مقدمة
1 - عالم هيرودوت
2 - الأصول والمؤرخ
3 - الحرب بين الإغريق والفرس
4 - هيرودوت الإثنوجرافي
5 - المرأة في التاريخ، والمرأة في «تاريخ هيرودوت»
6 - هيرودوت والآلهة
7 - هيرودوت القاص
8 - هيرودوت المؤرخ
قراءات إضافية
تسلسل زمني
مقدمة
1 - عالم هيرودوت
2 - الأصول والمؤرخ
3 - الحرب بين الإغريق والفرس
4 - هيرودوت الإثنوجرافي
5 - المرأة في التاريخ، والمرأة في «تاريخ هيرودوت»
6 - هيرودوت والآلهة
7 - هيرودوت القاص
8 - هيرودوت المؤرخ
قراءات إضافية
تسلسل زمني
هيرودوت
هيرودوت
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
جينيفر تي روبرتس
ترجمة
خالد غريب علي
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
إلى ابني
العالم الإغريقي في عصر هيرودوت.
مقدمة
لم يكن آمبروز بيرس وحده من نبذ التاريخ باعتباره سردا لأحداث افتعلها «حكام معظمهم مدلسون وجنود معظمهم حمقى.» ولتتأمل كلمات مؤرخ روما القديمة العظيم إدوارد جيبون الذي وصف التاريخ بأنه «ليس أكثر من سجل لجرائم البشرية وحماقاتها وبلاياها.» وأما جين أوستن، فأضافت غياب المرأة إلى هذا المزيج، حيث اشتهر عنها تنويهها إلى أن التاريخ كله حروب وكوارث، وصراعات بين الأقوياء، و«رجال لا خير فيهم، وبالكاد يظهر النساء.» فمن ذا الذي اخترع هذا الشيء البغيض؟ ومتى وأين ولماذا؟
ظهر التاريخ - كما نعرفه - إلى الوجود في اليونان في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد؛ أي في زمان ومكان شهدا وفرة غير عادية في الإنتاج الثقافي والفكري. وقبل ذلك، كانت تؤلف سرود للأحداث، لكنها - على نحو ما وصلتنا - كانت تجمع دائما لخدمة أجندة معينة؛ إذ كانت تهدف مثلا إلى تمجيد أي من ملوك آشور، أو بيان هيمنة الإله يهوه على شئون البشر. وكان إنجازا رائعا للمؤرخين الإغريق العظماء الذين عاشوا في القرن الخامس أن حذوا حذو المشتغلين بالعلوم الطبيعية، واضطلعوا ببحوث أطلقوا عليها في لغتهم اسم «هستوريا»؛ بمعنى تاريخ، وكان غرضها الارتقاء بفهمهم للماضي والحاضر، وربما المستقبل، ونقل هذا الفهم إلى جمهور عريض. وعلى الرغم من أن الآلهة كان لها دور بكل تأكيد، فإن الهستوريا كان في أغلبه مشروعا علمانيا يهدف إلى بيان الطبيعة البشرية وسلوكياتها. ولقد كان هيرودوت من غير ريب سيؤيد ادعاء آر جي كولنجوود بأن قيمة التاريخ تكمن في «أنه يعلمنا ما فعله الرجل، ومن ثم ماهية الرجل»، لكن ربما كان حريا به أن يستبدل كلمة «الإنسانية» بكلمة «الرجل» ليضمن اشتمال المرأة.
عني بهذا المشروع غير العادي مؤرخان يختلف أحدهما عن الآخر تمام الاختلاف، وكان الفاصل بينهما على الأرجح قرنا من الزمان. ولقد قيل إن هيرودوت، المولود زهاء سنة 484 قبل الميلاد، أسال مدامع الشاب ثوسيديديس عندما تلا على مسامعه مقتطفات من عمله. وخلع الأديب الروماني شيشرون على الرائد هيرودوت لقب «أبو التاريخ» على الرغم من إقراره باشتمال «تاريخ هيرودوت» على أساطير لا تحصى (وكان محقا فيما يخص تلك الأساطير، ولسوف نعود إليها). لكن التاريخ كما تصوره هيرودوت لم يكن سجل «الخرائط والأشخاص» ذلك الذي اعترف مفكرون مثل بيرس وجيبون وأوستن بازدرائهم إياه. وعلى الرغم من افتتان هيرودوت يقينا بكل من الخرائط والأشخاص، إلا أن عمله اشتمل على ما هو أكثر من ذلك بكثير.
فقد كان هيرودوت أول من اضطلع بمهمة فرز الخرافة عن الحقيقة على مشقتها. والواقع أنه هو أول من رأى فارقا بين الاثنتين؛ فباستخدام الاستقصاء والتمحيص والتراث المسموع والذكاء الفطري، أنتج منسوجة نصية مزخرفة تتمحور حول السؤال الجوهري الذي راوده في شبابه: كيف خاض الإغريق والفرس حروبا ضد بعضهم بعضا، وما سبب انتصار الإغريق على الرغم من تفوق الفرس الملحوظ في العدد والعدة؟ تحدث هيرودوت معربا عن رأيه كمواطن عادي، فلا ملك أعطاه إذنا ولا إله، ولم يستلهم وحي ربات الفنون - على خلاف سلفه في رواية القصص الطويلة جدا (وأعني مؤلف، أو مؤلفي، الإلياذة والأوديسة) - بل اعتمد بالكلية على مصادره البشرية وما أوتي من قدرات بشرية على التحليل. لقد كان بمفرده.
لا ريب أني سأكون مبالغا إذا ادعيت أن هيرودوت ذهب بجرأة إلى حيث لم يذهب أحد قبله؛ إذ ألفت بعض الأعمال التاريخية المصغرة من قبل، وكانت تتناول التقاليد المحلية في العادة، وتظهر الشذرات التي وصلتنا أن الإثنوجرافيا (دراسة الأعراق) شكلت جزءا من العمل النثري الذي ألفه هيكاتايوس الملطي قرابة سنة 500 قبل الميلاد بعنوان «رحلة حول العالم». لكن لم يكن قد سبق وضع أي مصنف على مستوى مؤلف هيرودوت على الإطلاق؛ إذ كان يفوق أيا من قصيدتي هوميروس في الطول بفارق كبير، وكان هائل النطاق فيما يتعلق بالزمان والمكان على السواء، واعتمد مبدأ تنظيمه على زحف الطاغوت الفارسي، حيث نالت كل أمة اتصل بها الفرس قبل هجومهم على اليونان في القرن الخامس معالجة إثنوجرافية، تطول وتقصر حسب مقدار معلومات هيرودوت أو اهتمام الجمهور الإغريقي كما يتصوره هيرودوت.
يأسرنا راوينا المتجول - وهو مفكر ورحالة يتميز بفضول لا ينضب - في سرده بشدة تعطشه إلى المعرفة على نحو يصيبنا بالعدوى؛ فهيرودوت «يريد أن يعرف»، سواء أكانت هذه المعرفة تخص القصة الحقيقية لاختطاف هيلين (يقول هيرودوت إنها لم تكن قط في طروادة، لكنها ظلت في مصر طوال الحرب)، أم الطريقة التي دفن بها السكيث ملوكهم (كانوا يدفنون معهم كثيرا من الخدم والأتباع)، أم كيف استقبل التراوسوي - وهم من التراقيين - ميلاد الأطفال (كانوا يتفجعون للمعاناة التي سيلاقونها)، أم كيف تقاتل الإغريق والفرس (قصة طويلة جدا في حقيقة الأمر). وكان هيرودوت سيوافق الصحفي البولندي ريزارد كابوشنسكي (الذي سافر إلى كل أنحاء العالم مصطحبا نسخة من «تاريخ هيرودوت») تماما في قوله إننا «لن نفهم أي شيء عن العالم دون محاولة استخدام طرق أخرى للنظر والإدراك والوصف.» وهو، فيما نقرأ، ينقل إلينا رغبته العارمة؛ لأنه لا يريد أن يتعرف على شتى التقاليد والقيم في العالم فحسب، بل يريدنا أن نتعرف نحن أيضا عليها. وقد عضد الغياب الواضح للتعصب الإغريقي إثنوجرافية هيرودوت ودفعها قدما، ومع ذلك، وعلى الرغم من كل تسامحه، وعلى الرغم من كل ثنائه على التقاليد الفارسية الفردية (إذ استحسن كثيرا ممارستهم إبعاد الصبي عن أبيه خلال السنوات الخمس الأولى من عمره؛ خشية أن يكون لوفاة الطفل وقع شديد عليه)، فإنه لا يشير في أي موضع إلى أن الأوتوقراطية الشرقية صالحة - كعرف - كصلاحية التشكيلة المتنوعة من أنظمة الحكم عريضة القاعدة التي سادت العالم الإغريقي.
نوه الصحفي ستيفن شيف ذات مرة قائلا : «في قلب التاريخ الجيد، يوجد سر صغير ماكر، وهو الحكي الجيد.» ومما يجعل هيرودوت يأسر قراءه أنه كان حكاء من الطراز الأول؛ فسرده الطويل، والذي ربما سماه الإغريق لوجوس (بمعنى حكاية)، يتألف من حكايات قصيرة كثيرة موصول إحداها بالأخرى، بعضها طوله بضع مئات من الكلمات، وبعضها بضعة آلاف، وليست كلها دائما في ترتيب تاريخي دقيق، حيث تتدفق وتنحسر وتستدير راجعة كنهر يثير مساره الحيرة والبهجة على الدوام. إن مصنف هيرودوت صعب، وتمثل الحكايات أجناسا مختلفة تماما من أجناس الأدب، حيث تتراوح بين محاولات لسبر أغوار التاريخ السياسي لأثينا وإسبرطة، وبين طرف غريبة ذات جذور واضحة في التراث الشعبي أو الحكايات الخرافية، وبعضها له دلالة عميقة في سياق مشروع هيرودوت، وبعضها الآخر ليس كذلك. وأيضا فإن الوتيرة ليست متسقة؛ فالمصنف الذي قسمه الباحثون لاحقا إلى تسعة «كتب» يتجول عبر قرون التاريخ على مدى عدة كتب - عدة مئات من صفحات عصرنا الحديث - ثم يتخذ محور تركيز أضيق كثيرا فيما ينقلنا هيرودوت إلى سنوات الحرب التي سبقت هزيمة خشايارشا.
فما الذي نفعله بعمل معقد طويل وضعه بغير تأن رجل يعشق حكي الحكايات من مصادر مسموعة تتفاوت في موثوقيتها؟ هل يمكننا الاستيثاق من أن هيرودوت ذهب إلى كل الأماكن التي قال إنه ذهب إليها؟ غالبا ما يسعى النقاد المحدثون المعتدلون إلى النأي بأنفسهم عن هيرودوت، بل وفي بعض الأحيان يمضون بعيدا جدا فيحرمونه لقب مؤرخ. لقد جمع هيرودوت - الذي كان على دراية بالخرائط والأشخاص - بين الأرانب البرية وأكلة لحوم البشر والمومياوات والخنازير والأحلام والدعارة والنمل المنقب عن الذهب والملكات الداهيات والنحل، والنساء اللاتي تعرضن للاغتصاب الجماعي حتى الموت، والناس الذين لا يمكنهم حتى النظر إلى حبة باقلاء، وبين بعض التفاهات.
بل والأسوأ من ذلك أن الدين متغلغل في «تاريخ هيرودوت»؛ فعلى الرغم من أن هيرودوت يصور مسار الحرب باعتباره مدفوعا في المقام الأول بأطراف بشرية لديها دوافعها البشرية وشخصياتها البشرية، فإن مصنفه يعج بالوحي الإلهي والنبوءات والتعبيرات الصريحة عن الاعتقاد. ففي أي موضع نضع عملا «تاريخيا» يشتمل على حس ما بالوجود الإلهي في كل معركة كبرى؟
من حسن الحظ - كما تبين - أنه فيما ينسج هيرودوت حكايته أو حكاياته، فإنه يخلق مجالا لا للآلهة فحسب، بل لنا جميعا: لي ولك، نحن جمهوره. وإقحام نفسه في النص باستمرار يبقي على الدوام أمام أعيننا حقيقة أنه شخص عادي يصارع مادة عنيدة، وإن كنا نحن أيضا مدعوين لمصارعتها بالقدر نفسه. وإذ يقحم هيرودوت حوارات في هذا السجل، ويورد ملاحظة شاهد عيان (أو ينكرها)، ويدعي الحجية (أو ينفيها)، فإنه يبدي بوجه عام نحو خمسمائة ملاحظة تقييمية من نوع أو آخر (على غرار: أعرف، أعتقد، أظن، لا أعرف، لا يسعني القول، أخمن، يبدو على الأرجح أو غير محتمل، بلغني لكني لا أعتقد ...) ويضع ثراء هذا المتن الخلاب وغموضه تحديات أمام القارئ تجتذبه. وفيما نقرؤه، نجد أنفسنا منهمكين في حوار مستمر مع ما نقرأ، وكثيرا ما يطرح هيرودوت روايات مختلفة لعدد من الأحداث التاريخية، مؤيدا أحيانا إحداها على الأخرى، وتاركا أحيانا لنا حرية الاختيار.
إن رجلا حكيما كهيرودوت، اجتاحه الأسى على تفشي الحروب، كان سيفهم نقد بيرس وجيبون، على الرغم من أنه لم يكن يمتلك وسيلة يعرف بها أن خلفه سيتمسكون بتصوره لأفرودة الحرب باعتبارها القالب لكتابة التاريخ، لكن يرفضون تضمينه غير المأسوف عليه للنساء. وإجمالا، كان سيصبح أسعد بمقولة درويسن إن «التاريخ هو معرفة الإنسانية نفسها، أو وعي البشرية بذاتها.» إن هذا الصنف الثري والشامل من أصناف التاريخ هو ما يبدو في العمل الذي يسميه البعض «الحروب الفارسية»، ويسميه آخرون - على نحو أكثر ولاء للإغريق - «تاريخ هيرودوت»؛ ألا وهو «البحوث».
الفصل الأول
عالم هيرودوت
تركت المحصلة المذهلة التي تمخضت عنها الحروب الإغريقية الفارسية انطباعا عميقا لدى من كانوا أحياء في ذلك الزمان. ومن المتصور أن هيرودوت تذكر أبويه وقد بلغهما نبأ انتصار الإغريق على خشايارشا في سلاميس سنة 480. وكانت إحدى كبريات أميرات البحر في جيش خشايارشا، وهي أرتميسيا، ملكة على مدينة هاليكارناسوس - موطن هيرودوت - الواقعة على الساحل الأناضولي، حيث يوجد اليوم ميناء بودروم التركي الحديث، وقد قاتلت ببسالة في تلك المعركة. وربما يرتبط افتتان هيرودوت بالسيدات القويات ارتباطا وثيقا بخبرته إبان طفولته بهذه المرأة الجسورة التي قادت سفنا حربية قيادة فعلية، وربما كان مؤرخنا يبلغ من العمر خمس سنوات عندما حدثت المواجهة الأخيرة التي دارت رحاها في ربيع العام التالي في الأناضول نفسها. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، ظل انتصار الإغريق المذهل الذي حققه «أعظم جيل» موضوع نقاش مثيرا في العالم الهيليني، وكان شباب الجنود ما زالوا في المتناول لإجراء الحوار معهم عندما بلغ هيرودوت رشده، وكانوا على الأرجح يجدون ما يشبع غرورهم في سؤالهم عن تجاربهم في الحرب، وكانوا متلهفين للحديث، فغالبا ما يعيش الرجال والنساء من جيل ما بعد الحرب هذه الحرب بشكل غير مباشر من خلال أحاديث طاولة الطعام وغيرها من الأحاديث التي يرويها الآباء، والعمات والخالات، والأعمام والأخوال، والأجداد، ممن ينتمون إلى هذا العالم الأقدم من عالمهم. وكان هيرودوت نفسه - وبشكل شبه يقيني - صديقا للكاتب المسرحي سوفوكليس، الذي اختير وهو في سن المراهقة لأداء واجب وطني، وهو قيادة أناشيد الكورال احتفالا بانتصار الإغريق البحري في سلاميس. وفي عام 472، أنتج أسخيلوس مسرحيته «الفرس» التي تدور حول ذلك الانتصار، وكان الرجل الذي بذل المال لتدريب كورس المسرحية هو بركليس، الذي سيصبح أبرز رجل دولة أثيني في زمن هيرودوت. وفي عموم بلدان البحر المتوسط، ظلت الحرب حية على مدى أجيال كلحظة حاسمة في التاريخ. وفيما تقاتل التحالفان الأثيني والإسبرطي، في البداية في حرب غير معلنة استمرت من 460 إلى 446، ثم في الحرب البيلوبونيزية الكبرى بين عامي 431 و404، بقيت ذكريات الوحدة الإغريقية كتذكرة مؤلمة بأزمنة أحسن حالا.
شكل 1-1: هيلين كاري في دور أتوسا، وتد فان جرايثايسن في دور دارا، في نسخة حديثة من مسرحية «الفرس» لأسخيلوس، من إعداد إيلين ماكلافلن، وإخراج إيثان ماكسويني، وإنتاج فرقة شكسبير المسرحية سنة 2006.
1
لا نعرف إلا تفاصيل قليلة عن حياة هيرودوت بعد طفولته في هاليكارناسوس. لقد تعرض على الأرجح للإبعاد في واحدة من موجات الحرب الأهلية التي اتسمت بها المدن الإغريقية، وأمضى جزءا كبيرا من حياته مترحلا في منفاه، وزار أثينا، ومات على الجانب المقابل من العالم الهيليني في مستعمرة ثوريوم الإغريقية في جنوب إيطاليا بعد سنة 430 بحين من الدهر، على الرغم من قول بعضهم إن وفاته كانت على الحافة الشمالية في مدينة بلا المقدونية. وتذكر المصادر اللاحقة أن اسم أبيه ليكسيس، وأمه درايو أو رويو أو ربما شيء مختلف بالكلية، الأهم من ذلك اسم شخص آخر من أقاربه (ربما عمه أو ابن عمه) هو الشاعر بانياسيس، الذي أشاد به بعض القراء (بعد موته فقط للأسف) وقالوا إنه لا يفوقه مكانة إلا هوميروس. كتب بانياسيس عن بدايات المدن الإغريقية في أيونيا - الاسم الذي كان يعرف به ساحل الأناضول الغربي - فجعل بذلك هيرودوت منتميا إلى عائلة أدبية، على الرغم من أنه كان يكتب شعرا، ومن ثم فلم يشكل إلا سابقة جزئية للعمل البارز الذي اضطلع به هيرودوت.
كانت هاليكارناسوس التي عاش فيها هيرودوت تقع عند ملتقى طرق الشرق والغرب، ويقطنها خليط من السكان الإغريق والسكان الأصليين، وتضم مزيجا من هاتين الثقافتين، وكان السكان المحليون كاريين، وقال هوميروس إن بعضهم شاركوا في حرب طروادة حلفاء لطروادة، وتشمل معلوماتنا الضئيلة عن أقارب هيرودوت أسماء إغريقية وأسماء كارية على السواء. وقد عزا بعض القراء، مثل كابوشنسكي، اتساع أفق هيرودوت إلى عرقه المختلط هذا، مدعين أن «أصحاب العرق المختلط» الذين يقضون شبابهم بين ثقافات مختلفة «كمزيج من سلالات مختلفة، تتحدد رؤيتهم الكونية بفعل مفاهيم من قبيل الحدود والمسافة والاختلاف والتنوع.» وقد شكلت طريقة هيرودوت في النظر إلى الأشياء بلا شك، وأثريت بفعل الثقافة المختلطة التي تميزت بها مدينته الأصلية، وكذلك بفضل مخاطر العقلية الإمبريالية التي اكتسبها الأثينيون من بلاد فارس.
علاوة على ذلك، كانت مدن أيونيا الإغريقية مرتعا للفكر الجديد الذي اتسم بالجرأة في أغلب الأحوال. ففي ظل غياب مناهج علمية راسخة، كانت ما نعتبرها الآن فروعا فكرية منفصلة (العلوم الطبيعية، الفلسفة، علم النفس، اللاهوت) مندمجة أكثر بكثير منها اليوم. وكان طاليس قد تكهن بأصل المادة، وانتهى إلى أن كل شيء كان في الأصل على هيئة ماء، لكن من جهة أخرى كان أنكسيمانس يرى أن كل شيء نشأ من الهواء، الذي يمكنه التحول إلى نار أو ريح أو سحاب أو - عند تكثيفه - إلى مادة صلبة، في حين قال أنكسيمندرس بأن المخلوقات الأولى نشأت من الطين، وأن البشر تطوروا من أنواع حيوانية أخرى، وكان أول إغريقي يرسم خريطة للعالم المعروف. وقدر زينوفان - المعمر الذي ولد هيرودوت في حياته - أن البشر خلقوا الآلهة وليس العكس، حيث زعم - مستخفا - أنه لو استطاعت الأنعام والخيل والأسد أن ترسم، لصور كل منها صور آلهة شبيهة بجنسه. وقال هيراقليطس - الرجل الذي نربط بينه وبين ادعاء أن المرء لا يمكنه الخوض في النهر نفسه مرتين أبدا - بأن كل شيء في حالة تدفق. وكان هيرودوت وريثا لهذا التراث الأيوني بما اشتمل عليه من فضول وشكوكية.
وفي الوقت نفسه، شاع التكهن بالصلات بين الجغرافيا والمجتمع. كان عمل هيرودوت منتشرا، كلاما وكتابة، قبل أن يبلغ الطبيب أبقراط ذروة نجاحه كطبيب، لكن أبا أبقراط وجده كانا طبيبين، وكان البحث عن تفسيرات علمية للمرض تنبذ الأسباب الإلهية يجري على قدم وساق منذ زمن ليس بقصير، وكانت جزيرة كوس التي عمل فيها أبقراط تقع على الجانب الآخر من المضيق قبالة هاليكارناسوس. وقد ربطت ملاحظات شهود العيان والحوارات وتقييم الأدلة واستخدام القياس وتحليل البيانات التراكمي عمل هيرودوت بعالم الأطباء، فتعلم هو منهم بلا شك وتعلموا منه. كل هذا يقدم لنا تفسيرا عميقا لثراء عقل هيرودوت وعكوفه على البحث وجرأته في فضوله بشأن المناخ والطبوغرافيا، وانفتاحه على الأفكار الجديدة وتسامحه مع التنوع الثقافي، لكن وجود دافعية غير عادية هو وحده الذي يمكنه تفسير قراره الاضطلاع بعمل غير مسبوق بهذا الحجم. كان «تاريخ هيرودوت»، بتغطيته نطاقا واسعا من حيث الزمان والمكان، أطول من أن يلقى بكامله على المسامع في مهرجان ما، بل إن فريقا من القراء يعمل أعضاؤه بالتناوب كانوا سيحتاجون إلى خمسين ساعة على الأقل لتلاوته.
يصعب علينا اليوم أن نستوعب بدعة تأليف كتاب كامل على هيئة نثر؛ فنحن نتعلم التحدث والكتابة نثرا قبل أن نقرض الشعر، وبعضنا لا يصادف كلاما موزونا إلا عند الغناء أو الاستماع إلى الأغاني أو سماع أناشيد رياض الأطفال، وأما النثر فهو ببساطة موجود في كل مكان، مما يجعله غير ملحوظ، فهو لغة الصحف وأفلام الإثارة وكتيبات التعليمات والبريد الإلكتروني. كانت هذه التراتبية، من نواح عديدة، مقلوبة في اليونان القديمة، حيث كان الأدب يؤلف في البداية شعرا ولا يؤلف نثرا إلا فيما بعد. وفي الحقيقة، لم يكن لدى الإغريق على أيام هيرودوت كلمة للإشارة إلى النثر، ولم يدخل تعبير «الكلام المجرد» (ويقصد به الكلام غير الموزون) أو «اللغة التي تسير على القدمين» (ويقصد بها اللغة التي لا تستعين بمركبة الشعر المجنحة) نطاق الاستخدام كتصنيف للنثر إلا بعد قرن أو نحو ذلك من الزمان. وكتب النصان التأسيسيان للحضارة الإغريقية - وأعني الإلياذة والأوديسة - على هيئة شعر، والتجأ إليهما الإغريق جيلا بعد جيل طلبا لنماذج بطولية ملهمة، وأساليب تعبير راقية، ورؤية كونية كاملة، ورغبة في الاطلاع على حكاية سردية طويلة ثرية، بها كثير من المنعطفات؛ فكانتا زادا معتادا للإلقاء والتلاوة كمادة ترفيهية بعد العشاء في عصر خلا من المصابيح الكهربائية والتليفزيون والإنترنت.
كان الشعر أيضا هو الوسيلة التي شكا بها الشعراء الغنائيون - كالشاعرة سافو ابنة جزيرة ليسبوس - تباريح العشق، وبه كتب المشرع الأثيني سولون عن العدالة والسياسة، وبه كتب المغرب ثيوجنيس بمرارة عن الحرب الأهلية في دولته ميجارا. وكان الشعراء في أغلب الأحوال ضالعين ضلوعا محوريا في حياة مدنهم، حيث كانوا يعتبرون معلمين وفنانين في آن واحد، وكانوا يحظون بالاحترام بناء على ذلك. قارن ذلك بزمننا هذا الذي يصعب فيه على كثير من الناس ذكر اسم شاعر واحد على قيد الحياة، بل وفي بعض الحالات اسم شاعر راحل. وينبغي ألا نندهش عندما نعلم أن هناك العديد من السرود التاريخية ضيقة النطاق التي كتبت على هيئة شعر؛ فقد ألف الشاعر سيمونيدس الأمورجوسي «التاريخ المبكر للساموسيين» زهاء سنة 650، وتناول على الأرجح تأسيس ساموس، وربما كان طوله نحو 4000 بيت (قرابة ربع طول الإلياذة وثلث الأوديسة). وبعد ذلك بحين من الدهر، ألف زينوفان «تأسيس قولوفون واستعمار إيليا» الذي يبلغ زهاء 2000 بيت طولا. وبعد الحروب الفارسية بفترة وجيزة، نظم سيمونيدس الكيوسي قصائد طويلة بعض الشيء حول هذا الموضوع، ومجد بطولة من سقطوا في بلاتايا بأسلوب هوميري. الأمر الأشد وضوحا أن قريب هيرودوت، بانياسيس الهاليكارناسوسي، كتب فيما يبدو عن تأسيس المستعمرات الإغريقية في أيونيا في قصيدته «أيونيكا» المؤلفة من نحو 7000 بيت. فكان الشعر هو لب التعليم الإغريقي، وكان تعليم الصبيان (وأحيانا الفتيات) الإغريق جديرا بالملاحظة، من حيث ما يشمله وما يتركه على حد سواء؛ إذ كان التلاميذ يدرسون شيئا من الرياضيات، ولكن لا يتعلمون دراسات اجتماعية ولا علوما، وكانت الموسيكيه
mousike - بمعنى الشعر المنظوم على موسيقى القيثارة - جوهر التعليم الإغريقي، واشتق هذا الاسم من الربات اللاتي كن مصدر إلهامها، وأعني ربات الفنون، واشتقت منه بدورها كلمة
music
الإنجليزية؛ أي الموسيقى، ومن كلمة القيثارة اليونانية
lyre ، اشتقت كلمة
lyrics
الإنجليزية؛ بمعنى القصائد الغنائية. وعلى الرغم من أن هيرودوت أورد عددا غير محدود من الشعراء في «تاريخ هيرودوت»، فإن عمل هوميروس الجليل هو الذي أضفى في المقام الأول نكهته الخاصة، وأتاح التناغم والطباق مع سرده (وأعني بقولي «هوميروس» العقلية الهادية التي استنارت بها القصيدتان اللتان نعرفهما اليوم بالإلياذة والأوديسة، ولا يسعنا في هذا المقام التكهن بما إذا كان المؤلف شخصا واحدا، أم شخصين مختلفين، أم هيئة مكونة من عشرات الأشخاص)؛ ذلك أن هوميروس وفر القالب لقصة الحرب وحكاية الأسفار التي تعج بالعجائب على السواء.
لا ريب أن كتابة النثر لم تكن شيئا مجهولا في زمان هيرودوت؛ حيث استخدم أنكسيمندرس وأنكسيمانس على السواء النثر للتعبير عن أفكارهما، وأودع هيراقليطس عملا فلسفيا منثورا في معبد أرتميس المهيب في إفسوس، وهو أحد عجائب الدنيا السبع القديمة (أقصد المعبد لا الكتاب). وقرب نهاية القرن السادس الميلادي، بدأ الإغريق يدونون أساطير الماضي العظمى نثرا، ليصبحوا ما نسميه «جامعي الأساطير»، وكان الخيط الناظم لهذه الأساطير سجلات سلاسل النسب المفصلة التي تتناول الآلهة والأبطال، وبحلول بداية القرن الخامس، كان هناك عدد متداول من هذه السجلات، وأبرزها الذي وضعه هيكاتايوس، الذي توفي على الأرجح سنة ميلاد هيرودوت، حيث تتبع في كتابه «علم الأنساب» أنساب العائلات الإغريقية البارزة وصولا إلى أسلافها الإلهيين، واستخدم تحليلا عقلانيا لتخفيف لهجة الأساطير الشاذة التي صادفها (لكن دون نبذها نبذا مباشرا). كذلك استخدم هيكاتايوس أيضا النثر لتأليف كتابه المعنون «رحلة حول العالم»، واتسم صراحة بالتشكك الذي كان يكتسح أيونيا، والذي اشترك معه فيه يقينا هيرودوت. وتقول إحدى الشذرات التي وصلتنا: «هيكاتايوس الملطي يقول ما يلي: أنا أكتب ما أعتبره صحيحا؛ لأن قصص الإغريق كثيرة وتبدو لي مضحكة.» ويذكر هيرودوت هيكاتايوس في أكثر من مناسبة ويبدو أنه اعتمد عليه من حين إلى آخر.
نال النثر في زمان هيرودوت المكانة التي يستحقها، وبالأخص في ديمقراطية أثينا الآخذة في الازدهار، التي شهدت بالفعل وضع القوانين الأولى نثرا في أواخر القرن السابع، وسرعان ما أصبحت المهارة في الخطابة الجماهيرية (أمام الحشود وفي المحاكم) تضاهي كرم المحتد والثروة والبسالة في ساحات الوغى. وكان الفلاسفة/الخطباء المتجولون المعروفون باسم السوفسطائيين في المتناول، وكلهم حماس لتدريب الشباب على هذا الفن الذي ينال تقديرا متزايدا، وأعني فن الإقناع. ونظرا لنزوعهم إلى النظر إلى المسائل القديمة من زوايا جديدة (وطرح أسئلة حول أشياء لم يسأل عنها أحد قبلهم قط، على الأقل علانية)، اتهمهم اللائمون بكسب عيشهم بتعليم مراهقين مزهوين بأنفسهم عدم احترام الآلهة والوالدين، لكن الحقيقة أن ما فعلوه كان من نواح كثيرة لا يختلف عما يفعله المعلمون (الصالحون منهم) اليوم؛ وهو تعليم الشباب التشكيك في السلطة وطرح حجج قوية. ولم يقتصر هؤلاء على أثينا في الترويج لبضاعتهم. وعلى الرغم من أن المدن الإغريقية لم تكن كلها ديمقراطيات، فإن روح الحوار المفتوح والتفنيد التي وسمت القرن الخامس تواءمت جيدا مع الفورة العارمة في التدبر الفكري التي ميزت القرن السادس لتضع الأساس لنوعية الاستقصاء التحليلي الذي نراه في عمل هيرودوت.
في نهاية المطاف، كان «تاريخ هيرودوت» كتابا ديمقراطيا بعمق، بوجهات نظره الموضوعية المتعددة ودعوته المفتوحة للقراء، كي يتخذوا قراراتهم بأنفسهم ويقفوا دائما موقف المقوم. وليس ذلك فحسب، فمجرد وجود أشكال ديمقراطية (أو على الأقل غير ملكية) من الحكم، كان قد خلق عالما يستطيع فيه الإنسان العادي صنع التاريخ؛ أي يستطيع فيه الأشخاص أنفسهم الذين يقرءون عمل هيرودوت أو يسمعونه صنع هذا التاريخ. كان النظم لغة الآلهة، وأما النثر فكان لغة الناس، كان وسيطا لغويا يستطيعون به تحدي الناس الآخرين أو حتى الآلهة ذاتها. ومن الجائز تماما أن تكون وجهات النظر الموضوعية المتعددة هذه هي التي تفسر ازدياد شعبية هيرودوت في الأزمنة الأخيرة، فبعد أن كان يعتبر ذات يوم تافها عند مقارنته بثوسيديديس، بنهجه التربوي وجديته البالغة، صار «تاريخ هيرودوت» الآن يحظى بالتقدير لانفتاحه على وجهات النظر المتعارضة، ونسبيته الثقافية، واهتمامه بالتاريخ الاجتماعي، واعترافه بوجود نوعين جنسيين. (ويقينا، لن يكون رد فعل الجميع متطرفا كرد فعل أستاذة علم المصريات سليمة إكرام التي استغربت فكرة تقديم ثوسيديديس على هيرودوت، وصاحت قائلة: «حسنا، إذن فثوسيديديس مؤرخ أفضل، لكنه ممل جدا ومضجر بشدة؛ أيا إلهي، سأطلق النار على نفسي!»)
وفي حين أن وجود النظم هو الذي يسر إبداع الملحمتين الهوميريتين، وهما عملان يمكن استظهارهما وغناؤهما أمام جمهور متيم، فإن النثر المصحوب بقدر من العبقرية هو الذي أتاح إبداع التاريخ؛ وأعني فتح المجال أمام مركب كامل من العلاقات بين السائل والراوية، والمؤلف في صورته النهائية، والجمهور. وبالنسبة لمقارعة الحجة بالحجة التي نراها لدى السوفسطائيين، فقد أتاحت نقاشات مجلس أثينا والمحاكم تربة خصبة لتحليل قدر عظيم جدا من النظريات والحقائق في سياق أشمل الهموم البشرية. وحتى بعد أن استمعنا بأناة لكل التنبيهات بخصوص سقطات هيرودوت في الحكم على الأشياء، وأرقامه المبالغ فيها، واعتماده على رواة لا يعول عليهم، وحتى بعد أن أمطرنا مرارا وتكرارا بادعاءات بشأن طبيعة عمل ثوسيديديس الأكثر «علمية» من عمل هيرودوت، وحتى بعد أن استمعنا إلى مزاعم بأن هيرودوت لم يسافر فعلا على نطاق واسع كما ادعى، ولم ير كل الأشياء التي ادعى أنه رآها رأي العين، فالحقيقة الماثلة أمامنا هي أن هيرودوت - كما هو واضح وضوحا لا لبس فيه - اخترع كتابة التاريخ. فذات يوم لم تكن هذه الكتابة موجودة، ثم خرجت فجأة إلى الوجود.
حسنا، ربما لم يحدث هذا فجأة تماما؛ حيث استغرق تأليف «تاريخ هيرودوت» عقودا، بل جرى ذلك في غضون جيل تقريبا. وكان الكتاب الأوائل قد حللوا طريقة عمل الكون، ودونوا أسفارهم، واستكشفوا معنى الأساطير، ووضعوا سرودا للأحداث المحلية الجارية في مكان ما في العالم، لكنهم لم يضفوا من قبل محور تركيز على عملهم، ولم يصبغوه بالدافعية المليئة بالحماس، واحتوت كتاباتهم التي وصلنا قليل منها، بلا شك، كثيرا من القصص، لكنها ليست قصصا شكلت في مجموعها قصة كبيرة تفوق مجمل أجزائها حجما؛ فكونت صورة بلغت أوجا يؤثر على حياة كل مستمع وقارئ خطر ببال هيرودوت، وأثر في الحقيقة على حياتنا حتى قرننا هذا؛ لأنه من دون الهزيمة المعجزة التي مني بها الفرس على أيدي عصبة صغيرة من الدويلات الإغريقية خاضت الحرب لتجنب الاستعباد، ما كنا لنحصل على معبد البارثينون، ولا عقدة أوديب، ولا سقراط ولا أفلاطون ولا أرسطو. ومن دون انتصار الإغريق، من الصعب أن نتصور تاريخ الفلسفة الغربية، أو تاريخ الفكر السياسي الغربي المتأصل في مفارقة أن الأثينيين هم من ابتكروا الديمقراطية، وفي الوقت ذاته خرج من بين ظهرانيهم الرجال أنفسهم الذين رسخوا التقليد المناهض للديمقراطية في الفكر السياسي.
لا يمكن أن يكون هيرودوت قد تنبأ بمسار الفلسفة الغربية والنظرية السياسية كاملا، لكنه كان يعرف الفرق بين الشمولية والحرية، ورأى في هزيمة الأولى على يد الثانية موضوعا جليلا. وكان نصرا جليلا لكن ليس خالصا فيما يخص الإغريق؛ ذلك لأن الحروب الفارسية مثلما «صنعت» هيرودوت، «صنعت» أيضا أثينا، فحولتها إلى مركز ثقافي متألق سيصفه بركليس، أهم رجل دولة فيها، على صفحات عمل ثوسيديديس، بأنه «مدرسة اليونان»، لكنها حولتها أيضا إلى دولة إمبريالية متزايدة الجشع والتعطش إلى القوة، فاستفزت الإمبراطورية الفارسية على أسوأ نحو. ومثلما انتهت الإلياذة بعدم موت أخيل وإن كان مكتوبا عليه الموت يقينا، فإن غمامة الإمبريالية الأثينية تخيم على سرد هيرودوت المصوغ بعناية وتضفي عليه قدرا كبيرا من الإثارة، وذلك على نحو ما كان يرمي المؤلف بكل تأكيد.
لم يعش هيرودوت على الحدود بين دويلات المدن الناطقة باليونانية الواقعة شرقي المتوسط والإمبراطورية الفارسية في الأناضول وفي فجر النثر فحسب، بل عاش في منطقة فاصلة أخرى أيضا؛ عاش في زمن أخذت فيه العقلية القارئة في التنافس مع العقلية السماعية فيما بين طبقات المتعلمين. هذا لا يعني أن الإغريق الذين ارتادوا المدارس قبل القرن الخامس لم يستطيعوا القراءة، لكنهم ربما لم يستخدموا القراءة بدرجة كبيرة في حياتهم، وظل السماع بالنسبة لكثيرين خلال جل القرن الخامس الطريقة الاعتيادية لاستيعاب اللغة، سواء على خشبة المسرح، حيث كانت التراجيديات بلا استثناء منظومة شعرا، أم الخطب الملقاة أمام المجلس التشريعي، والتي كانت تلقى نثرا. لقد قيل بشيء من الإنصاف إن هيرودوت جاء في نهاية تقليد مديد قوامه السماع، وجاء معاصره الأصغر منه سنا ثوسيديديس في بداية تقليد قوامه القراءة؛ ذلك هو ثوسيديديس الذي انتقد عمل هيرودوت قائلا إن عمله (أي ثوسيديديس) لم يؤلف من أجل التصفيق بعد تلاوته استعراضيا، بل ألف كعمل يقتنى لكل الأزمنة. ويمكننا القول إن هيرودوت دون الكلام المنطوق فيما دون ثوسيديديس الفكر، وإن هذا الاختلاف لهو الذي يفسر التباين بين سرد هيرودوت المخفف الماتع والموضوع بالأسلوب الذي سماه أرسطو «الأسلوب المسترسل» - حيث تنساب الجملة إلى الأخرى انسيابا طبيعيا - ونثر ثوسيديديس المحكم الذي كان بناؤه المحكم - وأحيانا غير المباشر - مثار يأس كثير من دارسي اليونانية على مر العصور.
يثير مصنف مؤرخنا، مسموعا كان أم مقروءا، سؤالا حتميا: كيف يمكننا الوثوق فيما يقوله أو يكتبه هذا الشخص؟ فلم يكن هناك في الشعر تساؤل حول حجية المبدع. فكان الشاعر يقدم رواية واحدة فقط للأحداث، وعلى الرغم من إقحامه أحاديث في عمله، فقد كان يتحدث في واقع الأمر بصوت واحد، وكان ذلك الصوت في أغلب الأحوال صوت ربة الشعر. فقد استهلت الإلياذة والأوديسة كلتاهما بمناشدة لربة الشعر؛ إذ يقول الشاعر في مطلع الإلياذة: «غن لي يا ربة الشعر عن غضبة أخيل بن بيليوس ...» بينما استهل الشاعر الأوديسة بقوله: «غن لي يا ربة الشعر عن الرجل واسع الحيلة ...» وفيما بعد، ربما يكون ذلك الصوت صوت الشاعر نفسه، حيث تعلن سافو مثلا أنه لا يوجد مشهد يساوي في جماله مشهد الحبيب. ولا يسع أحدا أن يشكك فيهم، ولن يقول مرتاب: «هل يمكنك إثبات ذلك؟ وما أدلتك؟» لكن المؤرخين الذين يمكنهم تقديم الأصوات الجدالية في مصادرهم الكثيرة وهي تجادلهم لصياغة صورة متماسكة عن الماضي، يجب أن يبرروا ادعاءاتهم بأنهم يعرفون ويفهمون. إذن فالتاريخ ينطوي على تحد وفرصة على حد سواء، ويجب على المؤرخ جمع مصادره قبل أن يتسنى له دمجها، ولجمعها ربما يقرأ الكتب (التي لم يكن متاحا منها إلا القليل في زمن هيرودوت) ويمحص السجلات الرسمية (التي لم يكن يوجد منها الكثير أيضا)، وإجراء الحوارات مع الرواة، وتدقيق النظر في الأدلة المادية، وفي حالات كثيرة السفر. وما إن يجمع البيانات، يجب عليه بذل جهد في تشكيلها على نحو يشجع القارئ (أو المستمع) على الانخراط في النص، على أن يكون هذا دون تشكيك في حجية المؤرخ، ودون نبذ ادعاءات المعرفة التي يدعيها الفنان غير المؤيد بإحدى ربات الفنون. ومرة بعد مرة، وإدراكا منه أنه لا يمكن تصديقه تصديقا مطلقا كشاعر، سيكون على هيرودوت أن يقنعنا - بالحجة، أو بالقياس، أو بالاستشهاد بأقوال شهود العيان، أو كلمات الرواة السماعيين - بأنه يعرف ما يتحدث عنه وهو يكتب هذا الجنس الأدبي المتغير الذي نسميه تاريخا.
وإننا لنود كل الود أن نعرف كيف كتب هيرودوت هذا العمل المتشعب؛ فهل دون ملاحظات أثناء سفره؟ هل أملى على عبد كان يرافقه في أسفاره؟ فقد كانت الكتابة باللغة اليونانية مسألة صعبة، بل وأصعب منها المراجعة، وكانت الكتب في واقع الأمر لفائف طويلة من البردي، وهو مادة غالية وغير عملية كانت تثني عن تأليف (أو شراء) أعمال طويلة ، وربما وضع «تاريخ هيرودوت» في ثلاثين لفافة من هذه اللفائف. أما المراجعة، فكانت تمثل عقبات لوجستية كبيرة، لكن هيرودوت في حالات كثيرة كان يعلق فيما يبدو على ردود الأفعال تجاه عمله، منوها مثلا إلى أن بعض الإغريق لم يقتنعوا بادعائه عقد دارا، قبل اعتلائه العرش، مناقشة بينه وبين اثنين آخرين من الفرس عن الفضائل النسبية للملكية والأوليجارشية والديمقراطية، لكنه يؤكد أن هذا الحديث دار حقيقة. وتوحي مثل هذه التعليقات الجانبية بأنه قرأ تجريبيا فقرات مختارة في مناسبات مختلفة، وكان على وعي باستقبال الناس المقولات المثيرة للجدل. ولم تكن فكرة وجود تاريخ معين «للنشر» مفهوما ذا معنى في عالم قلما كان المرء فيه يطيق شراء كتاب. وقد نشر بالفعل هذا العمل في نهاية المطاف، وكان ذلك على الأرجح قبل وفاة هيرودوت بزمن ليس بالطويل، لكن أجزاء منه على الأقل شهدت يقينا حياة حافلة بالإلقاء الشفهي قبل ذلك ببعض الوقت.
شكل 1-2: ينمو البردي في دلتا أوكافانغو في بوتسوانا كما ينمو في دلتا النيل.
2
إن العقبات الهائلة التي واجهها هيرودوت تجعل مشروعه أشد دهشة، فلم يكن ممن تفتر هممهم بسهولة، حيث توجز جملته الأولى برنامج عمل هائلا:
هذه بحوث هيرودوت الهاليكارناسوسي، كتبها لئلا تنسى مآثر البشر على مر الوقت، ولئلا تنسى المنجزات الرائعة والمذهلة التي اجترح بعضها الإغريق واجترح بعضها الآخر الأعاجم، وأخيرا لبيان أسباب النزاع بينهما.
بعبارة أخرى نقول إن دافع هيرودوت كان مزدوجا؛ تخليد ذكرى المآثر العظيمة، وبيان أسباب الحروب الفارسية. ونظرا لرغبة هيرودوت ألا يخمد ذكر الأشياء العظيمة، يردد ما كتبه هوميروس عن الأرستقراطيين في طروادة الذين حاربوا من أجل تخليد ذكراهم، وعندما يقود أوديسيوس هيئة من المبعوثين إلى خيمة أخيل في الإلياذة، يجد أخيل ممسكا بقيثارة ويترنم بأمجاد الرجال. لكن رؤية هيرودوت كانت أوسع؛ ذلك أنه سعى إلى تخليد ذكر الأبنية الفخمة والقبور الجليلة والعجائب الطبيعية بالإضافة إلى الأفعال، وكثير مما سعى إلى تخليد ذكره لم يكن من عمل الرجال، بل في الحقيقة من عمل النساء. وعلى الرغم من أن من خلفوه مباشرة لم يبدوا اهتماما بالنساء، فإن جهوده من زوايا أخرى كللت بالنجاح؛ ذلك أنه على الرغم من إشاراته العديدة التي تدل على أنه يفترض أن جمهوره إغريق (مثل «لن أصف البعير؛ لأن الإغريق يعرفون بالفعل هيئة البعير»)، فإن سعة اهتماماته وتعاطفه، وحساسيته تجاه كروب الحالة الإنسانية، أعطت عمله سعة نطاق، وزادت جاذبيته لدى القراء في عوالم ما كان ليحلم بها أبدا حتى هو نفسه، بانفتاحه على ما هو أجنبي. وليست وحدها أسطورة ثيرموبيلاي الخالدة - التي توظف في سياقات تتراوح بين تحرير اليونان من الهيمنة التركية إلى مقبرة فرنسية في فيتنام - التي ندين بها ل «تاريخ هيرودوت»؛ حيث سحرت حكايات مثل الأمازونيات، ومغامرات قمبيز في مصر ألباب الأثريين والمستكشفين، والروائيين والأنثروبولوجيين، على مر العصور.
لفت كتاب هيرودوت، الذي ترجم مرارا وتكرارا منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، انتباه الجغرافي الإنجليزي جيمس رينيل، الذي وضع - بالإضافة إلى عمله «نظام هيرودوت الجغرافي» (1800) - أول خريطة صحيحة على وجه التقريب للهند، بالإضافة إلى دراسات في جغرافية شمال أفريقيا، كذلك صاحب الكتاب المستكشف لاسلو أولماشي في الصحراء من العشرينيات حتى وفاته سنة 1951 (وشخصية أولماشي القصصية هي الشخصية المحورية في رواية «المريض الإنجليزي» للكاتب مايكل أونداتجي)، وأرشد هيرودوت المراسل الخارجي البولندي ريزارد كابوشنسكي الذي قاده عمله إلى السفر عبر الهند والسودان والكونغو وكمبوديا وأفغانستان ورانجون والصين، وألهم الصحفي البريطاني جستن ماروتسي كي يحزم حقيبة ويقتفي مسار هيرودوت، مستغلا هذه المناسبة ليقدم لنا تأملا حول عدم جدوى الحرب (ولينقل - مثلما فعل هيرودوت - ما سمعه من محاوريه، كتهديد سليمة إكرام الطريف بإطلاق النار على نفسها، في سياق إشارتها إلى ما تراه من ملل في مؤلف ثوسيديديس). وفي أكثر من موضع في هذا الكتاب، تعلق وجهات نظر هؤلاء «السائرين على خطى» هيرودوت على ما كان هيرودوت يفعله وما لم يكن يفعله في كتابه «تاريخ هيرودوت»، والحقيقة أنهم منخرطون في حوار لا مع هيرودوت فحسب، بل مع بعضهم بعضا. فكابوشنسكي يعتمد بشدة على أونداتجي، وفي كتاب ماروتسي نجد أن صديقته أنتيجوني تعنف كابوشنسكي لتصديه لهذا المؤرخ. فهي تقول إن رسالة هيرودوت هي:
معرفة حدود الحالة الإنسانية. فلا علاقة لها ب «لا تستغل الآخرين، وكن لطيفا معهم»، فهذا هراء ذو طابع إنساني مسيحي من كابوشنسكي؛ وسخيف جدا. يقول هيرودوت: كلا، لا تظن أنك ستكون سعيدا إلى الأبد، ولا تضع نفسك فوق الآلهة.
لكن هؤلاء السائرين على الخطى لن يجيبوا عن جميع الأسئلة التي أثيرت حول عمل هيرودوت، ومنها على سبيل المثال: ما مدى دقة تقارير هيرودوت المدهشة عن الكون المترامي الأطراف الذي تناوله في كتابه؟ وهذا سؤال سنعود إليه لاحقا.
هوامش
الفصل الثاني
الأصول والمؤرخ
ثمة حكاية شهيرة تتحدث عن محاضر بارز وامرأة صعبة المراس كانت بين جمهوره، حيث تحدته هذه العجوز - بعد أن نبذت تفسيره للنظام القائل بمركزية الشمس معتبرة إياه هراء - مؤكدة أن الأرض ما هي إلا لوحة مستوية مرتكزة على ظهر سلحفاة. وحتما، وعلى نحو لا يخلو من الاعتداد بالنفس، سأل المحاضر متحديته علام تقف هذه السلحفاة في اعتقادها، فأجابت محاورته بأسلوب مشاكس: «إنك لذكي أيها الشاب، ذكي جدا، لكنها سلاحف فوق سلاحف وصولا إلى البداية». يقول بعضهم إن المحاضر هو برتراند راسل، ويقول آخرون إنه ويليام جيمس، ويقول فريق ثالث إن شيئا من هذا القبيل لم يحدث البتة. ويقال إن مفكرا هندوسيا أعطى صورة بديلة يستند فيها العالم على فيل، ويستند هذا الفيل على سلحفاة، وعندما سئل عما تستند إليه هذه السلحفاة، اقترح ... تغيير الموضوع. كان هذا الموضوع ليفتن هيرودوت وهو المولع بجمع مختلف الروايات التي تصور أمرا ما.
لا تشهد شهرة هذه الحكايات (الملفقة؟) وتنوعها على صعوبة الوصول إلى الأصول فحسب، بل أيضا على الدافع الإنساني الملح للتوصل إلى بدايات الأشياء، وهو ملح بالنسبة لكل الأشخاص المتأملين، لكنه مثار اهتمام خاص بالنسبة للمؤرخين؛ ذلك أنه من دون فهم الأصول، لا يمكن أن يكون هناك فهم للسببية، ومن دون السببية ... حسنا، من دون الدافع إلى فهم السببية، سيظل هيرودوت جغرافيا مثل هيكاتايوس، الذي كتب عن العادات التي صادفها في أسفاره الواسعة، أو شاعرا مثل سيمونيدس، الذي مجد أبطال الحرب الفارسية بأسلوب هوميري، أو بندار الذي تضمنت قصائده الغنائية الاحتفالية حكايات أسطورية، أو قاصا مثل عيسوب، الذي سحر الألباب بحكاياته الهادفة المتضمنة الحيوانات. ودون سببية، يصبح مفهوم التاريخ عديم المعنى. لكن على الرغم من كل اهتمامه بالسببية، أدرك هيرودوت أيضا مدى سهولة أن يضل المرء طريقه وينتهي به الحال مع نموذج بسيط إلى حد السخف. والحقيقة أنه يبدأ برواية أساطير مسلية عن الأصول البعيدة للحرب الكونية بين الشرق والغرب، لينحيها جانبا في النهاية وينتقل بشكل هادف إلى مجال التاريخ الأكثر جدارة بالثقة بكثير.
وهو يقول إن الفرس المثقفين ينحون باللائمة في العداوة بين الإغريق والفرس على التجار الفينيقيين، الذين أقدموا - أثناء بيعهم بضائعهم في آرجوس في البر الرئيس اليوناني - على اختطاف أيو ابنة الملك، مما دفع بعض الإغريق إلى اختطاف يوروبا من مدينة صور في فينيقيا، وميديا من كولخيس المطلة على البحر الأسود (وهناك رواية أخرى تقول إن أيو فرت بملء إرادتها بعد أن حبلت من قبطان السفينة الفينيقية). واختطف الأمير الطروادي باريس بدوره هيلين من إسبرطة، وبالتالي تسبب في غزو الإغريق طروادة. ويقول هيرودوت إن الاستيلاء على طروادة هو - من وجهة نظر الفرس - الذي أثار عداوتهم للإغريق؛ لأن «الفرس يعتبرون آسيا والشعوب البرابرة التي تسكنها منطقة نفوذ لهم، على اعتبار أن أوروبا واليونان منفصلتان.» ويواصل هيرودوت قائلا: حسنا، بعد أن تسلينا بهذه الحكايات الشهوانية، لا سبيل لدي إلى معرفة ما إذا كان أي من هذا صحيحا:
بدلا من ذلك، أفضل أن أتمسك بما أعرفه، وأن أبين بالضبط من سبق إلى إيذاء الإغريق، ثم سأمضي في قصتي، مقدما أوصافا مفصلة لمدن صغيرة ومدن كبيرة على السواء. ولا ننس أن كثيرا من المدن التي كانت عظيمة فيما مضى صارت صغيرة، وكثيرا مما كانت عظيمة في زماني كانت صغيرة في أزمنة سابقة؛ ومن ثم فسأناقش كليهما على السواء، مدركا أن الازدهار البشري لا يدوم طويلا في المكان ذاته أبدا. (تعليقا على هذا السطر، ينوه أولماشي - شخصية الروائي أونداتجي الخيالية - إلى أنه وزملاءه الجغرافيين، كانوا - وهم يجتازون الصحراء حاملين نسخة من «تاريخ هيرودوت» - يعرفون أن «السلطان العظيم والمال الوفير إلى زوال. لقد عشنا جميعا مع هيرودوت».) فتبرز من هذا النص القصير حدود المعرفة الإنسانية، والانشغال بالأوائل، وتمييز نفسه كمؤلف كتاب، وتقلب المصائر؛ وكل هذه العناصر أساسية في «تاريخ هيرودوت».
إذن فمن ذا الذي ألحق الأذى أول مرة بالإغريق؟ وماذا كانت الدرجة الأولى في سلم السببية الذي أدى إلى الحروب الفارسية؟ يقول هيرودوت إن كرويسوس، حاكم ليديا، كان أول أجنبي على ما بلغنا اتصل بالإغريق، حيث كان يجبي الجزية من بعضهم ويعقد تحالفات مع آخرين. وسرعان ما ستتبين أهمية هذا الأمر؛ لأنه عندما يغلب قوروش وأتباعه الميديون كرويسوس والليديين، ستجد المدن الإغريقية الدافعة للجزية نفسها ترزح تحت نير سيد أشد قسوة.
تتكرر عبارة «الأول على ما بلغنا» تكرارا ملحوظا في «تاريخ هيرودوت»، مما يشير إلى انبهار هيرودوت بالأوائل، وكذلك إدراكه لمحدودية نطاق المعرفة البشرية. فيروي هيرودوت أن بوليقراط الساموسي:
كان أول إغريقي على ما بلغنا خطط مناطق السيادة البحرية، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار مينوس الكنوسوسي أو أي شخص آخر ربما حكم البحر في أي تاريخ سابق. أما في التاريخ البشري العادي، فقد كان بوليقراط هو الأول.
كان جيجس على ما بلغنا أول أجنبي، بعد ميداس ملك فريجيا، يقدم قرابين في دلفي. وكان الليديون على ما بلغنا أول من ضرب العملة الذهبية والفضية واستخدمها. وكان أريون على ما بلغنا أول من ألف الشعر المعروف باسم الأناشيد الحماسية وأطلق عليه هذا الاسم. ويمتلئ القسم الذي يتناول مصر - ويشكل الكتاب الثاني - بالأوائل؛ لأن قدم مصر ذاته هو الذي أسر خيال هيرودوت إلى حد كبير. يقول هيرودوت إن المصريين أول من استخدم أسماء الآلهة الاثني عشر الذين اتخذهم الإغريق فيما بعد، وأول من تنبأ بطالع المرء من يوم ميلاده، وأول من استحدث لقاءات ومسيرات احتفالية وعلم الإغريق إياها. بل إن الفرعون بسماتيك أجرى تجربة هيرودوتية لتقرير ما إذا كان المصريون هم فعلا - كما كانوا يظنون من قبل - أقدم سلالة بشرية في العالم، فعزل وليدين لا يرافقهما أحد غير راع وقطعانه، وانتظر الراعي كي يخبره بالكلمة الأولى التي نطق بها الطفلان، وعندما بدآ يهتفان «بيكوس» وهما يركضان نحوه مادين أيديهما، أبلغ الراعي بسماتيك بهذا، وبالاستقصاء علم الفرعون أن هذه الكلمة كلمة فريجية تعني خبزا. وبذلك فإن المصريين - في غفلتهم عن احتمال كون الطفلين يحاكيان ثغاء رفاقهما الحملان فحسب - سلموا بأن الفريجيين هم أقدم سلالة بشرية في العالم، وأنهم هم ثاني أقدم عرق (ولم يصلهم قطعا نبأ التجربة التي أجراها فيما بعد الملك جيمس الخامس، ملك اسكتلندا، وأثبتت أن الأطفال الصغار إذا تركوا وشأنهم سيتحدثون العبرية).
كفانا من أوائل المصريين والفريجيين. فكيف صار كرويسوس، وهو «على ما بلغنا أول» من اتصل بالإغريق، ملكا على ليديا؟
يبدو أن كرويسوس دان بالفضل في بلوغه منصبه لجده الأكبر جيجس، وهذا هو الموضع الذي سيبدأ فيه هيرودوت في الحقيقة قصته؛ لأن قصة جيجس أثرى من أن تهمل؛ إذ تتيح لهيرودوت فرصة للاعتماد على كامل قدراته على المسرحة، وتوضح العديد من أفكاره المحورية، وتقوده إلى قصة كرويسوس، التي بدورها تصب في سيرة قوروش وتأسيس الإمبراطورية الفارسية، التي من دونها ما كانت لتوجد حروب فارسية. ونحن نرى هنا سمة دائمة لأسلوب هيرودوت، الذي يورد فيه عبارة إيضاحية ثم يعدلها فورا برأي مغاير يعيد تشكيل سرده، حيث نراه يقول: سأستهل بكرويسوس ... لكن كلا، أظن أنه ينبغي أن نستهل بجيجس.
إننا نعلم أن كاندوليس ملك ليديا كان مقدرا له أن ينتهي نهاية سيئة؛ ونظرا لهذا المصير، ولأنه يكن لزوجته (من دون كل الناس!) عاطفة جامحة تثير العجب، دأب على الإكثار من الحديث عن جمالهما مع حارسه الأثير (عند هذه المرحلة نجد هيرودوت يستخدم أسلوبا دراميا بكل معنى الكلمة)، ولما يوقن كاندوليس أن حارسه - وهو تحديدا جيجس، جد كرويسوس الأكبر - غير مقتنع قناعة كافية بجمال الملكة، يقترح عليه رؤيتها عارية، مبررا ذلك بقوله إن الناس دأبوا على الثقة في أعينهم أكثر من ثقتهم في آذانهم (هذا أيضا تعليق على مناهج هيرودوت في البحث التاريخي التي يعطي فيها شهادات الشهود الأولوية)، فيصيح جيجس مرعوبا: سيدي! هذا غريب! أنا أصدق تماما كل شيء تقوله عن جمال زوجتك، وأتوسل إليك ألا تجعلني أفعل هذا الشيء المخالف تماما للعرف.
لا يقتنع كاندوليس، ويجبر جيجس على مشاهدة الملكة وهي تخلع ثيابها استعدادا للنوم، فتمسك به وتخيره - وقد لوثت سمعتها بفعلته هذه - بين مواجهة الإعدام أو اغتيال كاندوليس وحكم المملكة بجانبها. وكما يقول هيرودوت في جملة قصيرة قاطعة: «اختار أن يحيا.» وبعد مقتل الملك، أقرت كاهنة دلفي جيجس في منصبه، وإن كانت الكاهنة نبهت إلى أن الثأر من أفعاله سيأتي في الجيل الخامس. وكما هو الحال غالبا في «تاريخ هيرودوت»، لم تعر هذه النبوءة اهتماما حتى تحققت، وقد تحققت، ولم يكن الرجل الذي دفع ثمن أفعال جيجس سوى كرويسوس. وبذلك فإن الدافع إلى رؤية كرويسوس كبشير لخشايارشا، وإلى رؤية قصة حياته كأنها تعرض برنامج «تاريخ هيرودوت» ككل دافع لا يقاوم، لكن من المهم أن ندرك أن كرويسوس هيرودوت هو في الحقيقة شخصية هامشية؛ إذ كانت ليديا في أقصى الغرب من بين الأوتوقراطيات الشرقية التي يناقشها هيرودوت، وقد اهتم كرويسوس اهتماما شديدا بالعالم الإغريقي، ملتمسا حلفاء بين الإغريق، وكان كجده الأعلى جيجس يقدم القرابين - شديدة السخاء في حقيقة الأمر - في دلفي.
على الرغم من أن التأريخ للقائهما مشكوك فيه، فمن الواضح أن المجال كان متاحا للقاء بين كرويسوس وسولون، الذي عرف بأسفاره الكثيرة في القرن السادس بعد إصلاح نظام أثينا القانوني والاقتصادي. وبعد أن حرص الملك الليدي على قيام سولون بجولة في خزانته، يسأله عمن يعتبره أعظم الرجال حظا، أخطأ كرويسوس بطرحه سؤالا لا يريد في حقيقة الأمر سماع إجابة عنه، بل كل ما يريده هو أن يقول له سولون إنه هو، كرويسوس ملك ليديا، الأوفر حظا وبفارق كبير. وبكل تأكيد، لم يكن مثل هذا الرد ليصبح مؤثرا من الناحية الفنية ، أو إغريقيا من الناحية الفلسفية، وبدلا منه، يذكر سولون اسم رجل أثيني من أصل عريق لكنه غير أرستقراطي، وأعني تيلوس، وهو مواطن يملك أموالا كافية «وفق معاييرنا» (تأويل: ثروة الملوك الشرقيين ليست ضرورية للسعادة) وله أولاد وأحفاد، ومات مقاتلا دفاعا عن المدينة ويجله الجميع. وكما هو متوقع، تخيب هذه الحكاية - بما فيها من عظة - كرويسوس، فيسأل بنبرة حادة عمن قد يكون ثاني أسعد شخص رآه سولون.
ما من فائدة. يذكر سولون اسم شابين من آرجوس ربطا نفسيهما موضع الثيران من عربة العائلة، وجرا أمهما نحو ستة أميال إلى معبد هيرا لحضور مهرجان الربة عندما تأخرت الثيران في عودتها من الحقول. واستجابة لصلوات أمهما، نال الشابان أعظم بركة يمكن أن ينالها بشري، حيث خرا نائمين في المعبد (ولا شك أنهما كانا منهكين) ولم يستيقظا قط.
إن إخفاق كرويسوس التام في استيعاب رسالة سولون يقود الأثيني إلى شرحها له، فيقول: أيا كرويسوس، البشر جميعهم مخلوقات الصدفة، ولا يمكنني أن أخبرك بما إذا كنت محظوظا أم لا ريثما أعرف أنك مت سعيدا؛ لأن «الإله يهب في أغلب الأحيان الإنسان لمحة من السعادة، لا لشيء إلا ليمحقه تماما في النهاية.» لذا ينبذ كرويسوس سولون بوصفه جاهلا، لكن سرعان ما تأخذ الربة نيميسيس ملك ليديا بغتة؛ إذ يثير بغروره غضب الآلهة، فيفقد ابنه الحبيب آطيس، الذي يقتله عرضا - من دون كل الناس - مستجير تكرم كرويسوس بقبوله في جواره؛ يقتله بينما يحاول اصطياد خنزيرا بريا (ربما يكون كرويسوس نسيا بعض الشيء، لكنه ليس سيئا بالكلية). ظل حزينا لمدة سنتين بعد ذلك إلى أن أخرجته من أحزانه هذه أنباء مزعجة واردة من الشرق؛ فقد بدا أن قوروش المتقد بالحيوية شرع في تحويل فارس إلى قوة يحسب لها حساب، فدفع هذا التطور كرويسوس إلى طلب النصح من كهنة اليونان وليبيا بغرض توجيه ضربة استباقية (فكرويسوس، مثله مثل هيرودوت، أشبه بباحث)، والبقية يحكيها لنا التاريخ. وبعد أن دفعه كلام كاهنة دلفي إلى اعتقاد أن إمبراطورية عظمى ستنهار لو خاض حربا ضد قوروش، ولا ريب أنه أخطأ في فهم النبوءة. ونظرا إلى خطأ شخصيات هيرودوت عادة في فهم النبوءات كل مرة، لا نكاد نتوقع شيئا آخر. فكانت القوة التي دمرها كرويسوس قوته، وضمت ليديا إلى الإمبراطورية الفارسية، وأفلت كرويسوس من الموت على يدي قوروش بأعجوبة.
لا يسير سرد هيرودوت دائما بأسلوب خطي؛ إذ لا نسمع عن أصول قوروش مثلا إلا بعد مرور بعض الوقت على اقتتاله هو وكرويسوس، وعندما نكتشف في النهاية كيف بلغ قوروش المكانة التي بلغها وأسس الإمبراطورية الفارسية، نعلم أن خططا قد وضعت قبل ميلاده لضمان ألا يتجاوز سنين عمره الأولى. كان أستياجس ملك ميديا قد رأى حلما يخص سبطه أثار خوفه؛ إذ رأى في المنام ابنته الشابة مانداني تتبول في عموم آسيا، فزوجها بدافع القلق من رجل فارسي متوسط الحال، وفيما بعد رأى في المنام كرمة تنبت من مهبلها وتغطي الإقليم ذاته، فقرر أن يتخلص من الطفل الذي كانت تحمله، لكن كما هو معهود في هذه الحكايات التي تتناول نجاة الزعيم المستقبلي بأعجوبة (موسى، رومولوس، إلى آخره)، كان الحظ حليف قوروش؛ إذ يدفع هارباجوس - تابع أستياجس الأمين - في الواقع بالوليد، بعد أن أمر بالتخلص منه، إلى راعي غنم كي يقتله، لكن راعي الغنم - طبعا لأن الطفل ولد كي يصير ملكا - يتخذ هو وزوجه سليل الملوك ولدا ويربيانه.
عندما يبلغ قوروش مبلغ الرجال وقد علم بهويته الحقيقية، يحشد الفرس للاصطفاف خلفه والإطاحة بأستياجس، حيث يستدعي رجالا من أقوى القبائل، ويأمرهم بتطهير بقعة معينة من الأرض الوعرة المليئة بالأشواك تقارب مساحتها ثمانية عشر أو عشرين فرسخا مربعا، وبعد إنجاز العمل، يذبح أعدادا هائلة من المعز والضأن والثيران استعدادا لمأدبة سخية، مضيفا إلى الخليط النبيذ الفاخر والخبز. وعندما يرى الفرس في اليوم التالي، يسألهم عما يفضلون: كدح يومهم السابق أم مباهج يومهم الحالي. وبعد سماع قوروش الإجابة المتوقعة، يعدهم بأنهم لو تمردوا على أستياجس، فسيتمكنون من التمتع بألف ملذة تتساوى في فخامتها مع المأدبة التي أمامهم، لكنهم إذا رفضوا فإن العمل البائس الذي كلفوا به اليوم السابق سيشكل نموذجا لكثير من المهام الرهيبة التي ستأتي. ثم يقول: «أنا الرجل الذي شاءت العناية الإلهية أن أضطلع بتحريركم. أعتقد أنكم صنو للميديين في كل شيء بما في ذلك الحرب. الحق أقول. لا تتمهلوا، بل ثوروا على أستياجس في هذه اللحظة.» وهكذا فإن قوروش، الذي لم ينس قط أصوله والأذى الذي كاد يكلفه حياته كطفل رضيع، يطيح بأستياجس ويحكم لسنوات طويلة، فاتحا ليديا وعددا كبيرا من الأقاليم الأخرى، ويخلفه على العرش ابنه مثار الجدل قمبيز الذي يخلفه في نهاية المطاف دارا. وبولاية دارا، تبدأ المواجهات المفتوحة بين الإغريق والفرس.
لكن من هؤلاء الإغريق؟ وما أصولهم؟ يكشف انخراط هيرودوت في الإجابة عن هذا السؤال - في الحقيقة استعداده الشديد للانخراط في الإجابة عنه - عن هيرودوت مختلف عن هيرودوت القاص الذي روى الحكايات الشائقة التي تتناول جيجس وكرويسوس وقوروش؛ ففي فقرة شهيرة في الكتاب الثامن، يؤكد الأثينيون للإسبرطيين أنهم لن يبرموا أبدا اتفاقا مع بلاد فارس؛ لأن في ذلك خيانة ل «إغريقيتنا»، فنحن «عرق واحد يتحدث بلغة واحدة ويشترك في الأضرحة والقرابين، ويجمعه منهج حياة متماثل.» وقبل أن يمضي على ذلك وقت طويل، يهددون بإبرام مثل هذا الاتفاق بالضبط، والواقع أن هيرودوت يقوض في مراحل مختلفة فكرة أن الإغريق كانت تجمعهم ثقافة فريدة وموحدة.
يبين هيرودوت أن اليونان كلها كانت مأهولة في الأساس بالشعب البربري المسمى بيلاسجيان، الذي تحدر منه أثينيو ذاك العصر مباشرة. وقد استقبل بسخرية الادعاء القائل بأن سكان المدن الأيونية الاثنتي عشرة بآسيا الصغرى هم بطريقة أو بأخرى من أصل أيوني أنقى وأشرف من الآخرين؛ لأن عددا ضخما من المستوطنين الأصليين جاءوا من مدن غير أيونية، بل ومن بعض المدن التي لم تكن حتى إغريقية! كذلك يشدد أيضا على النفوذ الفينيقي؛ إذ يقول إن البطلين الأثينيين المبجلين هارموديوس وأريستوجيتون كانا ينتميان إلى عشيرة ليست - كما زعما - من مدينة إريتريا الواقعة شمال أثينا، بل في الحقيقة من أصل فينيقي مثلما كانت الألفبائية من فينيقيا، حسب تأكيده. وهيرودوت لا يرحم الإغريق أبدا في تشديده على المصادر المتنوعة التي استعاروا منها، فمن الليديين استعاروا معظم ألعابهم، ومن الكاريين استعاروا ريش الخوذات وشعارات الدروع ومقابضها، ومن الليبيين استعاروا الملابس التي كان الأثينيون يصورون عادة وهم يرتدونها، وأكد أنهم تعلموا هويات الآلهة كلها من غير الإغريق؛ ولا سيما المصريين، فمقارنة بالمصريين، لم يتوصل الإغريق إلى معرفتهم بالآلهة «إلا أمس أو أول أمس إذا جاز التعبير.» وهو يقول إنه يستطيع تقديم قدر لا بأس به من الأدلة التي تؤيد فكرة أن الإغريق استعاروا اسم هرقل من مصر وليس العكس. ويعزو هيرودوت - وهو في العادة، لكن ليس دائما، من القائلين بالانتشار الثقافي - اختراع المذابح والمعابد والتماثيل والمواكب الدينية وعقيدة تناسخ الأرواح إلى المصريين، وفي معظم الأحيان يؤكد أن الإغريق استعاروا هذه العادات، بل وفي حالة تناسخ الأرواح، نجده في واقع الأمر يتهم المستعيرين الإغريق بالسرقة الصريحة (يقول علماء المصريات إنه مخطئ في هذه النقطة، لكن تفكيره يتباين تباينا صارخا مع تفكير هيكاتايوس الأكثر منه تعصبا لوطنيته، والذي كان مقتنعا بأن التأثير سار في الاتجاه المعاكس).
إذن فهيرودوت يظهر، في أسلوبه القصصي وفي أسلوبه الإثنوجرافي، اعتقادا قويا بأن المرء كي يفهم التاريخ يجب أن يفهم الأصول؛ فهو على دراية بأن الكبرياء الوطني يقود الناس إلى طرح روايات مجملة لأصولهم تقلل من قيمة المزيج العرقي والاستعارة الثقافية. وعلى امتداد صفحات «تاريخ هيرودوت»، يتعامل المؤلف مع أصول الأصول، منوها إلى أن التقاليد السائدة حيال التقاليد إنما هي محل شك، وأنه يجب علينا أن نأخذ المصدر بعين الاعتبار. وكان ينبغي أن يتذكر من ينتقدون هيرودوت بسبب بعض الحكايات غير المعقولة الواردة في كتابه دوره في تأسيس نقد المصدر.
الفصل الثالث
الحرب بين الإغريق والفرس
لا يعتمد هيرودوت على مهاراته ككاتب مسرحي في أي موضع آخر اعتمادا أعظم نجاحا منه في معالجته الحروب الفارسية الدموية ذاتها؛ فالحروب بين اليونان وفارس، التي تشكل محور «تاريخ هيرودوت»، لا تظهر على الساحة إلا بعد تجاوز منتصف الطريق في السرد، لكنها عندما تظهر، تتسارع كالسيل الجارف نحو ختامها، فتسرعها قناعات هيرودوت القوية بشأن الطبيعة الإنسانية بكل صنوفها: ذلك التعطش النهم إلى الانتقام، وميل الملوك الشرقيين إلى الرغبة في المزيد والمزيد من الأملاك، والعواقب المأسوية لعدم الالتفات إلى المستشارين الحكماء الذين يقولون الحقيقة لأصحاب السلطة، وأخطار الحكم المطلق، وتزلف المتزلفين إلى الحكام ممن لديهم أجنداتهم الخاصة، والبطولة المستبسلة من جانب جنود المشاة الإغريق الجادين، والطاقات التي أطلقتها الديمقراطية. فالتوتر مستمر بين الدراية بالمحصلة وعدم ترجيح حدوث تلك المحصلة. بالتأكيد، سيكون النصر حليف الإغريق، ويعلم الجمهور أن الإغريق انتصروا، وقد حذرت الطوالع والبشر على السواء خشايارشا المتغطرس من المتاعب التي تنتظره.
من ناحية أخرى، كيف أمكن في الحقيقة وقوع ما حدث؟ كيف أمكن لعصبة من نيف وثلاثين دويلة صغيرة دأبت التشاحن المستمر فيما بينها، ناهيك عن التنازع الداخلي الدائم، أن تهزم أكبر إمبراطورية شهدها العالم على الإطلاق؟ إن تفسير هيرودوت لنصر الإغريق باعتباره لا يصدق وحتميا في آن واحد - هزيمة جالوت الفارسي على يدي داود الإغريقي - يشكل سرده ويعمق الشعور بالإثارة لدى جمهوره. وتدوي فكرة النصر التي تتمحور حولها هذه السيمفونية عاليا، ماضية بسلاسة وقوة بينما تتصاعد وتمور نحو خاتمة تحبس الأنفاس. إننا نتعامل مع عمل فني هنا، لا حوليات جافة؛ وبالتالي فإن هناك عناصر من إعادة التشكيل الدرامي والمبالغة، فأنا أو أنت ربما نقدم وصفا مفصلا للحروب بطريقة مختلفة، لكن دعنا نستمع إلى القصة كما يرويها هيرودوت، مرجئين عدم التصديق طويلا بدرجة كافية لاستيعابها، على الرغم من تشككنا في أن كل شيء ربما لم يحدث بالضبط كما يقول.
شكل 3-1: يظهر خشايارشا هنا في شبابه عندما كان ولي عهد فارس، واقفا خلف أبيه دارا بين المنحوتات البارزة التي تزخر بها الخزانة في العاصمة الفارسية برسبوليس.
1
يتمرد الإغريق الأيونيون على الإمبراطورية الفارسية بدافع الشعور بالقهر نتيجة زيادة الضرائب، وبتشجيع من زعماء حريصين على مصلحتهم الشخصية؛ فيظهر أرستاجوراس الملطي في إسبرطة ملتمسا العون من الملك كليومينس (احتفظت إسبرطة، خلافا للدويلات الإغريقية الأخرى ، بنظام الملكية، لكن كان يتولى الحكم فيها ملكان من أسرتين حاكمتين)، فتحبطه ابنة كليومينس الجريئة جورجو ذات الثماني أو التسع سنوات، التي تحذر أباها من محاولات أرستاجوراس رشوته، صائحة: «أبتاه، الأحرى بك أن تنهض وتغادر وإلا سيرشوك ضيفك.» كان الأثينيون أكثر تجاوبا، حيث وافقوا على توفير 20 سفينة لحركة التمرد، مما دفع هيرودوت إلى التنويه إلى أن خداع حشد أسهل فيما يبدو من خداع فرد. ويخفق التمرد، وفي غضونه تشتعل النيران في عاصمة كرويسوس القديمة سارديس، ولدى سماع دارا بضلوع الأثينيين، يسأل عمن يكون هؤلاء الناس، ولدى سماعه الإجابة:
يقال إنه طلب قوسه، فأمسكه وشد في وتره سهما، وأطلقه عاليا نحو السماء، وبينما كان يطلقه في الجو قال: «أيها الرب زيوس، هب لي ما أعاقب به الأثينيين.» ثم أمر أحد أفراد حاشيته أن يكرر على مسامعه عبارة «أي سيدي، تذكر الأثينيين» ثلاث مرات كلما جلس لتناول طعامه.
شكل 3-2: بغض النظر عن الصحة التاريخية لحكاية هيرودوت عن دارا والسهم، كان الفارسيون معروفين يقينا بأنهم رماة لا يشق لهم غبار. أما الملك الرامي الذي نراه يحمل قوسا وسهما على هذه العملة الفارسية - التي تعود إلى القرن الخامس والمعروفة باسم الدارية نسبة إلى دارا - فربما يكون خشايارشا. من ناحية أخرى، كان الأثينيون ينقشون على عملاتهم صورة البومة التي ترمز إلى ربتهم الحامية الحكيمة. هذه العملة الفضية كانت شائعة (وهي من فئة أربع دراخمات).
2
وقد تذكر دارا الأثينيين، فكانت النتيجة هي المعركة التي دارت رحاها في سهل ماراثون. كان الأثينيون - وهذا مفهوم - وجلين من الاشتباك مع جيش الملك الكبير، لكن أحد جنرالاتهم؛ وهو ملتيادس، ألقى خطابا ألهب به حماسهم وأقنعهم بخوض المعركة. كان الجنرالات منقسمين بشأن ما إذا كانوا يحاربون أم ينسحبون، لكن اقتراعا ديمقراطيا بينهم حسم المسألة، فأسفر القتال عن تحقيق قوة المشاة الثقيلة الأثينية نصرا مذهلا. ولا يخبرنا هيرودوت من هو جندي قوة المشاة الثقيلة؛ لأنه افترض أن جمهوره من الإغريق سيكون على دراية تامة بالدرع المستديرة والرمح والخنجر والخوذة التي كانت تمثل العتاد النظامي، مصحوبة في بعض الحالات بدروع لحماية الساقين. وكان أي إغريقي سيتلقى خبر انقضاض الأثينيين على الفرس ركضا، كما يدعي هيرودوت، كعمل بطولي بمعنى الكلمة؛ لأن المسافة بين الجيشين كانت نحو ميل، وقد يزن عتاد جندي قوات المشاة الثقيلة 35 رطلا أو أكثر. كان الصراع طويلا جدا، وأحدث قلب الجيش الفارسي ثغرة في الصف الإغريقي، لكن الأثينيين على أحد الجناحين وحلفاءهم البلاتيين على الجناح الآخر حققوا النصر، وبتقاربهم وتشكيلهم وحدة واحدة هجموا على الفرس الذين كانوا قد اقتحموا القلب وحصدوهم وهم متجهون نحو البحر. مات ما مجموعه 192 أثينيا (ولا يورد هيرودوت عددا لقتلى البلاتيين)، لكن خسائر الفرس كانت أعلى بكثير، حيث قتل منهم 6400 محارب، وبعد المعركة توجه الأسطول الفارسي صوب أثينا، لكنه عاد أدراجه وأبحر صوب آسيا بعدما أدرك أن الأثينيين سبقوه إلى هناك.
يقرر دارا - حانقا - شن غزو ثان، فليس على الأثينيين الآن دفع ثمن سارديس فحسب، بل ثمن ماراثون أيضا، لكن الأجل يوافيه أثناء حشده القوات وتجهيزه المؤن، فتقع مسئولية حرب الإغريق على عاتق ابنه وخليفته خشايارشا، وبتحريض من التملق السافر من جانب ابن عمه الطموح ماردونيوس، الذي يطمح في حكم إقليم جديد في اليونان، يتجاهل خشايارشا نصيحة حكيمة من عمه أرطبانس، الذي يطرح حجة إغريقية بامتياز لتلطيف الرغبات الإمبراطورية. يقول أرطبانس:
ترى كيف ينسف الرب بصاعقته المخلوقات العظيمة ولا يسمح لها بإظهار تفوقها، في حين لا تزعجه المخلوقات الصغيرة على الإطلاق. أنت ترى صواعقه تحل دائما على أكبر الأبنية وأطول الأشجار. هذا هو نهج السماء في كبح الشطط.
لا يبالي الملك، ويسمح لنفسه بالانسياق إلى مشروع معاقبة الأثينيين؛ فخشايارشا - كما يتبين - يعشق العقاب. والواقع أنه يقرر عقاب أرطبانس نفسه لنصحه بعدم غزو اليونان، ويضحك هازئا منه قائلا إنه سيبقيه في الديار مع النساء بينما يخرج هو والرجال الحقيقيون لمعاقبة الأثينيين. وليس ذلك فحسب؛ فعندما عرض الليدي الثري بايثيوس وضع كل أمواله تحت تصرف خشايارشا، يقدم الملك على تصرف ملؤه التباهي لمكافأته، فيهبه هبة تزيد ثروته زيادة هائلة ، لكن بعدئذ، عندما يلتمس بايثيوس من خشايارشا السماح لأحد أبنائه الخمسة بالبقاء في الديار لرعايته في كبره فيما يرافق الآخرون الحملة المتجهة إلى اليونان، يأمر الملك الغاضب رجاله بالعثور على أكبر أبناء باثيوس وشق جسده نصفين، ثم يأمر الجيش بالمسير بين شطري جسد الشاب.
شكل 3-3: «ثلاثية المجاديف» (سفينة ذات ثلاثة صفوف من المجاديف)، نسخة من السفينة الحربية الانسيابية الخفيفة التي استند إليها الإغريق في بناء أساطيلهم.
3
تمتد عقوبات خشايارشا إلى الجمادات؛ فعندما دمر الجسر الذي كان قد بناه عبر مضيق الهلسبونت بفعل عاصفة عاتية، أمر الملك رجاله بجلد المياه 300 جلدة، و«التحدث بكلمات متعجرفة لن تسمعها أبدا من إغريقي»:
أيتها المياه المرة، هذا عقابك على خطئك في حق سيدك الذي لم يخطئ في حقك. الملك خشايارشا سيعبرك، شئت أم أبيت. الناس محقون في عدم تقديمهم القرابين لمياه كدرة كريهة مثلك!
كذلك أمر بقطع رءوس من قاموا على بناء الجسر. لقد فصل خشايارشا ما أرادته الطبيعة واحدا (شطري جسد ابن بايثيوس)، ووصل ما جعلته الطبيعة منفصلا (آسيا وأوروبا). إن انتهاك خشايارشا الحدود الطبيعية يحاكي بالتأكيد انتهاكه الحدود الاجتماعية في مثلث كاندوليس والملكة وجيجس.
تسير الحملة بلا توقف نحو الغرب، فتشرب مياه الأنهار حتى تجف، وتتجاهل نذر الشؤم، وترفض النصائح السديدة. وفي صحبة خشايارشا خلال هذه الحملة ملك إسبرطة المخلوع ديماراتوس، وهو من بين شخصيات عديدة في «تاريخ هيرودوت» تقوم بدور «المستشار الحكيم» المتكرر. يأمره خشايارشا قائلا: أخبرني، هل سيجرؤ الإغريق على مقاومتي؟ فيجيبه ديماراتوس بقوله: حسنا، دعني أحدثك عن الإسبرطيين بصفة خاصة. سوف يقاتلونك حتى لو استسلم الإغريق الآخرون. تفوقك في العدد لن يعني لهم شيئا. لو خرج للحرب ألف منهم، فأولئك الألف سيقاتلونك، وكذلك سيفعل أي عدد، كثر أو قل.
يقول خشايارشا ضاحكا: كلا بالتأكيد. أنى يكون هذا وهم - على عكس رعيته - لا سيد لهم يحكمهم؟ فيجيبه ديماراتوس بقوله: يا جلالة الملك، هذا هو حال الإسبرطيين:
عندما يقاتلون رجلا لرجل، فهم في كفاءتهم مثلهم مثل أي ممن سواهم، لكن عندما يقاتلون في تشكيل، فهم خير جنود العالم. هم أحرار، نعم هذا صحيح، لكنهم ليسوا أحرارا تماما؛ لأن لهم سيدا، وذلك السيد هو القانون (الناموس)، الذي يخشونه أشد مما تخشاك رعيتك. وهم يطيعون هذا السيد ما أمرهم، وأمره دائما واحد: ألا تولوا الأدبار أبدا في الوغى، مهما كثر العدد، بل احتفظوا بمواقعكم، فإما نصر وإما موت.
اقتصر ديماراتوس في حديثه على الإسبرطيين، لكن هيرودوت نفسه، وفي الكتاب الخامس، قال شيئا عن الأثينيين أيضا؛ فعندما كانوا تحت حكم الأوتوقراطيين ممن عرفوا في اليونان ب «الطغاة» (ليسوا بالضرورة أشرارا، لكنهم أشخاص جاءوا إلى السلطة عبر انقلابات قاموا بها هم أو آباؤهم)، كانوا مقاتلين أكفاء، لكن كفاءتهم آنذاك لم تداني بأية حال كفاءتهم بعدما تخلصوا من الطغاة وأقاموا ديمقراطية، بعدما أراد كل شخص - كرجل حر - أن يحقق إنجازا بنفسه.
عندما يتلفظ ديماراتوس بهذه الكلمات، يضحك خشايارشا من جديد (للضحك الفارسي دائما دلالة سيئة في سرد هيرودوت)، ويمضي في طريقه دون أن يثنيه شيء عن مقصده.
ستكون أول مواجهة في ثيرموبيلاي، التي تمركز فيها ليونيداس ملك إسبرطة، وكانت معه طليعة من الإغريق. وبينما كانوا يضعون استراتيجية الحرب، اقترب منهم خلسة جاسوس فارسي لتقييم الموقف، وبعد أن رأى بعض الإسبرطيين متجردين من عتادهم للتريض، وبعضهم الآخر يمشطون شعورهم، قفل عائدا في دهشة وأخبر خشايارشا بما رأى. يقول ديماراتوس للملك المخدوع: لا تقل إنني لم أحذرك، لقد ضحكت عندما أخبرتك بأمر الإسبرطيين، لكن من عادتهم أن يعتنوا جيدا بشعورهم وهم مقبلون على المخاطرة بأرواحهم. لكن خشايارشا لا يتزعزع، ثم يشن رجاله هجوما، لكن بلا طائل. ويروي هيرودوت أنه يقال إنه بينما كان خشايارشا يراقب المعركة من موضع جلوسه، هب واقفا على قدميه ثلاث مرات ذعرا على جيشه. وفي اليوم التالي يقاتلون من جديد، لكن الفرس لا يستطيعون خرق صفوف الإغريق؛ فتصيب الحيرة خشايارشا وهو الذي اعتاد الحصول على ما يشاء.
ثم يتغير كل شيء؛ يخبر رجل من أبناء المنطقة طامع في مكافأة ثمينة، خشايارشا ببعض المعلومات المثيرة للاهتمام الشديد، فهناك ممر خفي فوق التلال موصل إلى ثيرموبيلاي. ينتشي خشايارشا. يصعد الفرس لاجتياز الممر. وفي ثيرموبيلاي، يفحص العراف الإسبرطي ميجستياس أحشاء القرابين ويعلن عن هلاك وشيك. يصل الفارون من القتال أثناء الليل حاملين أنباء تحركات الفرس، وعند انبلاج الصبح يأتي أفراد المراقبة الإغريق مهرولين من التلال. معظم القوات الإغريقية رحلت، فيميل هيرودوت إلى اعتقاد أن ليونيداس صرفهم عندما رأى ضعف معنوياتهم وانعدام حماسهم للقتال. بينما أحس ليونيداس نفسه أنه سيكون من غير اللائق أن يتخلى الإسبرطيون عن الموقع الذي أرسلوا للاحتفاظ به، زد على ذلك أنه كانت هناك نبوءة تقول إن موت أحد الملوك هو وحده الذي يمكنه وقاية إسبرطة من الدمار؛ لذا بقي هو وجنوده الإسبرطيون الثلاثمائة وقاتلوا، صامدين حتى النهاية، بسيوفهم إذا كانت ما زالت لديهم، وإن لا فبأيديهم وأسنانهم (في الحقيقة لم يكن هناك إلا 298 موجودون في النهاية، ولتتعرف على ما حدث للاثنين الآخرين، يجب أن تقرأ كتاب هيرودوت، وحتى هيرودوت يورد روايات بديلة). كانت الخسائر البشرية بين صفوف الفرس مرتفعة أيضا، حيث كان قادة فيالق خشايارشا يحثون دائما الرجال على التقدم وبأيديهم أسواط، وسقط كثيرون في مياه البحر وغرقوا، بل ومات أكثر منهم سحقا تحت أقدام رفاقهم الجنود.
يصف هيرودوت ثيرموبيلاي كنصر معنوي مدو؛ فهي لم تكسب للإغريق في جهة الجنوب وقتا فحسب، بل ألهبت حماسهم للتصدي للفرس انتقاما لليونيداس ورجاله. وفي الوقت نفسه، التقى الأسطولان الإغريقي والفارسي قبالة موقع قريب من مضيق أرتميسيوم لفترة دامت عدة أيام. لم يحسم أي الفريقين في النهاية القتال لصالحه، لكن المعركة شجعت الإغريق ليدركوا أن بمقدورهم التصدي لأسطول فارسي، وهذه معلومة مفيدة؛ لأن المعركة التالية ستدور رحاها في عرض البحر، في مضيق قبالة جزيرة سلاميس بالقرب من أثينا.
كان مهندس موقعة سلاميس هو السياسي الأثيني اللامع تيميستوكليس، الذي أقنع الأثينيين بأن النبوءة الإلهية التي تلقوها من دلفي وتتحدث عن «جدار خشبي» لا تشير إلى التحصينات الخشبية في معبد الأكروبوليس، بل بالأحرى إلى الخشب المصنوعة منه سفنهم ؛ وبالتالي أقنعهم بالتخلي عن أرضهم لخشايارشا، ونقل النساء والأطفال إلى سلاميس على أمل إعادتهم إلى الديار بعد قهر الفرس. بذل تيميستوكليس مجهودا مضنيا لإقناعهم، وفي عدم وجود غير ثلة من المدافعين، نهب خشايارشا المدينة وأحرق الأماكن المقدسة في الأكروبوليس. وكما في ثيرموبيلاي، فكر الجنود المحبطة معنوياتهم في الانفضاض والعودة إلى ديارهم، أو على الأقل العودة إلى برزخ كورنثة الذي سيكون الانسحاب منه سهلا نسبيا في حالة التعرض لهزيمة في المضيق. استبق تيميستوكليس الكارثة بإرسال غلامه سكينوس إلى المعسكر الفارسي برسالة إلى خشايارشا، وكان تيميستوكليس - كما أفاد سكينوس - على الجانب الفارسي في حقيقة الأمر. وقال إن الإغريق:
في حالة من الذعر ويخططون للتقهقر، فإذا منعتهم من الانسلال من قبضة يدك، واتتك الفرصة لتحقيق نصر مؤزر. إنهم في نزاع، وفي وضع لا يسمح لهم بالمقاومة. على العكس تماما، ستجد سفنهم يقاتل بعضها بعضا، حيث يهاجم الموالون للفرس الآخرين.
راق لخشايارشا ما سمع، فطوق الأسطول الإغريقي تحت جنح الظلام، واستعد الإغريق للمعركة، مذعنين لقدرهم المحتوم. قدم مقاتلون مختلفون روايات متغايرة لسير المعركة اعتمادا على كل من الكبرياء الوطني وحدود الرؤية، لكن بدا واضحا لهيرودوت أن السفن القادمة من أثينا وجزيرة أيكينا القريبة ألحقت أضرارا بالغة بالأسطول الفارسي، الذي كان قد تبعثر أثناء سير المعركة. منح الإغريق أثينا الجائزة الثانية في البسالة؛ حيث كانت الأولى من نصيب أهل أيكينا. وإجمالا، تكبد الإغريق خسائر بشرية قليلة؛ لأنهم في حالة انفصالهم عن سفنهم كان بمقدورهم السباحة إلى سلاميس، أما الفرس الذين سقطوا من سفنهم فلم تكن لديهم تلك الميزة فغرقوا. كانت نتيجة المعركة البحرية هذه المرة واضحة لا لبس فيها؛ إذ مني الفرس في نهاية اليوم بهزيمة حاسمة. خشي ماردونيوس - وهو أمر مفهوم - أن ينكل به لإلحاحه على خشايارشا محاربة الإغريق، فأكد للملك المتجهم أن خسارة «بعض ألواح الخشب» لن يقف في طريق تحقيق نصر في النهاية، بل إن محصلة الصراع سوف تعتمد في نهاية المطاف على الرجال والخيل (هو لا يذكر الرجال الذين غرقوا مع «ألواح الخشب»). ويقول للملك: لا تيأس، فعاجلا أم آجلا سيدفع الإغريق ثمن ما فعلوه بك. إذا شئت عد إلى الديار، وسوف أبقى أنا هنا مع جزء من الجيش وأجعلك سيد اليونان.
راقت لخشايارشا بشدة فكرة العودة إلى الديار في واقع الأمر، فيمم وجهه شطر آسيا على الفور. في غضون ذلك، عرض ماردونيوس أن يعفو عن خطايا الأثينيين السابقة لو بدلوا ولاءهم؛ فأرسل الإسبرطيون على الفور وهم في حالة من الذعر رسلا لإثناء الأثينيين عن التخلي عن القضية الإغريقية، وقد أجل الأثينيون - في خطوة استراتيجية - موافاة رسول ماردونيوس بردهم ريثما يكون الإسبرطيون هناك لسماعها. ويفسح هيرودوت المجال للرفض المؤثر الذي قدموه، الذي قصد به أن يحظى بتقدير الصديق والعدو على حد سواء:
ما من ذهب أو أراض خصبة على وجه الأرض يمكن أن تجعلنا نتعاون مع العدو المشترك ونوقع اليونان في أسر العبودية. ربما تكون هناك عقبات هائلة عديدة تقف في طريقنا، وعلى رأسها حرق معابدنا وتماثيل آلهتنا. إننا نرى أن من واجبنا أن نثأر لهذا التدنيس بكل ما أوتينا من قوة، وألا ندخل في معاهدة مع من اقترفه. ثم إن هناك أيضا حقيقة أننا كلنا إغريق، عرق واحد ينطق بلسان واحد، تجمعنا معابد وقرابين مشتركة، ونهج حياة واحد؛ إذن فلتعلموا إن لم تكونوا تعلموا من قبل أننا لن نتوصل أبدا إلى تفاهم مع خشايارشا ما دام هناك أثيني واحد باق على قيد الحياة.
وهكذا بقي ماردونيوس في اليونان وواجه القوات الإغريقية مجتمعة تحت قيادة الإسبرطي باوسانياس، الوصي على ابن ليونيداس القاصر بلايستارخوس، فالتقى الجيشان في بلاتايا بالقرب من طيبة في الربيع التالي. وكما كان معتادا قبل خوض المعارك في العالم القديم، حصل كلا القائدين على قراءة لطالعيهما قبل خوض المعركة، وكلاهما كان سيئا، لكن باوسانياس تمكن في اللحظة الأخيرة من الحصول على علامة مبشرة أثناء المعركة، وكان النصر في الحقيقة حليف الإغريق. وقد دان الإغريق بنصرهم في جزء كبير منه لهيكل الجيش الفارسي - حيث انهارت المقاومة الفارسية عندما قتل ماردونيوس - وكذلك إلى افتقار الفرس إلى الدروع؛ لأنهم من دونها لم يستطيعوا الصمود أمام قوات المشاة الثقيلة الإغريقية. ويحرص هيرودوت على تأكيد عدم افتقار الفرس إلى الشجاعة بأية حال، ولا ينزل إلى مستوى التقليل من شأن جنود خشايارشا المغاوير.
شكل 3-4: تظهر هذه السلطانية الصغيرة جندي قوات مشاة ثقيلة إغريقيا يحمل درعا عليها صورة البيجاسوس (الحصان المجنح)، وهو يعلو فارسيا يرتدي ملابس كان الإغريق يعدونها غريبة. وهذا من عمل فنان يسمى رسام تربتولموس، قرابة عام 460 ق.م ولم يصور هيرودوت الفرس باستهزاء إلى هذه الدرجة.
4
قيل إن ذلك حدث في ذات اليوم الذي تغلب فيه الأسطول الإغريقي على الفرس في موقعة ميكالي في أيونيا، حيث كتب هيرودوت: «الترتيب الإلهي للأمور تثبته براهين كثيرة»، من أهمها خبر النصر في بلاتايا الذي بلغ بعون الآلهة ميكالي قبيل خوض المعركة مباشرة، وهو تطور أعطى دفعة قوية لروح الإغريق المعنوية. وبهزيمة الفرس في ميكالي، انتهت محاولتهم إخضاع الإغريق نهاية غير مشرفة. لقد حدث ما لم يكن يخطر ببال، فانتصرت عصبة من دويلات إغريقية صغيرة فقيرة، تضافرت جهودها دفاعا عن وطنها، على الملك الفارسي الثري وحشوده التي تعد بالملايين بالمعنى الحقيقي للكلمة.
هذا هو حقيقة النشيد العسكري الاحتفالي الذي قدمه هيرودوت ليدخل السرور على قلوبنا بما فيه من مواضيع متكررة (العظات الحماسية قبل المعركة، استعراض الأعمال الجسورة، التجاهل القاتل للمستشار الحكيم أو العلامات الإلهية، تفوق أساليب التفكير الإغريقية على الأساليب الفارسية)، ويبلغ ذروة في الموقف الإسبرطي في ثيرموبيلاي، وذروة ثانية في النصر في سلاميس. لكن إذا نظرنا إليه كمقطوعة بيانو لا كسمفونية، علينا أن نسأل عما تفعله اليد اليسرى فيما تنتج اليد اليمنى كوردات كبيرة لا تنسى ولا تزال تصدح حاليا إلى يومنا هذا. أما الإجابة فهي طباق متقن من دونه تكون هناك مجازفة بأن يبدو اللحن الانتصاري المبهج عاطفيا، بل وعديم المعنى.
ذلك أنه حتى مجرد القراءة العابرة لسرد هيرودوت تبين إدراكه أن الإغريق لم يكونوا بأي حال متحدين في الدفاع عن وطنهم؛ فالإغريق الذين قاتلوا في صف خشايارشا أكثر ممن قاتلوا ضده، وكان التضارب واللامبالاة سائدين بين الدويلات الحلفاء، وواجه ملتيادس صعوبة شديدة في إقناع القادة الأثينيين بالاشتباك مع الفرس في ماراثون، ولم يرسل الإسبرطيون إلا قوة صغيرة إلى ثيرموبيلاي، وكان حلفاؤهم متقلبين بشدة، لدرجة أن ليونيداس كان بادي التوتر لوجودهم حوله. وعشية موقعة سلاميس، هدد تيميستوكليس بحمل الأثينيين كافة على ظهور سفنهم والإبحار إلى إيطاليا إذا لم يوافق القائد الإسبرطي يوروبيادس على القتال في المضيق بدلا من التراجع إلى البرزخ. وحتى بعد إقناع يوروبيادس، اعتبر الموقف مشكوكا فيه إلى درجة أنه كان مستعدا لاستفزاز حصار فارسي لفرض معركة. وفي الربيع التالي، أعاد الإسبرطيون التفكير في تلبية طلب الأثينيين المساعدة في بلاتايا، والحقيقة أنهم نظروا بجدية في تسوير البرزخ الذي يفصل أرضهم عن أرض الأثينيين وتركهم لمصيرهم. وأما تأكيدات الأثينيين الاستعراضية لولائهم الأبدي لليونان، فقد أذهبت أثرها فيما بعد، وبشكل يكاد يكون فوريا، كلمات بالغة القتامة، وذلك عندما ألمحوا إلى الإسبرطيين بأنهم لو لم يتحركوا، فإنهم ربما يعيدون النظر في قبول شروط الفرس. كفانا من الحديث عن التضامن الإغريقي.
ولا يصور هيرودوت الفرس من منظور غير إطرائي تماما؛ فيصورهم كمقاتلين شجعان في بلاتايا، وفي مقابل ماردونيوس المداهن المراوغ نجد أرطبانس الشجاع بعيد النظر الذي يكرر مع خشايارشا الدور الذي لعبه سولون مع كرويسوس. يتجشم هيرودوت عناء كبيرا لإضفاء الطابع الإنساني حتى على خشايارشا، مسلطا الضوء على قلقه الأولي بشأن غزو اليونان؛ إذ بدأت تنتاب الملك برودة في قدميه في الليلة التي تلت إعلانه عن نواياه لمستشاريه، ثم يرتاع الملك لمرأى الشبح الذي يظهر له في سلسلة من الأحلام التي تنذره بالعواقب إذا لم يمض في الطريق حتى النهاية. علاوة على ذلك، فعندما يتوقف لتفقد قواته وهو في الطريق إلى اليونان، يدخل مرأى الهلسبونت وسفنه تغطي صفحته كاملة، واليابسة القريبة وهي تعج بجنوده، البهجة على نفسه في البداية، فيصف نفسه بأنه سعيد، ويجهش فورا بالبكاء، فيستفسر أرطبانس - الذي لم يعاقبه خشايارشا في نهاية المطاف بتركه من خلفه مع النساء في بلاد فارس - عن هذا التغير المفاجئ في الحالة المزاجية، فيجيبه خشايارشا: «كنت أتدبر الأمور، وخطر ببالي كم قصيرة هي الحياة البشرية بشكل يدعو للرثاء، فمن بين كل هذه الحشود، لن يبقى أحد على قيد الحياة بعد مائة سنة من الآن.» في هذه المرة، وعندما يرد أرطبانس بمحاضرة طويلة عن تقلبات الحياة البشرية، لا يغضب خشايارشا، بل يقر بأن أرطبانس وصف الحالة الإنسانية فأحسن الوصف. حتى خشايارشا له لحظاته في «تاريخ هيرودوت».
أخيرا، فإن انتصاري بلاتايا وميكالي المزدوجين ليسا آخر ما نسمعه عن تعاملات الإغريق مع الفرس؛ فبعد موقعة ميكالي، ضرب الأثينيون بقيادة زانثبوس حصارا حول سيستوس، أقوى معقل فارسي في المنطقة المعروفة الآن باسم شبه جزيرة جاليبولي. وسنعلم أن الحاكم المحلي أرتياكتيز كان رجلا رهيبا، سرق كميات هائلة من قرابين النذور من ضريح بطل الحرب الطروادية بروتيسيلاوس في مدينة أيلة القريبة - أموال وأقداح من الذهب والفضة - بل والأسوأ من هذا أنه سيأخذ إلى الضريح نساء ويضاجعهن، وهو أمر محرم تحريما قاطعا في الأعراف الإغريقية. وعندما تسقط سيستوس في النهاية، يعرض أرتياكتيز مبالغ مالية طائلة ليفتدي نفسه وابنه، لكن زانثبوس يرفض الأموال؛ فشعب أيلة يريد الانتقام لتنديس الضريح ويطالبون بإعدام أرتياكتيز، ويميل زانثبوس نفسه إلى هذا المنحى، وهكذا يمسمره الأثينيون في لوح من الخشب ويرجمون ابنه بالحجارة حتى الموت أمام عينيه.
يوجد نحو ألف شخصية مسماة بالاسم في «تاريخ هيرودوت»، وأرتياكتيز مجرد واحد منها، ولو نسيت اسمه، فستحتفظ القصة بمعناها. لكن اسم بروتيسيلاوس، الذي دنس أرتياكتيز ضريحه، يعد بمنزلة لمسة لطيفة من أسلوب الإنشاء الحلقي الأدبي، تعيدنا إلى أصول الحرب الطروادية التي بدأ بها «تاريخ هيرودوت». لم يكن زانثبوس - كما كان يعرف أي إغريقي - مجرد جنرال إغريقي؛ إذ كان أبا بركليس، مهندس الإمبريالية الأثينية. وقد يتذكر القراء أيضا واقعة سابقة في «تاريخ هيرودوت» عندما قام الفارسي أورويتيس بشنق بوليقراط الساموسي على صليب، والآن حان دور الإغريق ليقوموا بعملية الصلب. وهكذا يختتم «تاريخ هيرودوت» بنبرة منذرة بسوء؛ إذ استبدل هيرودوت بالخاتمة الاحتفالية المتوقعة ما يمكن أن يسميه باحث موسيقي «قفلة مفاجئة»، وبدلا من التآلف النهائي الذي نتوقعه، نحصل على شيء نشاز وغير متوقع، مما يتركنا على أقل تقدير في حالة من التشكك، وعلى أقصى تقدير قلقين بعمق بشأن ما سيحدث.
ظل هيرودوت دائما مصدرنا الرئيس حول الحروب الفارسية، وكان لكل معركة سردها أبطالها. وقد اشتهر عن جون ستيورات ميل إشارته إلى أن «موقعة ماراثون، حتى كحدث في التاريخ الإنجليزي، أهم من معركة هاستينجز.» قوية هذه الكلمات، لكن المكانة الأولى لم تعط بوجه عام إلى أي من الانتصارات الإغريقية المذهلة، بل إلى هزيمة ثيرموبيلاي ذات الشهرة العالمية؛ لأن المرء يجد دائما ما يواسيه إذا شعر أن باستطاعته إعادة صب عملية إبادة تامة في قالب تضحية طوعية في سبيل الوطن. وكما كتب مونتين سنة 1580: «هناك هزائم انتصارية تنافس الانتصارات»، ولا شيء من انتصارات الإغريق على الفرس يضاهي في مجده إفناء الإسبرطيين في ثيرموبيلاي.
كانت أسطورة ثيرموبيلاي عنصرا قويا شديد الحضور في الفترة السابقة على تحرير اليونان من الهيمنة التركية في عشرينيات القرن التاسع عشر، وكان ريتشارد جلوفر قد أثار من قبل في 1737 ضجة بقصيدته الملحمية «ليونيداس» التي روت الأحداث المحيطة بالمعركة، وقد ترجمت «ليونيداس» من الإنجليزية إلى الفرنسية والألمانية والدنماركية. وقدمت تتمة جلوفر المعنونة «الأثينيد» صورة مغايرة معبرة لوصف هيرودوت موت ليونيداس. فعلى الرغم من أن هيرودوت ذكر أن خشايارشا وضع رأس ليونيداس المقطوع على خازوق، فإن جلوفر يصور ملك إسبرطة تصويرا هادفا وقد صلب على يد عدو الحضارة هذا، ومن ثم يستحضر موت يسوع المماثل وفكرة التضحية الطوعية بالنفس. ورسم دافيد لوحته الشهيرة «ليونيداس في ثيرموبيلاي» سنة 1814. وكان بايرون متبعا سنة قديمة عندما كتب أبياته الشهيرة:
ألا يجب أن نبكي على أيام أعظم يمنا؟
ألا يجب أن نحمر خجلا؟ فآباؤنا نزفوا الدماء.
أيتها الأرض! أعيدي لنا من قلبك.
رفات قتلانا الإسبرطيين!
من الثلاثمائة لا تعطينا إلا ثلاثا.
ليصنعوا ثيرموبيلاي جديدة!
شكل 3-5: تظهر هذه الصورة - المطبوعة على حجر والتي رسمها آرثر إيه ديكسون - استقبال اللورد بايرون سنة 1823 في بلدة ميسولونجي اليونانية التي ذهب إليها دعما لليونان في حربها ضد الأتراك العثمانيين لنيل استقلالها. وقد مات الشاعر هناك متأثرا بالحمى بعد ذلك بسنة، وكانت المدينة لا تزال تحت الحصار.
5
بعد خلع ربقة العثمانيين في نهاية المطاف بعدة سنوات، نشر أندرياس كوروميلاس أول ترجمة يونانية حديثة لهيرودوت كإلهام لبني وطنه.
كثيرا ما كانت تستحضر فكرة ثيرموبيلاي لإضافة سياق تاريخي إلى أي محاولة أخيرة للتصدي لأعداد متفوقة بدرجة هائلة. وهكذا أطلق ماونتباتن على النجاح الملحوظ لقوة حشدت على عجل من جنود هنود وبريطانيين لإجبار اليابانيين الغزاة على الانسحاب من منطقة كوهيما الهندية سنة 1944 (وكان منعطفا مهما في الحرب العالمية الثانية) اسم «ثيرموبيلاي البريطانية الهندية». ويوجد هناك نقش معروف على شاهد القبر يتوسل إلى قرائه:
عندما تعود إلى الديار، حدثهم عنا وقل لهم:
من أجل غدهم ضحينا بيومنا.
يصعب ألا نعتقد أن هذين البيتين - وهما على الأرجح للشاعر الكلاسيكي الإنجليزي جون ماكسويل إدموندز (1875-1958) - لم يصاغا على شاكلة نقش شاهد قبر قتلى ثيرموبيلاي المنسوب لسيمونيدس والذي استشهد به هيرودوت:
أيها المار الغريب، اذهب وقل للإسبرطيين:
إننا نرقد ها هنا طاعة لأوامرهم.
العجيب أنه لم يقتصر استحضار فكرة ثيرموبيلاي على السياقات الدفاعية، بل استحضرت أيضا في السياقات الهجومية؛ فالألمان التعساء الذين أرسلوا ليعانوا معاناة بائسة خلال حصار ستالينجراد الفاشل، لم يكونوا مسرورين لتلقي هذه الأوامر ذاتها الصادرة من هتلر (بأن يقاتلوا حتى الموت دون الاستسلام)، وقد ذعروا يقينا عندما عرفوا أن الصحافة الأوروبية تنشر ادعاء جورينج بأنهم يضحون طواعية بأنفسهم لإنقاذ الحضارة من انقضاض الحشود البربرية الآتية من الشرق، مثلما فعل الإسبرطيون تماما منذ أكثر من ألفي عام.
شكل 3-6: لا يزال حصن ألامو - الكائن في سان أنطونيو بولاية تكساس - وجهة سياحية شهيرة حتى يومنا هذا.
6
وفي الولايات المتحدة، تمخضت الهزيمة الحاسمة التي تعرضت لها القوات الأمريكية في حصن ألامو سنة 1836 عن نصب تذكاري يحمل كلمات «ثيرموبيلاي أبقت على رسول يحمل أنباء الهزيمة، أما ألامو فلم تبق ولم تذر.» وكان الدفاع الفاشل عن إحدى النقاط الخارجية التابعة للكونفيدرالية في سابين باس بولاية تكساس سنة 1863 الحافز وراء نشر كتاب بعنوان «سابين باس: ثيرموبيلاي الكونفدرالية». وبعد ذلك بقرن، بدأ الأمريكيون يرسلون قوات إلى فيتنام، وفي 1978 حولت رواية دانيال فورد عن تلك الحرب وعنوانها «واقعة في موك وا» إلى فيلم سينمائي بعنوان «اذهب وقل للإسبرطيين»، بطولة بيرت لانكستر وكريج واسون، ودار حول فكرة التضحية الطوعية، وتمحورت حبكته الدرامية حول دفاع ثيرموبيلاي.
فعندما يصل الأمريكيون إلى نقطة موك وا الخارجية الصغيرة سنة 1963، يجدون مقبرة تضم رفات 300 شخص ونقشا على المدخل باللغة الفرنسية، يتعرف عليه واسون الصغير بوصفه نقش سيمونيدس ويترجمه لرفيق حائر ليست لديه أي فكرة عما يعنيه ذلك. وهكذا تصور الدراية بثيرموبيلاي كسمة لشخص مثقف يعرف تاريخه (واللغة الفرنسية). يرفض الأمريكيون في موك وا تصديق أنهم يمكن أن يخفقوا كما أخفق الفرنسيون من قبل، لكنهم يتعرضون للخيانة، حيث يتم التشديد على أن طرقا عدة تؤدي إلى معسكرهم. وعلى خلاف ليونيداس، لا يجد بيرت لانكستر - الذي رأى من الحرب الكثير، وصار ناقما إلى أقصى درجة - في نفسه رغبة البقاء بمجرد أن تبين خسارة القضية خسارة صريحة، وهو لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن الأمريكيين - على خلاف الإسبرطيين - يملكون مروحيات. تأتي نقطة التحول في الفيلم عندما يترك لانكستر مروحية الإخلاء وينضم إلى واسون المثالي في القتال دفاعا عن موقعهم الميئوس منه، وعندما تشرق الشمس بعد معركة ليلية بشعة، نرى جثة لانكستر راقدة عارية على الأرض المغطاة بالمستنقعات، أما واسون فيترنح وهو يدخل المقبرة الفرنسية، وهو فيما يبدو لم يتعرض لإصابة قاتلة، لكن الاحتمالات ضئيلة أن يتمكن من شق طريقه عائدا إلى مكان آمن. لقد أكسب الإسبرطيون في ثيرموبيلاي وقتا لليونان، أما الأمريكيون في موك وا فماتوا بلا مقابل.
لم يكتف هيرودوت - وقد أعانه مؤلفون لاحقون استقوا بشدة من عمله، كما أعانه أيضا وبالتأكيد نقش شاهد قبر سيمونيدس الذي كان متاحا له كي يضمنه في «تاريخ هيرودوت» - بإعطائنا أسطورة ثيرموبيلاي، وهي محور ملحمته الحربية ، بل عضد أيضا تصور أفرودة الحرب التي تضاهي بامتياز القصة الفخمة الطويلة، وهي فكرة اقتبست من هوميروس وانتقلت إلى ثوسيديديس وآخرين يفوقون الحصر. يكرر وصف هيرودوت للحروب الأفكار نفسها التي نراها في مواضع أخرى في «تاريخ هيرودوت»، من أعمال عجيبة تستحق الذكر، وقصر عمر السعادة البشرية، لكن مع إضافة طبيعة الطموح الإمبريالي المتأصلة. وماذا عن دور الآلهة في كل هذا؟ يعتقد هيرودوت بوضوح أنها تلعب دورا ما، وهذا موضوع سنعود إليه في الفصل
السادس .
هوامش
الفصل الرابع
هيرودوت الإثنوجرافي
لا توجد بغال في إليس.
الأطلسيون لا يحلمون قط.
يظن الجيتيون أنهم خالدون.
يطلي السكيث بالذهب جماجم آبائهم الموتى، ويولمون بلحمهم.
تتبول النساء واقفات في مصر، بينما يقعد الرجال القرفصاء.
يقال إن الرجال في القوقاز يجامعن النساء علانية كالحيوانات.
يدفن البابليون موتاهم في العسل.
يأكل الجيزانتيون القرود!
كل هذا تحصل عليه هيرودوت من الاستقصاءات التي أجراها أثناء أسفاره؛ ففي الكتاب الأول، يحدثنا عن العادات التي تمارس في ليديا وبلاد فارس، أما الكتاب الثاني فيكرسه بالكلية لمصر، ويتضمن الكتاب الثالث انتهاك قمبيز الأعراف المقبولة في مصر، وتجربة دارا لمعرفة كيف يكون رد فعل الناس تجاه الطرق التي يتبعها بعضهم في التعامل مع الموتى، ومعالجة هيرودوت طرفي الأرض، ويتناول الكتاب الرابع سكيثيا متطرقا بإيجاز إلى ليبيا. وبداية من الكتاب الخامس، يتحول التركيز إلى التاريخ السياسي الضيق، وإن شابته بعض الانحرافات الإثنوجرافية، ومن ذلك مثلا عادات الإسبرطيين التي تقدم لنا نظائر مدهشة لعادات الشعوب غير الإغريقية.
يمكن النظر إلى الإثنوجرافيا على أنها تتكون من ملمحين أساسيين يمتزجان امتزاجا وجوديا، وهما المنظور والمنهجية. فلا بد أن يكون الإثنوجرافي إنسانيا وعالما على حد سواء، فيكون إنسانيا في قدرته على التسامي على ثقافته وتقييم المجتمعات الأخرى في إطار لا ينطوي على إصدار أحكام، ويكون عالما في جمع الأدلة من خلال المشاهدة والمحاورة. وفي كلا المجالين، نجد أن فضول هيرودوت وطاقته الفطريين قاداه إلى ارتياد مجال جديد سيوسع بدرجة عظيمة أفق إخوانه الإغريق وفهمهم للمجتمع الإنساني، ويضع في نهاية المطاف حجر الأساس للأنثروبولوجيين الأوروبيين العاملين في العالم الجديد.
ومثلما يستخدم مؤلفو الخيال العلمي عوالمهم البديلة لطرح مقولات حول العالم الذي يعيشون فيه، تمثل غرض هيرودوت، في جزء منه، في تسليط الضوء على ما كان إغريقيا بشكل متمايز باستعراض العادات اللاإغريقية الواضحة. وعلى الرغم من إظهار هيرودوت انفتاحا عقليا غير معهود على عادات الشعوب غير الإغريقية، «المتحضرة» منها كالمصريين والفرس، و«غير المتحضرة» كالسكيث، على السواء، فإنه يميل إلى رؤيتها بأعين إغريقية، وإن لم يكن دائما؛ إذ إن خريطة هيرودوت الثقافية ليست متأصلة في مقابلة ثنائية بسيطة. فرجل لا يستطيع التفكير إلا من منظور إما هذا أو ذاك، ما كان بوسعه أن يؤلف «تاريخ هيرودوت».
كانت فكرة أن الأعراف الثقافية تختلف باختلاف الزمان والمكان محل خلاف شديد في عصر هيرودوت (على الرغم من أن قليلا من الإغريق ومنهم هيرودوت كانوا يرون أن بعض الطرق الأجنبية ربما تكون أفضل من طرقهم هم). وكان بعضهم يتساءل: هل الآلهة موجودة فعلا، أم أنها من اختلاق البشر؟ إذا كان قانون معين لا يروق لك، فهل يمكنك تغييره فحسب، أم أن هناك مبدأ طبيعيا أساسيا من نوع ما يعارض هذا بشدة؟ كان الأمر كله يختزل إلى الناموس مقابل الطبيعة، وكانت كلمة ناموس الإغريقية تنطوي على عدة أفكار مختلفة؛ كالتشريع والعرف المعزز اجتماعيا والقيمة والتقليد والعادة. كان أنصار الطبيعة يرون بعض الأشياء صحيحا وبعضها الآخر خاطئا، ويعتبرون هذا التفريق أزليا وغير قابل للتفاوض. أما أنصار الناموس، فكانوا يتبنون نظرة مختلفة؛ فالقواعد، بالنسبة لهم، من وضع البشر ويمكن تغييرها أو تجاهلها، ولا ريب أن النواميس هي بالضبط الأشياء التي تثير اهتمام الإثنوجرافيين. فمن يضع القواعد بين هؤلاء الناس؟ وما الجزاءات على انتهاكها؟ وما الذي يحترمونه؟ وكيف يقضون أيامهم؟ وماذا عن الجنس، والزواج، وتربية الأطفال؟ وكيف يتعاملون مع الموت؟ ومن يأكل ماذا؟ ولماذا؟ ربما تكون الطبيعة موضع بعض الاهتمام أيضا (فالمناخ على سبيل المثال قد يشكل الأفراد والثقافات)، لكن الناموس هو الأهم.
كان الناموس محل اهتمام خاص من جانب السوفسطائيين معاصري هيرودوت الذين كانوا يجدون متعتهم في كشف ما يعتبرونه عشوائية كل شيء، وكانوا يشجعون - مثل بعض محاوري سقراط المزعجين - أتباعهم على الاعتقاد أن القوانين وضعت لتخرق، لكن هيرودوت اعتنق وجهة النظر المقابلة، حيث يبين لنا في كتابه أولوية احترام مختلف النواميس. يستطيع المرء يقينا أن يتجاهل النواميس؛ فهي ليست قوانين كقوانين الطبيعة، لكن المرء يفعل هذا متحملا العاقبة. وأشهر حالة في «تاريخ هيرودوت» هي حالة ابن قوروش، قمبيز، الذي سخر من المصريين لعبادتهم عجلا يعرف باسم أبيس، وألحق في الواقع بأبيس إصابة قاتلة في الفخذ. هذه الفعلة لم تروع المصريين فحسب، بل روعت هيرودوت أيضا، ويتركنا المؤلف ولدينا اعتقاد أن موت قمبيز متأثرا بإصابة في الموضع ذاته تماما الذي أصاب فيه أبيس من قبل ليس من قبيل المصادفة. وفي سياق استخفاف قمبيز الأرعن بالنواميس المحلية، يحكي هيرودوت حكاية صارت الآن مشهورة عن تجربة أجراها دارا لإثبات تفضيل المرء عموما عاداته الأصلية:
دعا دارا بعض الإغريق الذين كانوا حاضرين إلى مؤتمر، وسألهم كم يرضون من المال ليأكلوا أجساد آبائهم الموتى، فأجابوا بقولهم إنهم لن يفعلوا ذلك مهما كان المقابل. وبعد ذلك استدعى الملك بعض أفراد قبيلة كالاتياي الهندية التي يأكل أبناؤها جثامين والديهم الموتى، وسألهم في حضور الإغريق (وكان هناك مترجم حتى يفهموا ما يقال) كم يرضون من المال كي يوافقوا على حرق جثامين آبائهم، فصرخوا مرتاعين وحرموا عليه أن يقول مثل هذه الأشياء الشنعاء. وهكذا صارت هذه الممارسات محفوظة كعادات باقية، وأعتقد أن بندار كان على حق أن قال في قصيدته إن العادة سيدة الجميع.
ومع ذلك فإن هيرودوت الإغريقي نفسه قلما يعبر عن اشمئزازه من أي من التشكيلة الهائلة من العادات غير الإغريقية التي يصادفها. فمثله مثل السفسطائيين، تعامل مع النواميس في أغلب الأحوال كما هي، وقد طمح - كباحث ميداني بكل معنى الكلمة - إلى دور المسجل لا القاضي. فإلى الشمال يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم هذه العادات والنباتات والحيوانات، وعلى الجانب الآخر من الجبل يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم تلك العادات والنباتات والحيوانات، وهم يقولون إن على الجهة الأخرى من الصحراء يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم هذه العادات والنباتات والحيوانات. ومثل الأنثروبولوجيين في العصر الحديث، كان مؤمنا بالنسبية الثقافية، لكن إلى حد معين فحسب، فهو يتوقف دوريا للإشادة أو الاستهجان. وفي مرات الشجب القليلة، يظل أرفع مستوى من بعض من أتوا بعده، حتى إن باحثا ميدانيا يحظى باحترام شديد مثل برونيسلاف مالينوفسكي قال في مذكراته أشياء أشد قسوة بكثير عن الأشخاص موضوع بحثه، مقارنة بأي شيء نقرؤه في عمل هيرودوت.
وبالإضافة إلى فضوله تجاه النواميس المتنوعة، كان هيرودوت مهتما باختلاف النواميس بشأن النواميس؛ فهو يروي لنا أن الفرس يتبنون عادات أجنبية أكثر من أي شعب آخر. ولتقارن بينهم وبين المصريين، الذين يتمسكون بنواميس أسلافهم ولا يقبلون أبدا أي نواميس جديدة. وهناك قصتان طويلتان جدا تحكيان لنا عن أفراد لقوا حتفهم نتيجة حماسهم للعادات الأجنبية، وهما أناقارسيس السكيثي، الذي قتل من الواضح على يدي شقيقه عندما اكتشف انخراطه في طائفة دينية أجنبية، وسايلس، وهو الآخر سكيثي، الذي بدأ - بعد أن تيمته الثقافة الإغريقية - يتجول خلسة مرتديا ملابس الإغريق ويعبد آلهتهم، وعندما وشى به واش، أقدم شقيقه هو الآخر على قتله. ويختم هيرودوت بقوله: «شديدو المحافظة هم السكيث، حتى إنهم يعاملون من يعتنقون عادات أجنبية على هذا النحو.»
اعتبر هيرودوت - مثله مثل معظم الإثنوجرافيين - التفاصيل الثانوية للحياة اليومية جديرة كل الجدارة بالتسجيل، لكننا نجد في عمله أن محض غرابة عادات الآخرين وممارساتهم اليومية يحولها إلى شيء دخيل. وهيرودوت ها هنا يتميز عن إثنوجرافيي وأنثروبولوجيي العصر الحديث المدربين على كبح حماساتهم والاكتفاء بتسجيل ما يرون أو يسمعون، وما يفتقر إليه «تاريخ هيرودوت» هو موقف الباحث الميداني المحترف الواضح والمحكم؛ فملاحظات هيرودوت حول العوالم التي يزورها تتميز بمزجها بالعجب، فنحن نقرأ بين السطور ما مفاده: إنك لن تصدق هذا أبدا.
كان هيرودوت، الذي اتسم في بعض الأحيان بأنه كاتب رحلات أكثر منه إثنوجرافيا، منجذبا بشدة إلى الأشياء اللافتة للنظر والغريبة وغير المألوفة والعجيبة والمروعة؛ إلى أي شيء يختلف اختلافا مثيرا عما ألفه هو وإخوانه الإغريق. وكان يستمتع ب «القصي» - بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة (لقد فتنه ما يوجد على أطراف العالم المعروف، كالنمل الهندي الذي يفوق الثعلب حجما وينقب عن الذهب في الأرض) - جزئيا بسبب افتتانه الشخصي بما هو غير عادي، وجزئيا بسبب التزامه بالدقة والشمولية فيما يرويه، لكن جزئيا أيضا، وبكل تأكيد، بسبب علمه أن تلك مادة كتابة مناسبة.
كان هيرودوت مولعا ولعا خاصا بالظواهر غير العادية التي كانت تجلي سعة حيلة البشرية. انظر مثلا إلى براعة السكيث؛ فعندما كانوا يضحون بثور، كانوا يواجهون صعوبة في طهيه؛ لعدم وجود حطب في سكيثيا يصنعون به نارا، ولعدم توافر القدور على الدوام؛ ومن ثم، فهم يضعون كل اللحم في بطن الثور ويخلطون به بعض الماء ويسلقونه على نار اتخذوها من العظام. عجبا؛ فيكون ثورا ذاتي الطهي! وفي شبه الجزيرة العربية، تأتي طيور كبيرة بعيدان القرفة إلى أعشاش على منحدرات جبلية شديدة الارتفاع، لدرجة أنه لا يستطيع إنسان التسلق والحصول عليها؛ لذا طور العرب استراتيجية، حيث يقطعون أجسام الدواب قطعا كبيرة جدا ويتركونها بالقرب من الأعشاش، وعندئذ تهبط الطيور لحمل قطع اللحم إلى أعشاشها، لكن الأعشاش ليست بالقوة الكافية لتحمل الوزن، فتنهار وتسقط على الأرض، وعندها يأتي العرب ويأخذون القرفة، التي يصدرونها بعدئذ إلى البلدان الأخرى. وهناك ما هو أكثر، فأحد أنواع الضأن في شبه الجزيرة العربية له ذيل مفرطح عرضه ثماني عشرة بوصة، وهو أمر مدهش لكنه لا يمثل مشكلة، وأما النوع الآخر فيشكل تحديا؛ لأن ذيله طويل جدا (أربعة أقدام ونصف القدم أو أكثر) لدرجة أنه سيتقرح لو تركت الشياه تجره على الأرض من ورائها وهي تسير، لكن الرعاة فيما يبدو يعرفون ما يكفي عن النجارة لصنع عربات صغيرة يثبتون الواحدة منها تحت ذيل الشاة. مشكلة وحلت!
ويسر هيرودوت سرورا واضحا بالنظام الذي وضعه رجال بابل لضمان تزويج كل نسائهم؛ فالبنات غير المتزوجات مشكلة أشد خطورة بكثير من الذيول الحساسة . ففي كل عام، كان البابليون يعقدون ملتقى تطرح فيه الشابات في مزاد بترتيب تنازلي حسب جمالهن، فيزايد الرجال الأعظم ثراء للفوز بأجمل النساء، ويستخدم المال الذي يجمع على هذا النحو لتوفير مهور للإناث الأقل جاذبية والمعوقات، إن وجدن، وبالتالي كان كل يعود إلى بيته متزوجا ولا يشكو من شيء. مشكلة أخرى وحلت! بل والأفضل من ذلك أن التوازن تحقق، وهو شيء بالغ الأهمية بالنسبة لهيرودوت.
وفي المجمل، ملأت مدينة بابل الضخمة والثرية هيرودوت بالعجب، لكنه يقول إنه وجد ثاني أكبر عجيبة هناك، وهي القوارب التي تجوب الفرات إلى المدينة. كان تيار النهر أقوى من أن تبحر فيه القوارب شمالا، لكن التجار وجدوا مخرجا؛ فأعلى النهر من بابل، وتحديدا في أرمينيا، كانوا يبنون قوارب لا قيدوم لها ولا كوثل، فكانت مستديرة كالدرع، مصنوعة من جلود سدودة للماء مشدودة على هيكل من خشب الصفصاف، وبعد تحميلها بالبضائع كانوا يضعون عليها رجلين لتوجيهها بالإضافة إلى حمار أو حمارين على حسب حجم القارب، وعندما يصل الرجلان بابل ويبيعان البضاعة، كانا يبيعان هيكل القارب ويحملان الجلد على ظهر الحمارين ويسوقانهما عائدين شمالا إلى أرمينيا، وبمجرد وصولهما إلى أرمينيا بالحمارين، يبنون هياكل جديدة ويبدءون عملية بناء القوارب من جديد. وهكذا كانت تتم التجارة دون قوارب تحتاج إلى إبحار ضد التيار. مشكلة أخرى وحلت!
إن افتتان هيرودوت بالتنوع يدفعه إلى إطلاعنا على عادات تناول الطعام التي تميز الشعوب التي درسها؛ فهناك ثلاث عشائر في بابل لا تأكل إلا السمك، ومعظم القبائل التي تسكن القوقاز تقتات على الشجيرات البرية. ويأكل الكاليبيداي الحبوب والبصل والثوم والعدس والدخن. وأما الأرجباي المحبون للسلام، الذين يظلون منذ مولدهم صلعانا، فيتألف طعامهم بالكلية من ثمار شجرة البونتيكوس، التي يصنعون منها الطعام والشراب على السواء. وأما الإثيوبيون الذين يعيشون في كهوف فيأكلون الثعابين والسحالي. ولا يأكل نساء قورينا لحوم الأبقار تعظيما للإلهة المصرية إيزيس التي كان يرمز لها بصورة بقرة. وطبعا، يأكل الجيزانتيون لحوم القردة.
كما هو الحال مع الأعمال الأنثروبولوجية في يومنا هذا ، تلقى أدوار الجنسين والزواج بشكل حتمي نصيبا كبيرا جدا من الاهتمام في «تاريخ هيرودوت». ومثل إثنوجرافيي العصر الحديث، يعترف هيرودوت بالقيمة الصادمة التي تملكها العادات التي تتحدى قيم النظام الأبوي الغربية التقليدية بسيطرته المحتومة على الحياة الجنسية الأنثوية، وما يصاحب ذلك من تقسيم إلى ما هو علني وسري. ومما أثار روع هيرودوت أن المرأة في بابل يجب أن تذهب مرة في حياتها وتجلس في معبد أفروديت، وتمارس الجنس مع أول رجل يلقي إليها بقطعة عملة، وعندئذ فقط يجوز لها مواصلة حياتها القائمة على الاحتشام الجنسي الدائم (تعود النساء طويلات القامة حسنات الطلعة إلى بيوتهن بسرعة، لكن بعض النساء الأقل جاذبية يضطررن إلى الاستمرار في المحاولة لما يصل إلى ثلاث سنوات أو أربع). وترتدي الواحدة من نساء الجندانيين خلاخيل بأعداد الرجال الذين مارست معهم الجنس، والمكانة الأرفع لصاحبة أكبر عدد من الخلاخيل؛ لأنها حظيت بحب أكبر عدد من الرجال. وبدلا من التزاوج مثنى مثنى، يمارس الأوزيون الجنس بشهوانية مع من يريدون، وعندما يكبر الأطفال الناتجون عن هذا الوطء، يحضرون إلى اجتماع للرجال ويلحق كل طفل بأب استنادا إلى الشبه بينهما.
أما المعالجة الأتم تطورا فهي معالجة هيرودوت للأمازونيات، التي تختلف اختلافا جذريا عن السرود القديمة الأخرى في تصويرها هؤلاء النساء المحاربات تصويرا مشرفا، كما أنها قصة رائعة أيضا؛ فقد كان الإغريق يصورون الأمازونيات، اللاتي اشتهر عنهن كسر القواعد الجنسانية، دائما كأعداء شواذ للحضارة. فنجد على أفاريز البارثينين التي خلدت ذكرى الانتصارات الإغريقية في الحروب الفارسية ما يشير إلى قوى الطبيعة الخطيرة، مصورة على هيئة ثنائية مكونة من الأمازونيات وكائنات القنطور التي نصفها رجل ونصفها فرس. وقد تفاخر الخطيب ليسياس، الذي يصغر هيرودوت ببضعة أجيال، بانتصار الأثينيين المبكر عليهن في الحرب. لكننا نجد في «تاريخ هيرودوت» وصفا مفصلا خلابا لمغازلة الأمازونيات والسكيث التي تبلغ أوجها بزواج هانئ بين الفريقين يتمخض عن السلالة البشرية المعروفة باسم السارماتيين. ولم يرد في سرد هيرودوت ذكر أي شيء من التفاصيل المروعة عن الأمازونيات التي نجدها في أماكن أخرى (مثل عادتهن قتل مواليدهن الذكور).
يذكر هيرودوت أن الحكاية التالية تحكى عن السارماتيين؛ فبعد أن تقاتل السكيث مع جنود أشاوس جاءوا إلى شواطئهم على متن سفن، فوجئوا عند فحصهم جثث من تغلبوا عليهم أنهم نساء. وبعد التشاور، يقرروا التوقف عن قتالهن وبالأحرى محاولة كسب صداقتهن، وذلك على أمل إنجاب أطفال من مثل هؤلاء الأمهات الرهيبات؛ فيرسل السكيث فرقة من الشباب ومعها تعليمات بالنزول بالقرب من هؤلاء النساء غريبات الشأن، وشيئا فشيئا، يقترب معسكرا الأمازونيات والسكيث أحدهما من الآخر. وكان من عادة الأمازونيات التفرق عند منتصف النهار، إما فرادى وإما مثنى مثنى، بغرض استخدام الخلاء على الأرجح (لكن الإغريق لا يدركون ذلك)، ويفعل السكيث الشيء نفسه، محاكين بدقة كل حركة يأتين بها، وهو تصرف غير مألوف في المواعدات الغرامية الأولى، لكن هذا ما يقوله لنا هيرودوت فيما يبدو. وعندما يدنو أحد السكيث من إحدى الأمازونيات بنية مطارحتها الغرام، توافق المرأة على الفور، بل وتطلب منه بلغة الإشارة أن يأتي في اليوم التالي بصديق وتخبره بأنها ستفعل الشيء نفسه (ويتطور الأمر شيئا فشيئا). ولم يمض وقت طويل حتى يتزاوج الفريقان تماما ويدمجان معسكريهما في معسكر واحد، وبعد فترة قصيرة، يقترح السكيث على الأمازونيات أن يعودوا جميعا إلى ذويهم حيث آباؤهم وأمهاتهم وأمتعتهم، لكن الأمازونيات الصناديد يرفضن ذلك، ويجبن بقولهن: لا يصلح لنا أن نعيش مع نسائكم ...
لأننا لا نتبع العادات ذاتها التي يتبعنها؛ نحن نطلق السهام ونرمي الرماح ونركب الخيل، لكننا لم نتعلم القيام بالأعمال المنزلية قط، في حين لا يفعل نساؤكم أيا مما نفعل؛ فهن يمكثن داخل العربات ويقمن بأعمال النساء، هن لا يذهبن للصيد، بل وفي الحقيقة لا يذهبن إلى أي مكان. لا يمكننا أبدا أن نتواءم معهن، لكن إن كنتم تريدون أن نكون زوجاتكم، وتريدون حقا توخي الإنصاف، فلتذهبوا ولتأخذوا من آبائكم نصيبكم من ممتلكاتكم، وعندئذ سنقيم هنا معا مجتمعا خاصا بنا.
المدهش أن الشباب يوافقون، وينطلقون في رحلة تستغرق ثلاثة أيام شمالا ومثلها شرقا، ويقيمون مجتمعهم الجديد الذي عرف باسم السارماتيين. وقد ظلت المرأة السارماتية حتى عهد هيرودوت تمارس القنص على ظهر الخيل وتقاتل في الحروب. علاوة على ذلك، فإن المرأة السارماتية لا تتزوج حتى تقتل عدوا، ولهذا السبب - وفي صورة تعكس بشكل مثير للاهتمام محنة النساء قليلات الجاذبية اللائي يقعدن في المعبد في بابل لسنوات - يموت بعضهن طاعنات في السن دون أن يتزوجن.
معظم البيانات التي يطلعنا عليها هيرودوت لا تقتصر على غير الإغريقيين وحسب، ومن ثم العادات الجديرة بالملاحظة فحسب، لكنها ترسم أيضا دورة حياتية مميزة للجنس والزواج والطعام والموت. وكل هذه الأشياء تحدث في سياق اجتماعي؛ إذ تفضي التقاليد الجنسية في نهاية المطاف إلى إنجاب الأطفال، ولا بد أن يتبع الإنسان المولود حديثا أعراف الجماعة في عاداتها المتعلقة بتناول الطعام، وكذلك - من جديد - الحياة الجنسية، وبمرور الوقت ستقام لهذا الإنسان جنازة ويدفن (أو لا تقام له جنازة ولا يدفن) وفقا للقواعد المتعارف عليها اجتماعيا، وأحيانا تتمخض تقاليد الجماعة فعلا عن موت أفرادها، وستقرر هذه التقاليد دائما ما يفعل بالجثامين بعد الموت.
قليلون منا كانوا سيجدون في أنفسهم الرغبة في العيش بين هنود الباداي؛ فحتى إذا استطعنا تحمل نظامهم الغذائي المشتمل على اللحم النيئ، فربما نفكر مرتين إذا كان اللحم المقدم لتناوله هو لحم بشري؛ إذ يروي هيرودوت أنه متى مرض الواحد من الباداي، يضع رفاقه المقربون ممن ينتمون إلى نوع جنسه نهاية لحياته؛ خشية أن يفسد لحمه ويفقد صلاحيته لأكله، ولذلك ينفي المريض بشدة أنه مريض (كم هو هائل الحس الكوميدي هنا، فلنا أن نتخيل الباداي وهو ينهض من رقاده محتجا ويقول: «كلا، أنا في الحقيقة أشعر بتحسن كبير اليوم!») وعلى الرغم من كل إصراره، فإنه يقتل ويوزع لحمه في وليمة. وتضحي القبيلة بأي شخص يطعن في السن وتأكل لحمه، لكن قلما يطعن أحد في السن بالتأكيد؛ لأن المرء بقراءته «تاريخ هيرودوت» يتخيل أن أصدقاء الباداي وأهليهم ينهون حياتهم لدى إصابتهم بأولى علامات برد.
يربط هيرودوت، في مناقشته الباداي، بين الموت والأكل، وأما في معالجته التراقيين الذين يعيشون شمال كريستونيا، فالربط يكون بين الموت والجنس/الزواج؛ فهم يمارسون على ما يبدو تعدد الزوجات، وعندما يموت الرجل منهم، تخضع زوجاته لاختبارات دقيقة لتقرير أيهن كانت تحظى بحبه أكثر من غيرها، وبعد سماع الرجال والنساء على السواء يسهبون في تعديد محاسن الفائزة سعيدة الحظ، يقدم أقرب أقاربها على نحرها على قبر زوجها ثم تدفن معه. أما الأخريات فيشعرن أنهن أصبن بمصيبة كبيرة؛ لأنه لا شيء تستحق عليه إحداهن اللوم أشد من عدم وقوع الاختيار عليها.
من ناحية أخرى، يتمكن وصف هيرودوت للماساجيتاي من دمج الجنس/الزواج والموت والأكل في وصف واحد متسق؛ فالماساجيتاي شرابون للبن ولا توجد لديهم زراعة، ومن ثم لا يأكلون إلا اللحوم والأسماك. وعلى الرغم من أن كل رجل ينكح زوجة واحدة، فإنهم جميعا يتشاطرون زوجاتهم مع بعضهم بعضا، ويقررون الوقت المناسب للموت على النحو التالي:
عندما يبلغ إنسان سنا متقدمة، تقيم الأسرة حفلا وتجعله ضمن أضحية عامة من البقر، ثم يسلقون لحمه ويأكلونه. وهم يعتبرون أن هذا أفضل أنواع الموت. وأما من يموتون متأثرين بالمرض، فلا يؤكل لحمهم، بل يدفنون، وتعتبر مصيبة كبيرة ألا يعيش المرء طويلا بما يكفي للتضحية به.
يفعل الإيسودون شيئا مماثلا، لكن فقط بأجساد من ماتوا فعلا؛ فعند موت أبي أحد من رجالهم، يأتي أقاربه كافة بأبقار إلى بيته، وبعد تضحيتهم بالحيوانات وتقطيع اللحم قطعا، يقومون عندئذ أيضا بتقطيع أبي مضيفهم الميت ويولمون باللحم المختلط. وبالإضافة إلى ذلك، ينتفون الشعر من رأس الرجل المتوفى وينظفونه ويذهبونه.
صحيح أن هيرودوت لم يجمع بياناته المختلفة بدرجة كافية للوصول إلى صميم ما يجعل مجتمعا ما يقوم بوظائفه، إذ يحكي لنا الكثير عن طقوس الشعوب التي يناقشها - طقوس الدفن والأضاحي من الحيوانات والأضاحي من البشر من حين إلى آخر - لكنه لا يكاد يحكي شيئا عن منظومات اعتقاداتهم، وهو لم يمكث في أي مكان معين فترة طويلة بما يكفي كي يكون خبيرا بروح هذا المكان؛ ولهذا فإنه غالبا ما ينتقد بأنه لا يمارس إثنوجرافيا «حقيقية»؛ بمعنى أنه لم يكن أكثر من مجرد سائح، فهو لم يتبن بالكامل دور «المراقب المشارك» فيستقر بين شعب ما على مدى الفترة الأنثروبولوجية التقليدية الدنيا، وقوامها سنة، ويسعى إلى الاختلاط بالبيئة المحيطة به فيما يكرس نفسه لمحاورة رواة أصليين. يروي لنا كابوشنسكي كيف أنه تعاطى الحشيش مع بعض الأشخاص الذين تعرف إليهم في السودان، ويورد هيرودوت أن السكيث ينتشون بتعاطي الحشيش بقوله «يصيحون من اللذة»، لكنه لا يشير في أي موضع إلى مشاركته هو نفسه في تلك التجربة. ولا ريب أن الأنثروبولوجيين المحدثين يخدعون أنفسهم عندما يتوهمون أنهم طمسوا هويتهم وتوحدوا مع «شعبهم»، لكنهم على الأقل يتظاهرون بذلك. ولا شك أن هيرودوت تعرض - مثله مثل الإثنوجرافيين المحدثين - لرواة كذابين يجدون أشد المتعة في تضليل باحث لا يسكر.
لم تتركه محدوديته اللغوية تحت رحمة المترجمين والأقلية الناطقة بالإغريقية من السكان المحليين - وهي زمرة قلما تمثل المجتمع كله - فحسب، بل وسمته على الدوام كشخص أجنبي. ويخطر ببال المرء ملاحظات كابوشنسكي الذي يكتب قائلا إنه لا بد أنه كان هناك:
شيء في مظهري وإيماءاتي، في طريقة جلوسي وحركتي، فضح أمري، فأفصح عن العالم الذي أتيت منه وكم هو مختلف. أحسست أنهم اعتبروني أجنبيا ... بدأت أشعر بالانزعاج والضيق. كنت قد غيرت حلتي، لكن فيما يبدو لم أستطع حجب ما كان يقبع تحتها، وهو ما وسمني وأظهرني بمظهر الجسيم الأجنبي.
ولم يكن هذا إلا في روما، التي كانت محطة في طريقه من بولندا إلى الهند! ونعرف أيضا من كابوشنسكي كيف أن واحدا من السكان المحليين أخذه إلى أعلى أحد المساجد ليريه الإطلالة، ثم طالبه بتسليم أمواله. فهل مر هيرودوت بتجارب كهذه؟ لا نعرف أبدا إن كان مر بمثلها. ماذا كان رأي مبحوثيه فيه؟ هل كان يمكث في بيوت الأهالي الخاصة، فيساعد في الأعمال المنزلية؟ أم لم يكن يساعد؟ ليس من الصعب أن نتخيل التمتمة: «إنه ظريف، لكن هل سيقتله المنجل لو أمسك به من حين إلى آخر وساعد في العمل؟»
كان هيرودوت حتما عرضة نوعا ما للسقوط في التعميم، كان يسهل عليه أن يستغل التفاصيل الفردية التي لاحظها ويعممها بشكل مبالغ فيه؛ فيراه المرء في بريطانيا يقول: «إنجلترا بلد شديد البرودة، ويقتات اللندنيون بطعام يسمونه الكاري، فيأكلونه طوال النهار؛ لأنه يبث الدفء في جميع أجزاء أجسامهم، وعندما يعاودهم الشعور بالبرد، يأكلون المزيد منه، وهم يحصلون على هذا الطعام من الهند، حيث يحمل من هناك على ظهور الكلاب التي يراها المرء في كل أنحاء بريطانيا. ويبدو لي أن هذا هو سبب المحبة الشديدة التي يكنها البريطانيون للكلاب.» لكن إذا كنا سنشكو من أن هيرودوت لم يرق، من كل النواحي، إلى معايير الإثنوجرافيين المحدثين، فينبغي أن نلوم أيضا ألكسندر جراهام بل على عدم اختراعه الهاتف المحمول، وتوماس إديسون على عدم اختراعه فرن الميكروويف. وينبغي أن نضع في اعتبارنا الشكوك البالغة المثارة حول إثنوجرافية مارجريت ميد الشهيرة «البلوغ في ساموا»، وهي شكوك اكتسبت مصداقية من حقيقة أنها لم تتعلم اللغة قط، واعتمدت على ناطقين باللغة الإنجليزية من السكان المحليين. والأهم من هذا كله أنه ينبغي علينا أن نتذكر أن هيرودوت لم ينح شكوكه قط؛ فهو يعي تماما عدم إمكانية تعويله حتى على المعتقدات الراسخة أشد الرسوخ لدى رواته، فهو يحكي لنا أن السكيث يقولون إن كل فرد من النوير يصبح ذئبا لبضعة أيام كل سنة ثم يعود إلى هيئته الأصلية، فيورد في كتابه: «أنا نفسي لا أصدقهم عندما يقولون هذا، لكنهم يقولونه مع ذلك، بل وفي الحقيقة يقسمون جازمين بصحته.» ويضحكه مواطنو مدن أيونيا الاثنتي عشرة الذين زعموا أنهم يتحدرون من أنقى سلالة أيونية، ويجادل بقوله إنه حتى المستوطنون الذين انطلقوا من مجلس مدينة أثينا ذاته لم يصطحبوا معهم أي زوجات، بل تزوجوا فتيات كاريات محليات كانوا قد قتلوا آباءهم وأمهاتهم من قبل.
على الرغم مما نراه - نحن المحدثين - غيابا للعمق في الوصول إلى القيم الجوهرية لأي شعب زاره، فإنه يفتتن بصراحة بأوجه الشبه (وأوجه التباين) الكثيرة التي يكتشفها في الطيف الواسع الذي يكون المجتمع الإنساني ؛ فترانيم البابليين الجنائزية تشبه الترانيم المستخدمة في مصر، وشعب قبرص لديه تقليد شبيه بالممارسة التي أبقت على الفتيات البابليات غير الجذابات جالسات - والأمل يحدوهن - في معبد أفروديت لثلاث سنوات أو أربع، ويشبه الإسبرطيون المصريين من حيث إن الشاب يفسح الطريق إذا رأى رجلا أكبر منه سنا مقبلا. علاوة على ذلك، فإن المهن في كلا المجتمعين تورث من الآباء إلى الأبناء، فنجد عازف المزمار ابن عازف مزمار، والطاهي ابن طاه، والمنادي ابن مناد. والممارسات الإسبرطية فيما يخص موت ملوكهم تشبه ممارسات الفرس؛ فعندما يموت ملك وينصب آخر، يبرئ ملك إسبرطة الجديد كل من كانوا مدينين للملك أو الدولة، ويبرئ ملك فارس مختلف المدن من أي متأخرات في الجزية تكون مستحقة عليها. ويدفن البدو - باستثناء النسمونيين، الذين يدفنون الجثامين في وضع جالس (مع الحرص على عدم السماح لأحد أن يموت وهو راقد) - موتاهم مثلما يفعل الإغريق.
شكل 4-1: لم تكن شهية هيرودوت لكل ما هو مصري تعرف حدودا.
1
إن أوجه التباين أساسية لفكرة الإثنوجرافيا؛ فالممارسات المميزة يمكنها المساعدة على تحديد ما يجعل مجتمعا ما فريدا من نوعه، وربما الأهم من هذا كله أن التباينات الشديدة تشكل مادة قصصية رائعة. فالإثنوجرافي كما رأينا ليس مجرد متلصص - على الرغم من أن هيرودوت يتبنى يقينا هذا الدور (وهو دور مثار سخرية بالنظر إلى القيمة المضفاة في حكاية جيجس على قصر المرء نظره على ما يخصه) - بل هو أيضا لديه حب للظهور. فعلى الرغم من البروتوكول المهني الذي يدعو إلى النظر إلى العادات الأجنبية باتزان، من الصعب ألا يصرخ المرء قائلا: «انظر ماذا وجدت! انظر إلى هذا! أليس مدهشا! ليس كأي شيء رأيناه من قبل، أليس كذلك؟» وعند تكليف الطلاب بواجب فيما يخص «أعظم نجاحات هيرودوت»، نجد استعراض هيرودوت للعادات «المقلوبة» في مصر - وهي بلد حتى نهره يتدفق عكس الاتجاه - دائما من بين العناصر المشمولة.
يحدثنا هيرودوت أن معظم الممارسات المصرية هي على العكس مما نجده في كل مكان آخر في العالم؛ فالنساء يشترين ويبعن في الأسواق ، بينما يقر الرجال في البيوت للقيام بأعمال النسج. ويقف النساء ليتبولن، في حين يقعد الرجال القرفصاء. والأبناء غير ملزمين بمساندة أبويهم (على عكس ما كان قانونا في أثينا)، لكن البنات ملزمات بذلك. والإغريق يكتبون من اليسار إلى اليمين، أما المصريون فمن اليمين إلى اليسار، ولا نندهش لقول المصريين إن الإغريق هم من يكتبون بطريقة معكوسة. ويترك الآخرون (ما لم يكونوا متأثرين بالمصريين) الأعضاء التناسلية على حالتها الطبيعية، لكن المصريين يمارسون الختان. وفي الأماكن الأخرى يعفي الكهنة شعورهم، لكن الكهنة المصريين يحلقون رءوسهم. وبين معظم الشعوب الأخرى، يحلق الناس رءوسهم أثناء فترات الحداد، لكن المصريين يعفون شعور رءوسهم ولحاهم (أبدى هيرودوت اهتماما ملحوظا بالشعر، فيقول لنا إن البابليين يعفون شعورهم ويلفون رءوسهم بعمائم، وسكان شبه الجزيرة العربية يقصون شعورهم من كل الجوانب على شكل دائرة، حالقين أصداغهم، ويقولون إنهم يحاكون ديونيسوس، والمكاي يحلقون شعورهم تاركين منها خصلة، فيعفون الشعر في المنتصف لكن يحلقونه على الجوانب).
إن الصورة التي يعرضها هيرودوت للمصريين فيها حتما مبالغة، ونظن أن بعض رواته لم يكونوا صادقين معه؛ فلم يكن النساء باعة التجزئة الوحيدين في الأسر المصرية، ولم يكن الختان يمارس بلا استثناء بين المصريين، وكان الإغريق ومثلهم المصريون يتبولون ويتبرزون في الداخل. لكن تصميم هيرودوت على وجه التحديد على إبراز هذه المقابلات هو الذي يبدي التزامه بالكشف عن التنوع الثقافي الملحوظ للمجتمع الإنساني وإطلاع جمهوره عليه. وليس كل من استلهموا من عمل هيرودوت للبحث عن هذا التنوع اشتركوا معه في حماسه، فقد استلهم الكاتب والفنان جيمس فوربز، المولود في لندن سنة 1749 والمقيم في الهند من 1765 إلى 1784، من عمل هيرودوت، وبين أوجه الشبه بين طقوس التطهر لدى البراهميين والمصريين القدماء، لكنه اختلف اختلافا ملحوظا عن هيرودوت في المنظور، حيث أطلق نداء سنة 1810 موجها إلى الهندوس لاعتناق المسيحية.
ويعد بيان الاختلافات بين الإغريق وغير الإغريق جزءا محوريا من أجندة هيرودوت، ومع ذلك فإن أوجه التباين وأوجه الشبه الكثيرة التي يحكي عن تفاصيلها توضح أنه لا يرى العالم مقسوما بأي حال إلى إغريقي وآخر. ولعل المثال الأشد إثارة للدهشة يأتينا في غزو دارا الفاشل لسكيثيا في الكتاب الرابع، وهي المناسبة التي يورد فيها هيرودوت وصفه الطويل للتاريخ والعادات السكيثية؛ لأن الفرس الغزاة يبدون، مقارنة بالسكيث، طبيعيين تماما؛ وأعني الفرس أنفسهم الذين يراهم الإغريق شعبا غريبا يرتدي ملابس غريبة، وقد تنعم بفضل الثروة ولا يجد مشكلة في نظام حكم سخيف يجعل أمة بأكملها عبيدا وإماء لملك متقلب الأهواء على الأرجح. لكن هؤلاء الفرس أنفسهم لديهم بيوت ثابتة، ويبنون المدن، ويزرعون المحاصيل، أما السكيث فبدو، شعب فقير، دائم التنقل في عربات يتخذونها بديلا عن المنازل، وحركتهم الدائمة تشتت دارا؛ لأنه لا يستطيع إجبارهم على خوض معركة، ويضطر في نهاية المطاف إلى العودة إلى الديار خالي الوفاض. حسنا، ليس خاليا تماما، إذ تمكن من فتح تراقيا، وهي منطقة مفيدة كجدار واق لشن أي غزو لأوروبا، لكنه وقف أمام سكيثيا عاجزا؛ فمجرد افتقار السكيث إلى أساليب «متحضرة» يجعل هزيمتهم أمرا مستحيلا. وهم محيرون حتى في طرق تواصلهم؛ إذ يبعثون إلى الملك بهدية تتألف من طائر وفأر وضفدع وخمس سهام، ويتركون له ومستشاريه مهمة حل شفرة هذه الرسالة الغامضة. وبالنسبة للسكيث التقليديين - لا السكيث الذين يضاجعون النساء الغريبات - لا ريب أن الأمازونيات هن اللائي يمثلن الآخر (تخيل نساء يمارسن القنص ويخضن الحروب!) لكن بالنسبة للفرس، السكيث هم الآخر. وعودة بهذه التناقضات إلى نقطة البداية، ربما نقول إن السكيث المراوغين في عرباتهم لا يختلفون بالكلية عن الأثينيين - وكانوا أيضا في ذلك الحين فقراء - الذين يفرون من الفرس باللواذ إلى أسوارهم الخشبية والرحيل سرا قاصدين سلاميس.
انطلق هيرودوت يمجد ذكرى أعمال الإغريق وغير الإغريق على السواء، لكن في تعامله مع هاتين الفئتين من الناس، وجد أنهما لا تمثلان كتلتين موحدتين؛ فهناك اختلافات مثيرة لم تقسم مختلف جماعات «البرابرة» فحسب، بل قسمت أيضا الإغريق أنفسهم، كما يشهد على ذلك الإسبرطيون الذين تشبه عاداتهم أحيانا عادات البرابرة، ومن ثم فهم حتما موضع اهتمام الرجل الذي وصفه كابوشنسكي بأنه «أول قائل بالعالمية». يمزج هيرودوت في كتابه الأفكار الكبيرة - حرمة الناموس، وإمكانية الانحراف عن الأعراف الأبوية، والتعددية المذهلة للمسارات الإنسانية - بثروة من التفاصيل. ولأنه مسحور بهذه التفاصيل، فهو ينقل إلينا سحرها.
هوامش
الفصل الخامس
المرأة في التاريخ، والمرأة في «تاريخ
هيرودوت»
في ضوء المكانة البارزة التي تمتعت بها النساء في الإثنوجرافيات، ليس من المفاجئ أنهن تلعبن أيضا أدوارا كبيرة في مواضع أخرى في السرد. ولا ننس أن النساء كن في قلب الحكايات الملحمية التي لعبت دورا كبيرا في تشكيل عمل هيرودوت؛ ففي الإلياذة، نجد أن هيلين هي السبب المباشر في الحرب، وأن الفتاتين الأسيرتين كريسيس وبريسيس هما ألعوبتا الحرب، أما أندروماخي وهيكوبه فهما زوجة هكتور القوية وأمه. وتضم الأوديسة مجموعة متنوعة من السيدات البارزات اللاتي يساعدن البطل بالتناوب، ويعرقلن عودته إلى زوجته المخلصة بينيلوبي؛ وأعني الحورية كاليبسو التي تبقيه لسبع سنوات على جزيرتها، والساحرة سيرسي التي تحول رجاله إلى خنازير، والسيرانات المغريات، لكن هناك أيضا الأميرة المعينة نوسيكيا، وأخيرا الإلهة أثينا التي تنقذ أوديسيوس عندما تحس بالخطر. وتنتهي الملحمة بموت الخادمات التعيسات اللائي ضاجعهن خطاب بينيلوبي سيئي السمعة قسرا، حيث يشنقهن أوديسيوس لدى عودته عقابا لهن على ذلك.
تحظى النساء بحضور واسع في «تاريخ هيرودوت» كذلك، حيث عددت الأكاديمية المتخصصة في أعمال هيرودوت، كارولين ديوالد، 375 موضعا ذكرت فيه النساء أو الأنوثة في عمل هيرودوت. وأدوار السيدات في «تاريخ هيرودوت» متنوعة على نحو يفوق العادة؛ إذ يتراوحن بين طاعنات بالسلاح وضحايا اختطاف، وملكات وإماء، ومهندسات هيدروليكيات وفتيات مبكرات النضج. والنساء يجمعن الرجال في تحالفات قائمة على الزواج، ويفرقن بينهم في الصراعات العائلية. وهن يقتلن ويقتلن، وينقذن بعض الأقارب ويقضين على بعضهم الآخر، ولا يمكن أن نتوقع ما هو أدنى من هذا؛ فلا ننس أن هيرودوت أعلن في بداية عمله عن هدفه؛ وهو تخليد ذكرى ما فعله الناس، ذكرى أعظم الأشياء التي حدثت، وعلى وجه أكثر تحديدا، ذكرى كل شيء حدث فيما يخص الحرب بين الإغريق والفرس. ولم يكن ثمة سبيل أمامه كي يفعل هذا دون نطاق رؤية يشمل كلا الجنسين، ويتحرى كل جنس منهما في تشكيلة واسعة من الوظائف.
تظهر النساء لأول مرة في مستهل «تاريخ هيرودوت» عندما يبدأ هيرودوت في سرد سلسلة من الاختطافات المزعومة التي بلغت - وفقا للفرس - أوجها في حرب طروادة، وفي الحقيقة في العداء الطويل بين الشرق والغرب. لكن هيرودوت يروي هذا التفسير الثأري للتاريخ نائيا بنفسه عن الجانبين، موازنا الرواية الفارسية برواية فينيقية، ومقدما رواية إغريقية أيضا. وهو فيما يبدو يقول إن النساء كن محلا للكثير من الحكايات المدغدغة للمشاعر التي يرويها رجال، ويستمتع الناس يقينا بالإنصات إلى هذه القصص، لكن هذا ليس بتاريخ؛ لأن المرء لا يستطيع الحكم على كون هذه القصص التي تعود إلى أزمنة الأساطير صحيحة أم لا. بالأحرى، سيبدأ وصفه في الأزمنة التاريخية بعهد كرويسوس، ملك ليديا، وهو أول رجل على ما بلغه أساء إلى الإغريق دون استفزاز، أو هكذا يزعم. والحقيقة أنه بتحديثنا عن كرويسوس، سيخبرنا بأمر جيجس سلف كرويسوس، الذي اغتصب العرش بعد أن أمره سيده كاندوليس بالنظر إلى الملكة وهي عارية. إنها قصة مؤثرة تقدم منطلقا للصلة بين «تاريخ هيرودوت» و«المريض الإنجليزي»؛ لأن أولماشي يصير متيما حتى الموت بزوجة رفيق له رسام خرائط، عندما تتلو قصة جيجس على مسامع الزمرة المجتمعة حول نار مضرمة في الصحراء. لقد نظرنا إلى هذه القصة من قبل من حيث تعلقها بمسألة الأصل، وهي تستحق التمحيص من جديد لرؤية كيف يوظفها هيرودوت كنموذج لكثير مما سيأتي في «تاريخ هيرودوت».
تكشف حكاية كاندوليس وجيجس والملكة غير المسماة بعمق عن كل من رؤية هيرودوت للتاريخ وانطباعه عن ملوك الشرق؛ ففي مطلع القصة، يحكم كاندوليس ليديا في هناء، متمتعا لا بعطاءات الملك فحسب، بل أيضا باقترانه بامرأة مفتتن بها كل الافتتان؛ فهو لا يشبع من النظر إليها، أو - فيما يبدو - من التباهي بمظهرها، منشئا وثاقا غريبا مع ساعده الأيمن جيجس بضغطه عليه للتفرس فيها بنفسه، على أن يفعل ذلك وهي عارية. ويتصاعد العنصر البصري هنا بفعل وصف كاندوليس عملية التعري التدريجية المطولة التي تمارسها زوجته ليلا، فيشرح قائلا إن هناك كرسيا في المخدع الملكي تضع عليه ثيابها قطعة قطعة أثناء تجردها، ويصر كاندوليس على تلصص جيجس عليها بصورة لا تليق أبدا؛ إذ سيضعه خلف باب المخدع كي يراقبها، وعندما يرى الملكة العارية، عليه أن يخرج خلسة دون أن تراه وهي تسير عارية من الكرسي إلى الفراش مولية ظهرها شطره. ولا نستطيع - نحن الجمهور - أن نقاوم المشاركة في هذا التلصص أيضا، حيث نتخيل نحن أنفسنا الملكة العارية وهي تتحرك من ناحية إلى أخرى في الغرفة، فنتساءل كم طولها، وما عرض ردفيها، وما إذا كان شعرها مسترسلا أم ملموما إلى رأسها.
لكن الملكة ترى جيجس وهو يخرج من المخدع الملكي، فتستجيب برباطة جأش تستحق الإعجاب. فهل يحتمل أن يكون شيء كهذا قد حدث من قبل؟ هل قالت لنفسها: «حسنا، هذا يكفي، هذه آخر مرة أسمح لزوجي بهذا الأمر»؟ غريب أنها لا تفترض أن هناك انقلابا ينفذ، ولا تصرخ طالبة النجدة. إنها تعرف زوجها جيدا، تعرفه أكثر مما يعرفها، وما كان يراه وهو يستمتع بجمالها الخارجي كان في الحقيقة مضللا؛ فهي تهديد أكثر منها كنزا. وبدلا من أن تفضح انفعالاتها أثناء الليل، تستدعي بهدوء شديد جيجس في الصباح وتبين له أنه هو وكاندوليس رأياها عارية، ولا بد أن يرحل أحدهما، وعندما يخير جيجس بين قتل الملك أو الموت، يختار قتل كاندوليس ويتزوج الملكة ويؤسس سلالة حاكمة جديدة.
لم تحافظ هذه الملكة مجهولة الاسم، بعزيمتها القوية، على شرفها فحسب (فالآن هناك رجل واحد فقط على قيد الحياة رآها عارية)، وعاقبت من انتهك حرمتها، بل أعادت أيضا تأكيد أعراف مجتمعها، فالعار كل العار في ليديا - كما يبين هيرودوت - أن يرى الإنسان عاريا حتى ولو كان رجلا، وهو شيء أدهش يقينا القراء في العالم الإغريقي الذي أدى فيه تمجيد الجسد الرجولي الشاب إلى العري في كل من المنافسات الرياضية والتصوير الفني. وقد أبدى جيجس بالتأكيد إدراكه أن خطة كاندوليس الحمقاء تنتهك الأعراف الاجتماعية بتوسله إلى الملك «ألا تجعلني أفعل هذا الشيء المخالف تماما للعرف.» وأشار إلى ضرورة أن يستفيد الناس من منظومة الحقائق الأساسية القديمة التي تشمل مبدأ محوريا يقضي بأن «يقصر كل شخص نظره على ما هو له.» لا تئول الأمور إلى خير بالنسبة لكاندوليس، الذي استهل سلسلة الأحداث المشهودة هذه، لكن الملكة تضمن استقرار ليديا، التي ستكون على الأرجح أحسن حالا تحت حكم جيجس منها تحت حكم كاندوليس - الذي كان ألعوبة لشبقه الجامح - وتؤسس هي وجيجس سلالة حاكمة تدوم أجيالا.
يقدم هيرودوت هذا المشهد في مرحلة مبكرة من كتابه؛ لأنه - أي المشهد - يحكي لنا الكثير بالتأكيد عن أخطار تجاوز الحدود، مثلما يفعل خشايارشا عندما يبني جسرا عبر الهلسبونت، وعن نزعات الأوتوقراطيين المحفوفة بالمخاطر، وعن دور النساء كفاعلات على الساحة الإنسانية، وعن الطبيعة الشرطية للتاريخ؛ فجيجس ما كان ليصبح قط ملكا على ليديا لو لم يكن كاندوليس غريب الأطوار، ولو لم يصبح جيجس ملكا، ما كان سليله كرويسوس ليحكم أبدا ولا ليخوض حربا مع قوروش، وذلك بعبوره نهر هاليس.
نكتشف خلال قراءة الكتاب أن الأوتوقراطيين يسيئون معاملة النساء، ومن هذا تجري العواقب الدرامية؛ فبعد موت قوروش وابنه المجنون قمبيز، والقضاء على من اغتصبوا العرش من بعدهم، دارت مناقشة بين ثلاثة من أعيان الفرس حول نوع نظام الحكم الذي ينبغي أن يقيمونه. يقول هيرودوت إن بعض الإغريق ليسوا مقتنعين بصحة هذه المناقشة، لكنه يؤكد أنه جرت فعلا. فأوتانس - الذي يتحدث أولا - يؤيد الديمقراطية، مؤكدا أنها تحمل أجمل اسم من بين كل أسماء أنظمة الحكم، ألا وهو «المساواة أمام القانون». وليس هذا فحسب، فهو يهاجم الملكية على أساس أن الرجل الذي يحكم بمفرده يقوض تقاليد البلد الراسخة، ويغتصب النساء، ويقتل الرجال دون محاكمة. كل هذه العناصر موجودة في مثلث كاندوليس والملكة غير المسماة وجيجس، حيث ينتهك كاندوليس العرف بإجبار جيجس على رؤية زوجته عارية، أما القاتل المتردد جيجس فهو يقدم على قتل كاندوليس دون محاكمة إنقاذا لحياته (وبالتأكيد لا يقنع أوتانس الآخرين ؛ لأن الملكية استمرت في بلاد فارس كما هو معروف).
يعج «تاريخ هيرودوت» بملوك يسيئون إلى النساء، وكذلك بأوتوقراطيين إغريق يفعلون الشيء نفسه، وهم رجال كثيرا ما يصور هيرودوت سلوكهم باعتباره مماثلا لسلوك المستبدين البرابرة؛ فحاكم ميديا أستياجس يدبر مكيدة لقتل وليد ابنته عند ميلاده، بعد أن أخافته رؤية رآها في المنام، وإن كان الرضيع يفلت من الموت ويكبر ليصبح قوروش، مؤسس الإمبراطورية الفارسية. وابن قوروش، قمبيز، الذي تزوج باثنتين من أخواته منتهكا العرف الفارسي، يقتل إحداهما في نوبة غضب عندما تتفكر بحزن عميق كيف أنه أضعف منعته بقتله الشقيق الذي ربما كان سيقف بجانبه وقت الخطر. ولا يكتفي الحاكم الكورنثي بيرياندر بقتل زوجته ميليسا، بل يمارس الجنس مع جثتها. ويسلك الآسيويون كجماعات سلوكا مخيفا أيضا، حيث يغتصب الجنود الفرس بعض النساء الإغريقيات اغتصابا جماعيا حتى الموت.
أثار عدم سلوك الحكام الشرقيين سلوكا يوفر لهم الحماية الذاتية كما ينبغي (بالضبط كما لم يفعل كاندوليس) اهتمام هيرودوت بدرجة كبيرة، وأتاح له نافذة يطل منها على شخصية وحش الإغريق الفاشل، وهو خشايارشا نفسه؛ لأن هناك في الحقيقة معالجتين متوازيتين لهذا الموضوع تكتنفان «تاريخ هيرودوت»، وهما طيش كاندوليس وطيش ملك الفرس. ويتبين لنا أن خشايارشا لا يفوق كاندوليس حكمة في أمور الشبق، لكن افتقاره إلى الفطنة يتجلى بشكل مختلف نوعا ما؛ فهو - على نحو غير لائق - يسعى إلى غواية زوجة شقيقه العزيز ماسيستس، وعندما يخفق في مسعاه يحاول من جديد مع ابنة ماسيستس، أردانيت، فيزوجها ابنه ليبقيها قريبة منه، وتنجح مغازلاته معها، لكنه نجاح يجلب البلاء لأسرته؛ فهو بالإضافة إلى أن له أخا وزوجة أخ وابنة أخ، له أيضا زوجة هي أمستريس.
أمستريس هي الوحيدة في هذه الحكاية البشعة القادرة على التحكم في مصيرها. ويستخدم هيرودوت في هذه الحكاية فكرة الوعد المقدر استخداما مزدوجا؛ فخشايارشا مفتون جدا بابنة أخيه/عشيقته أردانيت، لدرجة أنه يعرض، دون تبصر، منحها أي شيء تريده. ويبين لنا هيرودوت أن أمستريس كانت قد نسجت لخشايارشا وشاحا جميلا، طويلا وغنيا بالألوان ، وكثيرا ما كان يرتديه وهو ذاهب لزيارة أردانيت، وهذا هو بالضبط الشيء الذي تطلبه منه أردانيت؛ لأنه «كان مقدرا أن تنتهي هي وأسرتها كلها نهاية سيئة» كما يقول هيرودوت. وقد قال الشيء نفسه تقريبا عن كاندوليس. فعل خشايارشا كل ما في وسعه للتملص من وعده إدراكا منه أنه ستقع مشكلات خطيرة إذا وهب أردانيت ما صنعت يدا زوجته، فعرض عليها المدن وما تشاء من ذهب، بل وقيادة جيش، لكن بلا طائل، كل ما كانت تريده هو الوشاح، وبمجرد حصولها عليه دأبت على التبختر به هنا وهناك («انظروا ما أعطانيه عشيقي الملك!») ويبدو أن أردانيت الشابة لديها حب الظهور مثلها مثل كاندوليس.
بعد أن تعلم أمستريس بما يجري، تستغل عادة فارسية تقضي بأن يمنح الملك ضيوفه في حفل عيد ميلاده أي هدية يشاءون، فتطلب زوجة ماسيستس، فيحتج خشايارشا بقوة تارة أخرى، لكن لا خيار أمامه مجددا. وبعد أن تصير المرأة التعيسة في حوزة أمستريس، تستعين بحرس خشايارشا الشخصي على قطع ثدييها وأنفها وأذنيها وشفتيها ولسانها، ثم ترسلها إلى بيتها كي يراها ماسيستس، الذي يجن جنونه فيجمع أبناءه ويعلن تمردا، لكن جيش خشايارشا يلحق بهم ويقتلهم. وهكذا فقد خشايارشا أخاه الحبيب، لكن أمستريس دمرت الأسرة التي هددتها. لا نعرف إلى أي مدى عاشت هي وخشايارشا معا في هناء بعد ذلك، لكن من بين كل الشخصيات التي اشتملت عليها هذه الدراما، هي وحدها التي ينتهي بها الحال وهي على القمة؛ إذ سيعرف قراء هيرودوت أن خشايارشا قتل بعد ذلك ببضع سنين في مؤامرة اشترك فيها ابنه الذي يخونه أبوه مع زوجته. لقد انتهكت أمستريس، مثلها مثل زوجة كاندوليس، على يد زوج مستهتر (لن يكون خشايارشا آخر سياسي يختار عشيقة مشكوك في فطنتها)، وهي - مثلها أيضا - توضح أن معرفة المرء كيف يعامل زوجته جزء لا يتجزأ من كونه حاكما صالحا. إنها ليست شخصية محبوبة للغاية، لكنها جريئة وقوية العزيمة.
إذن فأول الحكايات التي تحكى في «تاريخ هيرودوت» - وهي بعيدة كل البعد عن كونها مجرد مكيدة من مكائد البلاط - تفتح الباب أمام قضايا أوسع ستلعب أدوارا أساسية في سرد هيرودوت؛ ألا وهي نزوع الأوتوقراطيين (والآخرين ممن هم في المجتمعات الأوتوقراطية) إلى إساءة معاملة النساء، وأخطار حب الظهور، والمكانة البارزة لدور المرأة في التاريخ، وضرورة أن يعامل الرجال النساء معاملة كريمة.
يصور «تاريخ هيرودوت» النساء على امتداد صفحاته كمفعولات بهن وفاعلات على السواء، وبما أنه من البديهي أن تجعل الحرب النساء ضحاياها البائسات، فإن دورهن الفعال هو الأجدر بالملاحظة. وقليل من نساء هيرودوت يخدمن في الجيش، لكن من يخدمن فيه لا ينسين، وأبرزهن تومايريس ملكة الماساجيتاي، وأرتميسيا ملكة هاليكارناسوس. فتومايريس هي التي تسقط قوروش، مؤسس الإمبراطورية الفارسية المهيب. ويقدم موته على يدي امرأة صورة مقلوبة تماما لمولده ونشأته؛ فعندما سعى جده أستياجس إلى التخلص منه، كانت البسيطة سينو، زوجة راعي غنم، هي التي أخذته وربته كابن لها، مستعيدة بذلك التوازن إلى كل من أسرتها - إذ كان الطفل الذي وضعته لتوها جهيضا - وإلى الأسرة المالكة التي أيقنت أنه لا ينبغي أن تحرم من وريثها الشرعي. وبعد أن يستعيد قوروش ميراثه ويحل محل المتآمر أستياجس، يمضي ليتمتع بعلو نجمه كحاكم إلى أن يلاقي صنوه على هيئة الماساجيتاي الذين كانوا يعيشون شرق بحر قزوين. يقول هيرودوت إن عوامل عديدة كانت وراء حماسه للهجوم على هذا الشعب، لكن العاملين الرئيسين هما نجاحه الدائم في حملاته السابقة و«إيمانه بالطبيعة الخارقة لمولده». بعبارة أخرى، لولا المرأة التي أنقذته؛ وهي سينو (وكان والداه قد نشرا القصة الإعجازية التي تقول إنه ربي على يد كلبة، وهو ما كانت تعنيه كلمة «سينو»)، ما كان قوروش ليمضي قط لمهاجمة امرأة أخرى، وهي المرأة التي دمرته في معركة وصفها هيرودوت بأنها «أشرس معركة على الإطلاق تدور رحاها بين طرفين غير إغريقيين»؛ فتومايريس متحجرة القلب ومتعطشة للدماء، وهذا أمر معقول؛ فهي لا تحارب للدفاع عن أرضها فحسب، بل لتثأر لابنها الذي انتحر عندما وقع في أسر قوروش. وعندما تمسك رأس قوروش، تحشرها في زق مليء بدم بشري ، موفية بعهدها الذي قطعته له بأن «تروي تعطشه للدماء».
وأما أرتميسيا ملكة هاليكارناسوس فهي قصة مختلفة تماما، يأتي هيرودوت بأرتميسيا على خشبة المسرح لأول مرة أثناء تعديده ضباط أسطول خشايارشا، فيقول إنه لا حاجة إلى ذكر كل الضباط واحدا واحدا، لكن ثمة اسما واحدا لا يمكن إغفاله؛ «لأنني أعتبر أن مشاركة أرتميسيا، وهي امرأة، في الحملة ضد اليونان من العجائب.» لا غرو أن هيرودوت كان فخورا يقينا بأن فتاة من بلدته الأصلية حققت إنجازا، لكن اهتمامه بها يتجاوز حدود التفاخر؛ ففي تفسيره، تقوم أرتميسيا، مثلها مثل تومايريس، بدور ملحوظ ككاسرة للقواعد الجنسانية تشكك في الأدوار الجنسانية التقليدية في كل من العالم الإغريقي والعالم البربري. وكما يروي هيرودوت، فعلى الرغم من أنها كان لها ابن ناضج قادر تماما على قيادة قواتها المسلحة، كانت متحمسة للمشاركة في الحملة بشجاعة ورجولة، وهما صفتان لا ينسبان غالبا لامرأة. هذه الخصوصية الجنسانية تعاود الظهور بعد موقعة ثيرموبيلاي، وذلك عندما تحذر أرتميسيا وحدها من بين قادة خشايارشا من القتال في سلاميس، موضحة أن الفرس يمكنهم بسهولة أن يفوزوا بلا منافسة إذا امتنعوا عن قتال الإغريق ضعاف المعنويات. وتقول إن خوض معركة بحرية فكرة مفزعة؛ بما أن «الإغريق متفوقون بشدة على رجالك، فيما يتعلق بالقتال في البحر، كتفوق الرجال على النساء!» وهذه ملاحظة لا تنسى جاءت على لسان قائدة بحرية. إن أرتميسيا متماهية بشدة مع الرجال لدرجة أنها تعتنق تنميطهم الجنساني، على الأقل لأغراض خطابية، وعلى الأقل في إعادة هيرودوت بناء الأحداث.
يفتقر مستشارو خشايارشا الآخرون إلى الخيال في التكهن برد فعله بقدر افتقارهم إليه في وضع استراتيجية بحرية، فهم يتوقعون أن يغضب الملك. ولكن الحقيقة أنه يعجب بها أشد الإعجاب، لكن لأنه خشايارشا، لا يستطيع تصديق أن أرتميسيا على صواب، فلا يقبل نصيحتها. يهتز هيرودوت طربا بكل تأكيد لإطلاعنا على الحيلة البارعة التي أنقذت بها أرتميسيا نفسها؛ إذ أقدمت لما طاردتها سفينة أثينية - وفي إبانة غير عادية عن سرعة التفكير - على ضرب سفينة أخرى تقاتل في صف الفرس فأغرقتها على الفور، فافترض القبطان الأثيني أنها لا بد أن تكون إما إغريقية وإما فارة من القتال في صف الفرس، فتخلى عن مطاردتها. أما خشايارشا، ظنا منه أن أرتميسيا لا بد وأنها أغرقت سفينة إغريقية (وقائلا ما هو متوقع أن يقوله عن الجنسين)، هتف قائلا: «رجالي تحولوا إلى نساء، ونسائي تحولن إلى رجال!»
في النهاية لا تؤثر أرتميسيا على مسار التاريخ؛ إذ لا تكفي بطولاتها على متن السفن للحيلولة دون انتصار الإغريق، لكن هناك نساء أخريات يصورن باعتبارهن يلعبن أدوارا كبيرة في تشكيل الأحداث؛ فزوجة كاندوليس تتسبب في تحول في السلالات الحاكمة في ليديا، لكنها تضع أيضا الأساس لإطاحة كرويسوس في الجيل الخامس كانتقام إلهي للجريمة التي حرضت عليها جيجس، حيث تنقذ الجارية سينو قوروش وتربيه، وتتسبب الملكة تومايريس في موته. ولا شك أن دارا لديه دوافع كثيرة لغزو اليونان، من بينها التمرد الأيوني، لكن وصف هيرودوت يسلط الضوء على تسلسل الأحداث التي بدأت بخراج في ثدي أتوسا زوجة الملك التي - بدافع من عرفانها العميق بالجميل للطبيب اليوناني ديموسيدس - تلبي طلبه بأن تلح على دارا للمسير إلى اليونان، وتنجح في مسعاها.
خاتمة إغريقية:
نظرا لمكانة النساء البارزة بشدة في الحياة العامة خارج اليونان، يكرس هيرودوت مساحة أكبر نوعا ما للنساء «البربريات» مقارنة بالإغريقيات، لكن الإناث الإغريقيات يلعبن أدوارا أساسية في «تاريخ هيرودوت» أيضا؛ إذ يقودنا السرد إلى اعتقاد أن تمرد الأيونيين على بلاد فارس ربما كان سينجح لو أن جورجو - ابنة كليومينس ملك إسبرطة الصغيرة - لم تحذر أباها من أخذ أموال من المحرض أرستاجوراس، فالأنماط غير الإغريقية لها نظائر إغريقية. وعلى الرغم من أن هيرودوت يربط الوحشية في اليونان في المقام الأول بالحكام الأوتوقراطيين، فإنه يعيد أيضا إنتاج نمط الفعل الذكوري ورد الفعل الأنثوي بين الشخصيات الإغريقية المتواضعة، حيث يروي أن نساء ملطية تناقلن جيلا بعد جيل قانونا يحظر عليهن تناول الطعام مع أزواجهن أو مخاطبتهم بأسمائهم، مقدما التفسير التالي: كان هؤلاء النساء قد أجبرهن الإغريق الذين قتلوا آباءهن وأزواجهن وأبناءهن على الزواج منهم. إن الهمجية الفارسية أكثر شيوعا من الإغريقية، لكن الفرس ليسوا محتكرين للوحشية.
تستحضر حكاية النساء الملطيات الأمازونيات اللائي نقلن - كما رأينا - ثقافتهن إلى أطفالهن. أما لمنوس فقصة مختلفة، حيث حاول النساء هناك أيضا أن يفعلن هذا، لكن جهودهن أسفرت عن مقتلهن ومقتل أولادهن. ويروي لنا هيرودوت كيف أنه عندما أسر البيلاسجيان بعض النساء الأثينيات وأجبروهن أن يكن محظيات في جزيرة لمنوس، دأب هؤلاء النساء في البداية على الحفاظ على ثقافتهن، فلم يعلمن بناتهن فحسب، بل أبناءهن أيضا «أن يتصرفوا مثل الأثينيين وينطقوا بالإغريقية الأتيكية.» لكن بمرور الوقت، بدأ هؤلاء الأطفال يستعلون على ذرية نساء البيلاسجيان، مما أثار قلق البيلاسجيان بشأن ما سيحدث عندما يكبرون، وبالتالي قرروا قتل أولادهم من الأثينيات، وكذلك قتل الأمهات.
يعزو هيرودوت إلى هذه الواقعة - «بالإضافة إلى الواقعة السابقة عندما قتلت نساء لمنوس أزواجهن» - العادة الإغريقية المتمثلة في الإشارة إلى أي جريمة نكراء بقولهم «فعلة لمنوسية». والتأكيد هنا لافت للنظر؛ فالخرافة القديمة التي تتحدث عن قتل نساء لمنوس أزواجهن تبدو كملاحظة ثانوية، بينما يسلط الضوء على الرواية التاريخية لجريمة الرجال المروعة بقتلهم محظياتهم وأولادهن بوصفها أصل الفعل الشائع. أجل، النساء في «تاريخ هيرودوت» يفعلن أشياء رهيبة، لكنها ليست أسوأ مما يفعل الرجال، وغالبا ما تكون رد فعل لوحشية الذكور؛ فهن يفعلن، ويرددن الفعل، ويفعل بهن. فيمكنهن أن يقتلن، لكن يمكنهن أيضا أن ينشئن. وعندما يقتلن، يورد هيرودوت سياقا مهما؛ لذا فعندما يقترح الأثيني لسداس بعد موقعة سلاميس أن ينظر إخوانه المواطنون في عرض سلام فارسي، تقصد نساء أثينا بيت لسداس وترجمن زوجته وأولاده، لكن ليس قبل أن يرجم رجال أثينا لسداس نفسه.
على امتداد صفحات «تاريخ هيرودوت»، يستخدم هيرودوت النساء لتبيان ميول الرجال الخطيرة، لكن النساء تثرن في الوقت نفسه اهتمامه كفاعلات في حد ذاتهن. ويحاكي هذا النمط معالجة غير الإغريقيات في الإثنوجرافيات، فوجودهن مفيد لعملية التفكير بفضل الطريقة التي يقدن بها القارئ إلى النظر إلى النواميس الإغريقية من زاوية جديدة ، لكن عاداتهن أيضا تستحق الدراسة بذاتها. والنساء اللاتي يناقشهن هيرودوت متنوعات فوق العادة، مثلهن مثل مختلف الشعوب التي درسها. وهيرودوت ليس من معتنقي فلسفة الجوهرية في أسلوب دراسته النساء؛ ففي نهاية المطاف، تعد النظرة الكونية الواسعة - التي ترفض اعتبار النساء عرقا منفصلا عن الرجال له سماته المميزة والعامة - واحدة من الروابط الأساسية بين «تاريخ هيرودوت» والملاحم الهوميرية.
الفصل السادس
هيرودوت والآلهة
ظل الإيمان بأن هناك «شيئا موجودا» خارج نطاق ما هو بشري محض وطبيعي محض قائما على مر التاريخ؛ فقد كان الدين في أغلب الأحوال من العموميات الثقافية عبر الزمان والمكان، على الرغم من أقلية عنيدة من المشككين، بعضها سري وبعضها الآخر علني. ويبدو الإيمان بالقوى فوق البشرية - أو الخوف منها - وبقدرتها على تشكيل الأحداث واسع الانتشار، وقد صممت شبكة واسعة من المنظومات لتحقيق الوصول إلى خواطرها وأمنياتها بالصلاة، أو بتأويل أشياء كالطوالع والأحلام ونبوءات الآلهة، أو بالاثنين معا.
وسوف نكتفي بالنظر في نبوءات الآلهة. أقام المصريون معبدا في بيت وادجيت حتى قبل تأسيس الدولة المصرية في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد، وفي زمان هيرودوت، كان هذا الموقع يعرف باسم بوتو، وكانت كاهنته ما زالت محل تبجيل كبير. وكان الصينيون الذين عاشوا إبان أسرة شانج يلتمسون الإرشاد والهداية من «صدف الكهان». وأقام شعب مكسيكا مدينة تينوتشتيتلان في الموقع الذي تحتله الآن مدينة مكسيكو سيتي استنادا إلى إحدى نبوءات الآلهة. وفي منطقة الهيمالايا، ما زال العرافون يلعبون دورا مهما في اتخاذ القرارات الحكومية ويوفرون أيضا المعلومات الاستخباراتية، وكثيرا ما يستشير الدلاي لاما عراف التبت الرسمي، كاهن نيتشونج. بل إن بعض الأنفس الشجاعة تتوسل إلى نوع جديد من العرافين، حيث يخضعون أنفسهم لاختبارات وراثية لا تخبرهم بعمرهم المتوقع فحسب، بل أيضا بالمرض الذي يرجح أن يودي بحياتهم في النهاية.
تبرز مساحة كبيرة من «تاريخ هيرودوت» أهمية استيعاب تصريحات العرافين وتحليلها بتواضع وحذر. ولا يدهشنا أن هيرودوت يستخدم الطريقة التي يستجيب بها من جاءوا في كتابه للعلامات الإلهية لبيان كل من شخصية أفراد معينين والطبيعة الإنسانية بشكل أعم، ولقول شيء عما يقرر مسار التاريخ وما لا يقرره.
تأمل كرويسوس، الذي عندما تقلقه قوة قوروش المتنامية يرسل مبعوثين إلى تشكيلة واسعة من العرافين في كل أنحاء اليونان وإلى كاهن آمون في ليبيا، مختبرا إياهم ليكتشف أيهم يعرف ماذا يفعل في اليوم المائة من انطلاق الرجال في رحلتهم. وعندما تصيب كاهنة أبولو في دلفي كبد الحقيقة - وكان هو على وجه التحديد يسلق لحم حمل وسلحفاة في قدر من البرونز - يقرر أن يضع ثقته في دلفي ويقدم قرابين سخية هناك. وعندما نصح بضرورة تبين أي الدول الإغريقية ستكون أقوى حلفاء له، وأوعز إليه بأنه إذا خاض حربا مع الفرس فسوف يدمر إمبراطورية قوية، يشرع في استقصاء للسياسة الإغريقية (وهو ما يتيح لهيرودوت فاتحة طبيعية لبعض الخلفية عن أثينا وإسبرطة). كل شيء على ما يرام حتى تلك المرحلة، وكرويسوس يتصرف مثل مستقص هيرودوتي بكل معنى الكلمة، لكن في خضم لهفته على هزيمة قوروش، فاته أن يسأل أي إمبراطورية سيدمر.
يمضي كرويسوس - غير راغب في التخلي عن مسعاه بينما هو في الصدارة كما قد يبدو - ليسأل عما إذا كان عهده سيدوم طويلا، فترد الكاهنة بقولها إنه سيكون آمنا حتى يتربع بغل (والكلمة ذاتها بمعنى هجين) على عرش فارس. وهناك كثير من السخرية في استخدام هيرودوت النبوءات؛ فالجمهور يعرف أن ليديا ستسقط في يد قوروش، لكن كرويسوس لا يعرف، وهو - غير عارف بمسرحية ماكبث - لا يدرك أن ما يقدم له ضمانة زائفة. وكحال الملك الاسكتلندي الذي تروقه النبوءة التي تقول إنه لن يلحق به أذى شخص ولدته امرأة، يسر كرويسوس برد الكاهنة؛ إذ كيف يمكن لبغل أن يحكم إمبراطورية؟ لكن كما سيقتل ماكبث على يد مكدوف، «الذي أخرج من رحم أمه مبتسرا»، يهزم كرويسوس على يد قوروش، وهو «هجين» نصف ميدي ونصف فارسي. ففكرة «النبوءة الخادعة» الشائعة تفسد حياة كرويسوس ومملكته؛ فعلى الرغم من تحرياته الشاملة، فإن إغفاله مرتين تحري العناية الواجبة - التحقق أي الإمبراطوريتين سيدمر، وتحري إمكانية أن تكون كلمة بغل مستعملة استعمالا مجازيا - كان فيه نهايته.
وهناك المزيد. كانت الكاهنة قد حذرت سلف كرويسوس وقاتل مليكه جيجس من أن سلالته لن تدوم إلا إلى الجيل الخامس. وبإغفاله هذا الموضوع، رتب هيرودوت ببراعة لكي ينساه قراؤه، تماما مثلما نسيه كرويسوس. لكن سقوط الملك في نهاية المطاف محتوم على نحو مزدوج؛ إذ كان كرويسوس غير دقيق في تفسيره للنبوءة، لكنه كان أيضا ضحية قدر لا يرحم. وليس من قبيل المصادفة أن «تاريخ هيرودوت» وضع خلال أوج المأساة الإغريقية التي حام فيها القدر والإرادة الحرة حول أحدهما الآخر مع حصول نتائج كارثية، والتي كانت على الرغم من ذلك مثقلة بالسخرية أكثر من كتاب هيرودوت.
يكشف لنا أيضا عن شخصيات أساسية في معارك الحروب الفارسية من خلال الطريقة التي تستجيب بها لنبوءات الآلهة؛ إذ يؤكد هيرودوت أنه بسبب نبوءة تقول إنه لا يمكن تحقيق نصر إغريقي في ثيرموبيلاي إلا بموت ملك إسبرطي، صرف الملك ليونيداس السواد الأعظم من قواته. وهكذا تصور الحملة كتضحية طوعية لا هزيمة في معركة، وتضفى صفات البطولة على ليونيداس. ومن جانبه، يصور الأثيني تيميستوكليس كمستجيب لنبوءة إلهية، لا بالتضحية بالنفس بل بالحنكة والمهارة السياسية؛ إذ عندما تتنبأ عرافة دلفي بأن جدارا خشبيا سيساعد الأثينيين، فإن تيميستوكليس هو الذي يتمكن من إدارة دفة الحديث عن النبوءة نحو اعتبار أن الجدار الخشبي لا يعني الأكروبوليس الحصين بل الأسطول، فيوجه تيميستوكليس وقدراته على الإقناع المفاوضات بين الدول الإغريقية التي تتسم بالحدة أحيانا، فيطرح - وهو المفاوض الصعب دائما - نبوءات إلهية (حقيقية أو مختلقة) تتنبأ بأن الأثينيين سينتقلون يوما ما إلى إيطاليا؛ ليعضد تهديده بسحب الأسطول الأثيني إذا رفض الآخرون القتال في سلاميس. وعندما يترنح الائتلاف، توقع حنكته وجرأته الفرس في شرك شن الهجوم في الوقت الذي تكون فيه الفرق العسكرية الإغريقية في خطر التفتت والتبعثر عائدة إلى ديارها، فيلي ذلك انتصار إغريقي حاسم.
شكل 6-1: تظهر هذه المزهرية التي تعود إلى أوائل القرن الخامس كرويسوس على المحرقة بعد أن أوصله إليها قوروش المنتصر . وهو - وفقا لهيرودوت وبعض الكتاب الإغريق الآخرين - لم يمت بل أنقذت حياته، إما على يد قوروش وأبولو، وإما على يد أبولو وحده.
1
ما كان سرد هيرودوت ليكتمل دون المحاولات العقيمة لإفشال نبوءات العرافين؛ إذ يتبين لنا أن كورنثة كانت تخضع لحكم أوليجارشية قليلة العدد، قوامها عشيرة واحدة هي أهل باخياس، الذين لم يتزاوجوا إلا فيما بينهم. ولما لم يجد أحدهم شخصا يرغب في الزواج من ابنته الكسيحة لابدا، زوجها رجلا يدعى إيتيون من قرية بترا، لكن الزواج لم يثمر عن أطفال. وعندما استشار إيتيون المغموم كاهنة دلفي بشأن فرص إنجابه وريثا، قالت له إن لابدا حبلى في الحقيقة بطفل سيسقط على الباخياسيين كحجر رحى ويجلب العدل إلى كورنثة، فشرع الباخياسيون، الذين كان لديهم بالفعل من الصعوبات ما يكفيهم، في التخلص من وليد لابدا. والحكاية الرائعة التي يحكيها هيرودوت، أو بالأحرى يرويها على لسان شخص يدعى سوسيكليس الكورنثي، واحدة من أبرز الحكايات في «تاريخ هيرودوت».
يصل الجنود إلى بترا رغبة منهم - كما يقولون - في تقديم التحية والاحترام للوليد بدافع محبتهم إيتيون، لكنهم في الحقيقة ينتوون قتله. كان المنتظر من أول رجل يمسك بالطفل أن يقذفه بعنف على الأرض، لكن شاءت المصادفة الإلهية أن ينظر الوليد عاليا إلى الرجل الذي ينتوي قتله ويبتسم، وهكذا يتناوب الجنود حمل الطفل معيدين إياه في النهاية إلى أمه دون أن يقدر أي منهم على قتله.
عاد الجنود لمحاولة ثانية خشية مواجهة سادتهم الباخياسيين، لكنها تخفق هذه المرة لسبب مختلف؛ إذ فطنت لابدا - وهي التي لم تكن حمقاء - إلى نواياهم، فعمدت إلى إخفاء الطفل في خزانة (تعني باليونانية كيبسيلوس)، وبعد أن يعجز الجنود عن العثور على الطفل الذي بقي هادئا على نحو خارق للعادة، يرحلون، فتسمي لابدا ابنها «كيبسيلوس» تيمنا بالخزانة، ويكبر كيبسيلوس ليطيح بالأرستقراطية الباخياسية ويصبح حاكم كورنثة (أما كيف بدأت هذه القصة غير المعقولة في كورنثة فلا يسع المرء إلا أن يتخيل؛ فربما كان الهدف منها تفسير اسم كيبسيلوس الغريب).
وهكذا يدمج هيرودوت نبوءات العرافين التي كانت واسعة الانتشار في الثقافة اليونانية في سرده لعدة أغراض؛ فتفاعل كرويسوس مع دلفي يذكر القارئ بقوة القدر ويكشف عدم قدرة الملك على التعامل مع أقوال العرافة بحدة الذهن المطلوبة، ومثلما رفض حكمة سولون غير المرغوب فيها بلا تمحيص، يقبل الأنباء التي يريد سماعها بلا تمحيص. أولا: كان كرويسوس قد اختبر العرافة بأن سألها عما كان يفعله هناك في ليديا، فنجحت، ثم تختبر العرافة كرويسوس فيفشل، والنتيجة هي اتساع إمبراطورية قوروش. ويبلور تصميم ليونيداس على تحقيق النبوءة التي تنبأت بموته البطولة المتأصلة في الشخصية الإسبرطية، ويستحضر بطولة إلياذة هوميروس، كما أن المعركة التي تدور رحاها على جثته تستحضر المعركة التي تدور رحاها على جثة باتروكولوس رفيق أخيل. وفي الوقت نفسه، يبرز توجهه الوطني وميله إلى التضحية تباينا مقصودا مع العنصر الشديد الشخصية الذي كان يدفع أبطال هوميروس، الذين كانوا ينشدون المجد لأنفسهم لا لمدنهم. وقدرة تيميستوكليس لا على «التنبؤ» بمعنى نبوءة «الجدار الخشبي» فحسب، بل على إقناع الأثينيين المترددين بأنه على صواب، تسلط الضوء لا على شخصيته فحسب بل على الطبيعة الشرطية للتاريخ؛ إذ لو لم يكن الأثينيون محظوظين بما يكفي ليكون بينهم تيميستوكليس، لربما لم يعقدوا فعلا أملهم على الأسطول، ولمكثوا في أثينا ولذبحوا على أيدي الفرس. فالتاريخ - كما كتب العميد بحري صمويل موريسون - «هو كذلك، غير مضمون النتائج.» ويسلط الضوء على طبيعة الأوليجارشية القاتلة من خلال فرق الإعدام التي أرسلها الباخياسيون للتخلص من وليد لابدا، لكن دهاء لابدا الأمومي يضاهي دهاء سينو، الجارية التي أنقذت قوروش الوليد ونشأته حتى صار رجلا، وها هي مرة أخرى امرأة ترقى إلى مستوى الحدث عندما تواجه العنف الذكوري. وعلى الرغم من أن طفلها يكبر ليطيح بعائلتها، فهو على الأقل حي ليفعل ذلك.
إذن فهيرودوت يستخدم الدين في خدمة أجندته السردية. لكن ماذا عن عقائده هو؟ ما الدور الذي نسبه هيرودوت للآلهة في تشكيل الأحداث؟ كانت مسألة معتقدات هيرودوت الدينية موضع جدال أكاديمي عنيف نوعا ما، حيث يؤكد البعض على نزعة هيرودوت الشكوكية، ويعتبره آخرون إغريقيا تقليديا من إغريقيي عصره، ربما خاطر بركوب البحر لإشباع فضوله بشأن العالم البشري، لكنه كان يقبل التعاليم التقليدية حول آلهة جبل الأولمب قبولا مطلقا، وبين هؤلاء وأولئك يوجد من يرونه وسطا بين هذا وذاك.
ثمة نقطة جيدة للدخول في هذا الجدال، ربما تتمثل في توضيح ما لم يكنه إحساس هيرودوت بالآلهة؛ فالآلهة المتنازعة المتضاربة المصورة بصفات بشرية التي نراها مثلا في الإلياذة، حيث تجرح أفروديت في رسغها وتذهب إلى زيوس باكية من هذه الإصابة، غائبة تماما عن «تاريخ هيرودوت». ولتتأمل الطاعون الذي يصيب الإغريق في مستهل القصيدة؛ فعندما يرفض القائد العام للإغريق قبول فدية مقابل سبية حرب تصادف أن كان أبوها كاهن أبولو، يذهب الكاهن إلى أبولو ويطلب منه معاقبة الإغريق، فيوافق الرب:
فحث الخطى من أعالي الأولمب وقد تمكن الغضب من قلبه.
نزل حاملا قوسه وكنانته وسهامه تصلصل على كتفيه ...
كان مجيئه كالليل، ثم قعد الإله،
بعيدا عن السفن ورمى سهما.
فأحدث القوس الفضي رنينا مدويا. انقض على البغال أولا،
والكلاب السريعة، ثم الرجال ...
فتأججت كثيفة نيران محارق الموتى.
إن لدى الرب قلبا وكتفين وقوسا وكنانة وسهاما! وهو يقعد! هذا الإله الهوميري بعيد كل البعد عما نجده في عمل هيرودوت.
في الحقيقة، نادرا ما يصرح هيرودوت بإيمانه بإله معين من آلهة الأولمب، وهو أكثر ميلا بكثير إلى الحديث عن «الآلهة» كقوة هادية في الشئون الإنسانية منه إلى تحليل أهم المشاركين في الحروب الفارسية باعتبارهم يقاتلون على تضاريس أرضية، فيما تخطط آلهة الأولمب المشاكسون في السماء لقتلهم على سبيل الرياضة. فما نجده في «تاريخ هيرودوت» ككل هو قوة متسامية غير شبيهة بالبشر تمارس عملها. نعم، كثيرا ما يذكر «الإله»، لكن دون تحديد أي إله بوجه عام، كما يتحدث هيرودوت أيضا عن المصادفة الإلهية وعن التنبؤ وعن العناية الإلهية. ولم يكن هيرودوت منقطع النظير في توجهه، فأسلوبه في تناول «تلك القوة الموجودة هناك» يذكرنا بزعم زينوفان أن «هناك إلها واحدا، فوق الآلهة وأعظم الرجال، ولا يشبه البشر بأي حال، جسدا وعقلا.»
إذن، ما مجال الإله المتسامي في «تاريخ هيرودوت»؟ بادئ ذي بدء، يكاد الإله (لكن ليس بالكلية) يعمل كقوة من قوى الطبيعة للحفاظ على التوازن. فلماذا توجد أسد قليلة لكن توجد فيما يبدو أرانب لا حصر لها؟ إن هيرودوت لديه إجابة: بصيرة الإله في حكمته جعلت المخلوقات الوديعة واللذيذة كثيرة النسل، بحيث لا يفنى نوعها نتيجة افتراس أفراده، في حين أن الحيوانات الوحشية الضارية تنتج ذرية قليلة. فالأرانب البرية على سبيل المثال هي الحيوانات الوحيدة التي يمكنها أن تحبل ثانية وهي حبلى، بحيث تحمل الأنثى الواحدة في رحمها أجنة في مراحل متفاوتة من النمو، بعضها أملس، وبعضها مكسو بالفراء، وبعضها في طور التكوين (غير صحيح، ف «الحمل على الحمل» يمكن في الحقيقة أن يحدث لدى الأرانب، لكن المواليد تصل في مرحلة النمو ذاتها). من ناحية أخرى، لا تلد اللبؤة إلا شبلا واحدا في العمر؛ لأن براثن الشبل الحادة تدمر الرحم أثناء تحرك الجنين قبل مولده (مرة أخرى أقول كلا، وهذا أيضا منطق مغلوط؛ فوفقا لهذا الاستنتاج كانت الأسود ستنقرض قبل زمان هيرودوت بفترة طويلة!) هذا النوع من التوازن يظهر أيضا فيما يتعلق بمعارك الحروب الفارسية ذاتها، حيث يستحضر هيرودوت الإله بصفته مصدر عاصفة تهب قبالة جزيرة وابية، وتدفع عددا كبيرا من سفن الفرس إلى الارتطام بالساحل الصخري في الظلام. وهو يقول إن هذا من «فعل الإله» لتقليص ميزة الفرس العددية في البحر، وموازنة التفاوت الهائل بين أعداد الإغريق والفرس. ليس من الواضح أن إلها إغريقيا معينا مقصود هنا، ويبدو أن الهدف من وراء عدم تعيين إله هو الوصول إلى «معركة عادلة». وهكذا يحض ملتيادس الأثينيين على الهجوم دون إبطاء في سهل ماراثون، فيقول: «يمكننا الفوز في هذه المعركة إذا كانت الآلهة منصفة.» (والمعنى حرفيا: «إذا وزعت الآلهة الأشياء بالتساوي».)
يتحرك الإله أيضا لعقاب العجرفة والشطط. فهيرودوت يبدي سروره دون مواربة بتسجيل النهاية البشعة للملكة الإغريقية فرتيما التي جلبت غضب «الآلهة» (دون تسمية) بنسبها لنفسها انتقاما لا يجوز إلا للآلهة؛ فعندما قتل ابنها أركيسيلاوس، ملك قورينا بشمال أفريقيا، في بلدة برقة، خوزقت فرتيما من اعتبرتهم مسئولين عن الفعلة على مسافات على امتداد أسوار المدينة بكاملها، ولم يكفها هذا العمل الوحشي، إذ أمرت أيضا بتقطيع أثداء زوجاتهم وزينت بها الأسوار. لكن نهايتها لم تكن نهاية سعيدة؛ لأنها ماتت ميتة بشعة بعد ذلك مباشرة، حيث أكلت الديدان جسدها وهي حية، «كما لو أن الغرض أن يبين للناس أن الشطط في الانتقام يجلب سخط الآلهة.»
يمكن أن يحذر الإله من بلاء سيأتي، لكن لا يكون التحذير دائما على نحو يمكن المحذرين من تجنب ما يخبئه لهم القدر؛ فالناس - كما يقول هيرودوت - يتلقون بوجه عام علامة على المصائب التي ستحل، مثل العلامات التي تلقاها شعب خيوس نذيرا بهزيمتهم على أيدي هيستيايوس أثناء التمرد الأيوني؛ إذ من بين 100 شاب أرسلهم الخيوسيون إلى دلفي، لم يعد إلا اثنان، ومات الثمانية والتسعون الآخرون نتيجة وباء. وفي الوقت نفسه تقريبا، وبينما كان 120 صبيا يتعلمون الألفبائية، خر عليهم السقف فقتلهم جميعا إلا واحدا؛ فهذه العلامات التحذيرية كان «الإله» قد أراهم إياها. فالإله يعرف ما يخبئه المستقبل، والبشر ليسوا دائما مسيطرين على أقدارهم.
هناك آلهة معينة تتدخل فعلا عندما يتصل الأمر بمعابدها؛ فبوسيدون يقول عندما انتهك معبده: ستحل نقمتي. ويكتب هيرودوت قائلا إنه بينما كان الفرس يحاصرون بوتيديا في شمالي اليونان، أغراهم جزر منخفض على غير العادة بالخوض في المياه، وقبل بلوغهم منتصف الطريق أثناء عبورهم:
باغتهم المد الذي تلا ذلك، والذي كان مرتفعا على غير العادة، وفي الحقيقة كان - وفقا لشهود العيان - أعلى من ذي قبل، على الرغم من أن ارتفاع المد ليس بمستغرب هناك. فغرق من لا يستطيعون العوم، ومن يستطيعون العوم قتلهم البوتيديون الذين لاحقوهم في قوارب. ويعزو البوتيديون هذا المد بالغ الارتفاع والكارثة التي حلت بالفرس إلى حقيقة أن الرجال الذين ماتوا هم أنفسهم الذين دنسوا من قبل معبد بوسيدون وتمثاله المنتصب خارج البلدة مباشرة.
لم يكن البوتيديون وحدهم الذين يعتقدون ذلك؛ إذ يكتب هيرودوت قائلا: «أنا شخصيا أعتقد أن تفسيرهم هو التفسير الصحيح.»
في النهاية، اختزل الانتصار الإغريقي الذي شكل المسار المستقبلي للتاريخ إلى مواجهة بين الأوتوقراطي خشايارشا - وهو رجل منفصل عن الواقع، ظل دائما يرفض النصائح الصائبة واستحال إقناعه - وتيميستوكليس الذي - لكونه مواطنا في ظل ديمقراطية - برع في الإقناع، ودائما ما كان يقدم مشورة صائبة. إذن ألم يعتقد هيرودوت أن الإله لعب دورا في نتيجة الحرب؟
لعل أفضل طريقة لتناول هذا السؤال هي النظر في نصين، أحدهما من خطاب ألقاه تيميستوكليس على إخوانه الأثينيين، والآخر يتحدث فيه المؤرخ بكلامه. أولا تيميستوكليس:
لسنا نحن الذين اجترحنا هذه المأثرة، بل الآلهة والأبطال الذين ضنوا على ذلك الرجل - الذي هو فوق ذلك خبيث وأثيم - أن يحكم آسيا وأوروبا.
يليه هيرودوت. يقول هيرودوت إنه يجد نفسه مضطرا إلى التعبير عن رأي يعرف أنه لن يحظى بقبول حسن (فيما يبدو بسبب عدم شعبية الإمبراطورية الأثينية في الوقت الذي كان يكتب فيه). لو لم يصمد الأثينيون، لضاعت اليونان، ومن دون الأثينيين، لما تماسكت أي كونفيدرالية إغريقية وتغلبت على خشايارشا. فعلى الرغم من التحصينات الكثيرة التي كان الإسبرطيون قد أقاموها عبر البرزخ، كان حلفاؤهم سيتخلون عنهم، وكانوا سيتركون يموتون وهم يقاتلون. وفي المقابل فإن مشهد بقية اليونان وهم يسلمون لخشايارشا ربما كان سيدفعهم إلى التصالح مع الفرس. وبعد استمراره على هذا النحو طوال فقرة تقريبا، يختتم قائلا:
سيكون المرء يقينا على صواب في قوله إن الأثينيين أنقذوا اليونان ... إن الأثينيين هم - من بعد الآلهة - الذين دحروا ملك فارس.
يسعى تيميستوكليس إلى التزلف إلى الأثينيين بمظاهر التقى، مصورا هزيمة خشايارشا كعقاب إلهي على الشطط في العجرفة، وعازيا الانتصارات الإغريقية لا إلى الآلهة فحسب، بل إلى أنصاف الآلهة التي عبدها الإغريق أيضا، وهم الذين يسمون «الأبطال». على النقيض من ذلك، يدفن هيرودوت إشارته التي تكاد تكون عفوية إلى الآلهة في تحليل موضوعي مفصل للحملة. وفي النهاية، يبدي الأثينيون بطولة في ماراثون، ويبدي الإسبرطيون بطولة في ثيرموبيلاي، وتتغلب استراتيجيات تيميستوكليس في سلاميس ، ويضع مجهود شامل في بلاتايا وميكالي نهاية للطموحات الفارسية أخيرا وإلى الأبد. ولا شك أن الآلهة حاضرة في «تاريخ هيرودوت»، لكن البعد البشري هو الذي يوليه هيرودوت الصدارة.
ومع ذلك، فقد عاش هيرودوت في زمن اضطراب فكري هائل في اليونان؛ زمن تراوح فيه الاعتقاد الديني بين التقوى المطلقة والشكوكية الهازئة، وقد أخذ على عاتقه رسالة إنشاء تاريخ فكري لزمنه يتضمن الحكايات التي كانت سمة لمختلف الثقافات محل الدراسة؛ إذ يقول إن الخطة العامة لعمله هي «تسجيل تقاليد مختلف الشعوب كما حكيت لي»، مضيفا أنه على الرغم من التزامه بتسجيل ما سمع، فإنه يقينا ليس مضطرا لتصديقه. ومن ثم، فلو لم يأت على ذكر التجليات الدينية كما رواها «شهود عيان» لكان ذلك مستغربا. فالعداء فيديبيدس، الذي أرسله الأثينيون الموجودون في ماراثون إلى إسبرطة، روى أنه رأى بان - إله الغابات - الذي شكى له إهمال الأثينيين إياه. وبعد الحرب، وتصديقا منهم قصة فيديبيدس، أقام الأثينيون للإله معبدا، وأقاموا سباقات سنوية وأضحيات إكراما له (وفي مرحلة لاحقة في التاريخ الإغريقي، حرص الجنود على وجه الخصوص على عبادة بان؛ إذ كان يعتقد أنه يلقي رعبا مفاجئا في قلوب الجيوش، ومنه اشتقت كلمة
panic
الإنجليزية وتعني «الرعب»). وقيل إن جندي قوات مشاة ثقيلة خياليا عملاقا، له لحية مخيمة على درعه، مر بالجندي الإغريقي بيزيلون أثناء المعركة ذاتها وأصابه بالعمى مدى الحياة. وخلال غزو خشايارشا، عندما أخرج الرعد والصخور المنهارة الفرس من دلفي، روى من نجوا بحياتهم قصة معجزة:
قالوا إنهم رأوا فردي قوات مشاة ثقيلة عملاقين يفوقان أي رجل طولا يطاردانهم ويقتلانهم. ووفقا لسكان دلفي، كان هذان الشخصان فيلاكوس وأتونوس، وهما بطلان محليان لكل منهما مزار مقدس بالقرب من المعبد.
فهل نخلص إذن إلى أن هيرودوت يضمن هذه الحكايات لا لشيء إلا ليعطي القارئ حسا بتجربة المعركة، بذهنية الجندي الإغريقي؟ ليس بهذه السرعة؛ لأن الحقيقة هي أنه يروي على لسانه المادة التي تكتنف حكاية الناجين، ويقول إن أسلحة الإله المقدسة انتقلت بشكل يتعذر تفسيره من مكانها المعتاد داخل المعبد، وعندما بلغ الإغريق معبد أثينا بروناي (أثينا أمام المعبد):
حدثت لهم معجزات أعظم حتى من التي قصصتها حالا؛ شيء معجز تماما أن تنتقل الأسلحة الحربية من تلقاء نفسها، فترى على الأرض خارج المعبد، لكن ما حدث بعد ذلك هو يقينا أحد أكثر الأشياء التي عرفتها على الإطلاق إثارة للدهشة. فبمجرد وصول الفرس إلى معبد أثينا بروناي، نزلت عليهم الصواعق من السماء، وانفلق جلمودا صخر عظيمان عن برناسوس وسقطا بينهم، وتهشما محدثين جلبة هائلة، فقتلا عددا كبيرا، فيما سمعت في الوقت نفسه صيحة قتال من داخل المعبد ... وكانت الصخور التي سقطت من برناسوس لا تزال هناك في زمني.
في حين أن هيرودوت لا يعزو هذه الأحداث المذهلة صراحة إلى إله معين - مثل أبولو (بفضل دلفي) أو أثينا (بفضل المعبد) - نترك على الرغم من ذلك ولدينا انطباع عن رجل يخشى الإله، ويجدر بنا أن نتجنب حصره تماما في المعسكر الشكوكي دون أي فرصة للفكاك.
هوامش
الفصل السابع
هيرودوت القاص
ترعرع هيرودوت في عالم من القصص، وكانت كبراها، تلك التي تأهلت في زمانه لتكون «أعظم قصة رويت على الإطلاق»، هي قصة «حرب طروادة» وما تلاها، والتي حكتها لنا الإلياذة والأوديسة فضلا عن قصائد أخرى لم تبق لتصل إلينا. لكن حتى الملحمتان الهوميريتان كانتا مؤلفتين من وحدات كوصف درع أخيل في الإلياذة أو واقعة الصقلوب في الأوديسة. وقد أخذ هيرودوت على عاتقه مهمة أن يحكي لنا «ثاني أعظم قصة رويت على الإطلاق»، وكانت هي أيضا مكونة من وحدات أصغر حجما، أو حكايات قائمة بذاتها كان لها ذات يوم كيانها الخاص، لكن ليس بالضرورة على الهيئة التي تظهر عليها ما إن طوعها هيرودوت لتخدم هدفه وتناسب سياقه، وبعض هذه القصص هو في الواقع استطرادات؛ إذ يقول هيرودوت إن سرده سعى دائما إلى مادة تكميلية. ويكتب مايكل أونداتجي، معلقا على هذه العبارة في «المريض الإنجليزي»، قائلا إن ما نجده في عمل هيرودوت هو «أزقة مسدودة في خضم التاريخ». لكن معظمها، بشكل أو بآخر ، عوالم مصغرة من «تاريخ هيرودوت» ككل، ويقدم معالم ترشدنا إلى كيفية قراءة النص الأكبر. فهذه الحكايات، التي تبطئ وتيرة رحلتنا، تمكننا من التوقف والتركيز على أحد أركان عالم هيرودوت قبل استئناف مسيرتنا إلى الأمام بفهم أوضح للصورة الكبيرة، والكيفية التي نتعامل بها مع سرد هيرودوت إياها.
يبذل هيرودوت جهدا لاستخدام حكاياته الكثيرة لتوضيح الموضوعات العديدة التي يعدها مهمة، في الأحداث الإنسانية وفي تمحيصها على السواء؛ لأنه لا يطرح نظرية شاملة للتاريخ؛ فوجود العجائب في العالم - ذلك الوجود المثير للرهبة لكن المشتمل على تحديات - وصعوبة الحصول على معرفة معينة ونشرها، واستخدام الأدلة المادية في إعادة تشكيل الماضي، والعلاقة المحورية المتمثلة في التوازن والتبادلية والانتقام، وانقلاب الحظ، هي فقط بعض الموضوعات التي تظهر في الحكايات الهيرودوتية.
إن قصة أريون، التي تظهر في موضع مبكر في النص، لم تكن ضرورية بأية حال بالنسبة لما يمكن أن نسميها «حبكة» كتاب هيرودوت، وينبغي أن ينظر إليها بالأحرى كتصوير للكيفية التي يمكن بها قراءة نص هيرودوت؛ فبعد رحيل الشاعر والمغني أريون عن بلاط بيرياندر في كورنثة، حيث كان يعيش، كسب مبلغا عظيما من المال في إيطاليا وصقلية، ولما أراد العودة إلى الديار في كورنثة، استأجر طاقما من البحارة الكورنثيين، فقرروا إلقاءه في عرض البحر والاستيلاء على أمواله لأنفسهم، فعرض عليهم أريون أخذ المال مقابل حياته، لكنهم رفضوا عرضه (بالتالي أظهروا أنهم لا يوجد لديهم حس بالتوازن والتبادلية على الإطلاق)، وخيروه - على نحو أشبه نوعا ما بمخاطبة زوجة كاندوليس جيجس البائس - بين شيئين ليسا من الخيار في شيء، إذ خيروه بين الانتحار إن أراد أن يدفن في البر، أو القفز من على متن القارب في البحر. عندئذ استأذنهم أريون أن يغني أغنية على ظهر السفينة مرتديا ملابسه الرسمية الكاملة، واعدا إياهم بالانتحار بعد ذلك مباشرة:
انسحب البحارة كافة من الكوثل وتجمعوا في منتصف السفينة سرورا بفرصة سماعهم أغنية من أشهر مغن في العالم، وارتدى أريون ملابسه الرسمية كاملة، وحمل قيثارته، وعزف وغنى - واقفا على مؤخرة سطح السفينة - «أغنية الفالسيتو»، ثم قفز في البحر كما هو بملابسه وكل شيء.
وعلى نحو غير متوقع بالمرة، يظهر دلفين ويحمل أريون على ظهره إلى اليابسة، ثم يمضي المغني في طريقه إلى بلاط بيرياندر وهو ما زال مرتديا ملابس الغناء، التي كما نتخيل مبللة وثقيلة. يبدي بيرياندر - وهذا مفهوم - تشككا في حكاية أريون عن «المدد الغيبي الذي أتاه في صورة دلفين»، فيبقي أريون تحت الحراسة ريثما يظهر البحارة الكورنثيون، الذين يصرون لدى استجوابهم على أنهم تركوا أريون سليما معافى في جنوب إيطاليا، لكن أريون - الذي يظهر أمامهم فجأة وما زال (من جديد) مرتديا ملابس الغناء - يدحض أقوالهم فورا، فينكشف كذب البحارة ولا يجديهم المزيد من الإنكار. يقول هيرودوت إن هذه هي القصة كما يرويها الكورنثيون وأهل جزيرة ليسبوس، ويضيف، كدليل آخر، وجود تمثال برونزي صغير في زمانه لرجل على دلفين في المكان ذاته الذي رسا فيه أريون على الساحل، ويقال إنه هبة من المغني نفسه.
يمكن للمرء التنويه إلى عدد من العناصر الكثيرة الفاعلة في هذه القصة: استخدام ملابس أريون، التي تكون جافة ومبللة بالتناوب، وأحيانا بكل تأكيد غير مريحة بالمرة، لكنها موجودة دائما لإضافة مكون بصري قوي بل وملموس إلى الحكاية، واستخدام شيء مدرك بالحواس كتأكيد لحكاية من التراث المسموع، وعنصر العجائب، وعنصر رباطة الجأش في مواجهة الموت، وعنصر الاستفسار المتشكك. إن حظ أريون الطيب في الحقيقة عجيبة من العجائب، وكان للعجائب أهمية بالغة عند هيرودوت؛ فأول جملة تتحدث عن خطة المؤلف في «تاريخ هيرودوت» أعلنت عن نيته تمجيد ذكرى الأعمال والأفعال والأشياء العظيمة والعجيبة على السواء، التي اجترحها الإغريق وغير الإغريق على السواء، وهو يصف ما حدث لأريون كعجيبة عظيمة حدثت في عهد بيرياندر. وتكثر العجائب في «تاريخ هيرودوت»؛ إذ يرى أن من العجائب أن أرتميسيا، وهي امرأة، تولت قيادة سفينة في الحرب، ويعزو معالجته التي فاق حجمها المألوف لمصر إلى العدد الكبير على غير العادة من العجائب الموجودة هناك، بداية من النهر الذي يتدفق عكس الاتجاه إلى الأعاجيب المعمارية غير العادية. ومدينة بابل بأكملها عجيبة من العجائب، ومثلها القوارب القابلة للطي التي تجوب الفرات.
علاوة على ذلك، فإن أداء أريون الغنائي، متبوعا بقفزه بملابسه الكاملة، عمل ينم عن رباطة جأش غير عادية في ظل تلك الظروف. ولو أنه كان ينتوي السباحة إلى الساحل، لتخلص بالتأكيد من ملابسه المنمقة، كما يستبق سلوكه أفعالا عجيبة بالقدر نفسه في مواجهة الموت، ومن ذلك على سبيل المثال تمشيط الإسبرطيين شعورهم قبل مواجهة الفرس في ثيرموبيلاي، ولم يظهر لهؤلاء حيوان ذلول، ولا هيلوكوبتر.
يبدو أن ساردنا يقول، وفي مرحلة مبكرة جدا من سرده: انظروا، العالم مليء بالعجائب، وسوف أقدمها لكم. ربما تتوقف قليلا لتبدي إعجابك ببطولة فنان عظيم، ربما تؤثر أيضا - إذا شئت - أن ترفض الحكاية بأكملها باعتبارها ببساطة غير معقولة، لكنك ستفعل ذلك على مسئوليتك. ثم هناك أيضا تشكك بيرياندر، أهو حذر متعقل أم فرط ارتياب؟ في النهاية، يثبت صدق أريون، ويثبت أن شكوك بيرياندر في غير محلها، غير أن التحفظ في الحكم عنصر أساسي في مشروع هيرودوت؛ فهيرودوت أيضا يظل متشككا في غياب الأدلة، ومن خلال هذه الحكاية المشكوك فيها ينصحنا بأن نحذو حذوه، بل إننا أحرار في قراءة «تاريخ هيرودوت» ذاته بتشكك، وأن نجري مع السارد الحوار نفسه الذي يجريه السارد مع مصادره.
مثلما يشبه كفاح بيرياندر للحصول على معلومات معينة عن قصة أريون المشكوك فيها المهمة المنوطة بنا لتقييم الأدلة، تبرز الحكايات الأخرى الصعوبة التي يجدها المرء في نقل ما لديه من معلومات، وهو تحد آخر في مشروع المؤرخ. يشتمل «تاريخ هيرودوت» - وهو ذاته نص يضم رسائل مشفرة كثيرة - على قصص عديدة تحمل رسائل تمر، إذا جاز التعبير، دون أن يلتقطها الرادار؛ إذ أقدم هيستيايوس - رغبة منه في إيصال رسالة هدامة إلى أرستاجوراس مع علمه أن الطرق خاضعة للحراسة - على حلق رأس أحد عبيده، وكتب الرسالة بالوشم على فروته وانتظر حتى نما الشعر من جديد، ثم أرسل العبد إلى أرستاجوراس وأعطاه تعليمات لإيصالها لأرستاجوراس كي يحلق رأسه، وعندما فعل أرستاجوراس ذلك ، وجد رسالة تحرضه على التمرد على الإمبراطورية الفارسية. ولإثناء الإسبرطيين عن استعادة هيبياس كطاغية لأثينا، يروي سوسيكليس الكورنثي قصة طويلة عن حكم الطغاة (القصة التي اشتملت على نادرة لابدا وصومعة القمح). وتشتمل حكاية سوسيكليس على النادرة البارزة التالية عن بيرياندر الكورنثي ومعاصره ثراسيبولوس، طاغية ملطية؛ فبعد فترة وجيزة من خلافته أبيه كطاغية كورنثة في القرن السادس، أرسل بيرياندر رسولا إلى ثراسيبولوس طالبا منه النصح بشأن الحكم، لم يقل ثراسيبولوس شيئا، بل تمشى عبر حقل قمح مع الرجل، قاطعا باستمرار كل سنابل القمح الأطول والأجود وملقيا إياها بعيدا. ألغز الأمر على الرسول، الذي أكد لبيرياندر لدى عودته إلى كورنثة أن ثراسيبولوس مجنون، لكن عندما سمع بيرياندر ما فعله ثراسيبولوس، أدرك أن ثراسيبولوس يوصيه بأن يقتل كل من يفوق الباقين في كورنثة، وكانت هذه هي بالضبط الاستراتيجية التي تبناها. وإلى هذا يمكن أن نضيف حالة الفارسي أرتاباتزوس والخائن الإغريقي تيموكسينوس، اللذين كانا يتواصلان بلف رسائل قصيرة على السهام، ثم تغطيتها بالريش، وإطلاقها على مكان محدد سلفا، وهي الخطة التي فشلت عندما أصابت إحدى رميات أرتاباتزوس إغريقيا في كتفه، والتف الجميع حوله للمساعدة على إخراج السهم ...
لم يكن هيرودوت يهوى حكي القصص فحسب، بل حكي القصص المزدانة بصيغ التفضيل؛ إذ يستمتع كثيرا بتسجيل شيء كان «أعظم شيء حدث»، أو على الأقل «أعظم شيء على ما بلغنا»، ومن هنا كانت النكهة الواضحة التي صاحبت قصة هرموتمس وبانيونيوس البشعة، وهي قصة توضح أيضا أحد المبادئ الأساسية التي يراها هيرودوت فاعلة في الكون، حيث يخبرنا (برضا واضح) أن هرموتمس هو الوحيد ممن نعرفهم الذي انتقم أعظم انتقام لجرم ارتكب في حقه. كان هرموتمس قد بيع كأسير حرب لرجل يدعى بانيونيوس، الذي يقول هيرودوت إنه «كان يكسب عيشه بآثم طريقة ممكنة»، ألا وهي خصاء الصبيان جميلي الهيئة وبيعهم (يستخدم هيرودوت على لسان تيميستوكليس الكلمة ذاتها، وهي آثم، لوصف محاولة خشايارشا الشريرة حكم كل من آسيا وأوروبا). وكان هرموتمس من ضحايا بانيونيوس، لكن الأمور لم تسؤ معه كما ساءت مع بعض الآخرين؛ حيث انتهى به الحال ليكون الخصي المقرب لدى خشايارشا، وبعد مرور سنوات عديدة، تصادف أن التقى هرموتمس بانيونيوس، وبعد أن شكره على النعم الكثيرة التي حلت عليه نتيجة خصائه، حثه على الانتقال مع أسرته بأكملها للعيش قريبا منه. الغريب أن هذه الخدعة تنطلي على بانيونيوس (وبالتأكيد لم تكن القصة ستفلح لولا ذلك)، وبمجرد وقوعه في قبضته، يندد به هرموتمس وبأفعاله الشنيعة ويجبره على خصاء أبنائه، ثم يجبر أبناءه على خصائه، ويختتم هيرودوت قائلا: «وهكذا وقع بانيونيوس في براثن هرموتمس وحل عليه انتقامه.»
خضع الملك الإسبرطي كليومينس أيضا للقصاص؛ إذ أصيب بالجنون كما يقول هيرودوت، فربطه أقاربه في عمود التشهير، فهدد حارسه حتى أعطاه سكينا أخذ يمزق بها جسمه، بادئا بمقدمة الساقين وصاعدا إلى الفخذين والوركين، ثم مات في النهاية عندما بدأ يقطع بطنه شرائح. كانت هناك نظريات عديدة متداولة حول ماهية الخطيئة التي اقترفها بالضبط وتسببت في سقوطه. ويقول هيرودوت إن رأيه الشخصي أن كليومينس حل به ما حل لأنه رشا كاهنة دلفي لمساعدته على إطاحة منافسه الملك ديماراتوس (الرجل ذاته الذي عمل فيما بعد مستشارا لخشايارشا). كما تدين تدان.
إن الكلمة التي يستخدمها هيرودوت لوصف العقاب الذي حل على كليومينس وبانيونيوس هي
tisis «وتعني القصاص»، وهي مفهوم إغريقي أساسي يركز على الحفاظ على التوازن في العالم. وكما يقول أناكسيماندر الذي كان من فلاسفة ما قبل سقراط: «كل شيء ينال قصاصه على مر الزمن.» ويبين لنا «تاريخ هيرودوت» كيف يشتمل القصاص على ما يريده خشايارشا من الأثينيين (أولا دفع ثمن هزيمة أبيه في ماراثون ثم عقابهم على خسائر الفرس في أرتميسيوم)، وأيضا على الطريقة التي يحفظ بها التوازن في عالم الحيوان، وهكذا يظل عدد أفراد الأفاعي منخفضا؛ لأن الأنثى تلدغ رقبة الذكر لحظة القذف فتقتله، لكن الصغير الذي ينتج عن هذا اللقاء الجنسي يقتص من الأم، فيأكل رحمها كي يخرج منه. إن مفهوم القصاص عند هيرودوت أكثر تعقيدا بكثير منه عند خشايارشا؛ فبالنسبة لهيرودوت، يمتد القصاص التعويضي إلى الحفاظ على توازن الطبيعة، مقللا عدد الضواري ومكثرا عدد الفرائس (الأرانب والطيور ونحن).
إن انشغالا مماثلا بالتوازن هو الذي يثير حماس هيرودوت لمزاد الزواج البابلي، ويجره إلى التنويه إلى أنه على الرغم من أن اليونان هي صاحبة المناخ الأفضل وبفارق كبير، فإن الأصقاع القصوى من العالم تتمتع بالأندر والأحب، وفي بعض الحالات الأكبر (لاحظ من جديد صيغ أفعل التفضيل)؛ فالحيوانات الشرسة الضخمة توجد على الأرجح عند أطراف الأرض، والذهب يوجد بكميات عظيمة في كل من الهند شرقا وإثيوبيا جنوبا، وتتميز شبه الجزيرة العربية بغناها بالبهارات لدرجة أن البلد بأكمله أشبه بفردوس لتنشق الروائح. لكن اليونان، مركز عالم هيرودوت حرفيا ومجازيا، هي صاحبة المناخ الأفضل، وهي مكان يمكن أن يعيش فيه المرء فعلا، وهي النقطة المرجعية للعالم بمعناه الأوسع.
إن الإخلال بالتوازن هو الذي يطلق - أكثر من أي شيء آخر في سرد هيرودوت - سلسلة الأحداث التي نسميها التاريخ، وغالبا ما يتخذ هذا الإخلال هيئة تجاوزات من نوع أو آخر؛ فكاندوليس ينتهك الناموس أولا بافتتانه بزوجته، وهذه عاطفة مخلة بالنظام بالنسبة لملك حتى في إطار آصرة الزواج، وثانيا بإطلاعه جيجس على زوجته العارية، وينتهك جيجس الناموس بمشاهدته الملكة وبقتله الملك، ويتوق كرويسوس، سليل جيجس، إلى ما هو أكثر من نصيبه المخصص له، فيعبر نهر هاليس ليقاتل قوروش، فيخسر إمبراطوريته، ويتجاوز قوروش بدوره المدى، وهو في أوج انتصاراته الكثيرة واعتقادا منه أنه لا يقهر، بعبوره نهر أراكس لقتال الماساجيتاي الشرسين فيقتل على يد الملكة تومايريس. ويضحك خشايارشا ساخرا من النواميس (الإغريقية) الغريبة، ويرغب في انتهاك التنوع الطبيعي للثقافات، ويضع خطة يوسع هو وجيشه بموجبها رقعة الإمبراطورية الفارسية لتغطي العالم كله، وتكون حدودها سماء زيوس نفسه، «بحيث لا تطل الشمس على أرض خارج حدودنا.» ويقول ل «مستشاريه» (الذين لا يبدي إلا اهتماما ضئيلا بمشورتهم): بمساعدتكم «سأجتاز أوروبا من طرفها إلى طرفها وأجعل البلاد كلها بلدا واحدا.» وهذا تجاوز من الدرجة الأولى بالنسبة لهيرودوت، الذي يجل أشد الإجلال التنوع اللانهائي للعالم متعدد الثقافات الذي يرغب خشايارشا في تسويته وتوحيده، لدرجة أنه كرس قسما كبيرا من كتابه للإثنوجرافيا. إن هيرودوت، الذي سعى إلى تحطيم جدار سوء الفهم الذي أدى بالإغريق إلى نبذ النواميس الأجنبية باعتبارها متدنية، والذي استحدث جنسا أدبيا هجينا جمع بين التحليل السياسي الموضوعي والحكايات الشعبية، وقف على الرغم من ذلك صامدا في مواجهة تجاوز أنواع معينة من الحدود؛ وأعني الحدود التي مكنت مختلف العرقيات من الاستمرار داخل نطاق نواميسها الخاصة بها، واستنكرت أفعالا مثل طعن أبيس أو إقامة جسر على الهلسبونت. قارن أولماشي، شخصية أونداتجي، الذي يقع في غرام زوجة رفيق له رسام خرائط وهي تقرأ قصة جيجس بجوار نار مضرمة، فيجد نفسه مضطرا لتجاوز الحدود المتعارف عليها والدخول في علاقة كارثية معها، علاقة ستؤدي في النهاية إلى مقتل أطراف المثلث الثلاثة. يكتب أونداتجي قائلا: إن عشق أولماشي لكاثرين «يرغب في تدمير كل القواعد الاجتماعية، كل آداب المعاشرة»، باختصار كل النواميس.
بما أن أعظم محاولة للإخلال بالتوازن في عالم «تاريخ هيرودوت» هي العدوان الفارسي، فليس بمستغرب أن هيرودوت يشتمل حكايات عديدة حول موضوع المستضعفين الذين أنقذهم مكرهم من القهر على أيدي من هم أقوى منهم. ويهوى هيرودوت بشدة أن يحكي كيف أحبط الفوكيسيون غارة شنها الثساليون؛ إذ إنهم استباقا لهجوم فرسان الثساليين المعروف عنهم بث الرعب في القلوب، حفروا خندقا عميقا ووضعوا فيه قدورا كبيرة فارغة وغطوها بطبقة رقيقة من التراب وسووا السطح، وعندما عدا الثساليون الواثقون بخيلهم شانين هجومهم، تعثرت خيلهم في القدور وانكسرت أرجلها. وثمة عمل مماثل ينم عن سعة الحيلة مكن الملكة البابلية نيتوكريس من الحيلولة دون دخول الميديين المعادين مدينتها، حيث حولت مسار الفرات بحيث صار النهر - الذي كان من قبل مستقيما - شديد التعرج ويمر في واقع الأمر بقرية واحدة ثلاث مرات منفصلة في ثلاثة أيام مختلفة، ونجحت صعوبة الرحلة الناجمة عن ذلك في الإثناء عن محاولات الملاحة في المجرى المائي المتعرج.
غير أن براعة الفوكيسيين ونيتوكريس لا تساوي شيئا بجانب البراعة التي تجسدها الحكاية المعقدة التي تدور حول الحاكم المصري رامبسينيتوس واللص الذكي؛ فقد حكت لهيرودوت مصادره المصرية أن رامبسينيتوس أمر ببناء غرفة من الحجارة ليحفظ فيها كنزه العظيم، لكن جهوده حققت نتيجة متناقضة؛ إذ وضع الرجل الذي استعان به لبناء الغرفة حجرا بطريقة تسهل على ابنيه خلعه بعد موته، وعندما مات البناء، فعل الابنان بالضبط ما أمرهما به أبوهما، وهكذا اختلسا كنز الملك شيئا فشيئا ونقلاه إلى حوزتهما، ولما رأى الملك كنزه يتناقص، نصب فخا وأوقع في الحقيقة أحد الشقيقين، فقال الشقيق الذي وقع في الفخ لشقيقه: اقطع رأسي حتى لا يقضى عليك أنت أيضا إذا تعرفوا علي! وقد فعل الشقيق ما اقترحه عليه شقيقه.
بعد أن هزم الملك من جديد، علق الجثة مقطوعة الرأس على جدار وأمر الحراس بضبط أي شخص يرونه يبكي بالقرب منها، فجعت أم الشابين - ويحق لها - فأمرت الذي نجا منهما بأن يستعيد الجثة، وقد فعل، وذلك بأن تظاهر بأنه يسكب بعض الخمر بالقرب من الموقع، فلعق الحراس الخمر بينما تظاهر هو بالغضب عليهم، فحاول الحراس تهدئته، وبمرور الوقت كانوا جميعا يحتسون الخمر معا في مرح، وأخيرا فقد الحراس الوعي فتمكن اللص من فك الجثة وإعادتها إلى أمه.
لم ننته بعد؛ إذ تقول القصة - كما يروي هيرودوت وإن كان يؤكد لنا أنه لا يصدقها - إن رامبسينيتوس جعل ابنته تمارس البغاء على أن تستفسر من كل واحد من زبائنها عن أذكى حيلة احتال بها وأعظم جريمة ارتكبها، وها نحن أمام مجموعة أخرى من أفعل التفضيل (يوجد قدر كبير من الاستفسار في «تاريخ هيرودوت» حتى في القصص التي من الواضح أنه لا يجزم بصحتها). وجاء لصنا لزيارة المرأة الشابة ومعه ذراع كان قد قطعها من جثة رجل مات حديثا، وعندما طرحت عليه الأسئلة المعتادة، تباهى بقطع رأس شقيقه بعدما علق في فخ الملك المنصوب في الخزانة واستعاد جثة شقيقه بإسكار الحراس، وعندما حاولت الأميرة القبض عليه، أعطاها ذراع الرجل الميت بدلا من ذراعه ولاذ بالفرار؛ فأعجب رامبسينيتوس بعبقرية اللص أشد الإعجاب لدرجة أنه اقتفى أثره وزوجه ابنته.
تتواءم هذه الحكاية الشعبية الجذابة مع مواضيع هيرودوت الأكبر على مستويات عديدة، كانتصار الدهاء والشجاعة على السلطة والمكانة، واستعادة التوازن الذي يتأتى بإعادة توزيع الثروة، وانقلاب الحظ. ويذكرنا الملك الذي يعير أهمية كبيرة جدا لثروته بكل من كرويسوس وخشايارشا، لكن التنوع اللانهائي لنص هيرودوت يصبغ القصة بجو من المرح بالتأكيد، بحيث يفرح الجميع في النهاية (طبعا باستثناء الشقيق سيئ الحظ الذي مات، والذي تحثنا الأحداث على إغفاله). إن الدهاء عنصر أساسي بالنسبة لهيرودوت. ولا ننس أن مكر تيميستوكليس بلا شك هو الذي كان محوريا في الانتصار الإغريقي، مما مكن أمة فقيرة ليس لديها إلا قليل من الجنود من هزيمة الإمبراطورية الفارسية الجبارة، وقد تكهن الأكاديميون بأن هيرودوت سعى في تصويره تيميستوكليس إلى تجسيد كل من تألق أثينا الفكري وتحويل عصبة ما بعد الحرب التي كانت تقودها تحويلا مدروسا حتى أصبحت إمبراطورية لها.
الفصل الثامن
هيرودوت المؤرخ
إلى الآن تحدثنا عن القصص التي أوردها هيرودوت في عمله. لكن كفانا من القصص؛ إلى متى سنتجاهل السؤال الواضح وضوح الشمس:
هل يستحق هيرودوت في واقع الأمر لقب مؤرخ الذي أسبغته عليه بكل سرور؟
يعلق هيرودوت، في موضعين في سرده، بقوله إنه لا يروي إلا ما قالته له مصادره المتنوعة، وإنه يعتبر نفسه غير ملزم بتصديقه. إن هذا التصرف الحاذق يمكنه من تقديم عمله لا كتاريخ سياسي وعسكري للحروب الفارسية فحسب، بل كتاريخ اجتماعي وفكري للعالم المعروف آنذاك الذي تلعب فيه الحكايات غير المعقولة التي يرويها رواته، بالإضافة إلى المعتقدات الراسخة حول التاريخ المحلي، دورا مشروعا. ويعبر أولماشي - شخصية أونداتجي - عن بعض من هذا عندما يقول: «نحن تواريخ مشتركة، كتب مشتركة.» وقدم أونداتجي، في مذكراته المعنونة «يسري في العائلة»، اعتذارا مفترضا عن العناصر الروائية الواردة في الكتاب، منوها إلى أن «الكذبة التي تقال بإتقان تساوي ألف حقيقة في سريلانكا.» وأبدى بايرون بعض الملاحظات المثيرة للاهتمام على ما تسمى الأكاذيب في «دون جوان»:
ومع ذلك، فما الكذبة؟ ما هي إلا
الحقيقة متنكرة ، وأنا أتحدى
المؤرخين والأبطال والمحامين والقساوسة ليطرحوا
حقيقة دون تتبيلها بكذبة.
شكل 8-1: يقال إن هذا هو مؤلفنا هيرودوت الهاليكارناسوسي، وإن كنا لا نستطيع الجزم بالشبه؛ لأنه قلما كانت تنحت تماثيل رءوس الإغريق البارزين مطابقة للواقع.
1
فهل ينتمي المؤرخون حقا إلى هذه القائمة؟
يقول أشد نقاد هيرودوت: كلا. ويصرخون قائلين: ألا ترون؟ كل هذه الاستشهادات بالمصادر - «أخبرني الكهنة»، «يقول المقدونيون»، «هذه هي رواية أهل كريت ... لكن الكاريون يختلفون معهم» ... إلخ - وهذا الادعاء بشهادات شهود العيان، أليس هذا ما كان سيقوله المرء «لو كان مختلقا الأمر برمته»؟ مؤكدين أن هيرودوت لم يسافر على نطاق واسع، بل اعتمد بالأحرى على روايات الآخرين، وعندما لا يجد هذه الروايات - كما كان الحال عادة - كان يختلقها ببساطة. هذه الادعاءات من أنواع مختلفة؛ إذ يؤكد بعض الأكاديميين أن هيرودوت يكذب بتبجح، محاولا تضليل جمهوره، فيما يجادل آخرون بأنه كان يكتب في إطار لون أدبي خيالي معروف جيدا، وأن معاصريه لم يخطر لهم ببال أننا نحن المحدثين سنخضع حتى الحكايات الفولكلورية المحضة الواردة في «تاريخ هيرودوت» إلى المعيار الإثباتي الذي لم يكن قد تطور بعد. فكيف يمكننا التعامل مع هذه الادعاءات؟
يقول هيرودوت فعلا إنه سافر على نطاق واسع، ولا تدع أوصافه المفصلة للقرابين المقدمة في دلفي في بر اليونان الرئيس وملطية في أيونيا، إلا مجالا قليلا للشك في أنه رآها رأي العين، لكنه يذكر صراحة أيضا أنه سافر جنوبا حتى جزيرة إلفنتين عند الجندل الأول بنهر النيل، وشمالا حتى منطقة البحر الأسود أثناء استقصائه السكيث، وكذلك إلى صور في فينيقيا. وهو يقينا يريد منا، على نحو أقل صراحة، أن نصدق أنه زار بابل وقورينا في ليبيا، فهل يمكننا التأكد من أنه سافر فعلا على هذا النطاق الواسع؟
لو أننا سنكون أمناء تماما مع أنفسنا، فلا بد أن نعترف بأننا لا يمكننا ذلك. ربما حصل هيرودوت في بعض الحالات على معلومات من أحد السكان المحليين ممن رحلوا عن موطنهم، أو زائر سابق، أو نص مكتوب، بدلا من ذهابه شخصيا كما يوحي في بعض الحالات أو يصر في بعضها الآخر. وثمة شذرة من عمل هيكاتايوس تبين أنه كان مصدر وصف هيرودوت البائس لفرس النهر، الذي له شعر في العنق وذيل حصان، فليس هيرودوت وحده الذي لم ير فرس نهر، بل الظاهر أن هيكاتايوس هو الآخر لم يره! ويجب أن نعترف أيضا أن بعضا من الأشياء التي يقولها تستعصي على التصديق، وهناك مثالان يقدمان أنواعا مختلفة من التحديات؛ فكل من المصريين والعرب، حسبما ذكر، يقولون إن أبا منجل يحظى بإجلال كبير في مصر نظرا للخدمة التي يسديها بقتله الثعابين المجنحة التي تطير من شبه الجزيرة العربية، وليس هذا فحسب؛ إذ يروي أنه رأى بنفسه الهياكل العظمية للثعابين الطائرة بأعداد لا تحصى. وهذا مستحيل، لأنه لا توجد الآن ثعابين مجنحة، كما لم تكن موجودة في زمان هيرودوت، فما الذي يحتمل أن يكون قد رآه واشتبه عليه فظنه هياكل عظمية لأفاع مجنحة؟ ليس واضحا، وقد استغل منتقدوه هذا كدليل مادي على تدليسه. ويدعي آخرون أن النص الإغريقي يمكن تأويله بحيث يعني «رفات» لا هياكل عظمية، وأنه ربما كان يعني الجراد، ويظل هناك فريق ثالث يعتبر هذا لغزا لم يحل بعد. ثم هناك حالة ميليس والأسد؛ فهيرودوت يحكي لنا أنه قيل لميليس، وهو أحد ملوك سارديس، إن الأعداء لن يستولوا على المدينة أبدا لو حمل الأسد الذي أنجبته له محظيته ودير به حول أسوارها، لذا يأمر، منصاعا، بحمل الأسد والدوران به حول التحصينات، ما عدا بقعة واحدة اعتبر انحدارها الحاد كافيا للدفاع عنها، وعند هذه البقعة المنحدرة بالضبط استولى رجال قوروش فيما بعد على المدينة عندما صار كرويسوس ملكا.
أسد ولدته محظية! يا لها من وصفة شائقة للنجاح: «خذ الأسد الذي أنجبته محظيتك و...» هذا يقينا مثار بلبلة! ولعل هذه المقولة العابرة تجعلنا - أكثر من أي نص آخر في «تاريخ هيرودوت» - نريد زيارة هيرودوت في العالم الآخر، وسؤاله عما كان يجول بباله عندما كتب هذه الكلمات، التي رواها على لسانه هو شخصيا من دون أي من عبارات مثل «يقال إن ...» أو «يزعم شعب سارديس». فهل لو فعلنا، سيجيبنا بغمزة من عينه؟
دعونا نلعب دور محامي الشيطان ونسأل كيف أمكن لهيرودوت أن يعرف أي شيء أصلا عن مادته العلمية، من حيث تعلقها بأزمنة وأمكنة بعيدة عن عالمه؛ فلم يكن يجيد أي لغة غير لغته، وربما كان رواته من السكان المحليين جهلة، (أو عابثين، كأن يقول أحدهم: «لن يخطر ببالك قط ما الحيلة التي انطلت على الرجل الإغريقي اليوم!») والتراث المسموع لا يعول عليه، ولا سيما بعد الجيل الثالث؛ فقدر كبير مما يقول يبدو مشكوكا فيه بالنسبة لنا، فهو يبالغ كثيرا في تقدير حجم جيش خشايارشا، فقوامه في البداية 2317610 رجال، ثم 2641610 بعد انضمام حلفاء إليه في طريقه، وأخيرا مجموعه الكلي 5283220 فردا، بحساب العبيد وأتباع المعسكر وطواقم قوارب الإمدادات وغيرها من المركبات التي انطلقت مع الحملة. وبحساب هيرودوت، بينما كان طليعة الجنود يصلون إلى ثيرموبيلاي، كان أفراد المؤخرة ينطلقون لتوهم من سوسة، لقد شربوا أنهارا حتى جفت وهم في طريقهم، فجيش خشايارشا ليس فقط أكبر شيء في «تاريخ هيرودوت»، بل إنه الشيء الذي يعتبر حجمه السمة المحددة للكتاب بأكمله. وبالنسبة لانقضاضة ماراثون الشهيرة، فإن التجارب التي أجريت في جامعة بنسلفانيا الحكومية بالولايات المتحدة تشير إلى أنه لا يستطيع أحد العدو لمسافة ميل مرتديا درع قوات المشاة الثقيلة. وبخصوص أريون، لماذا اختلق كل من الكورنثيين وأهل ليسبوس القصة ذاتها عن إنقاذ الدلفين له؟ كذلك فإن الأسماء الفارسية لم تكن كلها تنتهي بحرف «س» كما زعم هيرودوت. وتظهر السجلات الهيروغليفية أنه لم يمت أي عجل أبيس سنة وصول قمبيز إلى ممفيس، ويبدو أن هيرودوت يستخدم عادات السكيث في تبيان التضاد بينهم وبين الإغريق. أفلا نتساءل حينئذ عما إذا كان ما يقوله عنهم صحيحا أم لا؟ فهل يقينا يصعب تصديق ما قاله عن ذلك النمل المنقب عن الذهب في الهند؟ كما لم يشتمل النصب التذكاري الذي كرس في دلفي بعد انتصار بلاتايا على نقش فوق الحامل الثلاثي، كما يقول هيرودوت، بل بالأحرى كان النقش فوق القاعدة، وهو لم يكن يتألف من أفعى لها ثلاثة رءوس، كما جاء في «تاريخ هيرودوت»، بل بالأحرى من ثلاثة ثعابين متضافرة لكل منها رأسه، ومع ذلك يدعي هيرودوت أن لديه دراية كبيرة بالقرابين في دلفي؛ فهل حقا ليس على دراية بها من الأساس؟ وبكل تأكيد، سيكون لنا تحفظات في الحكم على حكاية رامبسينيتوس.
تقع هذه الأشياء التي ظاهرها أكاذيب ضمن فئات عديدة؛ فأعداد قوات خشايارشا المضخمة ربما كانت خطأ بسيطا، فربما خلط هيرودوت بين رقم الألف الفارسي ورقم العشرة آلاف، أو بدلا من ذلك ربما يكون قد بالغ ليجعل انتصار الإغريق أعظم شأنا، لكن من المحتمل أيضا أنه كان يفتقر إلى فهم الأرقام الكبيرة. أما بالنسبة للانقضاضة المزعومة لمسافة ميل من جانب الأثينيين في ماراثون، فمن السهل أن نرى كيف كان يمكن أن يتذكرها الجنود على هذا النحو - فالمهام العسيرة غالبا ما تبدو أكثر حضورا في الذاكرة - بل ومن الأسهل أن نرى كيف أنهم ربما بالغوا على سبيل التباهي في سرد تفاصيل انتصارهم المذهل. وفيما يخص أريون، فقد كان هناك مؤمنون بمن يركبون الدلافين في كل من كورنثة وميثيمنا، وهي مدينة كبيرة في جزيرة ليسبوس، وكذلك في تايناروم، وهي النقطة الواقعة في بيلوبونيز التي قيل إن الدلفين ألقى أريون على برها (وفيما بعد سجلت حالات إنقاذ للقديسين المسيحيين بواسطة الدلافين. ولن أبدي رأيا فيما يتعلق بميل الدلافين التاريخي إلى نقل المسافرين بحرا بطريقة الأوتوستوب). أما انتهاء الأسماء الفارسية كافة بحرف «س» فهو خطأ محض (وغير هام) مبني على الجهل؛ إذ ظن هيرودوت أن الصيغ الإغريقية من الأسماء هي الصيغ الأصلية. وغزو قمبيز الممقوت لمصر يفسر تماما اختلاق الكهنة المحليين حكاية طعنه عجل أبيس، وهي قصة قابلة للتصديق كلية لم يكن لدى هيرودوت مبرر لنبذها. وتشير الشواهد الأثرية إلى أن وصف هيرودوت لممارسات الدفن السكيثية مبني على حقائق؛ إذ أماطت الحفريات التي نفذت في تلال المدافن اللثام عن اكتشافات من قبيل الاثني عشر حصانا المرتدية ثيابا فخمة كاملة، التي عثر عليها في كازاخستان سنة 1999. وليس ذلك فحسب، حيث أثبتت الباحثة ستيفاني وست، المتخصصة في الدراسات الكلاسيكية، وآخرون أن «رسالة» السكيث إلى دارا المؤلفة من طائر وفأر وضفدع وسهام تبين أنها من النوع نفسه الذي تنتمي إليه مراسلات أخرى جرت بين أشخاص من عصر ما قبل الكتابة؛ ففي 1303، أرسل الأمير المنغولي توقطاي إلى منافسه نوجاي معولا وسهما وحفنة من التراب، وهي الرموز التي ترجمها نوجاي على أنها: «إذا اختبأت في باطن الأرض فسوف أستخرجك، وإذا صعدت إلى السماء فسوف أسقطك، فلتختر ساحة قتال.» ويبدو أن هذا إلى حد كبير هو ما قصده توقطاي. لكن إساءات التفسير أمر محتمل الحدوث دائما؛ ففي 1819، أهدى ضابط روسي خان خوارزم (خيوة) مخروطين من السكر وعشرة أرطال من الرصاص وعشرة أرطال من البارود وعشر زنادات بندقية، فاستنتج الخوارزميون أن مخروطي السكر يعرضان السلام والصداقة اللطيفة، وأما الذخيرة فتوحي بأنهم إذا لم يوافقوا على هذه الصداقة، فسوف يشن الروس عليهم حربا. والواقع أن الروسيين لم يقصدوا ذلك، وكل ما هنالك أنهم غلب على ظنهم أن هذه الأصناف المختارة ستكون هدية طيبة! ومع ذلك فإن سوء الفهم يوضح تاريخية الرسائل التي من قبيل الرسالة التي ينسبها هيرودوت إلى السكيث. وبالنسبة للنمل سيئ السمعة المنقب عن الذهب، ربما نكون بصدد مشكلة لغوية بسيطة؛ ففي أواخر القرن العشرين، اكتشف الإثنولوجي الفرنسي ميشيل بيسيل ومستكشفون آخرون أن القوارض المكسوة بفراء خشن المعروفة باسم المرموط، التي تقارب في حجمها ووزنها حجم القطة المنزلية ووزنها، تقذف إلى أعلى بتراب يحوي الذهب أثناء حفرها جحورها في واحدة من أشد المناطق وعورة في جبال الهيمالايا، وأفاد الناس الذين يعيشون هناك أنهم يتربحون من عمل المرموط هذا منذ أجيال. وقد اعتبر هيرودوت أن كلمة «مرموط» بالفارسية تعني «نملة جبلية»؛ إذن فهي ربما ليست حكايات غير معقولة في نهاية المطاف. وفيما يخص عمود الأفاعي الشهير، فإن الإمبراطور الروماني قسطنطين كان قد أمر بنقله إلى القسطنطينية، حيث استمتعت أنا نفسي بتمحيصه سنة 1993، وقد انفصلت الرءوس بعد موت هيرودوت بنحو ألفي سنة، لكن أجساد الثعابين ما زالت مصونة، ولو لم آت لرؤيتها وأنا على علم بخلاف ذلك، لكان من الجائز تماما أن أعتبرها ثعبانا واحدا.
نظمت قصة رامبسينيتوس، التي زعم أن الكهنة المصريين يروونها، ببساطة بتجميع موضوعات فولكلورية. المهم أن هذه هي المرحلة التي يعلن فيها هيرودوت - الذي نأى بالفعل بنفسه مرتين عن القصة بنسبتها إلى آخرين - أن «أي شخص يجد أشياء كهذه محل تصديق يمكنه أن يصنع من هذه الحكايات المصرية ما يشاء، ووظيفتي طوال هذا السرد هي مجرد تسجيل، أيا ما كان ما أسمعه من كل مصدر من مصادري.» إن هيرودوت يسعى يقينا إلى تأمين نفسه هنا، بل وربما أكثر مما يجب؛ بما أن قراءه ببساطة لن ينظروا إلى هذه القصة نظرتهم إلى الانتصار الذي تحقق في سلاميس.
وأخيرا، فإن مقدار المعلومات الدقيقة في «تاريخ هيرودوت» مذهل في ضوء العقبات الكثيرة التي وقفت في طريقه، كالمسافات الهائلة وحواجز اللغة والتضليل العمدي أو الفكاهي من قبل الرواة المحليين. وتواصل الاستقصاءات الأثرية الجارية في أصقاع كثيرة من العالم تأكيد حقيقة كثير مما نجد في كتاب هيرودوت؛ فمدافن السكيث هي ما نراه سطحيا والبقية تأتي، وما زال علماء المصريات تذهلهم مدى إصابة هيرودوت فيما كتب، واكتشف الاختصاصيون القادرون على قراءة اللغات التي أربكت هيرودوت أن النصوص القديمة تؤكد اكتشافاته أكثر مما تدحضها. ولو كان هيرودوت كاذبا في بعض مما يرويه لكان من الممكن أن يفنده إخوانه الإغريق بسهولة. وقد ركز بعض منتقصي قدره على تعداده القتلى الأثينيين في ماراثون بأنهم 192، لا أكثر من ذلك ولا أقل، مؤكدين أنه اختلق هذا الرقم بالضبط لترجيح العدد القليل جدا من الرجال الذي يزعم أن الأثينيين فقدوه، لكن الأثينيين كانوا يعرفون تماما عدد من قتلوا هناك، حيث سجلت أسماؤهم على شواهد القبور. وقد اكتشف الآن النقش الذي يخلد ذكرى الموتى من عشر الأثينيين الذي ينتمون إلى قبيلة إريكتيد، ويبدو أنه يحمل ما بين 25 إلى 30 اسما، وهو رقم من شأنه تأكيد أن إجمالي ضحايا المعركة يبلغ نحو 200 قتيل.
وأما عمود الأفاعي ذلك الموجود في دلفي، فهو أسهل شيء يمكن فحصه في العالم؛ فكان الجميع يذهبون إلى دلفي. فتأليف الكتاب من دون إيمان جازم بصحة الوصف الذي قدمه في صفحاته فيه مخاطرة شديدة، والتفسير الطبيعي تماما لمعدل نجاحه المذهل هو أنه، بشكل عام، زار فعلا الأماكن التي قال إنه زارها، وأنه ظن أنه رأى ما قال إنه رأى، على الرغم من أن الأفكار الخاطئة والخلل في الذاكرة حتما لعبا دورا.
شكل 8-2: تلة المدفن التي تغطي قتلى أثينا في ماراثون.
2
أحد أقوى التأكيدات لدقة رواة هيرودوت وقوة منطقه على السواء، يأتي من مثال لافت للنظر يخونه فيه منطقه، وذلك نتيجة محدودية فهمه شكل الأرض؛ فقد روى بعض الفينيقيين، زاعمين أنهم أبحروا حول أفريقيا (في اتجاه عقارب الساعة عبر البحر الأحمر على امتداد الساحل الشرقي، ثم لأعلى نحو مضيق جبل طارق)، أن الشمس كانت عن أيمانهم وهو يدورون حول الرأس، وهو شيء - كما يقول هيرودوت - «لا يمكنني تصديقه، وإن كان شخص آخر قد يصدقه.» إنه مخطئ بالتأكيد، لكن منطقه كان سليما؛ إذ إنه لو كانت الأرض فعلا مسطحة، كما كان يظن، لكانت حكاية الفينيقيين غير معقولة حقيقة.
علاوة على ذلك، يحفل «تاريخ هيرودوت» بأمثلة على استخدام هيرودوت قدراته النقدية لتقييم البيانات التي جاءته على نحو ما سيفعل أي مؤرخ حديث. إنه متشكك بالفطرة، وكثيرا ما يلقي البيانات المزعومة التي تأتيه في سلة المهملات. والحقيقة أنه أكثر نقدا لحكايات بعض الرحالة من مؤلفين متأخرين، حيث يرفض رفضا قاطعا تصديق أن الجبال الواقعة شمالا (الأورال؟) تئوي بشرا لهم أقدام معز، على الرغم من أن مصادر قديمة أخرى ذكرت مواضع بشر لهم أقدام خيل في الشمال، وأيضا تحدث كتاب من القرون الوسطى عن بشر لهم أقدام ثيران.
ومع ذلك، وبعد أخذ كل شيء بعين الاعتبار، فإن القضية المطروحة الآن ليست مجرد إلى أي مدى «تاريخ هيرودوت» صحيح حقائقيا؛ ففي نهاية المطاف، وإعادة لصياغة كلام هيرودوت نفسه ، فإن الحقائق التي تبدو الآن دقيقة ربما يثبت في المستقبل أنها غير دقيقة، والأفكار التي تبدو اليوم منافية للحكم السليم ربما يثبت يوما ما أنها مصيبة تماما. ولتنظر إلى مسألة الإتروسكانيين؛ فقد أبدى المؤرخون منذ زمن طويل تشككهم في زعم هيرودوت أن هذا الشعب الذي عاش فيما قبل العصر الروماني انحدر من الأناضول، لكن أدلة الحمض النووي الحديثة التي كشف عنها لدى البشر والبقر على السواء، تشير إلى أن هيرودوت كان محقا دون شك. إن التاريخ، كما قال المؤرخ الهولندي بيتر جيل، جدل بلا نهاية، والجدل غير معني بالحقائق فحسب، فيا له من احتمال رهيب! بالنسبة لسرد تاريخي، يعد وجود نذر قليل من الحقائق أمرا ضروريا، لكنه بالكاد يكفي. إن مجموعة من الحقائق لا تؤكد عملا ما بوصفه عملا تاريخيا، وإن مزيجا من الخيال لا يبطل زعمه أنه عمل تاريخي؛ فقد برع المؤرخون القدامى في تقديم ما يعتبرونه أرفع واقع، ومن هنا كان إقحامهم الخطب في عملهم، بل وفي بعض الحالات إقحامهم أفرادا لا يعرفون عنهم في واقع الأمر إلا قليلا، فيقحمونهم في النص لتصعيد الدراما أو للإيعاز إلينا بما كان الناس سيفكرون فيه ويقولونه، أو الاثنين معا، بل ومن الجائز أن نقول إنهم «عالجوا بالفوتوشوب» سرودهم ليجعلوها تناسب أغراضهم. أما كيف يكون شعورنا حيال ذلك، فقد يتوقف على رأينا في المعالجة بالفوتوشوب بوجه عام، بإضافتها سحبا كثيفة فوق بستان التفاح، أو إزالتها خلفية مشتتة للانتباه خلف صور الأحفاد في حفلات العزف المنفرد على البيانو التي يؤدونها. إن ما نجده بين المؤرخين الإغريق والرومان هو في معظم الأحوال شيء من قبيل «الدراما الوثائقية» التي نراها في العصر الحديث، وهي لون هجين تختفي فيه الشخصيات الثانوية وتخترع شخصيات مركبة للفت الانتباه إلى الديناميكيات الأساسية موضع الاعتبار.
لقد كان هيرودوت مبتكر هذا الجنس الأدبي، حيث مزج ابتكاره الرائد الأبحاث الجادة والحكايات الفولكلورية الساحرة، ولعلنا نستطيع أن نتعلم ألا يزعجنا هذا أكثر مما ينبغي. فمن ذا الذي سبق له وصف حكاية فولكلورية بأنها كذبة؟ ولتتأمل تعليق الصحفي الاسكتلندي نيل أشرسون على سؤال أين يوضع عمل كابوشنسكي على الحد بين الأدب والتحقيق الصحفي: «هذا سؤال تصعب الإجابة عنه، وذلك لأسباب من أهمها عدم وجود حاجز سلكي (منار بالكشافات الغامرة وتحرسه دوريات الكلاب) بين اللونين.» قيل إن هيرودوت كان صديقا لسوفوكليس، وكابوشنسكي كان صديقا لجابرييل جارسيا ماركيز. كان هيرودوت سينظر إلى الحكايات الممعنة في الخيال في «تاريخ هيرودوت» كإثراء لحكايته المحورية عن الحروب الفارسية، لا كأساس لتقويض سلامته كمؤرخ. فقد حكى لنا بعض هذه القصص شيئا مهما عن الحالة الإنسانية، وبعضها الآخر عن ثراء خيالنا المشترك. وتظهر تعليقات من إغريقيين من بني جلدته أنهم كانوا يعتبرون سرده عملا تاريخيا، حيث أكد أرسطو، في معرض كتابته عن الفرق بين الشعر والتاريخ في القرن التالي، يقول إن سرد هيرودوت سيعتبر تاريخا حتى لو حول إلى شعر، وهذا أوضح اعتراف يمكن أن نأمله لهذا الغرض، حتى إن إخوانه الإغريق صنفوا عمله ... بوصفه تاريخا. وقد وصفه صاحب رسالة «في سمو الأسلوب»، الذي كتبه إبان وقوع اليونان تحت الهيمنة الرومانية، بأنه «الأشد هوميرية من بين المؤرخين».
ذلك إطراء عظيم، لكن هناك المزيد مما يقال في هذا الشأن؛ لأن مبادئ الاحتواء عند هيرودوت كانت مختلفة بشدة عنها لدى أي شاعر ملحمي. وقد جمع المؤرخ الفكري مورتون وايت سبعة مبادئ للاحتواء في الكتابة التاريخية: (1)
مبدأ الجمالية؛ ما ينبغي تفضيله هو الأشد إثارة أو متعة من الناحية الجمالية. (2)
مبدأ الشذوذية؛ ما هو أشد غرابة أو شذوذا. (3)
مبدأ الأخلاقية؛ ما ينطوي على تعليم الأخلاق. (4)
مبدأ البراجماتية؛ ما هو مفيد فيما يخص المشكلات الحالية. (5)
مبدأ الجوهرية؛ ما يشكل «الميول الرئيسة» أو «الطبيعة الجوهرية» للموضوع. (6)
مبدأ الموسوعية؛ ما هو أقرب إلى التعبير عن الحقيقة الكاملة عنه. (7)
مبدأ الموسوعية المعدلة؛ ما ينظم بشكل أفضل كل الشواهد المتاحة المتصلة بالموضوع.
يا إلهي! لقد كان هيرودوت ببساطة رجلا يتمتع بطاقة هائلة؛ فهو يفي بكل معيار من هذه المعايير. فالقصص الساحرة (1)، والعادات الغريبة والعجائب التي تستحق التسجيل (2)، وعواقب الكبرياء والشطط (3)، وأخطار الإمبريالية (4)، وهشاشة الازدهار وما يلازم ذلك من تحرك نحو التوازن والتبادلية (5)، والخيوط الكثيرة التي تدخل في صنع بساط التاريخ الهائل (6)، ونسج تلك الخيوط لتكوين أنماط وموضوعات وأفكار تحكي قصة متلاحمة (7)؛ كلها نجدها في «تاريخ هيرودوت». وهناك المزيد؛ لأن الإله دائما موجود يحوم في الخلفية، والناس يتخذون أحيانا قرارات سليمة وأحيانا أخرى قرارات خاطئة، لكن سيطرتهم على حياتهم محدودة. انظر إلى الريح العاتية والأمطار الغزيرة اللتين قوضتا الأسطول الفارسي بالقرب من أرتميسيوم، وهي عاصفة يعزوها هيرودوت إلى المشيئة الإلهية، أو انظر إلى القوة الإلهية التي كانت وراء الأنباء غير المؤكدة التي بلغت الإغريق عن النصر في بلاتايا وهم مقبلون على الاشتباك مع القوات الفارسية في ميكالي، وتأمل الفرس الذين غرقوا في بوتيديا إذ انتقم منهم بوسيدون لانتهاك معبده.
شكل 8-3: طرح ريزارد كابوشنسكي في كتابه «أسفار مع هيرودوت» رؤية متكاملة للحرب والعجائب والحالة الإنسانية.
3
بلغ «تاريخ هيرودوت» متعدد الأوجه هدفه المعلن المتمثل في تخليد ذكرى الماضي؛ في تنظيم كمية بيانات متنوعة تنوعا هائلا في صيغة مكتوبة لضمان بقاء كثير من الموروثات السماعية المهددة بالاندثار، وليس هذا فحسب؛ ففي حين ابتكر ثوسيديديس أفرودة الحرب ذات التركيز الضيق، ابتكر هيرودوت جنسا أدبيا هو التاريخ الاجتماعي والفكري الشامل. وقد نجح عمله في اختبار الزمن، حيث شهد «تاريخ هيرودوت» طلبا كثيفا عليه إبان عصر النهضة، فظهرت في أوروبا 44 طبعة وترجمة من «تاريخ هيرودوت» بين عامي 1450 و1700. وعلى الرغم من أن إثنوجرافياته أثارت الاستغراب في حياته وعلى مدى قرون كثيرة بعد موته على السواء، عملت اكتشافات المستكشفين في العالم الجديد في القرن السادس عشر على إحداث ثورة في الطريقة التي كان الأوروبيون ينظرون بها إلى عمل هيرودوت، بجعلهم يدركون التنوع الهائل للثقافات في العالم.
لا شك أن هيرودوت ما زال حيا في الثقافة الشعبية، ومثال على ذلك السباق المسمى تيمنا بعدو الأثيني فيديبيدس إلى إسبرطة طالبا المساعدة في ماراثون، بل إن اسم ماراثون نفسه ساهم بمقطعه الأخير في كلمة «تليثون» التي نحتت للإشارة إلى الساعات المتواصلة من البث التليفزيوني الممل الذي يقاطع البرامج الاعتيادية لجمع الأموال من أجل قضية نبيلة. وعلى الرغم من إغلاق فندق هيرودوت، الكائن في البلدة موطن المؤرخ، في التسعينيات، فما زال هناك شارع يحمل اسمه في حي كولوناكي الراقي في أثينا. وشهدت مبيعات «تاريخ هيرودوت» طفرة بعد عرض فيلم أنتوني مينجيلا الحائز جائزة الأوسكار «المريض الإنجليزي» في دور العرض، ثم قفزت من جديد بعد تحويل رواية فرانك ميلر النابضة بالحياة إلى الفيلم الذي يحمل اسم «300»، والذي يدور حول ثيرموبيلاي. كذلك كان لروايات تاريخية مثل «أبواب النار» للكاتب ستيفن برسفيلد أيضا دورها في الإبقاء على الشعلة متأججة، غير أن دلالة عمل هيرودوت تتجاوز كثيرا المكانة البارزة في الثقافة الجماهيرية التي قد تكون فعلا قصيرة الأجل؛ فعلى الرغم من كل حكايات هيرودوت غير المعقولة وأرقامه المبالغ فيها، فإن التاريخ ولد على يديه. وإذا شئنا ممارسة لعبة الأوائل المشهورين، المحببة إلى قلبه بشدة، فربما نقول إن هيرودوت هو - وفقا لاختصاصي الحضارة الإغريقية كريستيان ماير - أول من «قدم إجابات تاريخية عن الأسئلة التاريخية».
من المفارقة الشديدة أنه على الرغم من الاهتمام بالحضارات «البربرية» الذي سعى هيرودوت إلى إيقاده لدى إخوانه الإغريق، فإنه هو الذي أخرج إلى النور في نهاية المطاف فكرة الغرب؛ فبجمعه بين أوجه التقابل (التي لم تكن محكمة بالكلية) التي رآها بين الشرق والغرب، وبين الخلود الذي ضمنه لمن ماتوا مقاتلين ضد الفرس، أورث هيرودوت - من دون كل الكتاب الآخرين - الأجيال اللاحقة مفهوم «الحضارة الغربية»، وهي حضارة تتسم بالحرية في الحكم والتعبير والفكر. واليوم، لا شك أن الفكرة التي تقول إن هذا الشيء الذي نصفه بأنه «غربي» هو معيار الحضارات، تفسح الطريق في مجالات عديدة إلى رؤية أوسع للمجتمع الإنساني، رؤية لا تحتكر فيها حضارة بعينها الفضائل المدنية والتميز في الفكر والفنون. كان هيرودوت سينبهر بهذا. وفي مجالات أخرى، ما يبدو عظيم الشأن فيما يتعلق بعصرنا هو صدام جديد بين الحضارات يضع الشرق ضد الغرب، وكان هيرودوت سينبهر بهذا أيضا، ولربما لو كان بيننا لالتقط مرقمه وشرع في تأليف «تاريخ هيرودوت»، الجزء الثاني.
هوامش
قراءات إضافية
The Oxford Classical Dictionary,
3rd edn., edited by Simon Hornblower and Antony Spawforth (Oxford and New York: Oxford University Press, 2003) provides an excellent single-volume encyclopaedia of the classical world.
Herodotus’s work can be read in many good English translations.
The Histories
also appears in the Loeb Classical Library series in four volumes, with Greek text on the left and English translation by A. D. Godley on the right (Cambridge, MA, and London, 1920-5).
An enormous amount has been written on Herodotus in English alone. I list here some books and articles that I think would deepen readers’ understanding of Herodotus and his times. Inevitably, some of these works contain a bit of Greek, sometimes in Greek font and sometimes transliterated, but they can nonetheless be read with profit by the Greekless reader.
مجموعات من المقالات حول هيرودوت وعصره
Egbert J. Bakker, Irene J. F. De Jong, and Hans Van Wees,
Brill’s Companion to Herodotus (Leiden and Boston: Brill, 2002).
Deborah Boedeker (ed.), 'Herodotus and the Invention of History’,
Arethusa,
20, nos. 1-2 (1987).
Carolyn Dewald and John Marincola (eds.),
The Cambridge Companion to Herodotus (Cambridge: Cambridge University Press, 2006).
Nino Luraghi (ed.),
The Historian’s Craft in the Age of Herodotus (Oxford and New York: Oxford University Press, 2001).
كتب ومقالات متميزة
Wolfgang Aly,
Volksmärchen, Sage und Novelle bei Herodot und seinen Zeitgenossen (Göttingen: Vandenhoeck and Ruprecht, reprint 1969).
W. M. Bloomer, 'The Superlative
Nomoi
of Herodotus’s
Histories ’,
Classical Antiquity,
12 (1993): 30-50.
Carolyn Dewald, 'Women and Culture in Herodotus’
Histories ’, in
Reflections of Women in Antiquity,
ed. Helene P. Foley (New York, London, and Paris: Gordon and Breach Science Publishers, 1981), pp. 91-125.
J. A. S. Evans,
Herodotus, Explorer of the Past: Three Essays (Princeton, NJ:
Stewart Flory,
The Archaic Smile of Herodotus (Detroit, MI: Wayne State University Press, 1987).
Charles Fornara,
Herodotus: An Interpretive Essay (Oxford: Clarendon Press, 1971).
John Gould,
Herodotus (London: Weidenfeld and Nicolson, 1989).
François Hartog,
The Mirror of Herodotus: The Representation of the Other in the Writing of History,
tr. Janet Lloyd (Berkeley and Los Angeles: University of California Press, 1988).
Simon Hornblower (ed.),
Greek Historiography (Oxford: Oxford University Press, 1994).
Virginia Hunter,
(Princeton, NJ:
Henry Immerwahr,
Form and Thought in Herodotus (Cleveland: The Press of Western Reserve University, published for the American Philological Association, Chapel Hill, NC, 1966).
Leslie Kurke,
Coins, Bodies, Games, and Gold: The Politics of Meaning in Archaic Greece (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1999).
Mabel L. Lang,
Herodotean Narrative and Discourse (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1984).
Donald Lateiner,
The Historical Method of Herodotus (Toronto: University of Toronto
Richmond Lattimore, 'The Wise Advisor in Herodotus’,
Classical Philology,
34 (1939): 24-39.
John Marincola,
Greek Historians (Oxford: Oxford University Press, 2001).
Rosaria Vignolo Munson,
Telling Wonders: Ethnographic and Political Discourse in the Work of Herodotus (Ann Arbor, MI: University of Michigan
Christopher Pelling, 'East Is East and West Is West-Or Are They? National Stereotypes in Herodotus’,
http://www.dur.ac.uk/Classics/histos/1997/pelling.html . (accessed 18 January 2011).
James Redfield, 'Herodotus the Tourist’,
Classical Philology,
80 (1985): 97-118.
M. Rosellini and S. Saïd, 'Usage de femmes et autres nomoi chez les “Sauvages” d’Hérodote. Essai de lecture structurale’,
Annali della Scuola Normale Superiore di
3rd series, 8 (1978): 849-1005.
Gordon S. Shrimpton,
History and Memory in Ancient Greece,
with an appendix on Herodotus’s sources by G. S. Shrimpton and K. M. Gillis (Montreal and Buffalo, New York: McGill-Queen’s University Press, 1997).
Rosalind Thomas,
Herodotus in Context: Ethnography, Science, and the Art of
(Cambridge: Cambridge University Press, 2002).
K. H. Waters,
Herodotus the Historian: His Problems, Method, and Originality (Norman, OK: University of Oklahoma Press, 1985).
Stephanie West, 'The Scythian Ultimatum (Herodotus IV 131-132)’,
Journal of Hellenic Studies,
108 (1988): 207-11.
حول صحة أعمال هيرودوت
A great deal has been written on the historical accuracy of Herodotus’s writings. The two most combative books are by Fehling (against) and Pritchett (for) :
Detlev Fehling,
Herodotus and His 'Sources’: Citation, Invention, and Narrative Art,
tr. J. G. Howie (Liverpool: Francis Cairns, 1988).
W. Kendrick Pritchett,
The Liar School of Herodotos (Amsterdam: J. C. Gieben, 1993).
حول بلاد فارس والحروب الفارسية
Richard Billows,
Marathon: The Battle that Changed Western Civilization (New York: Overlook Press, 2010).
A. R. Burn,
Greeks: The Defence of the West, c. 546-478 BC,
2nd edn., with a postscript by D. M. Lewis (Stanford, CA: Stanford University Press, 1984).
Thermopylae: The Battle that Changed the World (Woodstock and New York: Vintage and Overlook Press, 2006).
J. M. Cook,
The Persian Empire (London: J. M. Dent, 1983).
Xerxes at Salamis (also released as
The Year of Salamis ) (New York and London: Praeger, 1970).
Charles Hignett,
Xerxes’ Invasion of Greece (Oxford: Clarendon Press, 1963).
Barry Strauss,
The Battle of Salamis: The Naval Encounter that Saved Greece-and Western Civilization (New York and London: Simon and Schuster, 2004).
خلفية عامة عن الحضارة الإغريقية
The Spartans: The World of the Warrior-Heroes of Ancient Greece, from Utopia to Crisis and Collapse (Woodstock, New York: Overlook
Robert Drews,
The Greek Accounts of Eastern History (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1973).
Victor Ehrenberg,
From Solon to Socrates: Greek History and Civilization during the Sixth and Fifth Centuries BC,
2nd edn. (London and New York: Routledge, 2004).
Christopher Gill and T. P. Wiseman (eds.),
Lies and Fiction in the Ancient World (Exeter: University of Exeter Press, 1993).
G. E. R. Lloyd,
The Ambitions of Curiosity: Understanding the World in Ancient Greece and China (Cambridge: Cambridge University Press, 2002).
Sarah Pomeroy, Stanley Burstein, Walter Donlan, and Jennifer Roberts,
Ancient Greece: A
2nd edn. (New York: Oxford University Press, 2008).
James Romm,
The Edges of the Earth in Ancient Thought (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1994).
قراءات أخرى
Ryszard Kapuściński,
Travels with Herodotus (New York: Alfred Knopf, 2007).
Justin Marozzi,
The Way of Herodotus: Travels with the Man Who Invented History (New York: Da Capo, 2008).
Michael Ondaatje,
The English
(Toronto: McClelland and Stewart, 1992).
تسلسل زمني
نحو 1185ق.م؟:
حرب طروادة.
نحو 680:
مقتل كاندوليس على يد جيجس.
نحو 650:
كيبسيلوس يصبح طاغية كورنثة.
نحو 625:
بيرياندر يخلف كيبسيلوس.
نحو 560:
كرويسوس يصبح ملكا على ليديا.
559:
قوروش الأكبر يؤسس الإمبراطورية الفارسية.
546:
قوروش يهزم كرويسوس ويضم ليديا.
525:
قمبيز يغزو مصر.
نحو 522:
دارا يصبح ملك فارس.
نحو 512:
حملة دارا ضد السكيث.
499-494:
التمرد الأيوني.
490:
غزو دارا لليونان وموقعة ماراثون.
486:
موت دارا واعتلاء خشايارشا العرش.
نحو 484:
مولد هيرودوت.
480:
غزو خشايارشا لليونان.
أغسطس:
موقعتا ثيرموبيلاي وأرتميسيوم.
سبتمبر:
موقعة سلاميس وانسحاب خشايارشا.
479:
موقعتا بلاتايا وميكالي.
478:
تأسيس حلف ديلوس تحت قيادة أثينا.
نحو 450-425؟:
تأليف «تاريخ هيرودوت».
431:
نشوب الحرب البيلوبونيزية.
نحو 425؟:
موت هيرودوت.
Página desconocida