وكأنكم، يا أيها السماويون،
قد آليتم على أنفسكم،
إن صليت لمعبود،
أن أفقد معبودا آخر.
غير أن هذه الحيرة نفسها، هذا الوهج الباطن والجيشان الدائم الذي أنساه الحد والمقياس هو نفسه الذي أعطاه القدرة على الغناء. صحيح أنه اشتاق «للغناء الخفيف» فلم يوفق إليه. ولكن متى استطاع الشعراء أن يغنوا بغير بكاء، ومن أين يأتيهم الشوق إلى الغناء الخفيف لولا الحزن الذي يثقل قلوبهم؟ المهم بعد كل شيء أنه غنى، وترك لنا في هذه الفترة القصيرة - بين سنتي 1800م و1801م - أغنيات باقية تعبر عن شكره وطاعته، أي عن تسليمه لقدر الحب والشعر.
سافر هلدرلين في اليوم العاشر من شهر ديسمبر سنة 1801م إلى مدينة «بوردو» ليواصل مهنته البائسة في تربية أبناء القنصل الألماني المقيم في ذلك الميناء الفرنسي على نهر الجارون. وقد أرسل قبل رحيله بأيام قليلة بضعة سطور إلى صديقه بولندورف تكشف كالبرق الخاطف عن رؤيته للقدر الذي يهيمن على حياته، وإحساسه بالموت الذي يتربص بطريقه: «كنت فيما مضى من الزمان أستطيع أن أفرح وأهلل لحقيقة جديدة، وأرى ما يمتد فوقنا وحولنا رؤية أفضل. أما الآن فإني أخشى أن تكون نهايتي كنهاية تنتالوس
15
العجوز الذي أعطته الآلهة أكثر مما يطيق أن يهضم. غير أني أفعل ما أستطيع، بقدر ما أستطيع، وحين أرى أنني سائر على الطريق الذي سيؤدي حتما إلى نفس المصير الذي سينتهي إليه غيري، أحس أن من الكفر والجنون أن يبحث الإنسان عن طريق مأمون من العثرات، وأن الموت لا يستعصي عليه شيء. والآن وداعا يا صديقي الحبيب! وإلى رسالة أخرى. قلبي الآن مفعم بالوداع.»
والسطور تكشف كما ترى عن حزن عميق فاجع يعبر عن رؤية الشاعر لقدره ومصيره، وإحساسه بأن الطريق العسير الذي يخطو عليه لا بد أن ينتهي به إلى نهاية محزنة فاجعة. هذه الرؤية أو هذه الرؤى القاتمة التي يتصورها شاعر - يتحقق فيه معنى الرائي أو العراف القديم - تعبر عن تنبئه بانهياره الوشيك. فالعذاب الذي يتحمله والحياة التي يحياها بلا حب ولا أمل إلا في ماض أسطوري ذهب ولن يعود، تفوقان في النهاية قدرة العقل البشري. ولا بد في النهاية أيضا أن تسوقاه إلى حافة التمزق والدمار.
ها هو ذا يتعذب ويتحمل، ويفنى في الشعر والخيال إلى الحد الذي يفقده الصلة بالأرض والواقع، ويحاول أن يحافظ على نقائه وبراءته وحقيقته وسط صحراء الرؤى المميتة، ويعبر عن هذا في أبيات من قصيدة «الوحيد» التي قرأنا جزءا منها على الصفحات السابقة:
Página desconocida