بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
تمهيد
منذ أسسنا جريدتنا ونحن نرقب فرصة لنشر سلسلة مقالات في بيان حكمة التشريع الإسلامي وإظهار الإسلام في جوهره الناصع وانه دين الحضارة دين المدنية دين الرحمة والسعادة دين العزة والسيادة دين الإجتماع والعمران.
وقد حالت دون ذلك عوائق جمة سيما والجريدة في الدور الأول من حياتها. لأما وقد دخلت سنتها الثانية وهي والحمد لله ثابتة الأقدام واسعة الخطى فقد آن لنا أن نطرق هذا الباب بكل ما أتانا الله سبحانه من قوة وخدمة لشرعه القويم الذي جعلنا هذه الجريدة حبسا له شكرا له تعالى على توفيقه ومنته.
Página 1
ان أكبر باعث لنا على خوض هذا الميدان وان لم نكن من فرسانه هو ما رأيناه بأعيينا وسمعناه بآذاننا ولمسناه بأيدينا من جراثيم الزندقة والالحاد التي سرت عواها من الغرب الى الشرق من طرق عديدة وسبل كثيرة واخذ يستفحل داؤها في أعز ما يملك المسلم في هذه الحياة من الدين باقسامه ويكتسح ضررها ما في قلبه من صحيح الإيمان وما في بصيرته من نور الإسلام وما في نفسه من العفة والفضيلة ، ولصيانة هاته المزايا من هاتيك الأضرار المبيدة رأينا من الفروض العينية وقد هيأ لنا الله والمنة لله وحده عدة الكتابة ان نشرح حكمة التشريع الاسلامي ونبين آثاره ومزاياه العائدة على الفرد والمجتمع في كل من الحياتين بالخير العميم حتى نزيح ما علق بالاذهان لا سيما أذهان النشأة المدرسية الاسلامية من أوضار الكفر والالحاد وحتى تأخذ الإسلام ناصعا من شوائب الشكوك وتتلقاه بكل يقين واقتناع. فان المبدأ اذا اخذ من طريق الحجة والبرهان والاقناع يكون أشد ثباتا وأكثر رسوخا وأدوم وجودا وأطول عمرا لا تزعزه عواصف الشكوك ولا تزلزله قواصف الريب بل يبقى على الدوام عقيدة راسخة بادية الاثار كثيرة الثمرات.
Página 2
لقد حمل سيل التمدن الغربي فيما حمل جراثيم الزندقة والالحاد فبثها في النشأة الجديدة من أبناء المسلمين الضعفاء العقول المرني النفوس بواسطة جماعات المبشرين وقاعات المدارس وأعمدة النشريات الدورية من الصحف والمجلات فوجدت هذه الوسائط في أولئك تربة منبتة ومرعى خصيبا وقد ساعدها على تنمية هذه البذور فيها ما فتحته أمامها من أبواب المراقص والحانات وأنواع القصف والخلاعة والمجون فظنت هذه ان هذا هو عين الحضارة والرقي والتمدن الصحيح وان الدين الذي لا يوجد فيه شيء من هذا انما هو دين الجمود دين الرجعية دين مخالف للفطرة البشرية مباين لروح العصر الحاضر لا يليق الا بالأمم الهمجية في القرون الوسطى وقد بدت هذه النزعة الخبيثة في تركيا فكان من اثارها البارزة انسلاخ الكماليين من الاسلام واعلانهم اللادينية كما ظهرت بوادرها في مصر وقد حمل لواءها علي عبدالرزاق والدكتور طه حسين وسلامة موسى ومن لف لفهم وفي تونس وفي الجزائر ولها حسيس في أدمغة النشأة المدرسية وقد دخلت في الجامع الزيتوني كما دخلت في الازهر واذا لم يوضع لها حد فستصبح الجزائر وتونس عقب مصر على اثر الكماليين في اتجاه واحد في طريق واحد في آخره هوة سحيقة تبتلع كل من تطوح فيها فيصفق الشيطان واعوانه من الانس بحافتها طربا اذ انضاف الى سوادهم واحد هنالك.
ومما ينذر بما ذكرنا اتساع حركة التجنيس واخذها شكلا مخيفا ودخول جملة من ارباب الحيثيات الكبيرة في زمرة أنصارها الذين يظهرون عند الكلام عليها ويتوارون عند الكلام على بعض الحقوق المهضومة هذا من جهة وسكوت علماء الدين وجمودهم عن مقاومتها بدافع الخوف وعامل الرجاء من جهة أخرى واعطاء الكثير ممن يتظاهر بالدين امثلة سيئة شوهت وجه الاسلام لقلة الوازع الديني فيهم من جهة ثالثة.
Página 3
فهذه الأمور وامثالها مما يجعلنا نتشائم من مستقبل الدين ونوجس خيفة من انتشار نزعة الزندقة والالحاد في كافة الأوساط الإسلامية عاجلا وآجلا فهنالك الخراب وهنالك الدمار.
وقد تفطن لهذا الخطر الداهم بعض اقطاب الاسلام في الشرق فعقدوا له الجمعيات وأسسوا المدارس وأنشأوا الجرائد والمجلات في جاوى والهند والحجاز والعراق والشام ومصر وتونس والجزائر لمقاومة ذلك الداء الفتاك وتصفية دم الاسلام الطاهر النقي من تلك الجراثيم السامة فجاهدوا في هذا السبيل حق الجهاد واوذوا في اثنائه من اخصامهم الالداء باذايات تلقوها بصبر ورباطة جأش شأن كل مسلم مخلص لدينه من كل متمرد عنيد عن الاسلام في كل زمان ومكان.
يجب على كل إنسان يجري في عروقه دم الإسلام ان يحسب لتلك النزعات حسابها وان يتخذ لها الوقايات اللازمة مخافة ان تسري في دمه أو دم وسطه فتعفنه وتفسده وتترك به مرضا عضالا ساريا بالتوارث الى الأعقاب وأعقاب الأعقاب فيخسر هو ومن بعده السعادتين ويبؤ بالغبنين فها نحن أولا نضم صوتنا الى صوت اخواننا في الشرق ونتعاون على البر والتقوى راجين من الله المدد والتوفيق على ما فيه الذود عن كرامة الإسلام واعلاء كلمة الله وموعدنا مع القارئ الكريم في العدد الاتي وكل آت قريب.
الفصل الثاني
التوحيد
لا يخفى ان وحدة النظام في العوالم العلوية والسفلية وما فيها من الكائنات تستلزم وحدة خالقها ومدبرها ومسيرها لأنه لو كان له شريك فيها وكانا متكافئ القوى لاقتضت ارادة كل واحد خلاف ما اقتضته ارادة الاخر فيختل نظام الكون وتصطك العوالم وهذا لم يقع.
((لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا ))
(سورة الأنبياء آية 22)
ولكنهما لم تفسدا . فلم يكن فيهما اذا آلهة وانما هو الاه واحد وعلى هذه القاعدة تنبني حكمة مشروعية التوحيد وإليك البيان .
Página 4
ان فريضة التوحيد لاتعود منفعتها على الله الغني الحميد، ولو ان البشر كانوا من أولهم الى آخرهم على عقيدة الوثنية لما لحق الله سبحانه من ذلك مقدار ابرة من الاذى. ولكن منفعتها العظيمة انما تعود كلها عليهم لاغير. خلق الله البشر في أرضه، وجعله خليفته فيها، ولا تتم خلافته فيها الا بوحدة الإلاه. فاذا انفرط عقد وحدة الإلاه انفرط عقد وحدة النظام، وإذا أنفرط عقد وحدة النظام حلت الفوضى في العالم محل النظام فجاء الخراب والدمار وهو ما يقع الان في غالب الكرة الأرضية.
ولن يقدر ان يدعي مدع ولو بلغ من السفسطة ما بلغ انه إذا أنفرط عقد وحدة الإلاه لا ينفرط عقد وحدة النظام، ولا ان يقول انه إذا أنفرط عقد وحدة النظام لا تحل الفوضى. فالخراب فالدمار لانه لا يخفى حتى على الصبيان انه لو كانت هنالك شركة من الالهة لاقتضت ارادة كل واحد ان يسير نظام البشر على غير ما اقتضته ارادة الاخر، والا لكان احدهما عاجزا والعجز ليس من أوصاف الألوهية في شيء. واذا فرض كل منهما ارادته فهل تبقى الأرض أرضا والبشر بشرا والعمران عمرانا.
نحن لا نذهب بعيدا فامامنا دول ولكل منها رقعة من الأرض محدودة تدعي عليها السيطرة والقوة الفانية وهل كان مجموع هذه الدول على وفاق تام في جعل نظام واحد للعالم يسير عليه الى حيث السلامة والسعادة؟ اليس كل واحدة من تلك الدول تملي على البقية ارادتها بقدر ما تسمح لها قوتها وتخضع لها الاخرى بقدر ما يضطرها اليه ضعفها؟ وما منشأ التناحر والتطاحن الذي غرقت البشرية في بحا من دمائه لو لم يكن هناك تناقض في الارادات واختلاف في المصالح وتباعد في الأهواء والاميال وتبائن في الغايات؟
ولو كانت هنالك وحدة في القوة فهل يكون اختلال في النظام؟ ولو كانت وحدة في النظام فهل تقع البشرية فيما وقعت فيه الان؟
Página 5
فالتوحيد اذا أساس السعادة البشرية الأولى التي هي أساس السعادة البشرية الثانية. والشرك هو بركان الشقاء البشري الأول الذي هو شرارة للشقاء البشري الثاني، لأن التوحيد اعتقاد ان الله واحد في ذاته واحد في أقواله واحد في أفعاله واحد في صفاته لا يشبهه شيء. لا يشبه شيئا وهذا يقتضي وصفه بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص والايمان بهذا يستلزم الإيمان بكتبه ورسله، والإيمان بكتبه ورسله يستلزم امتثال ما شرعه من الدين والامتثال بذلك يستلزم السعادة في الدارين بالمعنى الصحيح.
والشرك اعتقاد ان الله تعالى شريكه في شيء من ذلك وهذا يقتضي وصفه بصفات النقص. وهو يستلزم تكذيبه وعدم الاعتراف بكتبه ورسله وهذا يستلزم انتهاك حرمة شرعه. وانتهاك شرعة يستلزم الشقاء في الدارين.
فأنت ترى ان السعادة تمشي من التوحيد حيث مشى، والشقاء يسير مع الشرك حيث سار، ان الشرك لظلم عظيم.
قد يقال هذا منتقض ما عليه العالم الان في الخارج فاننا نرى المسلمين حيث كانوا في ذلة وهوان وشقاء والمشركين حيث كانوا في عزة وعظمة وهناء. فالتوحيد اذا والشرك على عكس ما تقول فالأول كان السبب في شقاء المسلمين، والثاني كان السبب في سعادة الكافرين. فالواجب اعتناق ما فيه السعادة الملموسة ونبذ ما فيه التعاسة المحسوسة فتقول: ان شقاء المسلمين لم يلحقهم لاجل انهم مسلمون، وان سعادة المشركين لم ينالوها لاجل انهم مشركون، وانما لحق المسلمين ما لحق بقدر اخلالهم بما يستلزمه الايمان الصحيح من امتثال ما اوجبه عليهم الذي أمنوا به بقدر مخالفتهم للسنن الكونية والنواميس العمرانية التي سنها سبحانه وتعالى وشرعها في كتبه على السنة رسله لاجل اسعاد البشر.
Página 6
وانما نال المشركون في هذه الحياة ما نالوا بقدر اخذهم من سننه تعالى ما فيه عمران هذه الدار وسنته تعالى في كونه لا تحابي احد خالفها ولا تحيف عن احد سلكها كائنا من كان فهي هي لن تتبدل ولن تتغير ولن تجد لسنة الله تبديلا.
فليس التوحيد اذا سببا لشقاء الأولين ولا الشرك سببا لسعادة الاخرين بل لم يزل التوحيد قاعدة اساسية للسعادة الحقة ما قارنه التصديق بما يستلزمه والشرك مثار الشقاء ما قارنه التكذيب الذي يستلزمه.
ولاجل الظاهرتين المتقدمتين اللتين ظهر بهما المسلمون من التعاسة والشقاء والمشركون من السعادة والسيادة انزلق كثير من شبان المسلمين في مهواة الزندقة والإلحاد لعدم رسوخ عقيدة الإيمان الصحيح في نفوسهم ظنا منهم ان ما عليه المسلمون في المشارق والمغارب من الارهاق والاضطهاد انما كان السبب فيها شركهم فطلقوا إسلامهم وهرولوا الغربيين فانقلبوا أعداء ألد للإسلام واخذوا من الغربيين قشورهم وسفاسفهم فاصبحوا كالغراب حاول مشية الحمام فنسي المشيتين معا وقد غلطوا بهذا غلطا فاحشا وحسبوا نور الإسلام نارا، ونار الشرك نورا وهذا لعمري أقصى غايات الجنون.
ان المسلمين لم يصبهم ما اصابهم الا بقدر اخلالهم بمبادىء الاسلام، والغربيين لم ينالوا ما نالوا الا بقدر استصحابهم من شمس جملة فننجو من التعاسة كلها؟ وهل من الواجب ان نأخذ حظنا من السعادة والتعاسة معا سعادة الدنيا الزائفة وعذاب الاخرة أو شقاء الدنيا ونعيم الاخرة أن كان على أنه
(( ومن كان في هذه أعمى فهو في الأخرة أعمى وأضل سبيلا))
(سورة الإسراء آية 72)
ومما تقدم ندرك حقيقة ان سر التوحيد عظيم ، وانه هو سر الوجود، سر الحياة، سر العمران، سر السعادة الكاملة في الدنيا والاخرة.
Página 7
لأجل ذلك كان امره خطيرا واجره عند الله عظيما وقد جعله سبحانه فوق الاجناس والاوطان فوق الأموال والأبدان. واشهر سيفه في وجه معارضيه وهو للشرائع كالقطب من الرحا تدور هى حسب الأزمنة والامكنة ولكن لا تدور الا عليه ولا ترجع إلا إليه وهو هو لم يتبدل ولم يتغير لان متعلقه معرفه الله والله سبحانه دائما هو هو فى الازل وبعده في الدنيا والاخرة وعقيدتنا في التوحيد فى الدنيا هى عقيدتنا في التوحيد فى الاخرة.
هذا ما يوجبه الايمان الصادق وكل ما يغاير هذا فهو نشوز عن شرعهتعالى وتمرد عن طريقه ومما تقدم ندرك حقيقة ان امر الشرك مهول وشأنه فظيع لأنه الفناء والموت لأنه الخراب والشقاء لأنه الفوضى والارتباك لأنه الظلم والظلام ولأجل ذلك أعلن الله الحرب على معتنقيه وسجل عليهم من الغضب والسخط مالا يزيله الا الانابة منه اليه.
فالدعوة الى التوحيد دعوة الى الاسلام العام ، دعوة الى الهناء الدائم، دعوة الى الراحة الشاملة، دعوة الى السعادة الخالدة.
والداعي اليه ليس محسنا لنفسه فقط ولكنه محسن الإحسان العظيمة الى الانسانية جمعاء ، والى البشرية بأكملها، ذلك الاحسان لا يعد له الا اسعاد البشر كلهم في الدنيا والاخرة لأنه يدعوهم الى ما يوصلهم الى كل ذلك والداعي الى الخير كفاعله والدعوة الى الكفر دعوة الى الشقاء العام ، دعوة الى الخزي في الدنيا والعذاب في الاخرة.
والداعي اليه لم يسيء لنفسه فقط ولكنه يسيء كل الاساءة الى البشر كلهم فهو أكبر مجرم في الدنيا لا تعادل جريمته الا اهلاك البشر كلهم في الدنيا والاخرة لأنه يدعوهم الى ما فيه شقاؤهم اجمعين والداعي الى الشر كفاعله.
وقد أقام الله سبحانه الحجة على البشر اذ خلق لهم العقول تميز الحسن من القبيح والطيب من الخبيث فكانت هي مناط التكليف وبوجودها وجب وبعدمها سقط.
Página 8
ولكن لما كانت العقول لا تهتدي لأول أمرها الى تفاصيل الشرائع كان من حكمته تعالى ان يرسل الرسل وينزل على ألسنتهم الكتب ليبينوا للناس ما نزل اليهم.
الفصل الثالث
ارسال الرسل وانزال الكتب
قد علمت أيها القارئ الكريم مما بينا أن سعادة البشر في الدارين متوفقة على وحدة النظام ووحدة النظام تستلزم وحدة الالاه.
ومما لا شك فيه ان ذلك النظام الوحيد المحكم ليس مما تتوصل اليه عقول البشر وانما هو خارج عن دائرة معقولهم. وليس من عدله ولا من حكمته تعالى ان يكلف خلقه بما يبلغهم من شريعته
(( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ))
( سورة الإسراء 15 )
ولهذا كان من مقتضى عدله ورحمته سبحانه بخالقه ان يرسل اليهم رسلا ليبلغوا اليهم من لدنه تعالى ذلك النظام وليبينوه ويشرحوه ويفصلوه لهم على مقتضى الهداية والإرشاد بالاسلوب الذي يفهمونه وبالكيفية التي تلائم مصالحهم الحقة على مختلف الأمكنة والعصور.
وليس من الحكمة ان يتخذ أولئك الرسل من غير جنسهم فيرسل اليهم مباشرة رسلا من الملائكة أو من الجن لأن الغاية من ذلك انما هو التبليغ والبيان والهداية والإرشاد ولا يمكن لأحد من غير جنسهم أن يقوم بينهم بهذه الوظيفة على الوجه المطلوب مع احرازهم على مزية التكريم والتفضيل على سائر خلقه.
وانما يمكن ان يقوم بها من امتزج معهم لحما ودما وغرائزا وعواطفا وأميالا. بخلاف الجن فانهم وان كانوا مكلفين مثلنا لكن لم يرسل منهم اليهم الرسل بل اكتفى عن ذلك برسلنا اما:
أولا: فللاحتفاظ بمزية التكريم والتفضيل لبني ادم واما
ثانيا: فلأن الغرض من ارسال الرسل من التبليغ والهداية والارشاد حاص لهم برسلنا ضرورة انهم يسمعوننا ويروننا من حيث لا نسمعهم ولا نراهم فيستفيدون منا كما يستفيدون من أنفسهم.
Página 9
كما أنه ليس من الحكمة ان يرسل الى البشر الرسل من طبقاتهم السفلى فيرسلهم من النساء أو الصبيان أو العبيد أو البله والسفهاء أو المجانين لأن أمانة الرسالة عبء ثقيل لا يقدر على حمله الا صفوة الخلق ولباب البشر من ذوي الامزجة الصحيحة والعقول الراجحة ولأن التأثير المطلوب من الرسالة في الأمم لا يحصل بطبقتها السفلى وانما يكون من طبقتها العليا بالوجه الأكمل فكان من مقتضى الحكمة ان يرسل اليهم من بين خلاصة هذه الطبقة العليا
( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما )
( سورة النساء 165 )
وكان من مقتضى حكمته تعالى ان لا يرسل من تلك الطبقة العالية الا بلسان قومه (( وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم)) ولم يرسل أولئك الرسل الى أممهم هكذا بدون دليل قاطع يؤيدهم فيغاغص الأمم في مداركها ومشاعرها بل ارسلهم اليها بالايات البينات والمعجزات الباهرات على حسب مداركها ومبلغ رقيها المادي أو الادبي ومن جنس مألوفها ومولعها بلكن بوجه ابلغ وطريق خارق حتى تؤمن عن اقناع وتصدق من صميم القلب ان ذلك هو من عند الله.
فحينما ازدهر في عصر الفراعنة فن السحر مثلا ارسل الله موسى عليه السلام بعصاه فأبطل لهم بها ما جاءوا به من السحر وحين نضج في زمن الرومانيين فن الطب ارسل الله عيسى عليه السلام ببرء الأكمه والأبرص واحياء الموتى باذن الله وحين تناغت العرب وتفاخرت في ميادين الفصاحة والبلاغة وفتحت لذلك معارض وأسواقا بعكاظ وذي المجاز وغيرهما ارسل الله سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم في أقصى درجات الفصاحة والبلاغة بالغا حد الإعجاز عاليا عن متناول البشر تحدى به فحول الفصحاء والبلغاء من العرب العرباء فخروا كلهم أمامه الاذقان سجدا ولم يقدروا ان يأتوا ولو بأقصر سورة من مثله.
Página 10
ان في ولوع الأمم بتلك الفنون وتنافسها بها قبل مجئ رسلها بنحو قرن ونصف ومن جنس ما سيأتون به بعد لارهاصات وطلائع ومقدمات لنبوتهم ورسالتهم عليهم السلام وذلك كله دليل قاطع على انهم مرسلون من عند الله ليهتدي من اراد هدايته وتنقطع حجة من اضله من المعارضين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة.
ولم يجعل الله سبحانه رسولا واحدا لجميع خلقه في جميع مراحل الحياة لأنه وان اتحدث اصول الشرايع ففروعها تختلف بإختلاف الأمم والعصور وأحوال المعاش ووسائل الحياة فكان من الحكمة ارسال رسل على رأس كل مرحلة من مراحل الحياة لتجديد نظامها وأساليبها على مقتضى ما يلائم مصلحة البشر في قطع المرحلة التالية. ولم يترك سبحانه خلقه وشأنهم في فترة الرسل بل بعث اليهم منهم في خلال ذلك أنبياء وجعل لهم ورثة من العلماء لنشر دعوة رسلهم وابلاغهم الى الاجيال بعدهم واقامة حجتهم عليهم وتمديد أمرهم اليهم فهم من الرسل بمثابة الأعوان من قواد الجيوش والأقمار من الكواكب السيارة والمواصلات الكهربائية من المعامل الكهربائية المركزية.
ولم يكتف سبحانه في هداية خلقه الى ذلك النظام بارسال الرسل فقط فهم وان كانوا أمناء على التبليغ والبيان ومؤيدين بما معهم من المعجزات والخوارق ومعززين بتلاميذهم من الأنبياء والعلماء لكن كلام البشر عرض سيال ينقضي بانقضاء تموجات الصوت وما يبقى فهو عرضة في طريق نققله للتحريف والتبديل والتغيير فكان من مقتضيات التأييد وصيانة الدعوة على ممر الأزمان وابلاغها بجوهرها الناصع الى من يأتي بعد من الاجيال انزل الكتب عليهم تصديقا لهم فيما ارسلوا به. وفي ذلك من تشريف واعلاء شأن الكتابة ما لا يخفى على بصير.
Página 11
وليس من الحكمة انزال الكتب وحدها على الأمم مباشرة اذ لا تستفيد تلك الأمم منها شيئا الا بواسطة من يبين لها مبهمها ويفصل لها مجملها ويشرح لها ما يعتاص عن فهمها فكان من الحكمة اعداد رجال منها اخصائيين لتلقيها منه سبحانه وابلاغها مبينة الى خلقه كما شاء وأراد.
ولا يخفى ما تستلزم هذه الوظيفة العظمى من الكمالات والصفات العالية من تمام الايمان بالله والصدق والأمانة ورجاحة العقل وسلامة الحواس والخلو من الصفات الناقصة من ضعف الإيمان والغش والكذب وغيرها.
لقد كان من سننه تعالى في الخلق والإنشاء سنة التدرج فقد خلق البشر من آدم وحواء عائلة واحدة فأسر فقبائل فشعوبا فأمما
( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون))
( سورة النساء 1 )
وكان ارسال وانزال الكتب على مقتضى هذه السنة التدريجية يرسل الرسل الى اسرة فقبيلة فشعب فأمة وينزل الكتب صحفا فصحفا وكتبا فكتبا وكان يتدرج التشريع بها حسب تدرج الحياة وحاجيات البشر على أساس أغلبية المصلحة على المفسدة.
وكان البشر في هذه الحياة قافلة في مفازة طويلة قسمت طريقها الى مراحل ولكل مرحلة قائدها وكلما قطع قائد مرحلته بامته قام قائد آخر بقيادتها في مرحلته وهكذا وأول مرحلة في حياة البشر عهد أبينا آدم عليه السلام وآخر مرحلة لها عهد نبينا محمد عليه السلام الى يوم القيامة وقائد المرحلة الأولى هو الأول وقائد المرحلة الأخيرة هو الثاني.
Página 12
وقد روعي في تقسيم هذه المراحل وتضخم جموعها وسن نظامها سنة التدريخ. وما يعرض للقوافل عادة في مراحلها من اللصوص وقطاع الطرق من جرائم السلب والنهب وزهق الأرواح وقطع الطرقات وخصوصا في ظلام الليل بعد عيائها وفتورها من مرحلتها بالأمس وقبل قيامها ناشطة لمرحلة اليوم يعرض كذلك لقوافل البشر في مراحلها من لصوص العقل وأعداء الإصلاح البشري ولاسيما في ابان الفترة التي بين مرحلة وأخرى وأول هدف لأولئك اللصوص وقطاع الطرق في عيشهم وفسادهم هم قواد تلك القوافل وأعوانهم لأنهم باسقاطهم وانتزاع راية القيادة من ايديهم يخلو لهم - وهم ذئاب البشرية - الجو لافتراسها وتمزيق اشلائها ولهذا كان الصراع قائما على الدوام والاستمرار بين هؤلاء الوحوش وأولئك الذادة عن اغنامهم الا ان النصر -وان هبت ريحه نحو الأولين مرة فهو حليف الاخرين لأن النصر بيد الله والله ولي المتقين وبعبارة أخرى ان الحياة البشرية مدرسة كانت ابان تأسيسها ابتدائية ثم أخذت تتوسع وتترقى الى أن أصبحت ثانوية ثم اتسعت دوائر فنونها وتكاثرت طبقاتها ونبغت تلامذتها الى ان صارت مدرسة عليا.
فالأنبياء والرسل مع أممهم من أولهم الى آخرهم بمثابة المعلمين مع تلاميذهم في ادوار التعليم الثلاثة الابتدائي والثانوي والعالي فكما ان لكل دور من الادوار الثلاثة وقتا محدودا ودروسا مخصصةفي كتب معينة على حسب مدارك تلامذته ومبلغ افهامهم وكما ان لكل دور اقسامه ولكل قسم طبقته ومعلمه وكما ان نهاية الدور الأول بداية الثاني ونهاية الثاني بداية الثالث فكذلك الشأن في هداية البشر وارشادهم والسير بهم الى قمة السعادة والكمال.
وليست مدارك البشر في عصر أبينا آدم عليه السلام وما يليه من السمو والاتساع بمثابة مداركهم في عصر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولا مداركهم في عصره عليه السلام من السذاجة والبساطة بمثابة مداركهم في العصور الأولى.
Página 13
فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة الا خمسين عاما يدعوهم الى الايمان وما آمن معه الا قليل ولبث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم 23 سنة فقط يدعو الكافة الى ما هو أعظم وأوسع مما دعا اليه نوح عليه السلام فدانت لدعوته العرب والعجم والجن والانس ولم يمر على شريعته قرن حتى انتشرت في اطراف المعمورة وما سبب هذا الفرق الشاسع بين تأثيري الدعوتين لو لم يكن ما ذكرنا من جملة الأسباب الكبرى؟
ولتحليل نفسيات الأمم والشعوب واستكناه تدرجها في مدارج الكمال العقلي والاجتماعي تجب مراجعة الآيات القرآنية المستفيضة في بيان علائق الأمم برسلها ومعاملاتها ومحاوراتها لهم وأساليبهم في اقناعهم وكبح جماحها وأنواع الخزي والعذاب التي صبها الله على كفارها ومكذبيها.
نرى ان المعجزات والخوارق التي يؤيد الله بها رسله منها ما هو بسيط ومنها ما هو رائع منها ما ينحو المنحى المادي ومنها ما ينحو المنحى الادبي ومن الرسل من الغالب في معجزاته الخارقة النوع والأول ومنهم من الغالب في معجزاته الخارقة النوع الأول ومنهم من الغالب فيها النوع الثاني ومنهم من جمع هذين النوعين.
واذا كانت الحكمة من اجراء المعجزة على يد الرسول هو اقناع الأمة التي ارسل اليها من الناحية التي تؤمن بها وتقتنع بها على ان ذلك الرسول انما هو من عند الله دلنا على ذلك نفسية تلك الأمة ومبلغ مداركها وكنه عقليته بالضبط وقد رأينا أروع المعجزات وأكبرها وأعظمها وأكثرها حياة وخلودا هي معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتها ذلك الكتاب المجيد من نبي امي تلك المعجزة العقلية الهائلة التي تدل على سمو العقل البشري وعلو مداركه التي يصعب اقناعها بغير معجزة القرآن العظيمة الخالدة.
Página 14
وبالاختصار فالبشر في تدرجه في الحياة واتساع مداركه شيئا فشيئا بمثابة ولد ينشأ في أحضان ابويه يلقنانه دروس حياته الأولية ثم يودعانه المدرسة الابتدائية فيتدرج به معلموه بها من فصل الى فصل الى ان يسلموه الى المدرسة الثانوية فيتدرج به معلموه بها كذلك من قسم الى قسم الى ان يختم دروسه بها فيرتقي الى المدرسة العليا وقد استعد بنبوغه وسمو مداركه الى الاختصاص في فن من الفنون فهنالك يتلقى دروسه العالية بها ويتخرج خصيصا في فن من فنون الحياة فيخرج تام العدة كامل الجهاز الى ميدان الحياة ومضمار العمل لنيل السعادتين والحصول على العزتين عزة الدنيا وعزة الاخرة فأول دروسه التلقين من أبيه آدم وأمه حواء وآخر كتبه العالية ذلك القرآن العظيم من معلمه الكبير سيدنا محمد عليه السلام فكان هو خاتمة المعلمين وكتابه آخر الكتب الدراسية العليا وأمته هي التلامذة العالية من البشر ولا وظيفة لهؤلاء التلامذة بعد ذلك الا تطبيق دروس معلمهم الأكبر من كتابهم المقدس على احوالهم والعمل بمقتضاها مدى الحياة.
وليسوا في حاجة بعد انتهائهم من دروسهم العالية الى مدرسة اخرى أو دروس أخرى في كتاب آخر من معلم آخر وقد أغناهم الله بذلك الكتاب المجيد وآثار رسوله الكريم.
Página 15
فالرجوع بالبشر بعد أن وصل الى هذه الدرجة السامية الى الكتب الأولية والدروس الأولية ليست كالرجوع بالتلميذ من القسم العالي الى القسم الأدبي فقط ولكنه رجوع الى الجهالة العمياء ضرورة ان الكتب الأولية تعترف اجمالا بأحقية ما بعدها فتسقيه الأخير تسقيه للأولى قطعا كما ان دعوة البشر الى ترك معلمه الأكبر وتخطيه لتعاليمهم لما في ذلك من تكذيبهم فيما بشروا به من قبل. والطعن في ذلك المعلم الأكبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو في أحد من الرسل قبله أو في بعض كتبهم المنزلة ليس كالطعن في بعض المعلمين فقط أو في بعض الكتب الدراسية التي رسمتها ادارة المعارف الوضعية فقط ولكنه طعن في رسل الله وطعن فيما وضعته المحكمة الالهية العليا التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وفي تجريد رسل الله أو كتبه من صفاتهم الكاملة ووصمهم بوصمات النقص هدم لكيان سعادة البشر ورميه في جحيم الشقاء العاجل والآجل. والمقترف لذلك ليس جانيا على نفس واحدة فقط ولكنه جان على الناس اجمعين لما في ذلك من اخراج البشرية من النور الى الظلمات ومن السعادة الى الشقاء ومن الراحة والنعيم الخالد الى الخزي والعذاب المقيم.
والانخراط في سلك تلامذة ذلك المعلم الاكبر تمجيد وتشريف لصاحبه وبرهان قاطع على نبوغه وسمو مداركه وكمال استعداده للدخول الى مدرسته العليا. والاستنكاف والاستكبار من الدخول في سلكهم ودعوى عدم شمول تعليمه العالي الا بجنس دون جنس أو طائفة دون أخرى دليل قاطع من صاحبه على انه احط درجة وأقل استعدادا وأقصر مدارك من أن يكون من ضمن تلامذته النبغاء العبقريين.
الفصل الرابع
Página 16
اليوم الآخر تبين مما سلف ان الله تعالى خلق الخلق ولم يتركهم سدى بل ارسل اليهم الرسل وانزل اليهم الكتب وكلفهم بتكاليف وحد لهم حدودا ورسم لهم معالم وأوكل الى أنفسهم أمر الاختيار فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها. وليس من المعقول ولا من الحكمة أن يخلق خلقه ويرسل اليهم رسله وينزل اليهم كتبه ويكلفهم بتكاليف ويسن اليهم السبل لأجل حياة لا تتجاوز في الغالب للفرد مائة سنة. فلابد اذا من يوم غير هذا اليوم ولابد من حياة غير هذه الحياة يكافئ فيها المحسن لاحسانه، ويعاقب المسيء لاساءته. ولو لم يكن هنالك يوم يوفي فيه كلا كيله غير منقوص لما كلف خلقه بشيء بل ولا خلق فيهم قابلية للتكليف من العقل والمواهب الانسانية، وانما يخلفهم كالعجماوات لا عقل ولا مواهب، ولا تكليف فلا بعث ولا نشور ولا نعيم ولا جحيم ، وحيث كان العقل وحيث كان التكليف وحيث كان العمل فلابد اذا من الجزاء، ولابد لذلك الجزاء من يوم، ذلك هو اليوم الاخر. فقبل أن ينكر الانسان ذلك اليوم يلزمه ان ينكر عقله واستعداده وان يزج نفسه في اصطبل الحيوانات العجماء. والا فكيف يعقل الجمع بين الاعتراف بالعقل والاستعداد والتكليف، وبين الانكار للجزاء على ذلك. وليس يوم الحرث الا مقدمة ليوم الحصاد، وليس يوم الحصاد الا نتيجة طبيعية ليوم الحرث. ومن ذا الذي يبلغ به البله الى حد اعتقاد انه انما يحرث لاجل الحصاد، وانه يفتح دكانه ويشحنه بأنواع البضائع ويتحمل صرف الالاف لاجل التجارة نفسها لا لأجل ذلك اليوم، يوم التقويم، يوم ظهور الارباح الوفيرة ان احسن ادارة دكانه أو الخسائر الفادحة ان أساء.
فبين اليوم الأول واليوم الأخير من العلاقة والارتباط مثل ما بين المقدمة الصحيحة والنتيجة الطبيعية، بل مثل ما بين العمل والفائدة ومنكر اليوم الاخر كمنكر النتيجة الملموسة من المقدمة والفائدة المحسوسة من العمل.
Página 17
ان اليومين الأول والاخر جزءان لكل لا انفكاك بينهما، وشطران لجسم واحد لا انقطاع بينهما، فعلى ما يكون اليوم الأول يكون اليوم الاخر، ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا.
(( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)) (جزء من الآية8 سورة المنافقون)
(( ومن كان في هذه أعمى فهو فى الأخرة أعمى وأضل سبيلا)) ( الآية 72 سورة الإسراء)
وحيث تحقق وجود اليوم الاخر وتحقق ان اليوم الأول كيوم الحصاد من يوم الحرث وجب عقلا الايمان به وبما فيه من حساب وعقاب، وجنة ونار. فان انكار ما تحقق وجوده صلف ومكابرة ولا يوازيه الا انكار الحارث ليوم الحصاد بما فيه.
هل للإيمان باليوم الاخر تأثير على الإنسان؟
نعم له تأثير وأي تأثير على أعمال الإنسان في جميع مناحي الحياة وهو الكل في الكل وهو بيت القصيد وهو سر هذا الركن وحكمة وجوبه.
نعم له تأثير وأي تأثير على اعمل الإنسان في جميع مناحي الحياة وهو الكل في الكل وهو بيت القصيد وهو سر هذا الركن وحكمة وجوبه .
فالإنسان إذا كان آمنا حقا بان وراءه يوما ثقيلا وانه سوف يحاسب حسابا عسيرا ويخلد في العذاب الأليم إذا أساء كانت سيرته واعماله كلها ظاهرها وباطنها ، جليلها وحقيرها طبق الخطة التي تقيه ذلك العذاب وتوصله إلى ذلك النعيم . وكانت السلامة من الخزي والعذاب والخلود في رياض الجنات ونيل رضى الله الكريم مثل الأعلى في جميع أقواله وافعاله ، في جميع حركاته وسكناته فيعيش مستقيما في جميع أحواله مع الله والنفس والعباد ، محمود السيرة صافي السريرة لا يقترف شرا ولا يعمل إلا خيرا كل ذلك بدافع نفساني وعامل وجدان لا تأثير لضغط مخلوق عليه فإذا كان كل فرد هكذا عاش الناس كلهم في راحة وطمأنينة وسلام لا ضرر ولا ضرار لا ظالم ولا مظلوم ، الأمن عام والخير شامل تحت ظلال مملكة السعادة
Página 18
(( لو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل عليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم - وان لو استقاموا والإنجيل وما انزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم -
(( وألو استقموا على الطريقة لأسقينهم ماء غدقا )) .
( سورة الجن الآية 16 )
تلك آثار الإيمان باليوم الآخر حقا وهذه ثمراته وتتجلى هذه في أجلى مظاهرها إذا استعرضنا أمامنا سيرة منكر ذلك اليوم في جميع مظاهر حياته وانما تعرف الأشياء بأضدادها .
لا يخفي إن المكذب لذلك اليوم لا يجد من نفسه وازعا يزعه عن الجرائم ولا باعثا يبعثه على الفضيلة كما يجد الأول وإذا لم يحس من نفسه بما يحس الأول فهل تدعه نفسه الأمارة وهي لا تؤمن بحساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار أن يتحمل مشاق التكليف ويستقيم على الطريقة بما يكفل له ولمن له علاقة به عز السعادة وحسن العقبى ؟ كلا وألف كلا اللهم إلا إذا كان خوفا من مذمة العار ، أو ضغط القانون ، أو صولة الحكومة وهذه وان راقبته في شيء فسينفلت عنها في أشياء ربما كان من ناحيتها شقاؤه وشقاء المجتمع بأسره كما هو مشاهد محسوس . ولو أن الناس امتثلوا أمر ربهم وأمنوا باليوم الآخر إيمانا يعقبه ثمرته المنشودة منه من اتقاء الموبقات والإتيان بالأعمال الصالحة فهل تحتاج الدول لضبط البشرية إلى ما هي عليه الآن من وضع القوانين والنظامات وتجنيد الجنود وتجهيزها بالمعدات الجهنمية ثم هي لم يجدها هذا فتيلا بل زادها هذا الضغط انفجارا ، وهذا الضبط اشتعالا ولم تزل ولن تزل تقوم وتقعد لعقد المؤتمرات وإبرام المعاهدات وتسجيل الاتفاقيات في غير فائدة ولا جدوى . فما أغناها عن هذا العناء كله لو استقامت على الطريقة وحملت متبعيها على اعتناق خطة الاستقامة ولكن أبت سنة الله إلا ذلك ولن تجد لسنة الله تبديلا .
Página 19
ومن ذلك تتضح لنا مزية الإيمان باليوم الآخر ووخامة التكذيب به بما لا مجال للشك فيه . وبالطبع إذا كان الحارث واثقا بنتيجة كده ، وعرق جبينه يوم الحصاد فلا محالة يزيد بقدر ذلك كدا في عمله وجدا في سعيه ونشاطا في جميع حركاته ، الرجاء يقوده والخوف من الخسارة يسوقه ونور البصر يهديه وحسن التدبير يشده . يرى أن التعب في ذلك راحة والألم فيه لذة حتى يحصد مزرعة كده بيمينه فيعيش إذ ذاك ناعم البال قرير العين . وبالعكس إذا لم يؤمن بحصول النتيجة ولم يكن واثقا باقتطاف الثمرة فانه يعيش الكسل حليفه والفشل أليفه مستسلما لليأس والقنوط لا يعمل ولا يفسح الطريق للعاملين تنتعش روحه عندما يسود الكسل والبطالة وتختنق أنفاسه ، اذا انطلقت النفوس من عقولها وهبت للسعي والعمل فيحيى حياة الذل والمهانة والصغار كذلك حال المؤمن باليوم الآخر والمكذب به فإما صلاح واستقامة فنعيم مقيم ، واما صلاح وندامة في نار وجحيم . فبقدر ما ترسخ عقيدته ويقوى إيمانه باليوم الآخر يتم رشده وتكمل استقامته وبقدر ما تقرق عقيدته ويضعف إيمانه به يضيع رشده ويكثر ضلالة وهل يمكن للمرء أن ينقاد لما تسول له نفسه الأمارة من اقترا ف محظور أو ترك واجب وهو متشبع إيمانا بان أمامه دار عذاب للعاصي ودار نعيم للطائع اللهم إلا إذا كان في إيمانه بذلك ضعف وخلل وهذا ما يجب أن يتفقده المسلم من كل يوم حتى يكون على بصيرة أمره أن يصبح أمام أمر واقع.
Página 20