وبدأت سحب الأزمة التي نشأت بين الزوجين تتجمع وتكفهر وتضيق الخناق على شاعرنا المسكين وحبيبته العفيفة الصابرة. كانت تعيش مع زوجها الغني الناجح في إطار العرف والتقاليد (وقد زف إليها وهي في السابعة عشرة من عمرها) وكانت بإحساسها وكيانها تحيا بعيدة عنه بعد الحمل الطيب الذي كتب عليه أن يعاشر الذئب القوي المعتد بنفسه، والقمر الشاحب الحالم عن الشمس الجبارة المنتصرة. ومع ذلك فهي تحتمل في صبر الملاك الطاهر، ولا تبخل على الناس بابتسامتها ونظرتها الطيبة الحنون. حتى إذا ذكر زوجها أو رأته قادما طافت بالنظرة والابتسامة سحابة حزن عميق. وها هو ذا أحد الزوار يقول عنها: «قطعة اللحم المقدد حين تجوع، الكلب الذي تربت عليه يداها، العصفور الذي تطعمه، وأنا حين أحكي لها ... نحن جميعا نتلقى منها نفس النظرة الودودة الطيبة التي لا تتعكر إلا إذا وقعت عيناها على زوجها أو سمعت اسمه.»
أما هلدرلين فكان دائم الشكوى من سوء معاملة الزوج وتحقيره له بسبب وبغير سبب. وبلغت إهانات الزوج للمربي الفقير ذروتها في شهر سبتمبر سنة 1798. ويبدو أنه قد دخل عليهما في لحظة من لحظات الانسجام الإلهي مع النغم والغناء أو مع التجاوب الرقيق مع الشعر .. هنالك قرر الحبيبان المحرومان أن ينفصلا على الفور عن بعضهما عن بعض، وأن يبقيا على نبل العلاقة التي تجمع بينهما بالفراق الأبي المتكبر ... وهكذا غادر هلدرلين الطفل الذي يربيه والأم التي يقدسها ويتبتل إليها بالحب المحروم والشعر الكسير ... وآثر أن يمضي إلى مدينة هومبورج القريبة ليعيش فيها عاما ونصف عام ...
لم يستطع الحبيبان صبرا على هذا الحرمان الذي يفوق كل قدرة على الاحتمال .. وبدآ يتراسلان في خطابات شحيحة مذعورة من الرقابة الغاشمة التي فرضها رجل المال والأعمال .. ومن الصعب أن نقول إنهما رضيا بهذا الحرمان أو احتملا هذا الفراق. فقد طالما عبرت كلماتهما عن حنين اللقاء، لكن اللقاء ظل بعيدا كأحلام الفقراء، وظل هذا السؤال الحزين يتردد بينهما في صور مختلفة: «يجب علينا الآن أن نتسول من القدر، وبألف وسيلة ووسيلة، دربا واحدا يجمع بيننا. ماذا عسى أن تكون حالنا لو اختفى كل منا بالنسبة لصاحبه؟» ...
وظل السؤال الأخرس يتردد كهتاف الغريق في الرسائل المتبادلة بينهما [ولا زالت رسائل سوزيته محفوظة إلى الآن، أما رسائل هلدرلين فلم يبق منها سوى ثلاث مسودات لم تصل إلى يديها ...]
ويكفي أن نقتبس شذرات قليلة من هذه الرسائل التي يعرفها العشاق المقهورون في كل زمان .. هذه بعض سطور كتبتها سوزيته إلى هلدرلين في شهر ديسمبر سنة 1798م: «إن لمست مني الهدوء والجفاف فلا تتشكك في، لأن النار تشتعل في أعماقي، ولا بد لي ولك أن نحفظ أنفسنا من الانفعال. إن الهم يمضي قليلا، غير أن الكآبة الحلوة الشافية تأتي دائما في الوقت المناسب من السماء وتصب نعمتها في القلب. لن أيئس أبدا من الطبيعة، ولو أحسست بالموت يتسلل إلى كياني فسوف أقول: إنها توقظني من جديد، ترد إلي كل مشاعري التي صنتها في وفاء، ولم يحرمني منها إلا ظلم القدر. ولكنها تنتصر، تنتزع لي من الموت حياة جديدة جميلة، فبذرة الحب ثابتة وعميقة الجذور في كياني.»
احتدم الصراع في نفس الحبيبين. وأصبح الفراق هو الحل الوحيد الذي فرض عليهما، وحاولا بكل طاقتهما على الزهد والحرمان والكبرياء أن يقبلاه. لكن ماذا في وسع الطائر أن يفعل وهو يرى قضبان الأسر تشيد حوله، قفص التقاليد يضيق الخناق عليه، يد الجلاد الشرعي تقص ريشه وتلوي رقبته وتخنق صوته؟ هل نلومه إذا صرخ ورفرف بجناحيه واستنجد بربة الحرية والحب من بطش الناس؟ ها هي ذي كاهنة الحب تجد نفسها وحيدة ذابلة، بلا معبد ولا إله ولا وثن ولا أتباع، بعيدة عن الإنسان الذي يمكنه أن يقف معها ويملأ وحشتها ويعطي معنى لوجودها. ومع ذلك فهي تحاول أن تمد إليه حبل العزاء عبر الجدران والأسوار، أن تطمئنه إلى لقاء الأرواح على الرغم من فراق الأجساد المحتوم، أن تحمل عنه عبء الاختيار الذي ليس منه بد: «لا تترك عبء القرار الثقيل يقع علي وحدي. إن ما تراه خيرا هو كذلك رأيي وإرادتي، وإذا اعتقدت أن من الخير أن نفترق فراقا تاما فلن أنكرك لهذا السبب. إن الوشائج الخفية بيننا سوف تظل مع ذلك قائمة. الحياة قصيرة. إنني أحس البرودة! هل من حقنا أن نستخف بها لأنها قصيرة؟ آه قل لي! أين نلتقي مرة أخرى؟ أيها الروح العزيز الحبيب! أين أجد الراحة؟ دعني أعرف واجبي وأنسى نفسي، وإذا كان هذا الواجب عسيرا فأعني على القيام به؛ ولكني ما زلت أجهله. الإبقاء على نفسي شيء لا أستغني عنه، ونسيان نفسي شيء آخر يتناقض معه، لأنني أشعر أن كل ما يمكن أن أقاوم به حبي إنما يدمرني ويفضي بي للهلاك. يا للحب من فن عسير! من ذا الذي يفهمه؟ من ذا الذي يفلت منه؟»
لم يعد إذن من الفراق بد. ويمضي الزمن فيثبت للحبيبين أن كل ألوان الزهد والصبر والحرمان والكبرياء ليست إلا أوهام عزاء. لقد استمرت الحبيبة تخدع نفسها بالجلد والاحتمال، حتى تبين لها قرب النهاية أن الحياة بغير الحبيب ذبول بطيء وموت محتوم. وها هي ذي تقول في إحدى رسائلها المتأخرة: «شعرت شعورا حيا أن حياتي من غيرك تذبل وتجف وتخطو للموت ببطء ...» ويرد عليها هلدرلين برسالة لم تبق منها إلا مسودتها، ويبدو أنه أشفق على المحبوبة من كآبتها السوداء فلم يتمها ولم يبعث بها إليها. ها هي ذي سطور قليلة منها، كل حرف فيها جرح ينزف ويئن: «لو أمكنني أن أرقد عند قدميك وأرعى موهبتي الفنية في هدوء وحرية، لاستطعت فيما أعتقد أن أعجل بتحقيق ذلك الهدف الذي يشتاق إليه قلبي المعذب المفجوع في أحلامي وفي وضح النهار، وكثيرا ما يحن إليه في يأس صامت .. انظري! هذا ما يجعلني أحيانا ألتزم الصمت المطبق، إذ لا بد أن أحمي نفسي من مثل هذه الأفكار. مرضك، رسالتك ... لقد وضح أمام عيني ... وكنت أتمنى لو أصبت بالعمى ... أنك لا زلت تعانين وتتألمين ... قولي لي، أيهما أفضل، أن نتكتم ما في قلبينا أم أن نعلنه ونبوح؟ .. لهذا تظلم الرؤية غالبا أمام أعيننا، فلا ندري من نحن ولا ما نملك، لا نكاد نعرف أنفسنا، هذا الصراع الأبدي وهذا التناقض الذي تحسينه في أعماقك لا بد أن يحكم عليك بالموت البطيء، وإذا لم يخفف الرب وطأته فلن يكون أمامي إلا الهلاك يأسا عليك وعلى نفسي، أو إغفال كل شيء إلاك والبحث معك عن طريق يريحنا من هذا الصراع. لقد خيل إلي أن في استطاعتنا أن نعيش على التجاهل وأنه قد يشد من عزمنا أن نودع الأمل إلى غير رجعة ...»
انقطعت سطور هذا الخطاب فجأة. ولعل الشاعر قد أحس أنه يخدع نفسه أيضا، ويحطم رأسه على جدار المستحيل. ولعله قد لجأ في هذه الفترة إلى الشعر [وهل يملك ملجأ غيره؟!]؛ فراح يؤلف أغنية ربما كانت أرق أغانيه التي كتبها في ذلك الحين وأكثرها يأسا وعذابا. ولكن أغنية الفراق لم تتم كما لم يتم الخطاب الذي قرأت بعض سطوره. وأنى لها أن تتم وسط هذا الصراع الذي ينهشه ويحرقه ؟ إليك أبيات الأغنية التي جعل عنوانها «في الحق أمضي كل يوم» ولم يستطع أن يكملها فترك مقطوعتها الثانية ناقصة:
أمضي كل الأيام على درب غير الدرب،
أحيانا للشجر الأخضر في الغابة، أحيانا للنبع،
Página desconocida