ولكن لما كانت العقول لا تهتدي لأول أمرها الى تفاصيل الشرائع كان من حكمته تعالى ان يرسل الرسل وينزل على ألسنتهم الكتب ليبينوا للناس ما نزل اليهم.
الفصل الثالث
ارسال الرسل وانزال الكتب
قد علمت أيها القارئ الكريم مما بينا أن سعادة البشر في الدارين متوفقة على وحدة النظام ووحدة النظام تستلزم وحدة الالاه.
ومما لا شك فيه ان ذلك النظام الوحيد المحكم ليس مما تتوصل اليه عقول البشر وانما هو خارج عن دائرة معقولهم. وليس من عدله ولا من حكمته تعالى ان يكلف خلقه بما يبلغهم من شريعته
(( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ))
( سورة الإسراء 15 )
ولهذا كان من مقتضى عدله ورحمته سبحانه بخالقه ان يرسل اليهم رسلا ليبلغوا اليهم من لدنه تعالى ذلك النظام وليبينوه ويشرحوه ويفصلوه لهم على مقتضى الهداية والإرشاد بالاسلوب الذي يفهمونه وبالكيفية التي تلائم مصالحهم الحقة على مختلف الأمكنة والعصور.
وليس من الحكمة ان يتخذ أولئك الرسل من غير جنسهم فيرسل اليهم مباشرة رسلا من الملائكة أو من الجن لأن الغاية من ذلك انما هو التبليغ والبيان والهداية والإرشاد ولا يمكن لأحد من غير جنسهم أن يقوم بينهم بهذه الوظيفة على الوجه المطلوب مع احرازهم على مزية التكريم والتفضيل على سائر خلقه.
وانما يمكن ان يقوم بها من امتزج معهم لحما ودما وغرائزا وعواطفا وأميالا. بخلاف الجن فانهم وان كانوا مكلفين مثلنا لكن لم يرسل منهم اليهم الرسل بل اكتفى عن ذلك برسلنا اما:
أولا: فللاحتفاظ بمزية التكريم والتفضيل لبني ادم واما
ثانيا: فلأن الغرض من ارسال الرسل من التبليغ والهداية والارشاد حاص لهم برسلنا ضرورة انهم يسمعوننا ويروننا من حيث لا نسمعهم ولا نراهم فيستفيدون منا كما يستفيدون من أنفسهم.
Página 9