El caballo verde muere en las calles de asfalto
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
Géneros
الحلم وحده، بقوته العنيدة؛
يفتح الطريق الأخير.
وأنت ترقد الآن ومعك الحلم؛ معك وحدك، على حين يتلوى بين أيديهم ويفرك عينيه ويرفض أن يصحو على صوت الأعداد والأرقام. يعود مصطفى من البيت. أسأله عن الأولاد. صغار لا يعرفون؛ رباب تلعب على العربة السوداء، تشد التصادم الخلفي. صغار لا يعرفون؛ أكل وتقيأ ثم نام. قال لزوجته خذي الصغير للدكتور؛ حتى لا يوقظنا ليلة أخرى. بعد ربع ساعة عادت من عند الطبيب. الصغار يقفون على الباب ويبكون: تعالي شوفي بابا يا ماما. ممدد على الفراش كما تركته.
لم فعلت هذا؟ لم تركتنا؟
في الحادية عشرة تظهر العربة صاعدة على المنحدر؛ العربة السوداء! يرتفع نشيج الشاب الذي كنت أقف بجواره، ينخلع القلب ويشهق وتعاودني الأزمة الصدرية، يتبدد وعيي يتلاشى، يسقط في العدم الفاغر فاه، يحتضنني شاب طويل يضع رأسه على صدري وينفجر بالبكاء. إلهي! كل هذا الحب، كل هذا الوفاء، أضمه بشدة إلى صدري وأفكر: ما زالت الدنيا بخير، برغم كل شيء ما زالت بخير، البركة فيكم يا أولاد، عاش لكم ومات في سبيلكم. توزع العربات على الحاضرين، أشعر أنها لن تكفي. يشدني الصديق الأسمر لأركب. أقول له: أنت أولى مني. عينه كرة من الدم. يأمرني في غضب أن أركب. يقول مصطفى: إنه سهران طول الليل وعنده القلب. ودائما القلب أيها الأدباء، نتعبه ويتعبنا حتى نسقط. أنظر إلى العربة السوداء، الباب الخلفي موارب. يفهمني نبيل أن الشاب الممسك به هو شقيقه؛ وجه أبيض مستدير، شعر أسود كث، ممتلئ بعض الشيء. يفهمني أيضا أن عمه بجوار السائق. هو وحده الذي يعرف الطريق. يقول الشاب الطويل الذي لم أتنبه إليه إلا الآن: أمامنا ساعتان. يستطرد نبيل: وساعة حتى نخرج من المدينة الملعونة. يتقدم الموكب عربة صفراء في المقدمة، يكتشف صاحبها بعد مسافة قليلة أنه لا يعرف الطريق فيتراجع وراء العربة السوداء، ثم يتراجع وراء عربتنا بعد أن يتفاهم مع السائق على الطريق. أجلس على اليسار بجانب مصطفى ونبيل والشاب الطويل الذي لا أعرفه، أسأل عن صديقنا من السويس ، لا بد أنه تأخر في الطريق، أعرف من مصطفى أنه كلمه في السادسة صباحا. نردد خوفنا عليه من الصدمة؛ لكن لا يمكن أن تفوته الجنازة. سنراه في البلد بعد قليل. سيجد ألف طريقة وطريقة. يصمت نبيل ويدفن رأسه في يده، يردد آيات من القرآن، الحزن الهادئ على وجهه وفي عينيه، حمامة فزعت إلى عش الإيمان، الوجوم يفرش جناحه الأسود فوقنا، بين حين وحين تنفذ سهام الآيات لحم الصمت الأسود. مصطفى يضرب كفا بكف، يطلق اللجام لحصان التعجب الجاثم فوق صدورنا، يجري لسانه بنفس الحكاية: ليلة أول أمس كان عندي (هل ينتبه لصدمة «كان»؟) تعشينا وسهرنا طول الليل، أمس ذهب إلى مكتبه خرج مع محمد، في الطريق أحس برعشة، تصبب العرق. أسمع ولا أسمع، أغرز عيني في العربة السوداء التي تتقدمنا، ألاحظ الباب الموارب وأحاول تبين الوجوه في الداخل، أتوقف عن اللافتة الصفراء، أردد الرقم المكتوب بحروف سوداء: خمسة، ستة، أربعة. تتوه الأرقام وتتداخل وأعيد ترتيبها. أنظر للعجلات السود؛ للغبار المتصاعد منها، أرفع بصري للأشجار على الجانبين، أسأل: أهي أشجار كافور أو جزورين؟ يفهمني الشاب الأسمر الطويل عن الفرق بينهما. أرى صفصافة تميل بشعرها المتناثر على جانب الترعة، أقول هذه ندابة مملكة النبات، أتندم على ما قلت وأفكر في إيزيس وشعرها المنكوش على ماء النيل، أبعد أشلاء أوزوريس وأثبت عيني على سواد العربة السوداء. تبدأ رءوس الأحاديث تطل من جحورها. أتشاغل بالأشجار وأسلاك التليفون والعصافير الواقفة عليها وحقول البرسيم المنبسطة تحتها، والحمير والجاموس والبقر بعيونها الواسعة ونظراتها الهادئة السادرة في سعادتها المظلمة. وأنت وحدك؛ هل تسمعنا؟ هل تحس بنا؟ أين أنت؟
في أحد لقاءاتنا الأخيرة قلت له: أنتم جيل التفاصيل، أحس مما قرأت لك ولزملائك - وهو للأسف قليل - أنكم تشهدون على صدق العبارة الحديثة: الفن عين ترى وترصد. هل بعث فيكم الكاتب المصري القديم الذي ينقش حروفا ومقاطع على هيئة الحيوانات والنباتات والأشياء على ورقة بردي صفراء؟ هل تحبون فنان خان الخليلي - الذي أوشك أن ينقرض - وهو عاكف على طبقه أو مشربيته أو مشكاته بالصقل والتهذيب؟ تحددون كل شيء وتتابعون كل حركة وظل ولمعة ضوء، كل فعل ورد فعل، كل ارتعاشة ورقة أو نسمة أو خلجة. كنا نتكلم عن الأشياء وأنتم تتركون الأشياء تكون ثم تستدعي الكلمة والاسم، اللغة عندنا راع يسوق الأشياء، والأشياء عندكم ترعى اللغة، وتصبح القصة حشدا من التفاصيل، غابة من الأشياء، هل تعلمتم درس «الظاهريات» لنعد إلى الأشياء؟ أو أطلتم قراءة جرييه وساروت وبوتور؟ إنني أستمتع بهذه اللوحات المتشابكة بالخطوط والدوائر والألوان، والخرائط الهندسية الدقيقة للواقع، المفتت المنهار، والألحان المتقطعة المتعددة الأصوات والأماكن والأزمان؛ لكن لا أكتمك أنني أفتقد الإنسان، أخشى أن يكون قد أصبح شيئا بين الأشياء، مشجبا تعلق عليه أحواله وردود أفعاله.
قال: الإنسان عندكم هو المحور والمركز، أنتم رومانتيكيون مهما حاولتم الإنكار. أؤمن على كلامه، أقول عالمكم ليس فيه اختيار، يتساوى فيه التافه والهام؛ لكنه عالم محطم منهار، صحيح أن نظريات الجمال تؤكد هذا، الشعر والموسيقى والرسم والنحت والرواية تثبته وتبرره؛ لكنني غير مستريح، أتمنى أن نقرأ ونتعلم ونستفيد، ثم ننسى ما قرأناه كما علمنا نقادنا القدماء. إنني من جيل يقدم الشخص على الشيء، يرفض أن يصبح الأول مجرد أفعال وردود أفعال، يبقى على قيمته، يحاول أن ينقذه من كل ما يدمر إنسانيته، من كل ما يلغيه ويسيء إليه، خصوصا في مجتمعنا وأمام أعيننا، يرفض أيضا أن يتمدد الشيء على عرش الوجود، أن يصبح البطل الجديد والمنقذ الجديد؛ هل هذا لأن سم الرومانتيكية استشرى فينا ولم يعد منا شفاء؟ أو لارتباطنا - عن وعي أو غير وعي - بتراث روحي أقوى منا؟ تراث يؤمن بدور الفرد في التاريخ، وبينما أصبح العالم عندكم صحراء هائلة تتساوى فيها كل الأشياء، يتجول فيها شبح الإنسان الهائم على وجهه، باحثا عن ذات وهدف؟ اعترض على كلامي، قال إنني أناقض نفسي، أسقط في التعميم، إن أعمالا كثيرة له ولغيره تخرج عن هذا التعميم ، تكلمنا عن الشعر الحديث. أكدت له أن ما قلته عنه كان مجرد أداء واجب ثقافي. ضحك وقال: حيرتمونا معكم! قلت - وكنا بعد منتصف الليل نسير على الأقدام في طريقنا من زينهم إلى الجيزة - إننا نعيش في عالم مختل، متخلف، وأعمالنا تخرج من هذا العالم وتحاول أن تصوره؛ أبطالنا - إن صحت هذه التسمية - كلهم مرضى مثله، معظمهم مجانين أو مصابون بعقدة الذنب أو باحثون عن المستحيل أو هاربون، كلنا يحاول أن يهرب من هذا العالم إلى الأدب، إلى الماضي الأسطوري، إلى وحدتنا مع اللغة والأشياء؛ ولكن هروبنا نفسه يشير إلى أنه ليس هو الإنقاذ. لو سألتني وأين هو الطريق إليه لسكت؛ فليست وظيفة الكاتب تقديم الوصفات العملية، على القارئ أن يستشفها من بين السطور، وعليها أن تثيره وتوحي إليه وتحركه؛ كل ما أستطيع أن أقوله: علينا ألا ننفصل عن أهلنا، عن آلام بلدنا، لنجرب ونغامر ونخاطر في كل عمل، لتكن كل قصيدة وقصة ومسرحية مغامرة نحو المجهول ومقامرة اكتشاف، لتلجأ للرمز أو الطقس أو الأسطورة أو التاريخ، لتنصت لما يقوله فم الشعب أو ما تقوله أفواه النقاد والمنظرين؛ لكن لتذكر على الدوام أنها تنشأ في مجتمع متخلف، قد لا يحس بها ولا بنا، نحن نعلم أننا سنعيش منسيين ونموت منسيين، ليس في هذا شيء يحزن؛ المهم أن نحمل مجتمعنا البائس المتخلف في داخلنا. آه ما أفظع تخلفه! تكلمنا بعد ذلك عن صوفية الأشياء، عن شعر الجسد، عن موسيقى الأجسام والخطوط والدوائر والظلال والأضواء والألوان. تذكرت «سيدة الأزهار» و«بيت في الريح» و«النمر». ذكرنا «الركض تحت الشمس» و«رائحة الرماد» والدماء التي تسيل في قصص مستجاب. أكدت أنني تعلمت وأتعلم منها جميعا، وقبل أن نفترق على موعد طرحت السؤال الذي تردد في الظلام، أمام الباب ووسط نباح الكلاب: وأين نحن؟
تقف العربة فجأة وتقطع ذكرياتي، ينزل نبيل ليسأل عن الخبر، يعود بعد قليل ويقول: تهنا عن الطريق. ظن السائق أن العم يعرف الطريق، كان عليه أن يسير في طريق بنها- الزقازيق . علينا الآن أن نرجع عشرة كيلومترات؛ يستدير الموكب، الشمس حارقة، والريح راكدة، والسماء والأشجار والأشياء غير مبالية. غضب سائق العربة السوداء ووجه اللوم للعم والأقرباء؛ لكن حرمة الموت تجبره على المسير. هو أيضا لم يكن يزور البلد إلا قليلا، كانت آخر مرة عندما ماتت أمه. والأب؟ يجيبني مصطفى ونبيل: عجوز على المعاش؛ كان معلما فرئيسا لمديرية التعليم، لم تكن العلاقة بينهما دائما على ما يرام. أفكر في الصراع الأبدي بين الأجيال، في أن معظم الأدباء عانوا من آبائهم وأحبوا أمهاتهم، يصرون دائما أن يكونوا هاملت أو أوديب. أستحضر وجه أبي الصارم وأترحم عليه، أحن إلى أمي وأترحم عليها. نعبر جسرا ثم نخترق مدينة صغيرة، نلاحظ أن اليوم هو يوم السوق، النساء بملابسهن السوداء يفترشن الأرض تحت خيام منصوبة من الخيش وأمامهن البرتقال والبطاطس والكرنب والبصل، والتجار يفردون أمامهم أثواب الدمور والكستور والدبلان، يتوقف الجميع ويتركون ما في أيديهم، وترتفع الأيدي بالشهادتين، ويقف الرجال والأطفال خاشعين؛ بلدة تقدس الموت وتعرف حرمته أرادت أن يقهره فقهرها وعاشته وعاشت فيه. نتفق على الإحساس بالعطش، فننزل من العربة ونرويه بأربع زجاجات كوكاكولا، يدخل اثنان منا إلى قهوة مجاورة ويختفيان لحظات وراء حاجز خشبي صغير، نرجع إلى العربة ونستأنف تأملاتنا العقيمة: كيف لا يكون هذا النظام والتنسيق دليلا على القدرة؟ كيف تكون المادة وحدها هي الأصل؟ - كيف لا يكون النظام والتنسيق دليلا على وجوده؟ (الدليل الكوزمولوجي المشهور: يا للملل!) - هل تستطيع المادة أن تفكر في نفسها؟ - المادة جدلية. عليك أن تتعلم قوانين الجدل! - لكي يمكننا أن نتكلم عن المادة، لا بد أن يكون هناك شيء غير المادة. - أنتبه لهذه النقطة؛ إنها في غاية الأهمية. - الإنسان «ميكانزم»، وعندما يختل يموت. - أهكذا بلا هدف ولا معنى؟ ادرس أصغر خلية حية. - ادرس الأميبا، وستعرف أن وراءها قدرة حكيمة. - أنا لا أومن إلا بالعلم، كل ما عداه خرافات وأوهام، مجرد عزاء. - ومن قال لك إن العلم ضد الدين؟ كل حقيقة علمية تشير إلى بحر مجهول من الحقائق التي لم تكتشف بعد. - سيأتي اليوم الذي تكتشف فيه، علينا أن نؤمن بالعلم، يومها يتغير العالم ويسعد الإنسان، لم ينشأ الدين إلا عن الخوف. - حتى لو عرفنا كل الأسرار وهذا مستحيل؛ فلن يتوقف بحثنا عن الله. - وما حاجتنا إليه؟ سيكتسب الإنسان الثقة بنفسه، سيصبح هو الإله الجديد. - أستغفر الله! وهل سيمكنه التغلب على الموت؟ - وهل هذه مشكلة؟ - بل هي المشكلة، اتعظ واستغفر الله! - لن يكون الموت مشكلة لو عاش الناس سعداء، الحياة الآن هي المشكلة. - وحدوا الله. العربة وقفت من جديد.
ننظر من النوافذ الزجاجية؛ العربة توقفت أمام كشك على اليسار، يخرج منه شاب طويل في ملابس الشرطة العسكرية، يحيي باحترام ويشير بيده اليسرى إلى الطريق. يتطلع فلاح عجوز يجر بقرته، يرفع سبابته بالشهادة وتتمتم شفتاه. تتطلع عينا البقرة فينا؛ عينان واسعتان صافيتان. تمضي العربة، لا بد أنه هو الطريق الصحيح. نندفع بعيدا عن الأسفلت، على طريق مترب مليء بالمطبات، مواز للترعة الواسعة على اليمين، وتلال الرمل المتعرجة على اليسار. - الإيمان هو الحل الوحيد؛ إيمان العجائز لا الفلاسفة. - إما أن يكون الإنسان مؤمنا أو لا يكون، كل الأدلة ثبت فشلها، ولكل دليل دليل مضاد. - العقل محدود؛ فكيف يسمح لنفسه بالتفكير فيما لا يعرف الحدود؟ - نحن جميعا نوصل بعضنا؛ أوتوبيس ينزل منه ركاب ويطلع ركاب.
يضحك المادي على هذا التشبيه. ينهره نبيل وينبهه إلى العربة السوداء، يقول وهو يغمض عينيه: الله يرحمه. يسأل أحدنا: إذا لم يكن هذا هو الدليل على وجوده فأين الدليل؟ يرد آخر: الموت حق؛ لكن الفراق أليم. يستطرد نبيل: النبي نفسه بكى على فراق ولده إبراهيم. نصلي عليه ونسلم، نشعر بالخجل من ثرثرتنا فنلوذ بالصمت. أضع رأسي بين يدي وأستغفر، أحس شيئا يجيش في صدري؛ ذكريات قديمة ترتفع أمواجها، أتنفس بعمق وأنظر من النافذة؛ صبية عائدون من المدرسة، يقفون على جانب الطريق ويتأملون الموكب البطيء، ترن ضحكات، ينحني بعضهم ليلتقط حجرا ويكوم قبضته، تقع عيناه على العربة السوداء فترتخي ذراعه إلى جانبه وتنفتح قبضته عن زلطة وكومة رمل. أتصفح الوجوه الذابلة والأجسام الهزيلة التي برتها الديدان وفقر الدم. يتشجع أحدهم ويهتف وهو يضحك ويضيق عينيه من وهج الشمس: على فين؟! أيها الشقي! ألا تعرف حتى الآن؟ أتأمل الصبي الواقف في مريلته الصفراء وشريطه الأحمر المتدلي على صدره وحذائه الذي يبدو أضخم من قدميه، لا أدري لماذا تمنيت لو أصرخ فيه: أيها المهرج الصغير، ألا تعرف الفرق بين عربة الموتى وعربة السيرك؟!
Página desconocida