Heródoto: Una Introducción Muy Corta
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
Géneros
كفانا من أوائل المصريين والفريجيين. فكيف صار كرويسوس، وهو «على ما بلغنا أول» من اتصل بالإغريق، ملكا على ليديا؟
يبدو أن كرويسوس دان بالفضل في بلوغه منصبه لجده الأكبر جيجس، وهذا هو الموضع الذي سيبدأ فيه هيرودوت في الحقيقة قصته؛ لأن قصة جيجس أثرى من أن تهمل؛ إذ تتيح لهيرودوت فرصة للاعتماد على كامل قدراته على المسرحة، وتوضح العديد من أفكاره المحورية، وتقوده إلى قصة كرويسوس، التي بدورها تصب في سيرة قوروش وتأسيس الإمبراطورية الفارسية، التي من دونها ما كانت لتوجد حروب فارسية. ونحن نرى هنا سمة دائمة لأسلوب هيرودوت، الذي يورد فيه عبارة إيضاحية ثم يعدلها فورا برأي مغاير يعيد تشكيل سرده، حيث نراه يقول: سأستهل بكرويسوس ... لكن كلا، أظن أنه ينبغي أن نستهل بجيجس.
إننا نعلم أن كاندوليس ملك ليديا كان مقدرا له أن ينتهي نهاية سيئة؛ ونظرا لهذا المصير، ولأنه يكن لزوجته (من دون كل الناس!) عاطفة جامحة تثير العجب، دأب على الإكثار من الحديث عن جمالهما مع حارسه الأثير (عند هذه المرحلة نجد هيرودوت يستخدم أسلوبا دراميا بكل معنى الكلمة)، ولما يوقن كاندوليس أن حارسه - وهو تحديدا جيجس، جد كرويسوس الأكبر - غير مقتنع قناعة كافية بجمال الملكة، يقترح عليه رؤيتها عارية، مبررا ذلك بقوله إن الناس دأبوا على الثقة في أعينهم أكثر من ثقتهم في آذانهم (هذا أيضا تعليق على مناهج هيرودوت في البحث التاريخي التي يعطي فيها شهادات الشهود الأولوية)، فيصيح جيجس مرعوبا: سيدي! هذا غريب! أنا أصدق تماما كل شيء تقوله عن جمال زوجتك، وأتوسل إليك ألا تجعلني أفعل هذا الشيء المخالف تماما للعرف.
لا يقتنع كاندوليس، ويجبر جيجس على مشاهدة الملكة وهي تخلع ثيابها استعدادا للنوم، فتمسك به وتخيره - وقد لوثت سمعتها بفعلته هذه - بين مواجهة الإعدام أو اغتيال كاندوليس وحكم المملكة بجانبها. وكما يقول هيرودوت في جملة قصيرة قاطعة: «اختار أن يحيا.» وبعد مقتل الملك، أقرت كاهنة دلفي جيجس في منصبه، وإن كانت الكاهنة نبهت إلى أن الثأر من أفعاله سيأتي في الجيل الخامس. وكما هو الحال غالبا في «تاريخ هيرودوت»، لم تعر هذه النبوءة اهتماما حتى تحققت، وقد تحققت، ولم يكن الرجل الذي دفع ثمن أفعال جيجس سوى كرويسوس. وبذلك فإن الدافع إلى رؤية كرويسوس كبشير لخشايارشا، وإلى رؤية قصة حياته كأنها تعرض برنامج «تاريخ هيرودوت» ككل دافع لا يقاوم، لكن من المهم أن ندرك أن كرويسوس هيرودوت هو في الحقيقة شخصية هامشية؛ إذ كانت ليديا في أقصى الغرب من بين الأوتوقراطيات الشرقية التي يناقشها هيرودوت، وقد اهتم كرويسوس اهتماما شديدا بالعالم الإغريقي، ملتمسا حلفاء بين الإغريق، وكان كجده الأعلى جيجس يقدم القرابين - شديدة السخاء في حقيقة الأمر - في دلفي.
على الرغم من أن التأريخ للقائهما مشكوك فيه، فمن الواضح أن المجال كان متاحا للقاء بين كرويسوس وسولون، الذي عرف بأسفاره الكثيرة في القرن السادس بعد إصلاح نظام أثينا القانوني والاقتصادي. وبعد أن حرص الملك الليدي على قيام سولون بجولة في خزانته، يسأله عمن يعتبره أعظم الرجال حظا، أخطأ كرويسوس بطرحه سؤالا لا يريد في حقيقة الأمر سماع إجابة عنه، بل كل ما يريده هو أن يقول له سولون إنه هو، كرويسوس ملك ليديا، الأوفر حظا وبفارق كبير. وبكل تأكيد، لم يكن مثل هذا الرد ليصبح مؤثرا من الناحية الفنية ، أو إغريقيا من الناحية الفلسفية، وبدلا منه، يذكر سولون اسم رجل أثيني من أصل عريق لكنه غير أرستقراطي، وأعني تيلوس، وهو مواطن يملك أموالا كافية «وفق معاييرنا» (تأويل: ثروة الملوك الشرقيين ليست ضرورية للسعادة) وله أولاد وأحفاد، ومات مقاتلا دفاعا عن المدينة ويجله الجميع. وكما هو متوقع، تخيب هذه الحكاية - بما فيها من عظة - كرويسوس، فيسأل بنبرة حادة عمن قد يكون ثاني أسعد شخص رآه سولون.
ما من فائدة. يذكر سولون اسم شابين من آرجوس ربطا نفسيهما موضع الثيران من عربة العائلة، وجرا أمهما نحو ستة أميال إلى معبد هيرا لحضور مهرجان الربة عندما تأخرت الثيران في عودتها من الحقول. واستجابة لصلوات أمهما، نال الشابان أعظم بركة يمكن أن ينالها بشري، حيث خرا نائمين في المعبد (ولا شك أنهما كانا منهكين) ولم يستيقظا قط.
إن إخفاق كرويسوس التام في استيعاب رسالة سولون يقود الأثيني إلى شرحها له، فيقول: أيا كرويسوس، البشر جميعهم مخلوقات الصدفة، ولا يمكنني أن أخبرك بما إذا كنت محظوظا أم لا ريثما أعرف أنك مت سعيدا؛ لأن «الإله يهب في أغلب الأحيان الإنسان لمحة من السعادة، لا لشيء إلا ليمحقه تماما في النهاية.» لذا ينبذ كرويسوس سولون بوصفه جاهلا، لكن سرعان ما تأخذ الربة نيميسيس ملك ليديا بغتة؛ إذ يثير بغروره غضب الآلهة، فيفقد ابنه الحبيب آطيس، الذي يقتله عرضا - من دون كل الناس - مستجير تكرم كرويسوس بقبوله في جواره؛ يقتله بينما يحاول اصطياد خنزيرا بريا (ربما يكون كرويسوس نسيا بعض الشيء، لكنه ليس سيئا بالكلية). ظل حزينا لمدة سنتين بعد ذلك إلى أن أخرجته من أحزانه هذه أنباء مزعجة واردة من الشرق؛ فقد بدا أن قوروش المتقد بالحيوية شرع في تحويل فارس إلى قوة يحسب لها حساب، فدفع هذا التطور كرويسوس إلى طلب النصح من كهنة اليونان وليبيا بغرض توجيه ضربة استباقية (فكرويسوس، مثله مثل هيرودوت، أشبه بباحث)، والبقية يحكيها لنا التاريخ. وبعد أن دفعه كلام كاهنة دلفي إلى اعتقاد أن إمبراطورية عظمى ستنهار لو خاض حربا ضد قوروش، ولا ريب أنه أخطأ في فهم النبوءة. ونظرا إلى خطأ شخصيات هيرودوت عادة في فهم النبوءات كل مرة، لا نكاد نتوقع شيئا آخر. فكانت القوة التي دمرها كرويسوس قوته، وضمت ليديا إلى الإمبراطورية الفارسية، وأفلت كرويسوس من الموت على يدي قوروش بأعجوبة.
لا يسير سرد هيرودوت دائما بأسلوب خطي؛ إذ لا نسمع عن أصول قوروش مثلا إلا بعد مرور بعض الوقت على اقتتاله هو وكرويسوس، وعندما نكتشف في النهاية كيف بلغ قوروش المكانة التي بلغها وأسس الإمبراطورية الفارسية، نعلم أن خططا قد وضعت قبل ميلاده لضمان ألا يتجاوز سنين عمره الأولى. كان أستياجس ملك ميديا قد رأى حلما يخص سبطه أثار خوفه؛ إذ رأى في المنام ابنته الشابة مانداني تتبول في عموم آسيا، فزوجها بدافع القلق من رجل فارسي متوسط الحال، وفيما بعد رأى في المنام كرمة تنبت من مهبلها وتغطي الإقليم ذاته، فقرر أن يتخلص من الطفل الذي كانت تحمله، لكن كما هو معهود في هذه الحكايات التي تتناول نجاة الزعيم المستقبلي بأعجوبة (موسى، رومولوس، إلى آخره)، كان الحظ حليف قوروش؛ إذ يدفع هارباجوس - تابع أستياجس الأمين - في الواقع بالوليد، بعد أن أمر بالتخلص منه، إلى راعي غنم كي يقتله، لكن راعي الغنم - طبعا لأن الطفل ولد كي يصير ملكا - يتخذ هو وزوجه سليل الملوك ولدا ويربيانه.
عندما يبلغ قوروش مبلغ الرجال وقد علم بهويته الحقيقية، يحشد الفرس للاصطفاف خلفه والإطاحة بأستياجس، حيث يستدعي رجالا من أقوى القبائل، ويأمرهم بتطهير بقعة معينة من الأرض الوعرة المليئة بالأشواك تقارب مساحتها ثمانية عشر أو عشرين فرسخا مربعا، وبعد إنجاز العمل، يذبح أعدادا هائلة من المعز والضأن والثيران استعدادا لمأدبة سخية، مضيفا إلى الخليط النبيذ الفاخر والخبز. وعندما يرى الفرس في اليوم التالي، يسألهم عما يفضلون: كدح يومهم السابق أم مباهج يومهم الحالي. وبعد سماع قوروش الإجابة المتوقعة، يعدهم بأنهم لو تمردوا على أستياجس، فسيتمكنون من التمتع بألف ملذة تتساوى في فخامتها مع المأدبة التي أمامهم، لكنهم إذا رفضوا فإن العمل البائس الذي كلفوا به اليوم السابق سيشكل نموذجا لكثير من المهام الرهيبة التي ستأتي. ثم يقول: «أنا الرجل الذي شاءت العناية الإلهية أن أضطلع بتحريركم. أعتقد أنكم صنو للميديين في كل شيء بما في ذلك الحرب. الحق أقول. لا تتمهلوا، بل ثوروا على أستياجس في هذه اللحظة.» وهكذا فإن قوروش، الذي لم ينس قط أصوله والأذى الذي كاد يكلفه حياته كطفل رضيع، يطيح بأستياجس ويحكم لسنوات طويلة، فاتحا ليديا وعددا كبيرا من الأقاليم الأخرى، ويخلفه على العرش ابنه مثار الجدل قمبيز الذي يخلفه في نهاية المطاف دارا. وبولاية دارا، تبدأ المواجهات المفتوحة بين الإغريق والفرس.
لكن من هؤلاء الإغريق؟ وما أصولهم؟ يكشف انخراط هيرودوت في الإجابة عن هذا السؤال - في الحقيقة استعداده الشديد للانخراط في الإجابة عنه - عن هيرودوت مختلف عن هيرودوت القاص الذي روى الحكايات الشائقة التي تتناول جيجس وكرويسوس وقوروش؛ ففي فقرة شهيرة في الكتاب الثامن، يؤكد الأثينيون للإسبرطيين أنهم لن يبرموا أبدا اتفاقا مع بلاد فارس؛ لأن في ذلك خيانة ل «إغريقيتنا»، فنحن «عرق واحد يتحدث بلغة واحدة ويشترك في الأضرحة والقرابين، ويجمعه منهج حياة متماثل.» وقبل أن يمضي على ذلك وقت طويل، يهددون بإبرام مثل هذا الاتفاق بالضبط، والواقع أن هيرودوت يقوض في مراحل مختلفة فكرة أن الإغريق كانت تجمعهم ثقافة فريدة وموحدة.
Página desconocida