علمته ديوتيما إذن، ووقف منها موقف التلميذ الشاكر المطيع. حدث هذا بلا جهد أو عناء. فالكاهنة الطيبة تعرفه، وهي تستمد معرفتها به من قلبه. ولهذا تستطيع أن تنصت لصوت هذا القلب، وتستطيع أن تخلصه وتنقذه «حين تنصت لمد القلب وجزره» .. وهي تبذل أيضا كل ما في طاقتها لتنزع شوكة اليأس والشك المغروزة في هذا القلب: «هتفت قائلة: اسكت ولا تتهكم بقدرك، لا تتهكم بقلبك؛ لأنني أفهمه، وأفهمه خيرا منك.» أليست هذه الكلمات من «هيبريون» هي التعبير عن عقيدة الشاعر التي طالما رددها في شعره ونثره؟ «قلب الإنسان هو قدره!»
في هذا الجو المعطر بأريج الحنان عرف هلدرلين الراحة والاطمئنان، في ظل الشجرة الطيبة التي لا تبخل بشيء استطاع أن يصل إلى حقيقة نفسه. في هذه الحقيقة التقى البشر والخالدون، اجتمع المبدأ الأول والزمن المتغير. إنها وراء كل تصور، فوق كل تفكير، لأنها هي حقيقة الحب: «ما قيمة كل ما فعله الناس وفكروا فيه منذ آلاف السنين، بالقياس إلى لحظة حب واحدة؟ .. إن كل الدرجات على عتبة الحياة تؤدي إليها .. منها نأتي، وإليها نمضي ...»
هو الحب إذن! ليس هو «الجوع الذي تسمونه حبا»
9 .. بل هو رسول السماء الذي طالما انتظرناه. الحقيقة التي نكتشفها في العذاب، حين نكتشف أن للعذاب رسالة إلهية. استسلم الشاعر لقدره، أي لقلبه. وهو يعلم الآن أننا لا نستمع إلى الأغنية الإلهية التي تشدو بها الحياة ويترنم بها العالم حتى نكابد العذاب العميق. وهو يعلم أيضا أن كنه هذه الحقيقة هو المعرفة المطلقة بقوة الحياة. ها هو ذا يقول في موضع آخر من روايته: «ما يحيا لا يتبدد، يبقى حرا حتى في أعماق أشكال عبوديته، يظل واحدا ولو فرقته من أساسه، ولو مزقته حتى النخاع، وإن جوهره ليفلت ظافرا من بين يديك ...»
بقي أن نتتبع باختصار رحلة قدره مع ديوتيما، مع سوزيته جونتار.
يبدو أن هذا القدر لم يعلن عن نفسه إلا خلال سفرهما إلى مدينة دريبورج، هربا من وجه القوات الفرنسية الزاحفة. ويبدو أيضا أن المهاجرين الشابين قد عاشا أياما سعيدة حقا، وانطلقا معا في نزهات ذهبية. كانت سوزيته في صحبة أولادها. وكان معهما رجل آخر نبيل الروح، غارق إلى أذنيه في عبادة الحس والفن والجمال هو الكاتب الثائر فيلهلم هينزه (1746-1803م) الذي كان من أشد المعجبين بها (ويروى عنه أن نبأ وفاتها قد صدمه صدمة قوية أدت إلى إصابته بالشلل النصفي بعد موتها بخمسة أيام) - كان هذا الكاتب المعروف بمقالاته في الفن وقصصه ورواياته عن الفنانين، ودعوته للحب والمتعة ولذة الحس إلى حد الخروج على الأخلاق في سبيل الجمال - كان في ذلك الحين كهلا في الخمسين من عمره. ويظهر أن هلدرلين انجذب إلى شخصيته التي جمعت بين ثقافة العقل وبراءة الأطفال في وحدة نادرة جعلته يصفه بقوله: «إنه شيخ رائع. لم يسبق لي أن عثرت على هذه الثقافة الهائلة مع هذه البساطة التي تشبه سذاجة الأطفال.» كان هينزه في سنوات نضجه قد بدأ يولي الموسيقى جانبا كبيرا من اهتمامه الذي ظل حتى ذلك الحين مقصورا على الرسم والنحت. ويظهر أن لقاءه مع هلدرلين وسوزيته قد أكد صحة العبارة التي قالها قبل ذلك بسنوات قليلة حين وصف الموسيقى بأنها ساحر حقيقي يصور حياة النفوس والأرواح .. فقد كان الأصدقاء الذين يترددون على بيت جونتار يعرفون أن هلدرلين وسوزيته ثنائي جمعت الأنغام بين روحيهما إلى الحد الذي جعل بعض النفوس والألسنة الصغيرة تنشر حولهما الشائعات. كان الشاعر يعزف على البيان، فتجاوبه سيدة البيت بالغناء .. ومن يدري؟ فربما ترنمت في بعض الأحيان بأشعاره التي تنقلها إلى أثير الآلهة الخالدين، وتفعم روحها التقية بجلال الأساطير.
ولا بد أن «هينزه» قد أثر على هلدلين من ناحية أخرى. فالمعروف أنه كان في شبابه من أشد المتحمسين للثورة والثوار، ثم لم يلبث هذا الحماس أن خمدت شعلته؛ ليصبح الثائر القديم من أشد المتحمسين للحياة التي لا تكف عن التدفق والتغير والجريان. ولا بد أن هلدرلين كان واقعا تحت تأثير هينزه عندما كتب في أكتوبر سنة 1796م إلى شقيقه الأصغر الذي كان في ذلك الحين من أكبر المتحمسين للثورة: «ستجد عندما تراني أن حالة الثورة قد خفت عما كانت عليه من قبل .. لقد أصبحت الآن ألتزم الهدوء التام حول الأمور التي تجري حولنا ...» وشاء القدر أن يؤيد هذا الإحساس الجديد في نفس هلدرلين؛ إذ تلقى بعد كتابته لهذه السطور رسالة محزنة من الطبيب أيبل [صديق عائلة جونتار الذي توسط له في الالتحاق بوظيفته]، وكانت الرسالة التي وصلته من باريس تفيض حزنا على مصير الثورة الفرنسية وتعبر عن خيبة آماله وآمال الناس في الحرية والعدالة والإخاء ...
ورد عليه هلدرلين محاولا أن يصبره ويواسيه. فمن المؤلم حقا أن يودع الإنسان مكانا تصور أن كل أزهار البشرية وثمارها قد ازدهرت فيه، ومن المحزن أن يتوهم رؤية الحقيقة والعدل حيث لا وجود لهما، ويشعر أن قلبه أنبل من أن يحتمل الحياة في عصره. ولكن لا حيلة للإنسان في هذه الحالة إلا أن يعتصم بنفسه وبأصحابه القليلين، ويجد فيهما العالم الذي افتقده في الواقع، ويبقى على إيمانه بثورة مقبلة تغير إحساس الناس وطرائقهم في التصور والشعور .. فكلما نمت الدولة في هدوء ازداد حظها من العظمة والمجد واقتربت من النضج والكمال .. ومن الواضح أن هذه الأفكار تشهد بالتحول الذي طرأ على هلدرلين .. فهو الآن في بيت المحبوبة وتحت رعايتها أكثر هدوءا وأقدر على الإنصات والتعلم، وأقدر على تعهد البذرة الباطنة حتى تنضج في سلام وسكون. وهو الذي كان ثائرا متحمسا للجمهورية فأصبح «جمهوريا بالعقل والحقيقة» كما قال عنه أحد أصدقائه أو بالأحرى أحد الذين اتصل بهم أو اتصلوا به. ولا ريب أن هذا كله يشهد على التحول الخطير في تفكيره وإحساسه ورؤيته بعد لقائه بسوزيته، ولا ريب أيضا في أن «كاهنة الحب» الجديدة قد جعلت منه كاهنا طيبا وصبورا، يستطيع أن يلوذ بالحكمة إذا أعجزه أن يسعد بالحب!
يأتي على الفنان حين لا يطلب فيه من الناس إلا أن يتركوه في حاله، ولا ينغصوا عليه حياته ووحدته بالأقوال الصغيرة التي لا تصدر إلا عن نفوس صغيرة. لكن تجارب الفنانين والشعراء والأدباء والمفكرين تثبت دائما أن هذه الأمنية المتواضعة البسيطة طموح بعيد المنال ...
لم يترك الناس هلدرلين وسوزيته في حالهما، بل سرعان ما انتشرت حولهما الشائعات، وتطفلت الأعين، ولهجت الألسنة الصغيرة بما يصح وما لا يصح أن يقال. بدأ الناس يتحدثون، سواء منهم من كان يعيش مع عائلة جونتار أو من يتردد عليهم من الضيوف والأصدقاء. ولم تقف غربان الشائعات عند حدود فرانكفورت بل تجاوزتها إلى قلب العاصمة برلين. فها هو ذا أحد المترددين على بيت جونتار يصف في سنة 1799م اهتمام أهالي فرانكفورت بأخبار العاشقين المسكينين وهلعهم من الأخبار التي تصل إلى أسماعهم أو يتطوعون بإذاعتها عنهما: «لقد حرم علي أن أذكر اسمه هنا في فرانكفورت، حتى لا يصرخ الناس فزعا من أخباره، لمجرد أنه أحب امرأة واستلهم هذا الحب في كتابة روايته هيبريون» .. وها هو ذا صدى الشائعات المنتشرة عنهما في برلين يصل في صيف سنة 1797م إلى آذان الناس في فرانكفورت مع قول القائل: «العشاق يعيشون لأنفسهم وبأنفسهم، والعالم كله بالنسبة لهم ميت لا حياة فيه.»
Página desconocida