صحراء زاخرة بالرؤى،
هائلة على الدوام،
وتغري بالموت،
بحيث يصبح البقاء
في الحقيقة البريئة
عذابا ...
وطبيعي أن تنضم صورة الموت إلى هذه الرؤى. فهو يغري الإنسان أو يغويه بالموت، والموت عند شاعرنا يرادف البعد عن الحقيقة والبراءة، أي التحلل من المطلق. ويبدو أن فكرة الموت كانت في هذه الفترة مسيطرة على عقل هلدرلين ووجدانه. ويكفي أن نعيد قراءة السطور السابقة لنرى أنه يذكره مرتين، مرة حين يقول إنه لا شيء يستعصي على الموت،
16
وأخرى بالفراق والوداع. ولا يمكن أن تبتعد رؤيا الموت عن شاعر ظل يصارع قدره حتى أنهكه وأهلكه، وظل يحيا حياته وعينه لا تكف عن التطلع إلى الصور الأولى والنماذج الخالدة للبطولة والقداسة والنقاء. ولا بد أنه عرف بوضوح ما يعترف به الآن في رسالته إلى صديقه؛ لا بد أنه عرف أن شبح الموت يحوم كنسور القدر القاتم فوق الرحلة العظيمة. وهل اختلف مصير الأبطال والشعراء العظام عن هذا المصير؟
سافر هلدرلين إلى «بوردو» عن طريق ستراسبورج وليون، ومعه جواز سفر يحدد شخصيته بأنه «أديب» .. وعبر طريقا موحشا تطل عليه أعالي جبال الأوفيرون المخيفة، وتعصف به الرياح، ويخيم عليه الليل البارد برودة الثلج .. وبجانبه مسدسه المحشو الذي يتحسسه باستمرار وهو يتقلب على فراشه الخشن .. ووصل إلى بوردو في الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 1802م. وجاءت أول رسالة منه وكلماتها تحمل ذلك الرنين المعدني الذي نعرفه من أغنياته الطويلة المتأخرة. فقد عود نفسه على العيش الخشن واحتمل الدور المكتوب عليه. وجاءت رسالته التالية معبرة عن السكون الشامل الذي بدأ يطوي حياته، في لغة زجاجية تكشف على الرغم من سحرها وشفافيتها عن بوادر الجنون التي أخذت تظهر عليه. فهو يطلب من أحبائه أن يذكروه ويفكروا فيه بالقدر الذي لا يزعج حياتهم. وهو يصارحهم بأن مشاغله العديدة وغربته عن الوطن ومسافة البعد التي تفصله عنهم تجعله ضنينا بالكتابة إليهم. (وواضح أن هذا البعد لم يكن بعدا جغرافيا فحسب!).
Página desconocida