El caballo verde muere en las calles de asfalto
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
Géneros
إهداء
الشمس
البيت
عاوز حاجة؟
بكاء
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
تذكر يا مولاي
النعش
عندما تلقاه ذات يوم
الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1
Página desconocida
يمشي على الماء
إلى أين؟
سيرة كلب يبحث عن إنسان1
وقائع يوم أسود
إهداء
الشمس
البيت
عاوز حاجة؟
بكاء
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
Página desconocida
تذكر يا مولاي
النعش
عندما تلقاه ذات يوم
الذئب الذي أراد أن يدخل في جملة مفيدة1
يمشي على الماء
إلى أين؟
سيرة كلب يبحث عن إنسان1
وقائع يوم أسود
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
Página desconocida
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إهداء
إلى صديقي المرحوم؛
ضياء الشرقاوي،
شجعتني على نشر هذه القصص، وتمنيت أن أهديها إليك يدا ليد، فهل تقبلها الآن من روح إلى روح؟
الشمس
الشمس تلسع وجهي، لهيبها يحرق عيني، «صهدها» يكتم نفسي. والطريق ما زال طويلا على أن أسير ساعة أخرى، ربما ساعتين على الأرض المحمية كالجمر في التراب الذي يخنق الصدر تحت الشمس التي لا ترحم. أضع حقيبة كتبي على رأسي، بعد لحظات تصبح هي الأخرى كأنها خارجة من فرن! أبحث عن شجرة أقف تحتها، لكن المزارع بعيدة، وعمال الطرق نسوا أن يزرعوا الأشجار. أشير للعربات أن تقف وتأخذني معها، لكنها تمرق من جانبي وتغمرني بعاصفة من التراب! لو كنت سمعت نصيحة أبي وأخذت معي الشمسية! لكن ماذا كان العيال يقولون؟ ماذا كنت أفعل لو ضاعت مني؟ وماذا كان يفعل أبي؟ هو اليوم راقد في البيت، أمي قالت لي: أبوك جسمه نار، سمعته يتأوه وأنا خارج في الصباح. ألقيت عليه نظرة من وراء الباب فوجدته عصب عينيه. بالليل كان يصرخ: ابعدوا عني! ابعدوا عني! أمي قالت: أبوك عنده حمى، الشمس لطشت دماغه، ربنا يلطف بنا.
الشمس تحرق رأسي، قرصها الملتهب يطبق علي، جسدي يرتعش. لو توقفت عن السير لحظة فسأقع على الأرض؛ والأرض أيضا ستشوي لحمي، وأمي لن تراني لتقول: يا رب الطف بنا؛ إنها لا تعرف شيئا، لم تكن هنالك لترى ما رأيت، لم تدر ماذا حدث؟
أمس وأنا راجع من المدرسة مررت على أبي. في كل يوم كنت أراه في وسط الأنفار؛ الشمسية فوق رأسه، والمنديل الأبيض معصوب على دماغه. كان الأنفار يحملون الطوب على ظهورهم، أو يخلطون المونة، أو يرشون الماء على البناية، أو ينزلون الزلط من العربات. كنت أجلس معه قليلا، ثم أتابع سيري إلى البيت. وأمس عندما اقتربت من البناية كان هناك حشد كبير لم أره من قبل؛ صياح وزعيق، أصوات تلعن وأصوات تستعطف، أفندية ومشايخ، نساء وأطفال، باعة وشحاذون. اندسست من بين الصفوف لأرى أبي في وسطهم. كان هناك رجل سمين أبيض الوجه يشخط فيه ويصرخ بأعلى صوته، هل كان هو الباشمهندس أو صاحب البيت؟ كان الرجل يصيح: أنت لا تسمع الكلام؛ قلت لك ألف مرة: هذا الشغل لا ينفع. أبي يرد عليه: يا سعادة البيه، أنا أنفذ الأوامر. الرجل يزعق: أنا هنا صاحب الأمر، الأوامر تأخذها مني. أبي يستعطف: أمرك على العين والرأس، الأوامر نفذناها. الرجل يصرخ: ولك عين ترد علي يا بهيم يا حمار! ذراع الرجل تمتد، يده غليظة وبيضاء وسمينة، وخد أبي يحمر، يصبح كالجمرة المحترقة، ووجهه يسود، يصبح كالفحم.
Página desconocida
الناس تقول: معلهش يا سعادة البيك. الأنفار تقف مذهولة، تريد أن تنقض على الرجل السمين. أبي يمسك بخناقه، يريد أن يطرحه من على السقالة. الناس تفك يده عنه، تقول له: اصبر على أكل العيش. تقول للرجل السمين: هو خادمك على كل حال.
والشمس تلسع وجهي، تشعل بركان الغضب في صدري؛ أريد أن أهجم على الرجل السمين، أن أصفعه على وجهه كما صفع أبي، أن أجعله عبرة أمام الناس، أن أعلمه درسا لن ينساه؛ لكنني أبكي. تخونني دموعي، أبتعد عن المكان لكيلا تقع عيني على عين أبي، أنهنه طول الطريق، وأغرق في دموعي وعرقي.
عندما خرجت اليوم من البيت كان أبي ما يزال راقدا على السرير، أمي اشترت لوح ثلج ووضعته على رأسه. عندما سألتها قالت: أبوك عنده حمى، جسمه نار . قلت لها: أبقى معه اليوم؟ قالت: اذهب أنت للمدرسة وخذ بالك من لطشة الشمس. وعندما رقدت في العام الماضي كنت مصابا بالحمى، أبي أحضر لي الطبيب، والطبيب قال: عنده حمى. وضعوا الثلج على رأسي، سهرت أمي إلى جانبي وبكت؛ لكن الرجل السمين لم يكن قد ضربني، الرجل السمين لم يصفعني على وجهي، وخدي لم يحمر كالنار، ووجهي لم يسود كالفحم. هي لا تعلم أنهم ضربوا أبي، صفعوه على وجهه في وسط الأنفار.
الشمس تحرق وجهي، تعمي عيني، الطريق ما يزال طويلا، قدمي تعبت، وساقي ترتعش، والشمس تضيء كل شيء؛ أين أختفي منها؟ وأين يخفي أبي وجهه؟
الآن لا أستطيع أن أذهب إلى البيت، لا أستطيع أن أنظر في وجه أبي، لا أستطيع أن أرفع عيني في عينيه، لا أستطيع أن أتحسس وجهه؛ حتى لا تلسعني الصفعة على خده، حتى لا تحرقني اللطمة التي لا يزال أثرها على خده، أين أذهب؟ إلى البناية أسال عن الرجل الأبيض السمين؟ هل هو الآن هناك؟ أفلا يزال يشخط في الناس؟ هل تمتد ذراعه السمينة وتصفع الرجال الذين يبنون؟ هل أذهب إلى المركز وأشكوه؟ هل أقدم فيه بلاغا للنيابة؟ هل أذهب إلى مقام سيدي المدبولي وأدعو عليه؟ من هو يا ترى؟ ما اسمه؟ ما عمله؟ ما الذي يعطيه القوة على صفع الناس؟ إن ساقي ترتعش، دماغي يلف ويدور، سحابة تراب تخنقني. آه لو كانت الأرض ابتلعتني، فلم أره يضرب أبي أمامي!
أبي ملاحظ عمال البناء؛ هو الذي يجمع الأنفار، ويوزع عليهم العمل. في السنة الماضية كانوا يبنون سور السكة الحديدية، كنت أذهب إليه وأتفرج على الأنفار، وأشرب معهم الشاي. لم يقل لي أبي ماذا يبنون في هذا العام؛ هل هو المركز الجديد؟ هل هو المستشفى، أو يا ترى فيلا للعمدة، أو بيت لمهندس التنظيم؟ بنى يبني بناء. قدماء المصريين أيضا بنوا الأهرام؛ مليونين وثلاثمائة ألف حجر، كل حجر يزن طنين ونصف طن، مائة ألف نفر في كل عام. ومصر كلها حجر واحد، حجر ضخم، مثلث مثل الهرم، قمته ترتفع إلى السماء، وعلى قمته يجلس فرعون، وفرعون والسلطان والباشا والخفير سخروا الفلاحين. والرجل الأبيض السمين كان دائما هناك، كان دائما يضرب الأنفار على وجوههم، والشمس كانت دائما تلسع الوجوه وتشوي الأجسام. ونابليون نفسه وقف في الشمس أمام الأهرام، وقال: إن أربعين قرنا تنظر إليكم!
أبي كان ينهنه عندما خرجت من البيت، طول الليل يتأوه ويهذي. أمي تدعو على الظالم، وتطلب من الله أن ينتقم منه، والشمس كانت هي السبب، ولهيبها الآن يحرق وجهي، ينضح العرق من جبهتي فيسقط في عيني، يصهر أعصابي، ويشعل النار في جسدي. في حصة الجغرافيا قال لنا المدرس: إن الشمس جرم سماوي هائل متوهج، تدور حولها تسعة أجرام كروية معتمة بذاتها، مضيئة بانعكاس ضوء الشمس عليها؛ تعرف بالكواكب. الأرض تدور حول الشمس مرة كل عام؛ هل تعرف الشمس أن الأرض تدور حولها؟ هل تعرف أن أبي على الأرض، وأن الرجل السمين صفعه على وجهه؟ هل تعرف وهي تدور حول نفسها كل يوم كما يقول مدرس الجغرافيا؛ أنني أيضا أدور عليها، أبحث عن الرجل السمين الذي صفع أبي، أفكر في أن أصفعه على وجهه أمام الناس جميعا، أن أسحبه من هدومه وأجعله يعتذر لأبي؛ يقبل رأسه، يستعطف أمي أن يصفح عنه؟ لكنني لا أملك سيف أبي زيد الهلالي ولا مدافع هتلر! لا أقوى حتى على حمل ساقي. والشمس تحرق وجهي، تبدد أفكاري، تشعل الحمى في عروقي. آه لو لم تكن الشمس هناك! آه لو طمرتها السحب! لو غطتها سحابة واحدة؛ واحدة فحسب.
السكة ما تزال طويلة، الشمس تحيط بي من كل مكان؛ حتى ظلي أحرقته. من الصباح وأنا تائه في الشوارع، قلت لهم: إنني سأذهب إلى المدرسة، لكنني لم أذهب إلى المدرسة، مررت على البناية ورأيت الأنفار يعملون في الأرض وعلى السقالات ويغنون. كأن أبي لم يصفعه الرجل السمين أمس، كأنهم لم يغضبوا أو يثوروا في وجهه، كأن صدى الصفعة اختفى من آذانهم. وعندما رأيت كل شيء كما كان قررت ألا أذهب إلى المدرسة؛ ماذا أفعل إذا كانت الصفعة لا تزال تطن في أذني؟ ماذا يفيدني إذا كانت الشمس تدور حول نفسها من الغرب إلى الشرق أو من الشرق إلى الغرب؛ طالما أن أبي الذي لطمه الرجل الأبيض السمين يدور معها أيضا كما تشاء؟ ماذا يفيدني أن كان ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وأن بلادنا مهد الحضارة من آلاف السنين؟ آه يا رب! الرعشة تزداد، رأسي يتفتت، جبهتي شعلة نار، الدنيا تغيم أمامي، العرق المبلل بالتراب يملأ عيني. سأجري الآن إلى الترعة وأبلل وجهي، لا، سأخلع هدومي وأسقط في الماء، أم أكتفي بغسل رأسي؟ لكن رأسي سينفجر، وأبي رأسه معصوب بمنديل أبيض، وأمي وضعت الثلج على رأسه. من الذي ينقذه من الحمى؟ من الذي ينقذني من الشمس؟ الشمس تجري ورائي! تحمل سيخ نار في يدها. آه! إنها تصفعني على وجهي، تلقي بي على جانب الطريق، تصفعني كما صفع الرجل الأبيض السمين أبي. هل سيعثرون علي؟ من الذي سيضع الثلج على رأسي؟ من ينقذ أبي؟ من ينقذني؟ (1964م)
البيت
كان الوقت ليلا عندما وصل الدكتور، وكانت المحطة الريفية هادئة، والقمر تفاحة مشتعلة تتوسط السماء، والسكون يغرق القرية والحقول المحيطة بها؛ فلا يكاد يسمع الإنسان - فيما عدا نباح كلاب متفرقة - سوى صوت أنفاسها البطيئة تتصاعد إلى السماء. وعندما وقف القطار راح أخوه الأكبر سليمان وابن عمه حامد - لعله لا يذكر الآن أن له ابن عم - يجريان بين النوافذ بحثا عنه. وأخيرا سمعا صوته ينادي عليهما، هرولا نحوه وهما يشعران بالارتياح؛ لأنه أراحهما من عناء البحث بين وجوه الناس، وربما شعرا كذلك بالامتنان نحوه؛ لأنه لم يتعبهما كثيرا في تذكر وجهه الذي لا بد أنه تغير كثيرا. عانقه أخوه بحرارة واستعذب طعم شفتيه على فمه وبين عينه. قال الدكتور لنفسه: لماذا هزل سليمان إلى هذا الحد؟ ربما كان السكر أو البلهارسيا اللعين! وسقط ضوء القمر على رأس أخيه فخنقته الدموع. ها هو ذا الرأس قد شاب ولم يبلغ أخوه الأربعين. يا لبلدنا الذي لا يعرف الشباب ولا يرحمه! وأقبل ابن عمه فشده إليه بعنف كاد يخنقه، وأخذ يخبط على يده فأحس كم هي خشنة أيدي الفلاحين!
Página desconocida
حلف شقيقه أغلظ الأيمان وحمل حقيبته، وخاف شهامة ابن عمه فسلم له الأخرى قبل أن يفتح فمه، وسار في الوسط وهو يبتسم لذكرياته، ويعانق القمر والأشجار والأرض المخضرة بنظرته وضحكاته. خبط حامد على ظهره وقال: والله سلامات؛ خمس سنين يا رجل! وانتزع سليمان نفسه من أحلامه وأحزانه ورفع رأسه إلى وجهه الأبيض الناعم، وقال: شرفتنا يا دكتور، البلد نورت. قال الدكتور: والله وحشتموني، هل تعرف ما في نفسي الآن؟ أن أذهب إلى بيتنا، وألبس الجلابية والطاقية، وأتمدد على الكنبة في المنظرة. وجم سليمان ونظر إلى ابن عمه، سكتا ولم يقولا شيئا. سبح الدكتور في ذكرياته: المزلقان، شريط السكة الحديدية، الكرة الشراب، خناقاته مع الأولاد، والشعر الذي كان يكتبه باللغة الإنجليزية وهو يتمشى على هذا الطريق.
غطت سحابة سوداء وجه القمر، هبت نسمة برد، فندم؛ لأنه لم يلبس «البلوفر». بدأت قطرات المطر تسقط رذاذها على شعره ووجهه، وسمعا من بعيد جلبة وصياحا. هتف حامد متسائلا: فرح محمد ابو اسماعيل الليلة؟
وأقبلت زفة في اتجاههم، وعندما اقتربت منهم لمح الدكتور رجالا وصبية يصيحون ويهتفون. كان بعضهم يحمل الكلوبات في يده، وفي الوسط يخطو العريس الأسمر الطويل في معطفه الأسود والطربوش على رأسه. ابتسم الدكتور، بانت السعادة على وجهه وملأت قلبه، هتف الرجال: يحيا العريس، يحيا العريس. وعندما مر الموكب الصغير بهم أوقفوه، وقالوا: سلام للجدعان، عقبال عندكم وعند أولادكم يا رجال.
تقدم الدكتور وسط الرجال وصافح العريس في حرارة، هتف رجل منبها العريس: الدكتور احمد ابو المعاطي يا اسماعيل. عانقه العريس وشد على يده، سأله في إخلاص: إزي حال أمريكا يا دكتور؟ ورفع فلاح صوته: أين «العروسة الأمريكاني»؟ ضحك الدكتور وقال: وبنات بلدنا يا جماعة عيبهم إيه؟ قال الجميع: والله فيك الخير. فتحت امرأة باب بيت مجاور وزغردت، صاحت بأعلى صوتها: والله لازم تشربوا الشربات، هتف العريس عندما أقبلت المرأة بالصينية وعليها الأكواب الحمراء: والله لا انت شارب الأول يا دكتور. زغردت المرأة وشرب الجميع. شد الدكتور على يد العريس مرة أخرى، وقال له وهو يضحك: مبروك، شد حيلك «يا ابو اسماعيل».
كانت قطرات المطر لا تزال تسقط متفرقة، والقمر يحاول أن يطل بين السحب السوداء، وكان الدكتور يبتسم في سره؛ فلم يلاحظ أن حامدا يهمس في أذن شقيقه الذي سار مطرق الرأس. قال سليمان: والله أوحشتنا يا دكتور، حمدا لله على السلامة. قال الدكتور ضاحكا: الله يسلمك، والله أنتم الذين أوحشتموني، كيف حال صلاح وجميلة؟ (كان هذان هما اسمي طفلي سليمان).
قال شقيقه: «يبوسان الأيادي»، إن شاء الله تقعد معنا يومين؟ قال الدكتور: كله على الله، الشغل في مصر ينتظرني.
قال سليمان: في الجامعة إن شاء الله؟ قال الدكتور: لا، في المؤسسة.
هتف حامد: مؤسسة اللحوم؟
ضحك الدكتور بصوت جعله يتعجب من نفسه: كل شيء جائز؛ لكنهم طلبوني في مؤسسة الطاقة الذرية. قال حامد: الذرية؟ يعني حضرتك دكتور في الذرية. قال سليمان ينبهه: يا جدع ده دكتور في الذرة، أول واحد في المديرية كلها. قال حامد وكأنه فهم: آه! طيب كنت «قول» من الأول. ضحك الدكتور وأمسك برأس حامد وقبله. لم يدر لماذا فعل هذا؟
سار الثلاثة صامتين. كان الدكتور يسأل بين حين وحين عن الزرع والمحصول، أو يستفهم عن غيط يبدو من بعيد، أو عن التقاوي الجديدة، وحال الناس مع الجمعية والدودة التي قرأ وهو في البعثة عن بهدلتها للقطن والفلاحين. وعاد يسأل عن البيت والمنظرة، وهل يسهرون فيها كالعادة في رمضان؟ ثم التفت لأخيه، وقال: لم تفدني عن صحة الوالد؟ هل وصلتكم آخر شحنة من الدواء؟ سمع حامد يهمس في أذن أخيه بصوت مسموع: قل له، يا رجل قل له.
Página desconocida
قال سليمان بعد أن تغلب على تردده: اسمع يا دكتور.
قال الدكتور: تكلم يا سليمان، خير إن شاء الله. وأراد سليمان أن يقول خيرا، أو يقول شيئا آخر حين رن في سمعه صوت رجال يهتفون: تفضلوا يا جماعة، تفضلوا يا إخواننا، نفسكم معنا يا شيخ سليمان، ونظروا فرأوا جماعة من الفلاحين ملتفين حول شيء لم يره الدكتور، ولمح الدكتور بقرة تقف بعيدا عنهم بقليل، ورجلا يمسك بحبل مربوط حول رقبتها. أما الجماعة التي نادت عليهم فكان معظمهم راكعا على الأرض حول ثور ممدد بطوله كالبطل الصريع، وكان بعضهم يمسك برأسه أو قرينه، وبعضهم برجليه الأماميتين والخلفيتين، في حين راح رجلان يقيمانه من ظهره ويدفعانه بكل قوتهما على الوقوف.
تقدم الدكتور بعد أن قرأ السلام، فاقتحم الحلقة حتى اقترب من الثور. قال رجل: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي، وقال آخر: عنك انت يا بيه، لا مؤاخذة الثور داخ شوية ووقع على الأرض. ضحك بعض الرجال. تقدم سليمان وحامد؛ ليساعدا في رفع الثور عن الأرض. لاحظ الدكتور أن الثور ينهج ويزفر بصوت كحشرجة الميت، أقبل على رأسه يفحصه، ورأى كيف تنظر إليه عيناه الواسعتان؟ قال أحد الرجال بعد أن عرف من حامد أنه دكتور: يدك فيها البركة يا دكتور، ربنا يجعل فيها الشفا إن شاء الله. نبه سليمان إلى أن شقيقه دكتور في الذرة لا في الثيران. لم يفهم الرجل؛ فاستمر يقول: أصل لا مؤاخذة كنا ننططه على البقرة؛ لكن يظهر أن الثيران مثلنا ما عاد فيها حيل! ضحك أحد الرجال، وكان يمسك بساق الثور ويدلكها: طيب والنبي مصيره ينطحك يا عبد الله.
سأل حامد فجأة وكان يجاهد مع الرجال في رفع الثور: إلا قل لي يا سي الدكتور، صحيح أمريكا فيها ناطحات السحاب؟ يعني دول لا مؤاخذة ثيران ولا بقر؟ قال سليمان: والله انتم اللي تعيشوا وتموتوا عالم بقر!
ضحك الرجال وضحك الدكتور، قال في نفسه: ما أجمل هذا كله! ما أبسط الناس هنا! ما أطيب الفلاحين!
نجح الرجال أخيرا في إيقاف الثور، أمسك به اثنان من الحبل واثنان من صدره. قال أحد الفلاحين: حصلت البركة يا سيدنا الأفندي. أصلح كلامه فلاح آخر، وقال: كله بأنفاس سعادة الدكتور. ربت الدكتور بيده على ظهر الثور ثم سلم على الجميع، تذكر أنه طالما حضر في صباه تنطيط الثيران ، تعجب لأنه لا يزال يذكر الشيخ «دسوقي» حكيم البهائم كما كان يسميه، قال لنفسه وهو يبتسم: والله زمان! ثم ضحك من قلب صاف، وقال: يسعد الله مساءكم.
سار الثلاثة الآن على طريق المزلقان، عاد سليمان إلى صمته ووجومه، وعاد حامد يهمس في أذنه. قال الدكتور: نروح على البيت يا جماعة؟
قال سليمان: نتمشى شوية في الطراوة.
كان المطر قد توقف والسحابة اختفت من على وجه القمر. سأل الدكتور بعد أن تطلع إلى وجه أخيه ثم إلى السماء: هل تخفي عني شيئا يا سليمان؟ قال حامد: اسمع يا سي الدكتور. أكمل سليمان: أنت رجل مؤمن وموحد بالله. قال الدكتور وقد داهمه إحساس غامض: تكلموا يا جماعة؛ أنا كنت حاسس بكل شيء. تشجع سليمان وقال: أبوك الله يرحمه مات من سنتين! كان نفسي أكتب لك؛ لكن أختك الكبيرة خافت عليك. صمت الدكتور قليلا، تطلع إلى وجه أخيه، ثم إلى القمر وسكت، فرت دمعة من عينه حين قال شقيقه: عملنا له مشهد عمر البلد ما شافته؛ نصبنا «الصيوان» في أرض الباشا وعملنا له أعظم مأتم، كانت ليلة عظيمة وربنا أكرمه آخر كرم. قال الدكتور بعد قليل: كان نفسي أشوفه قبل ما يموت. قال سليمان: الله يرحمه كان يدعو لك ويسأل عنك كثيرا. قال الدكتور: تعب الآخر يا سليمان؟ قال سليمان: أي نعم، الشلل بعيد عنك. كان ساعات يغيب عن وعيه، ولما يفوق يسألني: ابننا مش ها يرجع يا ابني؟ أقول له: إنت مش فاكر اسمه يا آبه؟ ابننا اللي في بلاد بره؟ أقول له: إن شاء الله يرجع لما ياخد الدكتوراه. يقول لي ربنا يسلمه يا ابني ويسلم كل اللي زيه. قال الدكتور: ألم تكن تقرأ عليه خطاباتي؟ قال سليمان: أقرأ عليه؟ ده ساعات كان ينساك وأقعد أفكره بيك، وفي مرة جبت له صورتك وانت في أمريكا مع أصحابك، قعد يطل فيها ويقول: مين ده يا ابني؟ قلت له ده ابننا أحمد يا آبه، يسألني: إحنا لنا ابن بالاسم ده يا ابني؟ ثم يسكت ويتوه، وبعدها يقول: ربنا يسلمه هو واللي معاه.
صمت الدكتور، فكر في نفسه: لو كنت أعرف لحضرت، ليتني رأيته قبل أن يموت! والتفت ناحية الجبانة الراقدة وراء المزلقان في حضن التل، وتصور نفسه وهو يقف في الصباح على قبر أبيه ويقرأ الفاتحة، أراد أن يفعل شيئا ليقنع أخاه بأنه سلم أمره لله، خنقته الدموع وخجل لأنه لا يستطيع أن يبكي، تذكر أنه كان من عادته في مثل هذه الأحوال أن يتجمد كالحجر وحين يختلي بنفسه ينفجر كالطفل في البكاء، حاول أن يبتسم وتشجع وقال: البركة فيك يا سليمان وفي الأولاد. قال سليمان وقد أحس بالارتياح: إيه! البركة فيك أنت يا دكتور. ربنا قادر يكتب لك طول العمر وتحيي اسم والدك وبلدك. وشعر حامد أن من واجبه أن يقول شيئا، ففتح فمه مترددا وقال: الموت علينا حق يا سي الدكتور وأنت سيد العارفين. سكت الدكتور لحظة شعر فيها بالتعب يتسرب إلى جسده، تمنى أن يرى نفسه راقدا على الكنبة العتيقة في المنظرة، في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أبوه بعد الصلاة ليقرأ القرآن، قال لنفسه: نعم سأحيي ذكرى المرحوم بأبحاثي وتجاربي؛ ولكنه تشكك في كلامه فسأل: ولكن ماذا يستفيد؟ ورأى أن كل ما سيفعله لن يخلصه من الخجل الذي يحس به نحو أبيه.
Página desconocida
قال لأخيه ضاحكا: المهم انك معمر البيت. تجهم أخوه على غير ما يتوقع، لم يقل شيئا. لاحظ أن حامدا قد بدا عليه الحرج وتأوه من ثقل الحقيقة بصوت مسموع. ظهرت من بعيد عربة نقل كبيرة تقترب من المزلقان، سطع الكشاف عليهم فأضاء وجوههم، ووضع الدكتور يديه أمام عينيه. اقتربت العربة ورآها تتكدس بالبشر: رجال ونساء وصبية يصفقون ويغنون ويهتفون، كانت أصواتهم التي يتداخل فيها الصياح والزغاريد تظهر بؤس أصحابها أكثر مما تخفيه، تأملهم طويلا وهم يمرون عليه ويشيرون بأيديهم النحيلة السمراء، ويرددون: «عطشان يا صبايا دلوني على السبيل ...»
لاحظ وجوههم الشاحبة الصفراء، وجلاليبهم القذرة، وطواقيهم التي تغطي رءوسا متعبة من لهيب الشمس واللف والجري في بلاد الله.
قال سليمان: الأنفار خلصوا الجمع ومروحين. تذكر الدكتور أنهم عمال التراحيل، وأعجب بنفسه؛ لأنه لا يزال يذكر هذه التسمية. قال لنفسه إنه طالما أشفق عليهم وهو صغير، سألها: ترى هل يظلون كذلك في عصر الذرة؟ عاد يلح عليها بالسؤال: ماذا تفيد الدكتوراه إن لم تساعد هؤلاء؟ أحس في لحظة كأن كل جهده وعمره ضاع عبثا، تمثل له الغلب والشقاء على لقمة العيش والجري وراء الأرزاق، بدا له أنه طوفان أسود يغرق كل المعادلات التي تعب في فهمها، والمعادلات التي شقي في اكتشافها. قال سليمان وقد لاحظ اهتمامه بهم: ناس طيبين وعلى الله، عمر البلد ما اشتكت منهم، دائما ضيافتهم خفيفة. سكت الدكتور ولم يرد.
عبروا المزلقان وساروا في الطريق المؤدي إلى البيت. وقف سليمان لحظة ثم قال: باقول يا دكتور نتعشى عندي الليلة. سأل الدكتور مستغربا: عندك؟
أسعفه حامد: أصل يعني سي سليمان بنى له بيت، عقبال عندك إن شاء الله تبني لك فيلا في مصر ونحضر لزيارتك. قال الدكتور: أخفيت عني هذا أيضا. قال سليمان محاولا الابتسام: قلت أعملها مفاجأة. قطب الدكتور وجهه وقال: لا، نفسي أروح بيتنا الأول، الصبح أزورك وأتغدى مع الأولاد. تردد سليمان. أشاح حامد بوجهه بعيدا. ضحك الدكتور وقال: الله! يالله بنا على البيت.
سار الدكتور في المقدمة، لم يجد سليمان وحامد بدا من متابعته، تهامسا قليلا؛ ولكن لم يجرؤ أحد منهما على مصارحته. كان هو أيضا مشغولا عنهما بذكرياته عن أبيه وأمه وإخوته الذين ماتوا في طفولتهم، والحجرة الصغيرة الدافئة التي ولد فيها، والحمام الضيق والطست الذي كان دائما ينزلق فيه. وكان سيره الحثيث واستغراقه في الذكريات لا يمنعانه من تحية المارة والتطلع إلى البيوت التي لم يغير شكلها الزمان، والابتسام لكل ما يراه من مبان أو أشجار أو بهائم أو مخلوقات.
لم يكن البيت بعيدا عن المزلقان؛ فلا يكاد الإنسان يخطو عشرين أو ثلاثين مترا في الطريق المنحدر منه، ثم ينعطف في طريق آخر ضيق معروف بالطاحونة التي أقيمت في نهايته، ويخرج منه إلى ساحة صغيرة تطل على سوق القرية من ناحية وأحد المقاهي المشهورة بشاعر الربابة من ناحية أخرى؛ حتى يرى البيت بعدهما بقليل.
كان سليمان وحامد يسيران وراءه صامتين. حاول سليمان أكثر من مرة أن يقول شيئا؛ لكنه لم يعرف كيف يبدأ؟ ولا ماذا يقول؟ ألح عيله حامد وقرص ذراعه وخبطه على ظهره؛ لكنه كان يهمس له: خبر أبيه أهون. قل له انت يا عم؛ لذلك آثرا السكوت إلى أن نبهتهما صيحة خرجت من الدكتور: سليمان، حامد، ماذا حدث؟ اقتربا منه ووضعا الحقائب على الأرض، نفخ سليمان في يده، وطقطق حامد أصابعه. لم تخطئ عين الدكتور ولا أخطأت ذاكرته، لم يحتج أن يطيل البحث عن البيت. كانت هناك عروق من الخشب قائمة، وأكوام من التراب مكدسة، ورجل أو اثنان يجمعان الأخشاب على عربة كارو، وثالث خلع جلبابه وبقي عاري الصدر بسرواله الطويل، يرفع التراب في مقطف، ويكومه على جانب الطريق.
هتف الدكتور: بيتنا يا سليمان؟ تقدم منه سليمان ووضع ذراعه على كتفه.
قال مطرقا برأسه: كان لا بد عنها يا دكتور؛ البيت وقع وجاءته الإزالة.
Página desconocida
سأل الدكتور: الإزالة؟ من الكلب الذي أمر بها؟ قال سليمان: أنا عملت الصالح يا حبيبي. أختك أخذت حقها، وحقك محفوظ إن شاء الله. قال الدكتور وقد أحس بجرحه: حقي؟ من الذي يتكلم عن حقوق؟ لماذا لم تأخذ رأيي؟
أراد أن يصرخ في وجهه، أن يلعنه ويصفه بالقسوة والتوحش والجشع، أن يستحلفه بذكريات طفولته وشبابه، بالدفء الذي راح، بالحب الذي ضاع، بالأيام الحلوة والمرة التي عاشها فيه. لم يستطع أن يفتح فمه؛ بدا له الاحتجاج سذاجة لا تليق به، والصراخ اتهاما لا داعي له!
نظر إلى سليمان وحامد فوجدهما صامتين، رأى في صمتهما طلبا للصفح ورغبة في التسليم، أشار إلى البيت وأراد أن يسأل: هل هذا هو بيتنا؟ وجد أن السؤال سيضيع في الفراغ.
توقف في مكانه كأنه شد إلى الأرض بمسامير، أخذ يراقب العمال الذين يقذفون بالأخشاب في رتابة على ظهر العربة والصوت الذي تحدثه كأنه تكسر ضلوعه.
لم يحس بأخيه الذي اقترب منه، ومد ذراعه فوضعها على كتفه، وعندما شعر بلمسته انتفض جسده، وانزلقت قدماه فجأة فسقط على وجهه!
تناثر الطين حوله، غاص بصدره في الوحل، دخلت قطع منه في عينه ولطخت جبهته.
أسرع أخوه وابن عمه يساعدانه. وجد نفسه يتشبث بالأرض، وينشج وهو يشير للبيت، ويضرب بيديه في الطين. قال لنفسه: الدكتور غرق في الوحل، الدكتور لن ينقذه منه أحد.
انفجر البركان من صدره واشتد نشيجه، سمع نفسه يقول: أبي، أبي، انهدم برج بابل، سدت كل الأبواب! (1968م)
عاوز حاجة؟
كان هذا السؤال الذي عرفناها به، هذه المرأة الظريفة المسكينة، الملفوفة في السواد من رأسها إلى قدميها - كأنما خرجت من مستنقع الحزن الأبدي - ذات الوجه الصغير الشاحب، والعينين اللتين يطالعنا منهما أسى جارف؛ ولكنه مستسلم وديع.
Página desconocida
كنا نراها تسير في شوارع قريتنا بلا انقطاع، حتى خيل إلينا أنها ولدت ماشية! ذراعاها تستريحان على صدرها الضيق الذي لا يكاد يعلو أو يهبط، تسندان ملاءتها الذابلة المغبرة؛ لطول ما تعرضت للشمس والتراب، وعيناها؛ نعم عيناها؛ فقد كان كل ما في وجهها هاتين العينين اللتين لم يخلق الجسد إلا ليحملهما - تتابعان عابري السبيل في إشفاق لا حد له، وتغمران بالحنان كل ما تصادفه؛ الرجال العائدين من الحقول، والنساء الذاهبات إلى السوق أو المأتم، والأطفال الذاهبين إلى الكتاب أو المدرسة البعيدة، حتى الحيوانات التي تجري على رزقها كان لها من حنانها نصيب! تقابل إنسانا وليكن فلاحا عائدا من حقل له، ومعه جاموسته وحماره وكلبه، وقد تكون معه امرأته وطفله على ظهر الحمار أو سائرين على الأرض، فتقف أمام موكبه الصغير، وتقول فجأة: عاوز حاجة يا حبيبي؟
ويوقف الفلاح جاموسته وحماره اللذين لا يفهمان سببا لذلك، ويسأل بدوره: حاجة إيه يا حاجة؟
فترد بصوتها الهادئ المبحوح قليلا: أي حاجة في نفسك يا ابني، قول على اللي انت عاوزه.
ويسكت الرجل لا يدري ماذا يقول أو يفعل؟ ويدور الكلب حولها ويتشممها وينبح غاضبا للوقفة التي لا داعي لها، وتتصعب المرأة وتضع يدها على خدها: يا عيني عليك!
وينتبه الرجل إلى نفسه، فيقول وهو يجذب حبل الجاموسة: إدعي لربنا يسترنا وإياك يا حاجة.
فتقول المرأة بصوتها الهادئ الطبيعي وهي ترى القافلة الصغيرة تبتعد عنها: حاضر يا ابني، مستورة إن شاء الله.
ثم تمضي في طريقها الذي لا يدري أحد من أين يبدأ ولا ينتهي، بغير أن تنتبه إلى دعوة إلى الله أن يشفيها ويشفي مرضانا ومرضى المسلمين بحق هذا اليوم، أو ضحكة يعبر بها صاحبها عما في الدنيا من عجائب وأحوال.
في البداية لم يكن يدري أحد كيف يجيب عن سؤالها؟ أو ماذا يقول أو يتصرف حيالها؟ فالسؤال يلقى فجأة بصوت حنون فيه بحة كشهقة طفل يبكي، يخرج من فمها طبيعيا كالنفس الذي يخرج من فمها؛ فلا يثير أي رغبة في الجواب أو جهد في البحث عنه. - «عاوز حاجة يا ابني»؟ أو «عاوز حاجة يا حبيبي»؟ ...
تأتي هادئة وثابتة كأن صاحبها يقول: إزي صحتك؟ أو سلامات يا ابني، أو إن شاء الله تكون بخير. شيء كان يلقى علينا، فنراه أمامنا كما نرى شجرة أو نهرا أو سحابة، ولا يخطر ببال أحد أن يسأل ماذا تريد الشجرة أو النهر أو السحابة؟ فكما يسير الناس في شوارع قريتنا وحاراتها ويقابلون عربة يجرها حصان، أو كلبا ينبح بغير سبب، أو قطة تقف على عتبة باب، أو طفلا يبكي على ذراع أمه أو شحاذا يمدح النبي ويطلب الأجر والثواب لعباد الله، فلا يجد أحد في ذلك شيئا غير مألوف؛ فكذلك صاروا مع الزمن يقابلون هذه المرأة، فيتوقعون أن تقف هادئة أمامهم، وتلقي عليهم بسؤالها الذي لا يتغير: عاوز حاجة؟
صحيح أننا كنا في مبدأ الأمر نصاب بالحيرة والمفاجأة، ويرتج علينا لحظة، فلا ندري بم نجيب؟ وقد نفكر بالفعل في أن نفضي بحاجة تدور في نفوسنا؛ لكن الواحد منا كان يصحو بعد قليل على هذا الشبح الآدمي الواقف أمامه، ويسأل نفسه: ماذا يمكن أن تفعله هذه المسكينة من أجله؟ وهل فعلت هي لنفسها شيئا أو قضت لنفسها حاجة حتى تسأل الناس عن حاجاتهم؟ وكانت تقابل الرجل منا، فتتجه نحوه وتقف أمامه، فيضطر أن يوقف سيره وينتظر سؤالها الذي يكون قد سمعه منها أو سمع به من أحد الناس، وغالبا ما يشده شيء مجهول إلى الأرض، ويمنعه من المضي في طريقه؛ ربما يكون حب الاستطلاع، أو الخوف من الإساءة إلى مخلوق يرى بنفسه ضعفه وسوء حاله، أو الرغبة التي تجعلنا نشتاق لإنسان يسألنا عن حاجتنا والأمل الغامض في أنه ربما ساعدنا على قضائها! يكون الواحد منا سائرا في طريقه، وإذا به يسمع السؤال الذي عرفناه من قبل: عاوز حاجة يا حبيبي؟
Página desconocida
ويقف بحسن نية أو لإحساس خفي بأن كل إنسان لا بد أن يعوز حاجة ويسأل: نعم يا ست؟
وتكون المرأة قد اقتربت منه ووقفت أمامه وجها لوجه وثبتت عليه عينين تفيضان بعطف لا حد له: باقول عاوز حاجة يا ابني؟
ويسأل - في دهشة أو مكر أو رغبة في الدعابة أو لمجرد أننا نريد أن نسد الباب الذي تأتي منه الريح: حاجة زي إيه يا ستي؟
فتقول في صوتها الهادئ: أي حاجة يا حبيبي، قول اللي نفسك فيه.
فيسأل وقد بدأت الابتسامة تكسو الشفتين: يعني لو قلت لك على حاجة تعمليها؟
فتقول: العمل عمل الله يا حبيبي، قول وأنا أقول لهم.
ويحفزنا هذا إلى سؤال جديد: مين همه يا حاجة؟
وفجأة ترفع رأسها إلى السماء ثم تخفضها إلى الأرض، وتشير هنا وهناك، وتمسح على وجهها وصدرها، وتقول: مين؟ حد يجهلهم؟ دول ملو السما والأرض يا حبيبي!
وبالطبع لا يجد الإنسان بعد ذلك رغبة في إطالة الحديث ولا الإفضاء بحاجته؛ بل يكتفي بالدعاء إلى الله أن يشفيها ويشفي المسلمين ويسترنا وإياها دنيا وآخرة، أو قد يحن قلبه، فيضع يده في جيبه، ويمدها إليها بما قسم؛ حسنة لله بعيدة عن كل الألسن والعيون، وإذا بها تتراجع فجأة وتسحب يدها التي كانت تشير بها إلى الأرض والسماء، كأنها تخشى عليها من لدغة عقرب أو ثعبان، وتقول بصوتها الذي ترن فيه الآن بحة الحزينة المصدومة: لا يا حبيبي، مستورة والحمد لله، والنبي مستورة.
ونعزم عليها، فتقول في عتاب: لا يا ابني، ده اللي عندي فايض علي، إذا كنت انت عاوز حاجة قول، قول يا حبيبي وأنا أقول لهم، قول يا ابني، عاوز حاجة؟
Página desconocida
كان هذا في البداية هو موقفنا منها، أو كان يمكن أن يظل هو موقفنا منها؛ لولا أن تدخل بعد ذلك الأطفال والنساء. كان يمكن على أن تستمر على برنا بها، وإشفاقنا عليها، وسماعنا لسؤالها كأنه تحية منها أو واجب كتب عليها - لسبب لا ندريه ولم نهتم بالبحث وراءه - أن تؤديه كلما قابلت أحدا منا أو قابلها؛ ولكن ماذا نفعل إذا كانت الدنيا لا تخلو من الأطفال في كل وقت، وبخاصة في الصباح عندما يذهبون إلى الحقل أو الكتاب أو المدرسة، ولا تخلو أيضا من النساء الثرثارات في البيوت وعلى الترع وفي الأسواق!
وبدأت شفقتنا عليها تزداد كلما رأيناها تقف مع جماعة من الأطفال أو امرأة أو بنت صغيرة، ونسأل الله في أنفسنا أن تمر الحكاية بسلام، وبدأنا نحس أن الأمر لا بد أن يتطور إلى السخرية بها أو الرغبة في التسلي عليها، وكنا في أول الأمر نقابل ذلك بالابتسام ونراه شيئا لا مفر منه، إلى أن زادت مخاوفنا من أن ينقلب الحوار البريء بينها وبين أطفالنا ونسائنا، فيصبح مصدر أذى لها وهي التي لا يرضى بأذاها الخالق أو المخلوق. كانت تلقى الطفل أو مجموعة الأطفال فتقبل عليهم راضية باسمة، وتسألهم في حنان لا مزيد عليه: عاوز حاجة يا حبيبي انت وهو؟
فيسأل الأطفال: حاجة زي إيه يا حاجة؟
فتقول في ثقة: أي حاجة يا حبيبي؟ قول نفسك في إيه؟
ولا يصدق الأطفال، فتنهال طلباتهم: عاوز جزمة وجلابية جديدة. - عاوز كورة شراب. - وأنا عاوز كورة كاوتش. - وأنا حصالة مليانة فلوس. - وأنا عاوز أروح مصر.
وتجيب المرأة في هدوء: حاضر، حاضر يا ابني، إن شاء الله أقول لهم.
وقد يسأل أحدهم فجأة: مين همه يا حاجة؟
فتجيب مندهشة من جهله : مين؟ إخواتكم اللي فوقكم وتحتيكم؛ أولياء الله الصالحين.
ويزيط الأطفال وتتداخل هتافاتهم: طيب قولي لهم ما يتأخروش، إوعي تنسي يا حاجة: الجزمة والجلابية لازم يكونوا جداد، الحصالة يا تكون مليانة يا بلاش، ما تنسيش تطلبي ملاية جديدة لنفسك يا حاجة. يالله يا حاجة على هناك على طول. وقد تند عن أحدهم صيحة يرددها الباقون: المجنونة أهه! العبيطة أهه! بل قد يتطور الأمر فيشدها أحدهم من ذيل ملاءتها، أو يقذفها بكومة من التراب أو بحجر. فإذا تصادف مرور أحد منا نهرهم بعنف، وأنقذها من صياحهم وأذاهم، ونصحها أن تترك الأطفال في حالهم، وتكتفي بتوجيه سؤالها إلى الرجال.
هكذا، أو قريبا من هذا، مضى الأمر أيضا مع النساء؛ فلا يدري أحد أبدا ماذا يحدث له لو استوقفت امرأة في الطريق، حتى لو كنت تريد أن تسأل عن شارع أو عنوان لكان في هذا ما فيه من إثارة الريب والشكوك؟ ولو سلمت من هذا فربما لا تسلم من حديث طويل لا يعلم إلا الله متى ينتهي؟ إذ لا يعلم غيره كيف ولا متى ولا لماذا بدأ؟ المهم أن المرأة المسكينة عندما كانت تقابل امرأة في الشارع أو على باب بيتها أو في أي مكان كانت تتجه إليها بحسن نية كعادتها؛ لتسألها سؤالها الخالد الذي ربما تكون قد ورثته كما ورثت وجهها الصغير وعينيها الهادئتين وصوتها المبحوح وملاءتها التي لا تتغير، وغالبا ما تكون إجابة المسئولة على هذا النحو: حاجة إيه يا اختي اللي ها اعوزها؟ فتقول المرأة في حسن نية متجدد: اللي في نفسك يا حبيبتي! وترد الأخرى: اللي في نفسي؟ ياما حاجات في نفسي يا اختي، يعني تعرفي تجيبي لنا قرشين، ولا تهدي لي جوزي، ولا تشفي العيل، ولا تساعدينا على بناية الأودتين! وتجيب المرأة في ثقة من يعلم أن كل الطلبات مجابة بإذن الله: حاضر يا حبيبي، طلبك مجاب إن شاء الله، حاضر يا عيني.
Página desconocida
وتتأملها الأخرى قليلا قبل أن تتصعب على حالها بصوت عال : يا عيني عليكي انت يا حاجة ، طول النهار ماشية زي عفريت الضهرية، قادر يا اختي يشفي لك عقلك ويريحك من الدوخة دي!
وقد كان يمكن أن تمر الأمور على هذا النحو دون أن تحدث كارثة أو تخرب الدنيا بما فيها ومن فيها؛ فنحن جميعا - حتى النساء والأطفال - نكاد نقابلها كل يوم، ونكاد نتفق في الدعاء بأن يشفيها الله ويشفي مرضانا ومرضى المسلمين، ونحن حين نتحدث معها - جبرا للخاطر أو حبا في الاستطلاع أو أملا في أن يستجيب الله دعواتنا فيحضر الغائب ويظهر المستور - نكاد نشترك في العطف عليها والرثاء لها، حتى الذين يحاولون في بعض الأحيان أن يسخروا منها أو يداعبوها بلطف أو خشونة لا يختلفون في حبها، وافتقاد طلعتها والسؤال عنها إن غابت أو مرضت.
ذلك أننا كنا نعرف أن أحوالها مستورة والحمد لله، وأنها وإن كانت لا تطلب من أحد شيئا بل تسأل كل إنسان عن حاجته - حتى لقد كنا نخشى في بعض الأحيان أن تنسى وتمر على الكلاب والحمير والجاموس وتسألها السؤال نفسه؛ تجد هي مع ذلك دائما من يرعاها، بل لا نغالي إذا قلنا: إن البلد كلها ترعاها وتسأل عنها، صحيح أن أحدا لم يدخل بيتها أو على الأقل لم نسمع أن أحدا دخله؛ فهو كما سمعنا لا يزيد عن حجرة واحدة نراها تضع مفتاحا كبيرا في بابه حين تدخله وحين تخرج منه.
وصحيح أنها ترفض أن يعطيها أحد شيئا وتتعفف أن يتصدق عليها أحد بشيء؛ ولكنها من ناحية أخرى تمر على بعض بيوت جاراتها وتشاركهن في الخبيز أو العجين، أو تنقية القمح والأرز، أو عمل الكعك في الأفراح، وتحضير الصواني في المآتم؛ ولا بد أن الناس يعطونها شيئا فلا ترده، ولا بد أنها تبادر كل إنسان بسؤالها «عاوز حاجة» قبل أن يسألها إن كانت تحتاج لشيء.
ولو أن الحال استمرت على ذلك لبقي كل شيء على ما هو عليه، ولسارت الأمور على ما يرام حتى يغير الحال مغير الأحوال؛ ولكن حدث ذات يوم أن لقيت في جولتها امرأة تصرخ وتصيح، لم تكن تكتفي بالصراخ والصياح، بل كانت تعفر شعرها بالتراب، وتشد منديلا تكاد تمزقه فوق رأسها، وتلقي بنفسها على الأرض. لم يكن المشهد غريبا علينا ولا على المرأة المسكينة بالطبع، وكان يمكن أن تمر عليه صامتة، أو تدخل البيت الذي ينطلق منه الصراخ، فتعزي مع المعزيات، أو تشارك في مساعدة أهل الميت أو الميت نفسه، ولكنها - لسوء طالعها أو حسنه لا ندري - أقبلت على المرأة المفجوعة وربتت على كتفيها بحنان عظيم، وقالت في هدوء شديد: عاوزة حاجة يا حبيبتي؟ وإذا بالمرأة التي كانت تصرخ فتوقظ النائمين وتجلب التائهين، تمد يديها فجأة فتقبض على رقبتها بشدة وتهزها من صدرها وكتفيها في عنف: أيوه عاوزاه يا وش الشؤم، عاوزة راجلي وابو عيالي، عاوزة سبعي يا وش النحس، يالله امال ورينا، ليل ونهار عاوزة حاجة، عاوز حاجة، يالله امال، قولي لهم بقى يورونا!
وأسرعت النسوة من داخل البيت ليخلصنها منها، وأقبل بعض الرجال الذين كانوا يجلسون في مضيفة البيت، أو يعدون الكراسي والكنب والكلوبات أمامه، إلى انتشالها من قبضة الزوجة التي أوشكت على أن تخنقها أو تفترسها، وكان يمكن أن تمضي الحاجة في حال سبيلها وتتجه إلى مكان آخر، أو تعود إلى بيتها وتقصر الشر والسلام، ولا بد أن هذا هو ما نصحها به العاقلون والعاقلات من المعزين وأهل الميت؛ لولا أنها بقيت هادئة ثابتة كأن لم يحدث شيء، في عينيها نفس الحزن الوديع المستسلم، وعلى وجهها الصغير الشاحب نفس الطيبة والحنان والثبات. وسعت الطريق لنفسها وهي تقول: حاضر يا بنتي، حاضر، أقول لهم يا بنتي، أقول لهم يا اولادي، وسعوا يا اولادي، وسعوا يا اولاد سيبوهم يدخلوا عنده، إوعوا امال ليزعلوا منكو، يالله يا حبايبي تعالوا.
ولم يكن أحد يدري لمن تتحدث؛ ولكنهم لم يملكوا إلا إفساح الطريق لها وهم يرونها تحدث أشخاصا مجهولين، بل تمد ذراعيها إليهم كأنها تسحبهم إلى داخل البيت. سارت كأنها تعرف الطريق مقدما إلى الحجرة التي سجي فيها الميت، ولا أحد يدري كيف عرفت أن اسمه محمد؟ فراحت تخاطبه به، اقتربت من السرير النحاسي الذي مددوه عليه، ولم يستطع أحد أن يتدخل وهو يراها تزيح الملاءة البيضاء من على وجهه، وتمسح بيدها على شعره وجبينه، وتربت على صدغه، وتقول: عاوز حاجة يا محمد؟ عاوز حاجة يا حبيبي؟ قول يا ابني قول، قول لي على اللي في نفسك. أنا ها أقول لهم على كل شيء، قول وما يكونش عندك زعل، أولادك ومراتك في أمان الله إن شاء الله، حاضر يا حبيبي، حاضر يا ابني، كل اللي نفسك فيه يا عيني، أبدا أبدا يا حبيبي، كل اللي في نفسك يا ابني، حاضر، حاضر، حاضر، وقبل أن يفيق أحد إلى ما تفعل كانت قد ألقت برأسها الصغير على صدر الميت، وراحت تنشج نشيجا مفجوعا. ولم يعرف الحاضرون ماذا يفعلون إزاء بكائها المختنق وجسدها الذي يعلو ويهبط بشدة، وصيحتها المبحوحة التي لا تكاد تسمع وهي تردد: عاوز حاجة؟ عاوز حاجة؟ وبدأت النساء يربتن على ظهرها، وتحول العزاء كله إليها، وكاد الجميع ينسون الزوجة والأولاد، وراح الرجال ينصحون برش الماء على وجهها أو شدها بعيدا عن الميت، بل إن زوجة الميت قد نسيت حقدها الهائل عليها، وألقت بذراعيها حول صدرها، وراحت هي أيضا تهدئها، وتدعو الله أن يلطف بها ويرفع بلواها!
فات اليوم على خير، ولا بد أن تكون المرأة المسكينة قد بكت وعملت في نفسها ما تعمله كل مفجوعة في ميت عزيز، ولم يسأل أحد نفسه إن كانت قد فعلت ذلك مشاركة في العزاء؛ فالجميع يعلمون أنها لم تكن تعرف المرحوم، ولا دخلت بيته، ولا شربت فيه جرعة ماء! ولم يكن من الصعب أيضا أن نعلم أن ذلك أثار فيها ذكرى بعيدة لا يعرف الأطفال والشباب منا بوجه خاص أي شيء عنها؛ وإن كنا قد سمعنا من بعض عجائزنا بعد ذلك أنها تصورت ابنها «محمد» الذي مات في الغربة - ربما في أحد مستشفيات الصدر كما يؤكد البعض - من مدة طويلة، وقد يكون خيل إليها أنه مات في تلك الليلة لا قبل ذلك ، وربما يكون سؤالها الذي عرفناها به هو السؤال الذي كانت تلقيه عليه في ساعته الأخيرة، فلم يجب عليها بشيء، ولم تدر بعد ذلك كيف تتوقف عن إلقائه على كل مخلوق؟
كل هذه أشياء كنا نتكهن بها، أو نسمعها من شيوخنا ونسوتنا العجائز، أو من اجتهادنا عن غير علم، ولكننا علمنا بعد ذلك أنها قد مرضت مرضا شديدا، وأنها حين كانت تشفى قليلا منه أو يخيل إليها أنها شفيت تخرج من بيتها - إذ يسمعها الجيران وهي تغلق باب حجرتها أو يرونها أحيانا وهي تضع المفتاح الكبير فيه - فتمضي في طريقها إلى محطة السكك الحديدية في أطراف بلدتنا.
لم تعد توجه لأحد من أهل البلد سؤالها القديم، ولا عادت تكثرت بمداعبات الأطفال والبنات؛ بل ولا حتى بدعوات الفلاحين العائدين على ظهور الحمير من الحقول ومعهم نساؤهم وجاموسهم وكلابهم وأطفالهم.
Página desconocida
كانت تنتظر في المحطة بضع ساعات، وكلما وقف قطار أقبلت على النازلين منه تسألهم بصوتها الهادئ المبحوح: عاوز حاجة يا ابني؟
ويبدو أنها كانت لا تخطئ الغريب، وأن الغرباء كانوا يؤخذون بسؤالها في أول الأمر، أو يحملونه محمل الجد، أو يرون فيه علامة على كرم أهل البلد وشهامتهم، وكانوا بالطبع يسألون عن المضيفة التي تؤويهم، أو التاجر الذي يقصدونه، أو العمدة الذي يتجهون إليه، أو المدرسة، أو الوحدة التي سيعملون بها؛ فلا يتلقون سوى جواب واحد: حاضر يا ابني، أقول لهم يا حبيبي، روح انت بالسلامة وانا اقول لهم على كل حاجة.
وما لبث الغرباء أيضا أن عرفوها، وعمال المحطة وموظفوها أن بدءوا ينهرونها، أو يحذرون المسافرين منها، أو يطالبونها بالبعد عن القطار والرصيف والمحطة كلها؛ حتى لا تأتي لهم بمصيبة.
ويظهر أنها سمعت هذه النصيحة التي بدأت تتكرر عليها من الجميع، فجاء يوم لم نجدها فيه، لا في شوارع البلد، ولا في بيتها، ولا على المحطة؛ هل تكون عجلات القطار قد دهستها دون أن نشعر في مكان بعيد أو قريب؟ أتكون قد ركبت القطار وذهبت إلى قرية أخرى، أو إلى البندر الذي سمعنا أن ابنها الوحيد مات فيه؟ لا أحد يدري! (1968م)
بكاء
كانت قد خرجت من محل شملا في ظهر ذلك اليوم، تحمل في ذراعها اليسرى كيسا منتفخا بملابس الأولاد: ملابس داخلية، قمصان للصيف، مايوهات ملونة للبحر، أحذية على مقاس الأقدام الصغيرة المحبوبة، وتضع ذراعها اليمنى في ذراع زوجها الأستاذ سعيد مهندس التنظيم، وكانت السعادة تملؤها لتوفيقها في الشراء من الأوكازيون؛ فالبائع كان لطيفا سمح الوجه، واختيار البضاعة لم يكن عسيرا، والثمن الذي دفعته لم يكن باهظا على الإطلاق، وكان الشعور بالرضا والارتياح يغمرها ويفيض عليها سعادة هادئة تبدو في عينيها المرحتين الصافيتين، ومشيتها الرزينة المطمئنة، وإحساسها اللذيذ بالقرب من زوج طيب ودود ينم وجهه الأبيض الهادئ عن الرجولة والاعتداد والحنان.
وكانت هذه المشاعر الهادئة تصرفها عن ملاحظة الجو الخانق الذي يكتم الأنفاس، وتبعد عنها السخط والضيق والنكد الذي كانت تحس به عادة من الزحام في هذه الساعة التي يخرج فيها الموظفون والعمال؛ بل إنها - لفرط سعادتها ورضاها - وجدت ذلك كله شيئا طبيعيا، وبدت كأنها تقرأ في الوجوه الملولة المتعبة التي تقابلها، والمركبات العامة التي تميل هياكلها وتئن عجلاتها تحت وطأة الزحام والصراخ والسباب، والأشجار الهامدة التي تتلهف أوراقها الجافة على نسمة من الهواء، والضجيج المزعج الذي ينبعث من الأبواق والحناجر وأجهزة الراديو؛ بدت كأنها تلمح في هذا كله نوعا من النظام الطبيعي الخالد الذي يسير كل شيء فيه على ما يرام!
كانت تتمنى لو استطاعت أن تتغنى بأغنيتها المفضلة التي ترددها بإصرار مضحك في المطبخ والحمام، أو تقبل «سعيد» قبلة مفاجئة لا يفهم سرها كعادته، ولكنه يتلقاها منها في رضا وسرور.
وراحت تداعب في خيالها صورة أولادها الثلاثة الذين سيستقبلونها بالصياح والهتاف والأيدي الممدودة إلى الجيوب والأكياس، كما ترتب في ذهنها أطباق الغداء على المائدة، والقمصان الجديدة على أجسام الصغار، والأحذية والصنادل في أقدامهم، والبهجة التي ستشع من كل مكان في المسكن الأنيق.
كانت تقترب مع زوجها من محطة الأوتوبيس الذي سيحملها إلى مصر الجديدة، وتداعب هذه الأفكار المشتتة كما لو كانت تجلس في زورق يهتز فوق موج هادئ عندما رأته، فانقلب الزورق فجأة وغاصت مفزوعة إلى القاع. من المبالغة بالطبع أن يقال: إنها عرفته أو تذكرته من أول نظرة؛ فقد كان يقف هناك على الرصيف قبل منتصف الشارع المؤدي إلى المحطة المزدحمة بالناس، كما يقف آلاف الشحاذين في كل مكان.
Página desconocida
اتجهت إليه أول الأمر مدفوعة بنفس الشعور الهادئ الذي عرفناه فيها منذ قليل، وسحبت ذراعها برفق من ذراع زوجها؛ لتتمكن من فتح حقيبتها وإعطاء الشحاذ المجهول ما فيه النصيب. كان من الممكن أن تمد يدها إلى يده المتصلبة المفتوحة أمامها بالقرش أو القرشين، وتمضي في هدوء دون أن تنظر في وجهه أو تنتبه إلى دعوته للمحسنين، وكان من الممكن أيضا أن تمر عليه مر الكرام دون أن يحرك منظره في نفسها نزعة الإشفاق التي تميتها في العادة كثرة الشحاذين، أو تتأمله في صمت وتمضي في طريقها في عدم اكتراث؛ لولا أنه كان يقف هناك كالقدر، أو المفاجأة الحية التي تطل برأسها من بئر الذكريات. هذا الوجه الشاحب المجدور المستطيل، الذي يبدو أن الشيخوخة قبعت فيه منذ الطفولة، وحولته إلى وجه مومياء مصفرة؛ لم يستطع العفن أو الزمن أن يصل إليها.
أين رأته من قبل؟ هاتان العينان المغمضتان كعيني أعمى تحت جبهة عريضة ناصعة، لا تتناسب هي والوجه المغضن الصغير، برموشهما السوداء الطويلة المنسدلة كمظلة مقفلة الأطراف؛ هل تكونان هما نفس العينين الجائعتين الصامتتين اللتين حيرتاها منذ أكثر من عشر سنوات؟ وهذه اليد الممدودة المتخشبة كيد ميت صفراء نافرة العروق، دقيقة الأصابع، قذرة الأظفار، ملتهبة ومحمرة من أثر التدخين؛ هل هي نفس اليد التي كانت تتعجب من صغرها وهزالها ودقة تعبيرها عن بؤس مزمن وعميق؟ ولماذا تمتد الآن بين زحام الأجسام والأصوات وضجيج الشارع كسؤال أخرس، بعد أن كانت تضم أصابعها النحيلة على الكتب والصحف والمحلات، وتتشبث ببقايا سيجارة رخيصة مريضة الدخان؟ يا إلهي! كم تتغير الأيام!
تاهت يدها في حقيبتها لحظات، يبدو أنها طالت أكثر مما ينبغي، واستغرقها التأمل المشدوه في الوجه المصفر، والعينين المغلقتين، والكف المتصلبة، والقميص المتسخ الذي صار أشبه بكفن صغير، والبذلة الحقيرة المملوءة بالرقع والثقوب في أكثر من موضع، والحذاء المتهرئ من الأمام والخلف حتى صار يكشف عن بقايا جورب ممزق وملطخ بالطين. ووقف زوجها لحظة يرمقها في هدوء وابتسام، فلما طال مكثها أمام الشحاذ أخذ يتسلى بالنظر إلى التمثال القميء المنصوب على قاعدة منخفضة وسط الشارع، ويبحث في نفسه عن مبرر واحد لوجوده في هذا المكان. إن القاعدة قد امتلأت بالكتابات والتعليقات بخط قبيح وألوان مختلفة، والتمثال نفسه قد نقش الحمام على ظهره آثار فضلاته، وليس هناك عابر سبيل يتعطف عليه بنظرة واحدة، كما أنه لا يستطيع أن يجذب انتباه إنسان واحد. استدار الأستاذ سعيد، وتقدم من زوجته، ووضع ذراعه في ذراعها وهو يضحك قائلا: هذا التمثال يكفي للحجر على كل مهندسي التنظيم.
هزت ألطاف هانم رأسها كمن يفيق من كابوس، وسألت: ماذا تقول يا حبيبي؟
أشار إلى التمثال وقد ازداد ضحكه، وقال: من المؤسف أن يكون هذا مصير كل الزعماء.
التفتت إلى حيث يشير بإصبعه، وقالت: يجب عليكم أن تنظفوه.
قال بسرعة: بل قولي: يجب أن تزيلوه!
التفتت إلى الشحاذ المتسمر في مكانه، وتذكرت أنها لم تعطه شيئا، وسألت زوجها عن فكة، فبحث في جيوبه، ولم يجد سوى قرش واحد. قال لها وهو ما يزال ينظر للتمثال: الزعيم أولى به!
لم تضحك كما كان ينتظر فكتم ضحكته، خلص ذراعه من ذراعها، وأمسكت يده بيدها، وشدها كي تجري ليلحقا بالأوتوبيس. كانت لا تزال تنظر إلى الشحاذ، وتتلفت في كل لحظة لتقارن بين تمثاله الحي وبين صورته التي تقفز نحوها من الماضي البعيد. توقفت وقالت يائسة: سعيد، الدنيا زحمة. تعال نأخذ «تاكسي».
أسرع سعيد يقول: على كيفك يا حبيبتي.
Página desconocida
وفي لحظة كان صوته القوي المرح ينادي على التاكسي، وفي لحظة كان قد انطلق بهما وعبر الميدان في طريقه إلى شارع رمسيس.
مضى الأستاذ سعيد يتحدث بغير انقطاع، كان صوته الممتلئ الوديع يتدفق في أذنيها، فتحس بالاطمئنان الذي يكاد أن يبعث فيها الرغبة في النوم.
راحت تنظر إليه بين حين وحين وذهنها شارد عنه؛ ربما لتثبت له أنها تتابع كلامه الذي يتنقل بسرعة من التمثال إلى رخص الأوكازيون، إلى مشكلة المواصلات إلى الحرب في فيتنام، ولاحظت بارتياح أن السائق التقط الخيط منه، واستغرق معه في حديث خطير عن غلاء المعيشة والخنافس وواجب استعمال العصا في المدارس؛ أما هي فلم تعرف في أي شيء تفكر على وجه التحديد؟ كانت صورة الشحاذ المتشنج اليدين تصدم وجهها باستمرار! بل إن وجهه المجدور الذابل كان كثيرا ما يتداخل هو ووجه زوجها الأبيض الناعم، والعينان المغمضتان تهتزان أمامها وتقفزان من زجاج النافذة ومصابيح الشارع ورءوس الأشجار وأعمدة البيوت.
وكما تتداخل صورة المرئيات وصور الشحاذ، تداخلت الأفكار وراحت تتشكل لها وجوها وعيونا وألسنة طويلة وأيادي تمسك برقبتها أو تصفعها على خديها! حاولت أن تبعدها بالتفكير في مشكلة الزحام، وطاف بعقلها دون سبب اسم مالتس ونظريته التي أخذتها في الجامعة، وتحاول الآن عبثا أن تتذكر صيغتها التي كانت تحفظها عن ظهر قلب، وهمت أن تسأل زوجها لولا أن وجدت صورة الشحاذ تصدم وجهها بشدة، فرفعت يديها تغطيه بسرعة؛ مما جعل زوجها يلتفت إليها ويسألها جزعا عن حالها، فأجابت في هدوء: لا شيء يا حبيبي، صداع بسيط.
كانت تراه في كل صباح، هناك منذ عشر سنوات أو تزيد، على محطة الأوتوبيس الذي كانت تركبه إلى الجامعة، لم يعد لديها شك في ذلك، لم يعد لديها أدنى شك فيه، بالطبع لم تسأل نفسها عنه في الأيام ولا الأشهر الأولى، ولا حاولت أن تفكر لحظة واحدة فيه. كان يقف بقامته القصيرة، وهيئته الرثة، وشعر رأسه المهوش الذي يسقط على أذنيه وينعقد ككومات من الطين المتناثر على رأسه وقفاه! ولم يكن يسترعي انتباهها منه في البداية سوى كومة الأوراق التي كان يحملها تحت إبطه في معظم الأحيان.
لم يكن منظره منظر طالب، ولا كانت هيئته أو سنه أو حتى مجموعة اللفائف التي في يده تسمح بهذا الظن، ولا بد أنها كانت تبتسم في سرها لمنظره، وربما تعلمت مع الزمن أن تتعجب لقذارته المزمنة (التي لم تكن فيما يبدو متعمدة؛ بل عن بؤس أكيد)، وترثي لحاله في النهاية، وتسأل نفسها إن كان له أهل في هذه الدنيا، وأين يأكل وينام ويعيش؟
ويظهر أن بائعة الجرائد العجوز لاحظت أن اهتمامها به يتزايد مع مرور الأيام، فكان أن غمزت لها بعينها وهي تشتري منها إحدى المجلات النسائية قائلة: أصله شاعر.
سألتها باستخفاف: قرأت له؟
قالت البائعة وهي تشوح بذراعها: الله يسترك، ما ناقص إلا الشعر!
سألتها في يوم آخر: من أين عرفت أنه شاعر؟
Página desconocida
قالت البائعة: زبون دائم عندي، في يوم فتح مجلة وأشار لصفحة فيها، وقال في فرح الأطفال: الحمد لله، نشروا قصيدتي. قالت له البائعة: شعر؟ يعني حضرتك ما شاء الله شاعر؟
ابتسم ومضى يقرأ قصيدته في سره وهتف غاضبا: كلها أخطاء مطبعية.
قالت له البائعة: بركة دعا الوالدين!
ابتسم في حزن وقال: تعيشي يا حاجة.
سمعت ألطاف ذلك ولم تهتم به؛ فما لها والشعر وهي تدرس المالية والمحاسبة والاقتصاد؟ إنها لا تذكر شيئا مما كانوا يسقونه لها في حصة العربي والإنشاء، وحاولت أن تذكر منه بيتا واحدا يمسك بعضه بعضا فلم تستطع، قالت لنفسها: ما كل ما يتمنى المرء يدركه! لكنها لم تذكر الشطر الآخر ولم تعرف إن كان لشوقي أو حافظ أو النابغة الذبياني، وضحكت في سرها للاسم الأخير، وقالت لنفسها: إن نطقه وحده يميت من الضحك.
ومع الأيام راحت تتابع الشاعر المجهول، كانت تراه في معظم الأيام واقفا كالتمثال في انتظار الأوتوبيس، ويبدو أنها كانت قد فرغت من ملاحظة هيئته وملابسه الرثة، وحفظت قميصه القذر الذي لا يتغير، وبذلته البنية الداكنة؛ ولا بد أن المصادفة وحدها هي التي جعلتها تنظر مرة إلى عينيه، بدتا لها بعكس ملابسه ووجهه وكل شيء فيه، كأنهما هما الشيء الوحيد الذي يدل على الحياة فيه!
كانتا ضيقتين، تلمعان لمعة غريبة، وتتحركان باستمرار في قلق وحزن لا يطاق.
وقد فطنت بغريزة الأنثى أنه يسلطهما عليها في شوق أخرس مكتوم، ومع أنها كانت تنفر منهما وتحاول أن تتجاهلهما على الدوام؛ فقد بدأت تسأل نفسها عما تريده منها النظرة الخرساء؛ إذ ليس هناك أفظع من عينين صامتتين حزينتين، تقولان لك: إنني أحبك ولا أريد منك شيئا! هل كان هذا المخلوق البائس الزري يحبها؟ وماذا كان يرجو من وراء هذا الحب الأخرس المخبول؟ إن جدارا هائلا كثيفا من التقاليد والظروف يبعدها عنه! بل يسحقه كالحشرة الذليلة أو الدودة البائسة! وهل يعقل أن تبادله النظر أو تطمعه بأدنى إشارة أو لمحة؟ يا له من خائب مجنون!
في يوم من الأيام جاءت متأخرة عن موعدها قليلا إلى محطة الأوتوبيس، كان هناك زحام غير عادي وجماعة من الناس يتحلقون حول رجل ممدد على الأرض، وشاب يجري له تنفسا صناعيا، ويصيح بالواقفين أن يبتعدوا لكيلا يمنعوا الهواء عنه، وآخر يصرخ في طلب الماء. وحشرت نفسها لتلقي نظرة، فرأت الشاعر ممددا على الأرض ببذلته الداكنة، وقميصه وحذائه الباليين، ووجهه المصفر المجدور الذي يشبه وجه ميت. وبعد قليل نهض واقفا، ونفض التراب بشدة عن ملابسه، وراح يعتذر إلى الناس ويشكرهم، ثم تقدم من سائق عربة كارو كان يقف في خوف بعيدا عن الجمع المحتشد، وإذا به يتقدم منه خجلا كالفتاة العذراء، فيعتذر إليه بصوت مسموع، ثم يحتضنه فجأة ويقبله! بادرتها بائعة الجرائد العجوز قائلة: مجنون؛ بدل ما يطلب التعويض!
سألتها: هل داسه العربجي؟
Página desconocida
قالت البائعة: داسه؟ قولي دهسه، العجل يا عيني فات عليه، لولا ستر ربنا كان بقى نصفين؛ والآخر يعتذر له!
أزاحت شعرها الأسود الفاحم عن عينيها، وقالت باسمة: ما هو شاعر! وجاء الأوتوبيس فقفزت فيه.
إنها لا تزال تذكر الآن كيف بدأت تهتم به وتعطف عليه؟ كانت تلاحظ أن نظراته تتابعها، نفس العيون الخرساء، العيون البائسة بلا أمل في الأرض ولا في السماء، العيون المجروحة التي تقول في انكسار: أحبك، ولا أريد منك شيئا! وبدأت هي أيضا تهتم بنفسها: كانت تطيل الوقوف أمام المرآة قبل أن تخرج إلى الشارع ، وبدأت - ربما لأول مرة - تتأمل وجهها الصغير الجميل، وتلاحظ أنفها الدقيق، ووجنتيها البارزتين، وفمها الدقيق الواسع قليلا، وشفتيها الرقيقتين اللتين تبتسمان دائما في سخرية عذبة كانت هي طابعها الأصيل؛ أما عيناها السوداوان المستديرتان فكانتا تشعان بنظرة لم تلتفت إليها من قبل؛ نظرة نارية ثائرة، فيهما كبرياء وبعد، ولكن فيهما مع ذلك حزن عميق يرسم مع الشعر الأسود الفاحم الطويل، الذي ينسدل دائما على جبينها العريض وإحدى عينيها؛ صورة من الخيالات والأحلام العذراء التي تحيط الفتيات في عمرها بهالة من الغموض والتمنع والحياء.
ها هي ذي نظرته تتابعني؛ لكن ماذا يريد؟ آه من هذا الأخرس المخبول! إنه لا يقول شيئا، لا يتحرك، لا يهتز فيه عرق واحد! هل ينظر إلي حقا أو يسبح مع أشعاره؟ وأي أشعار هذه؟ هل هي مثل أشعار شوقي وحافظ؟ هل ينشرونها حقا في الجرائد والمجلات؟ هل يكسب منها عيشه؟ هل يغنونها في الراديو؟ إنه يتابعني دائما بالنظرة الذليلة المجنونة الصامتة الصارخة بالحب واليأس والعذاب والانكسار!
لكنها تذكر الآن كيف انقلب اهتمامها الطارئ به إلى سخط وحقد واشمئزاز! إنها لا تقيم وزنا لهذه النظرات الجائعة، ولو صرخت في الأبواق بأنها تحبها حتى الموت! ماذا يقول الناس؟ ماذا تقول العائلة، والعرسان الذين يحومون حولها من الآن ويسألون عنها بل يتقدمون لأبيها: مهندسون وأطباء وضباط وموظفون محترمون؟! وها هو ذا قد خرج من حياتها التي لم يدخلها قط، واختفت نظرته وهيئته المزرية وجسده الضئيل ووجهه الشاحب الصغير، كلها اختفت إلى الأبد خلف السور الشائك الذي أقامته حولها، أو وجدته منذ البداية ملتفا عليها!
يا إلهي، ما الذي يوقفه هذه الوقفة في أكبر ميدان؟ ما الذي انتهى به إلى هذه النهاية؟ هل طردته الجريدة التي كان يعمل فيها؟ هل أفلس من الشعر؟ هل مات كل أهله فوقف في طريق الحياة كبقية شجرة قطعت من جذورها؟ هل أصابه العمى من كثرة القراءة والكتابة، أو من كثرة البكاء، أو من كثرة النظر الأخرس الحزين؟ ما الذي أدى به إلى هذا المصير؟ ما الذي جعله يمد يده المتشنجة لكل عابر سبيل؟ ألا يكسب الشعراء من شعرهم؟ ألم يكن شوقي كما يقال أمير الشعراء؟
إنها لا تذكر بيتا واحدا من الشعر - ما كل ما يتمنى المرء يدركه - لكن لا بد أن صاحبه لم يكن شحاذا، ولم يضطر إلى الوقوف في ميدان تحت شمس محرقة وسط زحام خانق، بين آلاف العيون التي تنظر أو تمر بغير اكتراث! هل دخل المسكين السجن، فعذب كما سمعت من الناس، أو علق جسده من قدميه كما تعلق الذبائح عند الجزارين، أو سلطت عليه الكلاب المتوحشة، أو أغرق بالماء إلى رقبته في زنزانة؟ هل كان من الشيوعيين والسياسيين؟ أو ماذا جرى له؟
كان الأستاذ سعيد لايزال مستغرقا في نقاش مع سائق التاكسي. أصغت قليلا، فوجدتهما يتحدثان عن مشكلات التنظيم والمدينة التي ضاقت بعرباتها وسكانها، وحاولت أن تتذكر قانون مالتس، وخطرت لها كلمة المتوالية الهندسية والمتوالية الحسابية؛ ولكنها لم تفلح في العثور على صيغة القانون. وهتف السائق: لا بد من تعميم الحبوب وجعلها بالمجان. فقال زوجها: ولو، الأرانب هي الأرانب وحياتك، وضحكا ضحكة فاضحة جعلتها تدير وجهها إلى الناحية الأخرى.
وقف التاكسي أمام باب العمارة، نزل زوجها أولا ومد إليها يده ليسندها. كم هي رخصة هذه اليد وسمينة وبيضاء ومريحة! عشرة أعوام وهي تمسك بيدها، وتربت على كتفها، وتمنحها الثقة والعطف والحنان! لكن العيون الخرساء الجائعة تقف أمامها الآن، عيون ضيقة تلمع ببريق التنفس والقلق واليأس والذل والعذاب. أأكون مذنبة أيتها العيون؟ أكان في وسعي أن أفعل شيئا ولم أفعله؟
لماذا لم يقل كلمة واحدة؟ لماذا لم ينطق بحرف لم يصدر إشارة؟
Página desconocida
كنت بالطبع سأزجره وألزمه حده! لكن ربما كان هذا على الأقل مصدر عزاء لي الآن؛ ومن يدري؟ فربما كنت أجبته بكلمة، تصدقت عليه بنظرة، شجعته بابتسامة، مستحيل أن أتصور أنني كنت سأزيد على ذلك، مستحيل أن يكون قد خطر لي أن أكلمه مرة وأمشي معه خطوة واحدة؛ وماذا كانت تقول الناس والجيران والعائلة والعرسان الذين يحومون حولي؟ ها هو ذا سعيد يفيض علي حبه وعطفه منذ سنين، هيأ لي البيت السعيد، ووهب لي الأولاد السعداء، كأنما يقسم أن يجعل كل يوم من أيام حياتي نظيرا لاسمه، عندي كل وسائل الراحة والهناء والحياة المستقرة المريحة، وماذا تطلب الزوجة أكثر من المرتب المضمون والثلاجة والبوتاجاز والغسالة والسخان والتلفزيون؟ هل تسمح لنفسها بعد هذا ألا توفر له البيت السعيد وتملأه بالأطفال السعداء؟ ما كل ما يتمنى المرء يدركه. ليتني أعرف فقط إن كان هذا الكلام لشوقي أو حافظ!
سألها زوجها وهما يدخلان من باب الشقة ويسمعان صياح الأولاد الثلاثة: فيم تفكرين يا حبيبتي؟
قالت شاردة: في بيت من الشعر.
هتف وهو يحتضن هناء: اسألي ماما عنه يا هناء.
قالت ألطاف وهي تغتصب ضحكة: نسيته يا سعيد.
قال سعيد وهو يقبل هدى وهابي: لازم كان من المعلقات.
أقبل على الأولاد يريهم القمصان الجديدة والمايوهات والصنادل. ما أطيبه! وما أكثر حبه لها ولأولادها! ما أشد ثقتها فيه واطمئنانها بجانبه! إنها لا تذكر أنه أغضبها يوما بكلمة حادة أو خارجة، أو أخر لها طلبا من نفسها، أو بخل عليها بملبس أو مأكل أو نزهة!
وراحت تخلع ثيابها في صمت وترتدي ملابس البيت. كان شيء كالخدر يزحف من قدميها إلى رأسها، ومن رأسها إلى قدميها؛ شيء ثقيل أسود كالمارد أخذ يطبق على عينيها، ويجثم على أنفاسها، ويزحف في نبضها ودمها! وارتمت على الفراش وكل شيء يهتز أمام عينيها ويدور ويختلط دوامة من الألوان والأصوات والحركات. اتسعت العينان الجائعتان أمامها، وتحجرت فيهما النظرة الفظيعة الخرساء، وامتدت أمامها اليد المتشنجة كيد ميت تخترق النعش فجأة أخذت تتقدم منها وتتقدم، كأنها تريد أن تلمس وجهها أو تسترحمه أو تلطمه!
صرخت مفزوعة، ثم انفجرت باكية. وحين أسرع سعيد إليها وسألها ملهوفا عما بها؛ ألقت ذراعيها حول عنقه، ودفنت رأسها في صدره وقالت وهي تنشج: لا شيء يا حبيبي، لا شيء أبدا! (1968م)
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
Página desconocida
كانت العربة قد توقفت تماما ، أزت عجلاتها الصدئة لحظة، واهتزت الأكياس والأقفاص وألواح الخشب المتكدسة فوقها، ثم هدأ بعد ذلك كل شيء، وتململ العربجي في مكانه وصاح: شي، شي؛ ولكن صياحه لم يحرك الحصان، ولم ينفع في تحريك العربة؛ ظهر الغضب على وجهه وتطاير من عينيه، وعاد يصيح بصوت خدشته الجوزة والمعسل والسب في خلق الله: شي يا حصان الكلب! قلت لك شي! لكن الحصان ظل جامدا في مكانه، ولم يبد عليه أنه سمع الصوت أو أنه على استعداد لسماعه، وجن جنون العربجي، فتناول سوطه وبدأ يضربه، كانت الضربات في بداية الأمر خفيفة من النوع الذي يلسع ولا يؤذي، فلما رد عليها الحصان بهز رأسه وتحريك ذيله؛ راحت تزداد وتتوالى ويسمع حفيفها في الهواء، أخذت تتهاوى على جسده كله دون تمييز، وراحت تدوي فوق الرأس والأذنين والظهر والذيل والأقدام!
صاح السائق: شي يا ابن الكلب، فضحتنا قدام الناس، قلت لك شي. ولكن الحصان اكتفى بتحريك رأسه وذيله إلى اليمين واليسار، وكلما اشتد عليه الضرب رفس العربة بأحد حافريه الخلفيين، فقعقعت عجلاتها واهتزت فوقها الأكياس والصناديق. ومع أن طرف السوط كان يتوالى كألسنة النار على رأسه وعينيه، ويصيب الجروح المشقوقة على ظهره وساقه حتى ينزف منها الدم؛ فقد كان فيما يبدو يتمسك بالصبر، كأنما يعرف أن صاحبه سيتوقف عن ضربه كما عهد ذلك منه، وينزل إليه ويربت على رأسه ويصالحه؛ ولكن العربجي كان قد جن جنونه، ومع صيحاته الخشنة المدوية توالت ضرباته في كل مكان من الجسد الأعجف المقروح!
كان ذلك كله يجري في ميدان عام، مزدحم في وقت الظهر بالناس والعربات والترام والتروللي؛ وقت خروج الموظفين من المكاتب، وعودة النساء بعد شراء الحاجات.
وكما هي العادة دائما في مثل هذه الحالات، تتلفت عيونهم من نوافذ الترام أو العربات؛ ليعبروا عن سخطهم على قسوة السائق وتعاطفهم مع الحيوان المسكين، وقد يهزون رءوسهم أسفا على الرحمة التي نزعت من قلوب الناس، أو يسألون أنفسهم: أين جمعية الرفق بالحيوان؟ أو لماذا تسكت الحكومة على هذا الظلم، ولا تسن القوانين الكفيلة بحماية الحيوان من الإنسان؟
وسرعان ما يمر الترام أو الأوتوبيس، فينسون هم العربجي والحصان ويدخلون في نفوسهم. أما السائرون على أقدامهم فإنهم يتوقفون قليلا، أو يتجمعون حول المكان، أو تأخذ الشهامة أحدهم؛ فينادي على العسكري أو يتدخل بنفسه، فينصح السائق بكلمة طيبة تعلمه الحلال من الحرام.
بدأ الناس بالفعل ينظرون من نوافذ الترام والأوتوبيس، ويتجمعون حول العربة؛ ليتفرجوا، أو يقولوا كلمة طيبة، أو يحاولوا التدخل رحمة بالحصان المسكين. صحيح أن بعضهم كان يتفرج لحظات ثم يسرع إلى عمله أو ركوب ترامه، ويقول لنفسه: إن هذا شيء يتكرر كل يوم، ولا بد من تدخل الحكومة فيه؛ ولكن توالي اللسعات ورنينها الذي كان يغلب على ضجيج الميدان ويخترق الآذان؛ جعل الكثيرين منهم يتوقف في مكانه ويحس بأنه مطالب بعمل شيء.
ومما زاد في هذا الإحساس أن العربجي جن جنونه، فسحب لوحا من الأخشاب المتراكمة على عربته، وأخذ ينهال بها في كل مكان من جسد الحصان. قاوم الحيوان قليلا، وزادت رفساته التي كانت تصطدم عبثا ومقدم العربة، وأطلق صهيله، الذي تحول مع عنف الضرب ووحشيته، وخبطاته العشوائية لعظام الظهر والبطن والصدر والأقدام والوجه والرقبة؛ إلى صوت مخدوش، راح يخفت بالتدريج حتى صار كنحيب طفل يبكي على قبر ميت! ولم تبق في الحصان قوة على المقاومة، فانثنت ساقاه الأماميتان ومال برأسه على الأرض، ثم عاجلته ضربة على مؤخر ظهره فانثنت الساقان الخلفيتان أيضا وتمدد بجسده كله على الأرض!
كان العربجي لا يزال يصرخ، ويسب ويلعن أجداد الحصان وأيامه السوداء، وينزل ضربه الأعمى على الجسد الهامد الذي لم يبق فيه من آثار المقاومة سوى اختلاجة تسري فيه وحشرجة تخرج من الفم، ودموع تسقط من العينين! وكان الناس قد تجمعوا حوله، وكل واحد منهم يحس أنه ملزم بأن يفعل شيئا، أو أنه تورط وانتهى الأمر ولا بد أن يتصرف بأي طريقة توقف هذه الوحشية؛ صرخ طفل في أول الأمر وارتفع بكاؤه، وهتفت امرأة عجوز تلف رأسها بشال أبيض: حرام عليك يا رجل! الحصان تعب يا ولداه! وتقدم شاب يضع نظارة غليظة على عينيه ويلبس بلوفرا أسود ويحمل في يده حقيبة كتب سوداء! - تعب؟ يا عالم! الحصان مات!
ولا بد أن الكلمة الأخيرة بعثت الاشمئزاز في نفوس الحاضرين، ودفعت بعضهم إلى التقدم بلا تردد إلى السائق، وتخليص لوح الخشب والسوط من يديه؛ ولكن هذا استمر يزعق ويلعن: ما لكم انتم؟ ابني وانا اربيه!
هتفت المرأة العجوز: يا شيخ حرام عليك! اتقوا الله وخلوا في قلوبكم رحمة.
Página desconocida