كان يحب أن يظهر بزي آخر ساعة، ولكنه ما كان يتمكن من ذلك؛ لأن حالته لم تسمح له كل وقت بما كان يأمله، فكان يكثر الترداد على محال الألبسة، فإذا رأى ربطة جميلة دفع ثمنها غير مبال بغلائها لأنه أحبها؛ ولهذا فثلاثة ريالات ثمنها ليست بكثيرة على لونها الفستقي المماثل لون جراباته، وفيما يكون ذاهبا إلى بيته يمر بمحل القمصان، فتحدثه النفس أنه بحاجة إلى قميص، فيدخل إلى المحل ويقلب القمصان العديدة، ولما كان يضرب يده على جيبه لا يرى فيها غير خمسة وسبعين سنتا، فيبقي معه أجرة الكار، ويشتري قميصا بالسبعين سنتا الباقية. وعندما تبدأ شريطة برنيطته بالتزفيت كان يذخر ريالا بعد ريال ليشتري أخرى بعشرة ريالات، وفي ذلك الحين كان يلاحظ أنه أصبح بحاجة إلى كندرة، فكان يمد يده إلى جيبه فلا يرى فيها غير ريالين، فيضطر أن يشتري كندرة بريالين.
هذا هو «الأب تو ديت» عند السوريين، رجل الساعة، رجل الدقيقة الحاضرة، وكم وكم بينهم من شبان يقتلون وقتهم ويعدمون حياتهم بالاعتناء بمثل هذا فلا يفلحون ولا ينفعون.
وكان فؤاد برزق يظهر أمام مواطنيه عدم المبالاة بهم، وأنه يؤثر الاندغام بالقوم الأميركان، ولكنه يقول هذا قولا ولا يفعله؛ فإن الأميركان لا يحفلون كثيرا بمثله، ولكن السوريين يحسبونه شيئا ويغترون بهندامه، وهم بدورهم يأسفون لحاله؛ لأنه كان ينفق كل ريال على لبسه ولا يذخر لأيامه السود ما يقيه ضرورة الاحتياج إلى السوى.
في المرقص تعرف حضرته على فتاة أجنبية فصار خدينها، وقد طار في الفضاء الأعلى بمعاشرتها، وكثيرا ما كان يأتي إلى المطاعم السورية ويده بيدها؛ ليباهي بها بين رفاقه.
وقد قضى ثلاث سنوات مع تلك الفتاة التي اضطرته معاشرته لها إلى الاشتغال الكثير والاجتهاد ليحصل أكثر مما كان يحصله؛ فقد صار عليه أن يقدم لها الهدايا وأن يقوم بما توجبه محبته لها من الذهاب إلى المسارح والقهاوي والملاهي والمطاعم الفخمة حتى تعلق بها، وصار يأمل أن ترضى به زوجا. أما هي، فكانت تعلله بالآمال؛ ولهذا أخذ يكد ويقتصد ما أمكنه ويذخر بعض المال في بنك الحكومة، وما هي إلا أشهر حتى توفر له في ذلك المصرف نحو ثمانمائة ريال، ولما سأل حبيبته أن تكون خطيبته الرسمية طلبت إليه أن يشتري لها خاتما ثمينا، ولم تكد تزفر شفتيها بهذا الكلام حتى طار قلبه فرحا، فأخذها في الحال إلى محل المجوهرات، وابتاع لها خاتما بثمانمائة ريال، وهو مبلغ كل ما كان معه في البنك.
وقد فرحت حبيبة فؤاد فرحا لا مزيد عليه، ولما وصلت معه إلى بيتها وأراد أن يودعها أوقفته وسألت أمها بدلال أمامه أن تأذن لها بأن تقبله، فأذنت لها، وقبلته قبلة واحدة، وسار في طريقه يمشي على الأرض مرحا وعقله يلاعب ملائكة الأعالي، وقد حلم في نومه مرات، ورأى حبيبته تقبله وتضمه إلى صدرها، فكان ينهض كل مرة من فراشه باسما، ثم يعود إلى نومه لئلا يضيع وقتا من المنام الطيب السياحات مع تلك التي فتنت لبه وسلبت عقله. ولم يصبح الصباح حتى نهض من نومه وكله فرح وغبطة، وكانت ساعات ذلك النهار أطول من أعوام في دائرة عمله؛ فإنه كان يعمل في محل شغله كالمأخوذ، ولا مراء؛ فإنه كان في ذلك النهار يشتغل متكلفا وعقله سابح في الفضاء ويناجي حبيبته ويخاطبها، فلما يصحو بنداء أحد زملائه كان يستأنف عمله، وإنما بكلفة وعناء.
ولما جاء ختام ذلك النهار ذهب ليتناول عشاءه، ثم قصد الحلاق فتزين كما يجب، وما دقت الساعة الثامنة حتى كان عند باب المنزل الذي تقطن فيه حبيبته مع أمها.
دق الجرس ودقه ودقه ولا مجيب على خلاف العادة، مع أنه على ميعاد مع حبيبته لقضاء السهرة في منزلها. وما كان يستطيع أن يحوك في عقله عذرا لعدم انتظار حبيبته له إلا إذا كان هنالك من سبب كبير، ومع ذلك لم يكن يستطيع أن يتوصل بعقله لسبب كبير يمنعها من البقاء في منزلها لاستقباله حسب الموعد، ولا سيما أنه تركها في الليلة السالفة طائرة فرحا بخاتمه الماسي، وقد قبلته لأول مرة بعد حب ثلاث سنوات، وبإذن أمها.
تردد أكثر من نصف ساعة أمام الباب في هل يعود من حيث أتى، ولكن كيف يمكنه أن ينام تلك الليلة ولم ينل وطره بمشاهدة حبيبته. وأعاد الكرة على الجرس فكان يدقه دقات طويلة، وبعد وقت طويل خرج إليه أحد الجيران في الطابق المحاذي لمنزل حبيبته، فسأله من يريد؟ ولماذا يكثر قرع الجرس؟ ولما أخبره أنه يريد زيارة آل حبيبته، أجابه الجار بأنهم نقلوا بيتهم منذ الصباح، وأنه ساعد أم الفتاة بيده في قضاء بعض الحاجات، لأن عربة النقل جاءت في حين أن أهل البيت لم يكملوا استعدادهم، ولما أراد السائق أن يعود معتذرا بأنه لا يستطيع الانتظار وإضاعة الوقت كانت السيدة تقبض على ساعده وترجو منه بتمليق كثير أن يصبر؛ ولهذا مع أنه جار لها غريب لم يكلمها في حياته ولا رأى لها وجها قبل اليوم؛ فقد طلبت إليه أن يمد يده إليها بمساعدة فساعدها.
ذهل فؤاد ذهولا لا مزيد عليه من هذا الأمر، ولما سأل المخبر إذا كان يعلم إلى أين نقلت تلك العائلة، أجابه نفيا، ولما أكثر عليه الأسئلة، منها: إذا كان يعرف السائق، أو محل عربات النقل، وإذا كان يعرف أحدا يعرف عنهم شيئا، أجابه بلا، وسكر الباب، وعاد إلى بيته.
Página desconocida