Heródoto: Una Introducción Muy Corta
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
Géneros
وفي المجمل، ملأت مدينة بابل الضخمة والثرية هيرودوت بالعجب، لكنه يقول إنه وجد ثاني أكبر عجيبة هناك، وهي القوارب التي تجوب الفرات إلى المدينة. كان تيار النهر أقوى من أن تبحر فيه القوارب شمالا، لكن التجار وجدوا مخرجا؛ فأعلى النهر من بابل، وتحديدا في أرمينيا، كانوا يبنون قوارب لا قيدوم لها ولا كوثل، فكانت مستديرة كالدرع، مصنوعة من جلود سدودة للماء مشدودة على هيكل من خشب الصفصاف، وبعد تحميلها بالبضائع كانوا يضعون عليها رجلين لتوجيهها بالإضافة إلى حمار أو حمارين على حسب حجم القارب، وعندما يصل الرجلان بابل ويبيعان البضاعة، كانا يبيعان هيكل القارب ويحملان الجلد على ظهر الحمارين ويسوقانهما عائدين شمالا إلى أرمينيا، وبمجرد وصولهما إلى أرمينيا بالحمارين، يبنون هياكل جديدة ويبدءون عملية بناء القوارب من جديد. وهكذا كانت تتم التجارة دون قوارب تحتاج إلى إبحار ضد التيار. مشكلة أخرى وحلت!
إن افتتان هيرودوت بالتنوع يدفعه إلى إطلاعنا على عادات تناول الطعام التي تميز الشعوب التي درسها؛ فهناك ثلاث عشائر في بابل لا تأكل إلا السمك، ومعظم القبائل التي تسكن القوقاز تقتات على الشجيرات البرية. ويأكل الكاليبيداي الحبوب والبصل والثوم والعدس والدخن. وأما الأرجباي المحبون للسلام، الذين يظلون منذ مولدهم صلعانا، فيتألف طعامهم بالكلية من ثمار شجرة البونتيكوس، التي يصنعون منها الطعام والشراب على السواء. وأما الإثيوبيون الذين يعيشون في كهوف فيأكلون الثعابين والسحالي. ولا يأكل نساء قورينا لحوم الأبقار تعظيما للإلهة المصرية إيزيس التي كان يرمز لها بصورة بقرة. وطبعا، يأكل الجيزانتيون لحوم القردة.
كما هو الحال مع الأعمال الأنثروبولوجية في يومنا هذا ، تلقى أدوار الجنسين والزواج بشكل حتمي نصيبا كبيرا جدا من الاهتمام في «تاريخ هيرودوت». ومثل إثنوجرافيي العصر الحديث، يعترف هيرودوت بالقيمة الصادمة التي تملكها العادات التي تتحدى قيم النظام الأبوي الغربية التقليدية بسيطرته المحتومة على الحياة الجنسية الأنثوية، وما يصاحب ذلك من تقسيم إلى ما هو علني وسري. ومما أثار روع هيرودوت أن المرأة في بابل يجب أن تذهب مرة في حياتها وتجلس في معبد أفروديت، وتمارس الجنس مع أول رجل يلقي إليها بقطعة عملة، وعندئذ فقط يجوز لها مواصلة حياتها القائمة على الاحتشام الجنسي الدائم (تعود النساء طويلات القامة حسنات الطلعة إلى بيوتهن بسرعة، لكن بعض النساء الأقل جاذبية يضطررن إلى الاستمرار في المحاولة لما يصل إلى ثلاث سنوات أو أربع). وترتدي الواحدة من نساء الجندانيين خلاخيل بأعداد الرجال الذين مارست معهم الجنس، والمكانة الأرفع لصاحبة أكبر عدد من الخلاخيل؛ لأنها حظيت بحب أكبر عدد من الرجال. وبدلا من التزاوج مثنى مثنى، يمارس الأوزيون الجنس بشهوانية مع من يريدون، وعندما يكبر الأطفال الناتجون عن هذا الوطء، يحضرون إلى اجتماع للرجال ويلحق كل طفل بأب استنادا إلى الشبه بينهما.
أما المعالجة الأتم تطورا فهي معالجة هيرودوت للأمازونيات، التي تختلف اختلافا جذريا عن السرود القديمة الأخرى في تصويرها هؤلاء النساء المحاربات تصويرا مشرفا، كما أنها قصة رائعة أيضا؛ فقد كان الإغريق يصورون الأمازونيات، اللاتي اشتهر عنهن كسر القواعد الجنسانية، دائما كأعداء شواذ للحضارة. فنجد على أفاريز البارثينين التي خلدت ذكرى الانتصارات الإغريقية في الحروب الفارسية ما يشير إلى قوى الطبيعة الخطيرة، مصورة على هيئة ثنائية مكونة من الأمازونيات وكائنات القنطور التي نصفها رجل ونصفها فرس. وقد تفاخر الخطيب ليسياس، الذي يصغر هيرودوت ببضعة أجيال، بانتصار الأثينيين المبكر عليهن في الحرب. لكننا نجد في «تاريخ هيرودوت» وصفا مفصلا خلابا لمغازلة الأمازونيات والسكيث التي تبلغ أوجها بزواج هانئ بين الفريقين يتمخض عن السلالة البشرية المعروفة باسم السارماتيين. ولم يرد في سرد هيرودوت ذكر أي شيء من التفاصيل المروعة عن الأمازونيات التي نجدها في أماكن أخرى (مثل عادتهن قتل مواليدهن الذكور).
يذكر هيرودوت أن الحكاية التالية تحكى عن السارماتيين؛ فبعد أن تقاتل السكيث مع جنود أشاوس جاءوا إلى شواطئهم على متن سفن، فوجئوا عند فحصهم جثث من تغلبوا عليهم أنهم نساء. وبعد التشاور، يقرروا التوقف عن قتالهن وبالأحرى محاولة كسب صداقتهن، وذلك على أمل إنجاب أطفال من مثل هؤلاء الأمهات الرهيبات؛ فيرسل السكيث فرقة من الشباب ومعها تعليمات بالنزول بالقرب من هؤلاء النساء غريبات الشأن، وشيئا فشيئا، يقترب معسكرا الأمازونيات والسكيث أحدهما من الآخر. وكان من عادة الأمازونيات التفرق عند منتصف النهار، إما فرادى وإما مثنى مثنى، بغرض استخدام الخلاء على الأرجح (لكن الإغريق لا يدركون ذلك)، ويفعل السكيث الشيء نفسه، محاكين بدقة كل حركة يأتين بها، وهو تصرف غير مألوف في المواعدات الغرامية الأولى، لكن هذا ما يقوله لنا هيرودوت فيما يبدو. وعندما يدنو أحد السكيث من إحدى الأمازونيات بنية مطارحتها الغرام، توافق المرأة على الفور، بل وتطلب منه بلغة الإشارة أن يأتي في اليوم التالي بصديق وتخبره بأنها ستفعل الشيء نفسه (ويتطور الأمر شيئا فشيئا). ولم يمض وقت طويل حتى يتزاوج الفريقان تماما ويدمجان معسكريهما في معسكر واحد، وبعد فترة قصيرة، يقترح السكيث على الأمازونيات أن يعودوا جميعا إلى ذويهم حيث آباؤهم وأمهاتهم وأمتعتهم، لكن الأمازونيات الصناديد يرفضن ذلك، ويجبن بقولهن: لا يصلح لنا أن نعيش مع نسائكم ...
لأننا لا نتبع العادات ذاتها التي يتبعنها؛ نحن نطلق السهام ونرمي الرماح ونركب الخيل، لكننا لم نتعلم القيام بالأعمال المنزلية قط، في حين لا يفعل نساؤكم أيا مما نفعل؛ فهن يمكثن داخل العربات ويقمن بأعمال النساء، هن لا يذهبن للصيد، بل وفي الحقيقة لا يذهبن إلى أي مكان. لا يمكننا أبدا أن نتواءم معهن، لكن إن كنتم تريدون أن نكون زوجاتكم، وتريدون حقا توخي الإنصاف، فلتذهبوا ولتأخذوا من آبائكم نصيبكم من ممتلكاتكم، وعندئذ سنقيم هنا معا مجتمعا خاصا بنا.
المدهش أن الشباب يوافقون، وينطلقون في رحلة تستغرق ثلاثة أيام شمالا ومثلها شرقا، ويقيمون مجتمعهم الجديد الذي عرف باسم السارماتيين. وقد ظلت المرأة السارماتية حتى عهد هيرودوت تمارس القنص على ظهر الخيل وتقاتل في الحروب. علاوة على ذلك، فإن المرأة السارماتية لا تتزوج حتى تقتل عدوا، ولهذا السبب - وفي صورة تعكس بشكل مثير للاهتمام محنة النساء قليلات الجاذبية اللائي يقعدن في المعبد في بابل لسنوات - يموت بعضهن طاعنات في السن دون أن يتزوجن.
معظم البيانات التي يطلعنا عليها هيرودوت لا تقتصر على غير الإغريقيين وحسب، ومن ثم العادات الجديرة بالملاحظة فحسب، لكنها ترسم أيضا دورة حياتية مميزة للجنس والزواج والطعام والموت. وكل هذه الأشياء تحدث في سياق اجتماعي؛ إذ تفضي التقاليد الجنسية في نهاية المطاف إلى إنجاب الأطفال، ولا بد أن يتبع الإنسان المولود حديثا أعراف الجماعة في عاداتها المتعلقة بتناول الطعام، وكذلك - من جديد - الحياة الجنسية، وبمرور الوقت ستقام لهذا الإنسان جنازة ويدفن (أو لا تقام له جنازة ولا يدفن) وفقا للقواعد المتعارف عليها اجتماعيا، وأحيانا تتمخض تقاليد الجماعة فعلا عن موت أفرادها، وستقرر هذه التقاليد دائما ما يفعل بالجثامين بعد الموت.
قليلون منا كانوا سيجدون في أنفسهم الرغبة في العيش بين هنود الباداي؛ فحتى إذا استطعنا تحمل نظامهم الغذائي المشتمل على اللحم النيئ، فربما نفكر مرتين إذا كان اللحم المقدم لتناوله هو لحم بشري؛ إذ يروي هيرودوت أنه متى مرض الواحد من الباداي، يضع رفاقه المقربون ممن ينتمون إلى نوع جنسه نهاية لحياته؛ خشية أن يفسد لحمه ويفقد صلاحيته لأكله، ولذلك ينفي المريض بشدة أنه مريض (كم هو هائل الحس الكوميدي هنا، فلنا أن نتخيل الباداي وهو ينهض من رقاده محتجا ويقول: «كلا، أنا في الحقيقة أشعر بتحسن كبير اليوم!») وعلى الرغم من كل إصراره، فإنه يقتل ويوزع لحمه في وليمة. وتضحي القبيلة بأي شخص يطعن في السن وتأكل لحمه، لكن قلما يطعن أحد في السن بالتأكيد؛ لأن المرء بقراءته «تاريخ هيرودوت» يتخيل أن أصدقاء الباداي وأهليهم ينهون حياتهم لدى إصابتهم بأولى علامات برد.
يربط هيرودوت، في مناقشته الباداي، بين الموت والأكل، وأما في معالجته التراقيين الذين يعيشون شمال كريستونيا، فالربط يكون بين الموت والجنس/الزواج؛ فهم يمارسون على ما يبدو تعدد الزوجات، وعندما يموت الرجل منهم، تخضع زوجاته لاختبارات دقيقة لتقرير أيهن كانت تحظى بحبه أكثر من غيرها، وبعد سماع الرجال والنساء على السواء يسهبون في تعديد محاسن الفائزة سعيدة الحظ، يقدم أقرب أقاربها على نحرها على قبر زوجها ثم تدفن معه. أما الأخريات فيشعرن أنهن أصبن بمصيبة كبيرة؛ لأنه لا شيء تستحق عليه إحداهن اللوم أشد من عدم وقوع الاختيار عليها.
Página desconocida