إن للخريف عادات سيئة حقا في آداب الزيارة!
كانت ظهيرة يوم قائظ من أيام شهر يوليو عام 2013م. يوم الثلاثاء تحديدا. أحد تلك الأيام الحارة الخانقة التي تعقب هطول المطر، والتي تضيق لها روحك وتستشعرين لزوجة الهواء على مسام جلدك. أذكر اليوم جيدا؛ فقد كانت آخر مرة أرى فيها «عمار» عندما زارني في العيادة.
كنت مشغولا مع إحدى المرضى في العيادة، امرأة مسكينة توفي زوجها وأصيبت بعدها بالعمى، وقد فشل أهلها في معرفة السبب برغم عرضها على كل مستشفيات «الخرطوم» وشيوخ «أم ضوا بان». كانت أعراض الهستيريا واضحة، لم ترغب المسكينة في رؤية الدنيا بعد زوجها، لهذا تسببت لنفسها بالعمى، لكنها كانت تتماثل للشفاء.
رافقتها للخارج حيث ينتظرها أحد أقاربها، وأدخلت «عمار». والحقيقة أنني كنت أنتظره، فقد بدأت أكون نظرية معينة تتعلق بأسباب ما يمر به، فقط احتجت لإثباتها.
قال لي في فضول، وهو يدلف للداخل ويشير بإبهامه للباب حيث خرجت المرأة: «مم تشكو؟» - «أعراض هستيرية، تسببت لنفسها بالعمى، ليس شيئا مهما.» أجبته.
سألني بنفس الفضول: «تسببت لنفسها بالعمى؟ هل هذا ممكن؟!» - «نعم. هل يمكنك أن تمنحني بضع لحظات؟ أريد أن أكتب بعض الملاحظات. تفضل بالجلوس.»
راح يتجول في العيادة وهو ينظر للصور المعلقة على الحائط في لامبالاة، وهو يهز رأسه بخفة على إيقاع أغنية تتردد في ذهنه على ما يبدو. بينما انهمكت أنا في تدوين بعض الملاحظات عن المريضة السابقة. - «من هذه؟!»
رفعت رأسي ورأيته يحدق في صورة على سطح المكتب، قلت: «هذه ابنتي.» - «إنها جميلة.» - «شكرا لك.» - «ما اسمها؟» - «منى.» - «اسم جميل. كم عمرها؟»
شعرت بتلك القبضة الغامضة الباردة تعتصر قلبي، حتى لشعرت أن دقاته قد اضطربت للحظات. أي شيخ محطم تركته خلفك عندما أغمضت عينيك الجميلتين للأبد؟!
أي حزن خلفته لوالدتك حتى أصابها الهزال، وأصبحت لا تقوى على مفارقة سرير المرض؟! فليرحمك الله.
Página desconocida