنجليزية، ولم يكن الدافع إلى هذا الزواج حبا صادقا لها، وإنما كانت الحقيقة أنه اعتزم أن ينتهي من حياة الحب المحرم، ونزغات الهوى، ويدخل في حظيرة المتزوجين الهادئين، ولكنه لم يحسن الفراسة في هوى قلبه، ونزعة نفسه؛ فقد كان يجيب على أسئلة الكاهن وقت الإكليل أجوبة خطأ، وتفلت من لسانه عبارات يعتبرها الناس في مثل تلك الظروف نذير شؤم للحياة الزوجية؛ وذلك لأنها دليل على أن العقل الكامن لا يطابق الوجدان في أغراضه ومناحيه.
وافترق الزوجان بعد ولادة أول طفلة لهما فراق الأبد، وأخذ الناس بالتشهير ببيرون لسوء معاملته زوجته ، وصار أكثرهم يتحامون لقاءه، حتى هجر إنجلترا إلى القارة الأوروبية، وقضى معظم حياته بعد ذلك بعيدا عن بلاده.
وقد كان بيرون فوق حد شهواته، لا يعير الأخلاق العامة قيمة. ومما يعزى إليه أنه عشق أخته، وقد كان يظن أولا أن قالة السوء هم الذين أذاعوا عنه هذه الفرقة، ولكن تبين من خطاباته التي نشرت حديثا، أن التهمة ثابتة عليه، لا وجه لنقضها، وفي أشعاره ما يوهم القارئ أنه يسوغ هذا العشق، وكان قد افترق من أخته هذه وهو طفل، وبقي على هذا الفراق إلى سن الشباب، حين التقى بها، فوجد فيها وجها أنور كالمصباح، وقامة مديدة، كأنها علم وذكاء يلتقي بذكائه، ثم أنس الأخوان أحدهما إلى الآخر، واشتعل الحب بينهما، وأنجبا طفلا، ويقال إن هذا الحادث الأخير كان السبب الأصلي لفراق زوجته، التي بقيت سنين وهي تكتم حب هذين الأخوين.
وفي سنة 1815 كان في مدينة البندقية، فالتقى بسيدة متزوجة تدعى تيريزا، كان زوجها كونتا من أشراف إيطاليا، وكانت هي في التاسعة عشرة، بينما كان زوجها في الستين، ولم يكن وجهها يجري على النمط الإيطالي؛ إذ كان أبيض شديد البياض، وشعرها أصفر ذهبيا، وكانت سحنتها أشبه بأهل شمال أوروبا منها بأهل إيطاليا.
وما هو أن عرفت الشاعر وجالسته مرات قليلة، حتى رأت نفسها قد علقته، ولم تعد تقدر على فراقه؛ فقد كانت قبلا تمزح بالعشق، أما الآن فقد شعرت أنها أمة قد استرقها حب بيرون، فإذا نظرت إليه، وتملت من طلعته، شعرت كأن جسمها يتوهج بالرغبة فيه.
وكان بيرون في ذلك الوقت قد جاوز الثلاثين، وكان قد اعتاد الخمر والترف، فظهرت عليه أعراض السمن والترهل، وبدت عليه دلائل الفتور والخمول، وذهبت عن وجهه تلك المسحة الروحانية التي كان يفخر بها الشاعر قبلا.
Página desconocida