بقي فؤاد تلك الليلة كلها يسأل البوليس، وكل من كان يراه في طريقه فلم يستهد إلى أحد يدله على منزل حبيبته الجديد.
وقد ظل طيلة أسابيع يحاول أن يعرف هذا الأمر فلم ينجح حتى قطع أمله من النجاح، وقرر في عقله أن الخاتم كان أصل هذه العلة.
بعد هذه الحادثة صار فؤاد لا يأبه بالبنات الأجنبيات ، وعندما كان يجلس في محضر كان يصب من فيه حمما على خيانة بنات الجنس الغريب، فكان يدعم قوله بالبراهين الواقعية بأنهن يصاحبن الشاب من أجل ماله، وأنهن لا يعرفن معنى للحب. ولما تناظر مع سامع مهذب رد عليه بأن أميركا مخلط للأمم العديدة، وأن السوري لا يتعرف بالقوم الكبار إلا نادرا، فإذا عاشر بنتا فإنه يكون قد علق بها في مرقص أم في مكان بالصدفة، اقتنع بكلامه وزاد على قوله بأنه هو نفسه وقع بمثل هذا، وأن قبلة بعد ثلاث سنوات كلفته آخر الدفعات ثمانمائة ريال.
خنفشار في أميركا
البواخر التي تقطع الأتلانتيك أنابيب تصب الخلائق من العالم القديم المكتظ بالبشر إلى العالم الجديد المفتوح لأجيال ليتنفس فيه الأنام بملء رئاتهم في فضاء واسع يكتنف الملايين من القادمين.
هذه الأنابيب تروح وتجيء بين شواطئ أميركا وشواطئ أوروبا، ناقلة على متونها ألوف العمال والطالبين العمل في ميدان الأعمال: أميركا.
يصل المهاجر إلى أميركا فيصمت صمتة الذهول في عظمة هذه البلاد، ويعقد لسانه شغل فكره وجنانه بالتأمل بما وصلت إليه فكرة الإنسان المتمدن في فنه وصناعته وعلمه، يتأمل مثلا في ناطحات السحاب فيعد طبقاتها واحدة واحدة، فإذا وصل إلى رقم الخمسين بعد أن تكون عروق رقبته تكاد تتصلب يهز رأسه عجبا، ويتابع مسيره ملتفتا خطوة فأخرى ليملأ ناظريه بمدهشات البناء.
يأخذه أحد معارفه من نيويورك إلى بروكلن بقطار النفق، وعندما يصل به إلى منتصف الطريق يخبره بأن القطار سائر بهما تحت لجات البحر، فيثب قلبه وجلا ودهشة، وتتفرع أفكاره إلى فروع لا تلتئم، وهو خاشع أمام العظمة البشرية التي خولته الظروف أن يدخل إلى قلبها.
يقف فيه أحد أصدقائه عند مفرق الطرق فيرى أمامه إلى مدى بعيد خطوط السيارات تتحرك شمالا ويمينا وغربا وشرقا كأنها فيالق لا أول لها ولا آخر، وألوف العابرين من هذا الجانب إلى ذاك والقاطعين من هذا إلى ذاك بكل نظام وانتباه، فيخيل له أنه في جنة من جنات الله.
كل هذا والمهاجر القريب العهد بوصوله إلى أميركا يبقى مدهوشا يتكلم فكره وقلبه بعجائب الاختراع، وأما لسانه فيبقى جامدا لا يستطيع أن يتحرك. وما عسى المهاجر الضعيف أن ينطق فمه أمام ما يشاهده بأم العين من عظمة العالم الجديد وضخامته؟
Página desconocida