إهداء
مقدمة
تمهيد
1 - هل تحممت بعطر وتنشفت بنور!
2 - هيبنوسيس
3 - وفي النفس شيء من حتى
4 - البيت
5 - أنبل ما فينا
إهداء
مقدمة
تمهيد
1 - هل تحممت بعطر وتنشفت بنور!
2 - هيبنوسيس
3 - وفي النفس شيء من حتى
4 - البيت
5 - أنبل ما فينا
هيبنوسيس
هيبنوسيس
تأليف
مهند رحمه
إهداء
إلى أولئك الذين بذلوا حيواتهم في سبيل حلم آمنوا به، واعتنقوه.
الذين صنعوا - على قصر مدة تواجدهم في الحياة - معنى وجودهم فينا.
وفي ذاكرة التاريخ.
إلى أرواح شهداء ثورة سبتمبر.
يوم نموت،
سيمحو النسيم الرقيق آثار أقدامنا على الرمال،
بعدما يفنى النسيم.
ترى من يخبر الأبدية،
أننا مشينا هنا مرة في فجر الزمان؟
من أغاني شعب البوشمن
مقدمة
«هل كان بالإمكان تلافي بعض مما كان؟»
السؤال الذي ظل يؤرقني، ويقض مضجعي.
تلك هي اللعنة التي أورثني إياها «عمار»، وظلت تطاردني منذ وفاته.
لقد ترددت كثيرا - حوالي أربع سنوات - قبل أن أقرر أخيرا أن أمسك القلم وأبدأ كتابة أحداث ذلك العام. في البداية كان خوفي الشخصي من تعرضي للمضايقة، أو سحب رخصتي الطبية وقتها، ينازعه شعوري بالمسئولية الأدبية عما حدث. شعور أثقل كاهلي ومنعني حتى من ممارسة عملي كما يجب، حتى قررت أخيرا - تحت إلحاح ضميري - ضرورة الكتابة، ونشر أحداث تلك الفترة المشئومة للرأي العام.
الصفحات التالية عبارة عن تفريغ أدبي لمجموعة متنوعة من التسجيلات الصوتية، والملاحظات الورقية التي تم جمعها في الفترة من: ديسمبر 2012م، حتى يوليو 2013م، عن المريض «عمار سليمان»، صاحب الحالة رقم «55148»، بعيادة الطب النفسي في مستشفى الخرطوم التعليمي.
ونظرا لما تحتويه هذه الأوراق من تفاصيل شخصية للغاية، تنتهك خصوصية المريض المعني، كما تنتهك بند سرية المعلومات التي يقدمها المريض للطبيب النفسي، بحسب المادة الخامسة، من إعلان مدريد للجمعية العالمية للطب النفسي، للعام 1996م، الذي ينص على:
ينبغي أن تبقى المعلومات التي تم الحصول عليها من خلال الجلسات العلاجية سرا، ولا تستخدم - حصرا - إلا بغرض تحسين الصحة النفسية للمرضى، ويعتبر ممنوعا على الأطباء النفسيين استخدام مثل هذه المعلومات لأسباب شخصية، أو لفائدة مادية أو أكاديمية ، ويمكن تخطي هذه السرية فقط في حالة ما إذا كان هناك ضرر جسدي أو نفسي قد يقع على المريض أو شخص آخر، أو أي تهديد على الحياة، يمكن حدوثه إذا استمرت هذه السرية.
ولما كان الضرر الناتج عن كتمان مثل هذه المعلومات أكثر من إفشائها، فقد ارتأيت أن المصلحة العامة تقتضي نشر هذه التفاصيل، خاصة وأن المريض المذكور قد قدم موافقته الشفهية والخطية بموافقته على نشرها في حال وفاته.
وقد كان.
أما بخصوص الأشخاص المشتركين في هذه الأحداث فقد اطمأننت إلى استحالة الوصول إليهم لاحقا، وتعرضهم لأي نوع من أنواع المضايقة أو التحرش.
وأحسبني قد بذلت كل الجهد؛ حتى لا يسبب هذا الكتاب ضررا أو حساسية لأي من الشخصيات المشاركة في أحداثه، كما أحسبني - كذلك - كنت مراعيا للمصلحة العامة في نشر هذه الأوراق.
والله ولي التوفيق.
د. جمال عبد الرحمن مصطفى
الطبيب النفسي، ورئيس هيئة الإرشاد والصحة النفسية،
بمستشفى الخرطوم التعليمي سابقا
تمهيد
الخميس: 3 أكتوبر 2013م
في الرابعة والنصف صباحا لا يستطيع «مجاهد» النوم مجددا.
يظل على سريره لدقائق، يرمق السقف في شرود وهو يفكر في أحداث اليوم السابق. وهي عادته في السنوات الثلاث الأخيرة التي ظل فيها يعمل مساعدا في إحدى حافلات النقل العام.
والدته تعرف زوجة «الجلابي» صاحب الحافلة شخصيا، وقد توسطت له عندها؛ حتى يستطيع الحصول على الوظيفة. فبعد أن توفي والده، اضطر لترك المدرسة والعمل للمساعدة في نفقات البيت، ومصروفات دراسة أخته الصغرى.
يرمق مروحة السقف العتيقة التي تدور في إنهاك، وإصدار صوت صرير مزعج، (تحتاج بعض الزيت)، يفكر في نفسه.
لا بد أن يتذكر أن يشتري بعضا منه في أقرب فرصة.
بالأمس كان ذلك الراكب الذي افتعل مشاجرة معهما، واتهمهما بالجشع وفراغ العين؛ لأن «عم عبد الله» ظل يماطل في التحرك من المحطة حتى تمتلئ الحافلة، ثم ابتدأت نوبة من النقاش المحموم بين ركاب الحافلة الذين راحوا يؤكدون أن كل سائقي الحافلات جشعون فارغو العين، ويتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي ولى، عندما لم يكن سائقو الحافلات جشعين إلى هذا الحد.
انبرى أحد الركاب، وقال في ذكاء واضح: «زمن نميري الناس كان عندها ضمير.»
هز الجميع الرءوس استحسانا، ثم تحول النقاش إلى «زمن نميري».
هناك شاب نحيل متعرق، يحاول بمرفق يده ملامسة صدر الفتاة التي تجلس بجانبه، ويتظاهر بأنه لا يفعل، وقد ارتسمت على وجهه كل آيات البراءة والنقاء وصلاح القديسين.
هناك طالب جامعي يضع سماعات الهاتف المحمول في أذنيه، وظل طوال الرحلة يعبث في شعره بأصابعه، وينظر عبر النافذة في شرود هائما في ملكوت الله.
هناك شخص يتحدث عبر الهاتف المحمول بصوت جهوري، ويحكي أدق تفاصيله الشخصية أمام بقية الركاب الذين يرهفون السمع في استمتاع واضح.
هناك ذلك الرجل العصبي الذي أصر على عدم دفع الأجرة الجديدة، ثم شتمه وشتم السائق وشتم البلد وشتم الحكومة. «الحرامية أولاد الكلب، بتسرقونا عيني عينك كده؟!»
هكذا توسط العقلاء وأولاد الحلال لتهدئة الرجل، وقام أحدهم بتسوية الأزمة، ودفع المبلغ المتبقي عنه. ثم ابتدأت حلقة نقاش أخرى بين ركاب الحافلة، الذين راحوا يؤكدون أن الحكومة تسرق أموالهم بالفعل، ويتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي ولى، عندما لم تكن الحكومات تفعل ذلك.
انبري أحدهم، وقال في ذكاء يحسد عليه: «نهاجر الخليج نخليها ليهم.»
فهز الجميع الرءوس استحسانا، ثم تحول النقاش إلى مزايا ومساوئ العمل في دول الخليج. «عم عبد الله» (السائق) رجل كبير في السن، قضى نصف عمره في قيادة حافلات «الجلابة». فبعد أن أحيل للصالح العام بعد قدوم الحكومة الجديدة لم يجد لنفسه عملا يتقنه غير القيادة.
عمل في بعض الشركات الخاصة، وقاد شاحناتها لنقل البضائع عبر الولايات، وعمل في التهريب لفترة عبر حدود بلاد الأحباش، قبل أن يستقر في عمله في حافلات النقل العام.
وقد كون ثروة لا بأس بها طوال سنوات عمله العشرين؛ حتى يستطيع ترك شيء ما لزوجته وأبنائه بعد وفاته، وهو ما كان واردا حدوثه بشدة بعد قائمة الأمراض التي يجمعها في إصرار.
ابتداء بالسكري والضغط، وحتى مشاكل القلب وهشاشة العظام. ومؤخرا أخبره الطبيب بأنه مصاب بمرض نادر في الدم يسمى «فقر الدم الانحلالي المناعي الذاتي».
لم يفهم حرفا مما قيل، لكنه راح يحدث الجميع عن «فقر الدم الانحلالي المناعي الذاتي» الذي أصابه دون سائر خلق الله.
كان يؤمن بأنه كلما ازداد مرضه كان هذا دليلا على صلاحه وتقواه. - «المؤمن مبتلى» يقولها في خشوع، ثم يحمل المسبحة ويتمتم ببعض الأوراد.
بعد سنوات من العمل في المجال تعلم أنه حتى يستطيع الحفاظ على اتزانه النفسي في هذا العمل، فعليه أن يتحاشى المعارك الصغيرة، وأن يتجاهل تحرش الركاب الغاضبين به وبمساعده الشاب الصغير.
فهؤلاء ليسوا غاضبين منه فعليا (يقول لنفسه)، لكنهم يبحثون عن متنفس ما يخرجون فيه غضبهم المتراكم من ضغوط حياتهم الشخصية.
وهو ما كان يتفهمه جيدا؛ نظرا للأوضاع المعيشية التي ظلت تضيق منذ سنوات.
لكنه كان يحتفظ دوما بفأس جميلة تحت مقعده تحسبا للأسوأ.
بعد الرابعة والنصف صباحا، لا يستطيع «مجاهد» النوم مجددا كما قلت.
لذلك يبدأ روتينه اليومي بأن يشرب الشاي بالزلابية اللذين يجد والدته تعدهما. يصلي الفجر في المنزل، يقبل رأسها وتدعو له بالتوفيق والرزق. ثم يقود الحافلة حتى النيل بجوار كبري المنشية، يقوم بغسلها وتنظيفها، ثم يقودها مع شروق الشمس إلى منزل «عم عبد الله»، ليبدأ يوما جديدا.
اليوم تحديدا رأى شيئا غريبا بجوار الكبري.
كان ينظف الحافلة من الداخل كالمعتاد، الشارع خال في ذلك الوقت المبكر من الصباح قبل شروق الشمس، عندما رأى سيارة بوكس تتوقف أعلى الجسر، يستطيع أن يراها بوضوح من مكانه بالأسفل.
وتساءل مع نفسه عن السبب الذي جعل السائق يقود السيارة، وقد أطفأ ضوء الكشافات الأمامية برغم الظلام الحالك.
رأى شبح رجلين يخرجان من السيارة، ثم يتجهان لمؤخرة السيارة ويلتقطان شيئا ما يتعاونون لحمله بصعوبة واضحة، ثم يرمونه من أعلى الجسر في النهر.
دوى صوت الشيء إذ يرتطم بالماء، يغوص لثوان قبل أن يعود ويطفو مجددا، وينساب مع تيار الماء، حتى اختفى في الظلام.
الرجلان يقفان على حافة الجسر ينظران إلى مكان سقوط الشيء لدقيقة، ثم يعودان للسيارة وينطلقان.
لم يكن «مجاهد» يفهم ما رآه، وإن بدا له الموقف مريبا على نحو خاص، لكن الرجلين كانا يتصرفان بثقة وهدوء.
لا أحد يفعل شيئا مريبا، ويتصرف بهذا الهدوء. «نفاية!» فكر في نفسه، وهو يرمق السيارة؛ إذ تختفي من مجال بصره.
لكن من الذي يتخلص من نفاياته في الخامسة والنصف صباحا؟! ثم من الذي يتخلص من نفاياته بهذه الطريقة؟!
لا وقت لديه للفهم، عليه أن ينتهي من التنظيف؛ حتى يصل لعم عبد الله في الموعد. - «المروحة تحتاج بعض الزيت.»
قالها مذكرا نفسه، وهو يعود لتنظيف مقاعد الحافلة.
الفصل الأول
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور!
عينان واسعتان شفافتان بريئتان شعر أمامهما بأنه وغد جدا، نجس جدا، منحط جدا، ملوث جدا.
تلك عيون لم تخلق للبكاء أو التكدر، ولم تر صاحبتهما سوءا طوال حياتها.
عينا ملاك لو كان للملائكة عيون، تحكيان عن البراءة الخام كما خلقها الله. ***
1
هل تسمحين لي يا سيدتي بإشعال سيجارة؟
حسنا، شكرا لك.
سأخبرك سرا لا يعلمه أحد سواي. أنا لا أحب التدخين ولا المدخنين ولا أطيق رائحة السجائر، وبرغم هذا أحمل في جيبي علبة سجائر دائما.
تسألينني: ولماذا أدخن إذن؟!
أعتقد أن السجائر تساعدني على التركيز وترتيب أفكاري.
ربما أنا أمارس الإيحاء على نفسي بأن أعتقد أنني سأصبح فجأة أكثر حنكة وحكمة عندما أنفث الدخان، وأرى الدخان السام يتراقص أمام ناظري قبل أن يتلاشى، وكأنها مشاكل فكري ذاتها تتلاشى أمام ناظري.
يقولون: إن «فرويد»، أبا التحليل النفسي، كان الغليون لا يفارق شفتيه، كل علماء النفس العظماء كانوا يدخنون بشراهة، ربما السجائر تجعلني أشعر أنني مثل هؤلاء العظماء على نحو أو آخر.
نوع من التقمص إن صح التعبير. إن لم أكن مثلهم؛ فسأحاول أن أبدو مثلهم.
حين أفكر في «عمار» أدرك كم كان القدر مراوغا وظالما معه.
لقد بعثره يا سيدتي بلا ذنب جناه، صنع منه مأساة تمشي على قدمين، وأفقده إيمانه فينا وفي عدل الله.
نعم، كنت أعرف «عمار».
ليس بقدر معرفتك به ربما، لكنني استطعت أن أنفذ خلف أسوار الصمت والغموض التي أحاط بها نفسه، كان كظلمات بحر لجي ليس له قرار، تغشاه الأمواج وتغلف حقيقته.
غامضا كالموت، تعيسا كإبليس، عندما طرد من رحمة الله.
من أين جاء «عمار»؟ وكيف عاش؟
كيف كانت لحظاته الأخيرة؟
هل وجد الراحة التي كان ينشدها؟
هل وجد الأجوبة على تساؤلاته التي طالما أقضت مضجعه، وجعلته كارها لكل شيء؟
فيم كان يفكر وهو يمشي متثاقلا يجرجر قدميه، خارجا من عيادتي لآخر مرة، بعدما عرف ما لم يكن عليه أن يعرفه؟!
لا أعرف بالضبط فيم كان يفكر، ولكنني أستطيع رؤية النظرة الخالية من أي تعبير التي كست وجهه. نظرة من لم يعد لديه شيء ليخسره.
هل فكر في أمه العجوز الطيبة وأخته، وهو يغلق عينيه للأبد؟!
هل بكى؟
لن أعرف أيضا.
كل ما أستطيع تقديمه هو مجموعة من الفرضيات، ونظرتي الخاصة لما حدث، خصوصا بعد كم الغموض الذي غلف حياته ووفاته.
ما أعرفه يقينا أنه كان يحتوي على أشلاء شخصية مبعثرة للغاية، شخصية مرضية غير سوية، فشلت في التعاطي مع المجتمع ومع الواقع كما هو.
لكنه برغم كل شيء قد صنع معناه في الحياة كما شاء.
كسر شماعة الظروف والرضا بالمقسوم في حياته. لم يستطع الواقع أن يسيطر عليه كباقي الظانين مثلي. إنهم بطول تواجدهم في الحياة فقد عاشوا حيواتهم الباهتة لنهايتها.
شربوا من كأسها المترع، حتى آخر نقطة.
فيما أرى، فهو وأمثاله سيلهمون شباب هذا الجيل والأجيال التالية في هذا البلد التعس. هو وكل الشباب الصادق النضر الذي هتف معه في شوارع الخرطوم. إنهم يستطيعون التغيير حقا.
لا حدود للطموح. يمكنك أن تحقق المستحيل طالما أردت ذلك.
وقد صدق الشافعي رحمه الله عندما قال: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم. وعاش قوم وهم في الناس أموات.
الظلم يا سيدتي يقهر الرجال، وقد قهره وحطمه.
كنت أنا وهو ضدين في كل شيء، وبالضد يظهر عمق الخلاف وتزيد هوة الفرق بين الأجيال.
جيلي وجيله.
أسعى للتبرير، وهو يسعى للإدانة.
أومن بالقضاء والقدر خيره وشره. وهو يوقن أننا سادة أقدارنا، وأصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في حيواتنا. «لسنا أحجارا في رقعة شطرنج، نسير وفق ما رسم لنا سلفا» هكذا قال لي.
كنت أقاومه طالبا بعض التأني والحكمة، وهو يدفعني بسرعة جنونية طلبا للمجد.
ماذا سيستفيد من صنع مجد لن يعيش ليراه ويستمتع به؟
كدون كيشوت في معركته العبثية؛ إذ يحارب طواحين الهواء، كانت تلك حياته المأساوية.
غاضبا دائما كأحد آلهة الإغريق الأسطورية.
متمردا على كل شيء، كافرا بكل شيء.
المرات التي التقيته فيها كانت كافية لأعرف أنك، يا سيدتي، كنت أحد الفصول المهمة في حياته، لا أراني مبالغا إن قلت إنك كنت الفصل الأهم في حياته التعسة.
القشة التي قصمت ظهر البعير، إن صح التعبير.
أرى الحيرة والتساؤل في عينيك. لقد دعوتك لزيارتي في عيادتي المتواضعة بعد معاودتك الاتصال بي، دون أن أعرفك بنفسي أو سبب زيارتي، وهذا مما لا بد منه ما دمنا سنمضي في التفاصيل القادمة معا.
لم أعتقد أن «هادية» ستحتفظ برقمي وتسلمك إياه فعلا، ظننتها سترميه في أقرب سلة قمامة، أو تنسى كل شيء عني. أشكرها لهذا وأرجو أن توصلي لها اعتذاري لكذبي عليها بخصوص هويتي.
أعتقد أن اللافتة التي رأيتها في باب المكتب، والتي تقول: د. جمال عبد الرحمن - الطبيب والمعالج النفسي، تختصر الكثير. لكنها لن تقول لك ما أنا بصدد إخبارك به الآن.
إن لم تخني الذاكرة؛ فقد حدثت كل هذه الأحداث التي سأحكيها لك الآن في الفترة التي كان «عمار» يتردد فيها على عيادتي ما بين شتاء عام 2012م وخريف عام 2013م. أما الأحداث نفسها فقد ابتدأت قبل هذا بكثير. بعض التفاصيل عرفتها لاحقا من أصدقائه الذين التقيتهم، وبعض التفاصيل لم أعرفها حقا وما زالت غامضة بالنسبة لي، لكني حاولت ملء الفجوات المتناثرة هنا وهناك باستنتاجاتي الخاصة.
هل حصلت على انتباهك كاملا يا سيدتي؟
حسنا، أعتقد أن القصة بدأت كالتالي.
2
كانت السماء تصطبغ بلون أحمر قاتم يميل للسواد، وراحت السحب السوداء القاتمة تتراكم بسرعة بصوت قرقعة مكتوم ، وكأن الرعد يتنحنح قبل أن يطلق زئيره القادم، وبسرعة بدأت الموجودات في التلاشي في قلب الظلمة. شق لسان من البرق قلب السماء والتمع الوهج القوي الخاطف يبهر عينيه، وقبل أن يتلاشى بالكامل، دوى زئير صوت الرعد يصم الآذان.
كان خائفا كما يجب، قلبه يتواثب بين ضلوعه، وهو يتأمل الصحراء الخالية المنبسطة أمامه، والرمال الناعمة الحمراء بلون السماء. ويتساءل مع نفسه كيف جاء هنا؟
لا يعرف، ما يعرفه أنه خائف، وأن أنفاسه تتلاحق، وأن عليه أن يهرب.
وكأن الوضع ليس كابوسيا بما فيه الكفاية، ظهر ذلك الصقر في الأفق من لا مكان، وهو يحلق بسرعة. وعندما التمع وهج البرق مجددا وأضاء الموجودات. لثوان أدرك أن الصقر ضخم على نحو غير طبيعي. كما أدرك أنه يندفع من الأعلى نحوه بالذات.
هكذا أطلق ساقية للريح.
صوت الرعد يزداد قوة ورعبا وهو يجري، ينظر للخلف، يتعثر ويسقط في الرمال الحمراء، وهو يسب ويلعن، ينهض ويجري مجددا. يشعر أن قدميه تتثاقلان أكثر فأكثر.
سمع صوتا جهوريا يتردد في إصرار، وبلهجة آمرة: «دافع عنها بحياتك»، «دافع عنها بحياتك»، «دافع عنها بحياتك».
يدافع عمن؟!
لم تكن هناك جهة جغرافية يصدر منها الصوت، كان يتردد في كل مكان. ولغرابته فقد بدا له مألوفا.
قدماه تتثاقلان أكثر وأكثر. السحب تزداد سوادا وكثافة، وصوت الرعد يزداد ضجيجا.
لسان جديد من البرق يشق المكان، وينير الموجودات حوله لجزء من الثانية.
التفت خلفه. كان الصقر على بعد عشرة أمتار منه، وقد فرد أجنحته ومد مخالبه للأمام متهيئا للانقضاض عليه، وهو يضحك بصوت عال أشبه بالقهقهة.
منذ متى تضحك الصقور بصوت عال أشبه بالقهقهة؟!
فتح «عمار» عينيه.
ولوهلة ظل يحدق في الأعمدة الحديدية المتشابكة أسفل السرير الذي يعلوه، ويحاول استيعاب أين هو وماذا يفعل بالضبط؟
نفس الحلم للمرة الثانية في شهر واحد.
نفس الحلم بنفس التفاصيل.
كان «إبراهيم» ينظر له منحنيا عليه بنصفه الأعلى، وهو يضحك بطريقته المميزة التي تشبه القهقهة. - «شكله كان كابوس.» قال إبراهيم.
نظر له متسائلا، فأضاف وهو يرمي منشفة الاستحمام على كتفه ويتجه للحمام المرفق بالغرفة: «كنت بتتكلم وانت نايم، اصحى ورانا جامعة».
راح يتمطى، وهو يلوك تلك الأشياء الغامضة التي يلوكها كل من يصحو من النوم. اليوم أول أيام الجامعة.
جامعة الخرطوم الجميلة المستحيلة، كما يسميها أبناؤها. كانت الدراسة فيها حلما بعيد المنال بالنسبة له في فترة من الفترات، والآن أضحت واقعا غير قابل للتصديق.
فمنذ أن انتقل إلى الخرطوم - منذ حوالي الشهر - وظل في هذا السكن الداخلي الخاص بالطلاب، وهو يكرس كل جهده لشيء واحد، أن يدرس بجد ويتخرج بتقدير عال حتى يستطيع بناء حياته العملية لاحقا.
كنت تعلمين بالتأكيد يا سيدتي؛ فهو لم يكن من الشخصيات التي يمكنك وصفها بالاجتماعية، وطوال فترة وجوده بالسكن لم يعقد صداقات مع أي من الشباب المقيمين معه، فقد كان شخصا صموتا منعزلا، لا يريد شيئا في الدنيا إلا أن يترك لشأنه، لكن صداقة حميمة انعقدت أواصرها بسرعة بينه وبين «إبراهيم» منذ بداية انتقاله للمكان، عندما اقترح عليه الأخير الانضمام للميز الشهري الذي يقيمونه بالسكن، وهو مبلغ زهيد نوعا ما يتشارك الشباب في دفعه؛ لشراء مستلزمات الأكل بالجملة مرة في الشهر، ثم يتقاسمون الأدوار للطبخ فيما بعد. وقد أعجب هذا الاقتراح «عمار» أيما إعجاب، خاصة وأن قدرته المالية لم تكن تسمح له برفاهية الأكل الخارجي يوميا، فلم يكن لديه أسرة في ولايته التي قدم منها ترسل له مصروفا شهريا كبقية الطلبة، لكنه يمارس بعض الأعمال الهامشية، حتى يستطيع توفير بعض المال للدراسة وإيجار السكن، وما يتبقى - وهو قليل - يذهب تكاليف المعيشة. كان يعمل في أحد دكاكين تقطيع أكياس البلاستيك في السوق الشعبي بنظام اليومية، يدر عليه مبلغا لا بأس به يغطي احتياجاته الأساسية في اليوم. أحيانا يقوم بشراء كميات كبيرة من صاحب الدكان يبيعها له بسعر الجملة، ثم يقوم هو ببيعها لأصحاب البقالات في المنطقة بالتقطيع، لم يكن يربح الكثير، لكنه يتحصل على مبلغ إضافي يضعه في مكان جانبي؛ لتغطية رسوم التسجيل للجامعة أو الامتحانات أو أي طوارئ قد تحصل له . «إبراهيم» على النقيض منه، كان شخصا اجتماعيا لدرجة بعيدة، كثير الحركة والكلام والضحك، يعرف كل شخص في السكن بالاسم والتفاصيل الدقيقة. شخص حيوي متبسط في الحديث يندر أن تراه مستقرا في مكان واحد، ودائما ما تسبقه ضحكته المجلجلة المميزة التي اشتهر بها تدوي في أرجاء المكان.
عرف فيما بعد أن «إبراهيم» سيدرس معه في نفس الدفعة، برغم أنه يسبقه بعام في الكلية، لكنه أعاد العام الأول؛ لرسوبه في نصف المواد دفعة واحدة، وكاد أن يتعرض للفصل من الجامعة، لولا تدخل رئيس رابطة الطلاب الاتحاديين بالجامعة - التي كان هو عضوا فيها - وبعض الأجاويد، وفاعلي الخير، فتم قبول إعادته للعام الدراسي فقط. «إبراهيم» ينفي الحادثة جملة وتفصيلا، ويؤكد بعد القسم المغلظ أنها مؤامرة ضده من الهيئة التدريسية بالكلية؛ فقد اقتحم مكتب أحد أعضاء الهيئة التدريسية من قبل؛ للاستفسار عن شيء ما بخصوص الامتحان، ورأى بأم عينيه الدكتور الأشيب الوقور في وضع مخل مع إحدى الطالبات الجدد، وكاد أن يملأ الدنيا صراخا ويجمع الطلاب، لولا بكاء الطالبة وتذلل الدكتور له؛ حتى لا يثير فضيحة لا داعي لها. قال له إنه سيشتري صمته بأن يضمن له النجاح في كل المقررات طيلة سنوات دراسته؛ حتى يتخرج بالتقدير الذي يشاء.
صفقة جميلة وافق عليها بسرعة، وتصافحا، ثم خرج لحال سبيله. - «ابن اليهودية خدعني وغدر بي. كان يعرف أنني سأكون شوكة في حلقه؛ لذلك جعلني أعيد العام حتى يستفرد بها، لكنني لن أصمت، وليكونن انتقامي مريعا تتناقله الأجيال، وتحكيه الجدات في خوف لأحفادهن على ضوء القمر ليلا.»
لكن لا أحد يصدق «إبراهيم»؛ فروايته التي حكاها للكل - حتى عم الطاهر صاحب البقالة العجوز في ناصية الشارع - كانت تتغير كل يوم، بل تتغير في اليوم ذاته عدة مرات. فتارة يقول إنه رآهما عاريين في المكتب، وتارة أخرى وجدهما في سيارة الدكتور الخاصة، وأحيانا تتحول الطالبة إلى والدة إحدى الطلاب، ثم إحدى المدرسات بالهيئة التدريسية، ثم فتاة ليل ترتدي ملابس عارية مثيرة، وتحمل سوطا تضربه به، بل أحيانا ينسى كل هذا، ويقول إنه ضبطه متلبسا، وهو يمارس العادة السرية ويحملق في صورة إحدى مذيعات القنوات الفضائية، ويصرخ كالنساء من أثر اللذة.
يضيف ما يشاء من البهار بما يراه مثيرا يجذب انتباه المستمع، ويحذف ما يشاء مما يراه لا يخدم قصته أو يقلل من تشويقها، ثم يعيد صياغتها وتركيبها لتغدو رواية جديدة آخر النهار. وفي كل مرة يحلف أيمانا مغلظة بالله وملائكته ورسله والشيخ البرعي أنها الحقيقة، ولا شيء سواها.
لم يكن اليوم الأول في الجامعة كما تصوره «عمار»، وقد شعر بالإحباط عندما وجد أن الجامعة كانت شبه خالية، ولم يكن فيها سوى بعض الطلبة، قال لهم أحد أصدقاء «إبراهيم»، عندما التقوه في ساحة النشاط: إنه لن تكون هناك محاضرات حتى الأسبوع القادم. هكذا جلسا في الكافتيريا وطلبا بعض السندويتشات، ثم خرجا أمام بوابة الجامعة، وجلسا في صناديق البيبسي الفارغة بجوار «ميري» التي تبيع الشاي والقهوة.
قال «إبراهيم»: «بما إنك برلوم لسه، وده أول يوم حاكون أنا دليلك في الجامعة. أنصحك تمسك في طرف قميصي، عشان ما يخدعوك السناير، ويدخلوك استراحة البنات زي ما حصل مع حسن التعبان.»
ردد «عمار» الاسم في تساؤل: «حسن التعبان؟»
وكأنه كان ينتظر الرد المتسائل. راح «إبراهيم» يحكي له، بفخر، كيف أنه قد قام بخداع أحد الطلبة الجدد في موسم التسجيل للعام الدراسي السابق، عندما أقنعه بأن استراحة الطالبات هي مكتب العميد، ثم جلس مع شلته يضحكون مع صراخ الفتيات في الداخل، قبل أن يخرج الطالب ممتقع الوجه، بينما أصوات الشتائم واللعنات تنهال عليه من الطالبات في الاستراحة.
ثم أطلق ضحكته المجلجلة، وقال: «المسكين من يومها اتعقد، أطلقنا عليه لقب «حسن التعبان»، وهو ما اشتهر به في الكلية، وظل يلازمه حتى الآن.»
سأله «عمار»: «ولماذا فعلتم هذا؟» - «لأن الجامعة مملة يا صديقي، بعض المرح لن يؤذي أحدا.» - «قلت إنه قد تعقد من الموقف، هذا مؤذ.»
وضعت «ميري» أمامهما كوبي الشاي في صينية فضية صغيرة، وقالت مخاطبة «إبراهيم» وهي تعود لمقعدها بلهجة عربي جوبا المحببة: «لم تبدأ الدراسة بعد؟»
قال «إبراهيم» وعيناه تلاحقان الطالبات اللائي رحن يتدفقن عبر بوابة الجامعة دخولا وخروجا: «ليس بعد، يقولون إنها ستبتدئ الأسبوع القادم؛ لإتاحة الفرصة لتقديم مزيد من الطلاب.» - «يتأخرون دوما، وكل مرة بعذر جديد»، قالت ميري وهي تقوم بتذويب السكر في قهوة أحد الزبائن.
تساءل «عمار»: «هل يفعلون هذا كل عام؟»
قالت «ميري»، وهي تقوم بتحريك الصينية النحاسية الصغيرة بحركات سريعة؛ لإشعال الجمر: «كل عام، وكثيرا ما تتوقف الدراسة في الكلية عند حدوث الاضطرابات والاعتصامات السياسية.»
قال «إبراهيم»: «لقد أوقفوا الدراسة لمدة شهرين في العام السابق؛ لأن أحد الأساتذة منع طالبا من دخول امتحان منتصف العام، وقد تضامن معه طلاب الدفعة، وأضربوا كلهم عن الجلوس للامتحان.»
قالت «ميري»: «الله يحلكم بالسلامة يا أولادي.»
ورد «إبراهيم»: «الموضوع ولادة فعلا.»
ثم غمز ل «عمار» بعينه، وقال وهو يلكزه بمرفقه مغيرا مجرى الحديث: «الطالبات الجدد! أعرفهن من ملابسهن الزاهية الجديدة، دماء جديدة تحقن في شريان الكلية، وفرص جديدة للذئاب المخضرمين من الطلاب القدامى.»
قال «عمار» مبتسما: «تقصد بالذئاب القدامى أنت طبعا.»
قال مقهقها: «فقط أمنحهم ما يريدون.» - «ماذا تقصد؟» تساءل «عمار». - «ألا ترى تلك الوجوه المرسومة بعناية، وأطنان المكياج تلك. لم تبذل الواحدة منهن كل هذا الجهد كل يوم حتى لا تنظر إليها، سيكون هذا نوعا من عدم العرفان وقلة الذوق؟!»
قال «عمار» ضاحكا: «منذ متى كان غض بصرك عن الفتيات نوعا من قلة الذوق».
قال «إبراهيم» في حماس: «بل هو الواقع. عندما تنظر لها فأنت تسديها جميلا، نوعا من الإقرار بجهدها. عيناك ستقول لها أنت جميلة ولافتة للنظر، ولا بأس ببعض عبارات الغزل العابر. لن تشعر أن كل هذا الجهد في التزين كان بلا داع، ستمنحها الدعم النفسي الذي تحتاجه.» - «أرجو أن تعفيني من فلسفتك الغريبة تلك.» - «ليست فلسفة غريبة. انظر إلى تلك المؤخرات المنتفخة والصدور الثائرة، وكأنهن خرجن بذات المواصفات من خط إنتاج مصنع ما، هل تظنها مصادفة؟»
نظر له «عمار» متسائلا دون أن يجيب، فأضاف بذات الخبث: «كل هذا من أجلي ومن أجلك يا صديقي المثالي . هذا العرض المجاني هو الفخ الذي يقمن بنصبه بصبر لذلك الأحمق الذي ينظر. يعجبك ما ترى ثم تبدأ في التقرب منها والتعارف؛ طمعا في الحصول على بعض هذا الشيء. ثم «بوووم»، تجد خاتما في يدك وصالة تمتلئ بالمهنئين، بينما تبتسم ببلاهة لمصور الزفاف.
وقبل أن تدرك ما هنالك تجد نفسك بين سبعة أطفال عراة يسيل المخاط من أنوفهم، وتراقب في هلع الآنسة الهيفاء الرقيقة ذات الصدر الناهد الذي سال له لعابك من قبل، والعقل المثقف الجميل الذي كان يناقشك في أشعار نزار قباني وروايات إحسان عبد القدوس وفلسفة ابن رشد وإميل سيوران، وقد تحولت إلى ذلك الكائن الأسطوري الضخم الذي يشخر بجانبك الآن في السرير، كائن شحمي مترهل قادم من أسوأ كوابيسك، لا هم له سوى فرك البامية ومتابعة الدراما التركية، والجلوس في وضع الصليب وربط أكياس البلاستيك حول الحناء حتى تسود جيدا.
وستلومك على كل شيء. ستلومك لحماقتك عند اختيارك الدائم للطماطم التالفة، واللبن المغشوش، واللحم السيئ. ستلومك على حظها التعس الذي أوقعها معك برغم صفوف الأطباء والمهندسين ورواد الفضاء الذين كانوا يصطفون أمام بيتها لطلب يدها، لا بد أن «السارة» جارتهم الشمطاء التي كانت تكيد لها عند «فكي أبكر» كانت شريكتك، أو كنت شريكها في مؤامرة إتعاسها. ستلومك على قطوعات الكهرباء، وفيضانات الخريف، وثقب الأوزون، وندرة قردة البونوبو في غابات الكونغو الاستوائية.
ستدرك بعد فوات الأوان أن معشوقتك «مخطوطة المتنين غير مفاضة، ريا الروادف بضة المتجرد» قد تبخرت مع أحلامك للأبد، وأنك قد تعرضت لخدعة محكمة. إن كيدهن عظيم، كما قال النبي (
صلى الله عليه وسلم ).»
قال «عمار» مصححا: «تلك آية قرآنية، وليست حديثا نبويا.» - «ما اختلفنا»، ورشف رشفة سخية من كوب الشاي «لكنني لن أقع في مثل هذا الفخ. أكتفي بالنظر وحفظ كل شيء هنا»، وأشار لرأسه «كله يحفظ في هذه الفلاشة الربانية، أعيد تشكيله فيما بعد كيفما شئت عندما أنفرد بنفسي في الحمام، تلك اليد الجميلة يمكنها أن تتحول إلى أي فتاة أشاء.»
وراح يقهقه بذات الضحكة المجلجلة، وهو يلوح بيده اليسرى أمام وجه «عمار» المتقزز. - «عليك اللعنة. أنا أستعمل معك ذات الحمام.»
قالت «ميري» ضاحكة: «لا تدع صاحبك المستمني هذا يلوث أفكارك، إنه معقد من جنس البنات لأنه لا يجد أي فتاة تقبل به.»
قال «إبراهيم» في حدة: «بل لا توجد فتاة أقبل أنا بها.» - «عليك النبي!» - «وحياتك يا ميري»، ورشف المزيد من الشاي «محسوبك معشوق الجنس اللطيف في الكلية، كلهن رهن إشارة مني، لكنني لا أريد، لا أميل لتلك السحالي الملطخة بالأصباغ المنتفخة بالمركبات الكيميائية، وهل هذا جمال يغري؟ لا يوجد جمال طبيعي كالذي يوجد من حيث أتيت.» - «الكديس لما ما يلقى اللبن بقول مسيخ. قل إنك لا تقدر عليهن وتتحجج بهذه الحجج الخائبة.»
قال «إبراهيم» في تحد: «هل تريدين تجربتي يا بنت ملوال، حتى تتأكدي بنفسك.»
ابتسم «عمار» خجلا، وضحكت «ميري» حتى بانت أسنانها الدقيقة المتراصة في عناية. كانت ذات جسد نحيف ممشوق وأطراف طويلة، ليست جميلة على نحو خاص، لكن لا يمكنك نعتها بالقبح بضمير مستريح، تملك نوعا من الكاريزما المبهمة غير واضحة المعالم، جاذبية خاصة تنبعث منها كالسحر عندما تتحدث بصوتها الأجش، ولهجتها التي تأخذ فيها من اللغة أساسياتها، ولا تراعي فيها تصريفات الأفعال، أو دقة نطق الضمائر، أو ما اصطلح الشارع على تسميته بعربي جوبا.
لا أحد يعرف متى قدمت للخرطوم تحديدا، ولا متى بدأ نشاطها أمام الجامعة، لكنها كانت دوما موجودة هناك. هي نفسها لا تذكر متى قدمت للعاصمة تحديدا، تسميه يوم الكتاحة؛ فقد كانت هناك عاصفة ترابية هائلة تجتاح العاصمة عند قدومها، اعتبرته نوعا من الترحيب الحكومي - وربما الإلهي - احتفاء بقدومها إلى مدينة صنع القرار. أو كما تقول «محل الطيارة تقوم والرئيس ينوم». تعرف أنها قررت شد رحالها بعد وفاة زوجها منذ سنوات إثر إحدى غارات الجيش على مواقع تمركز كتيبتهم في الجنوب، قبل أن تضع الحرب أوزارها لاحقا ببضع سنوات. وقد ترك لها طفلا وحيدا جميلا أشعرها بالإحباط والمسئولية، فلم تعد حرة بعد اليوم، فكرت في البداية في التخلي عنه وتركه لعمها «بيتر» ليشتد عوده قليلا، ثم يلحقه بالجيش المحلي الذي يحارب الحكومة، لكنها - وفي نفس الليلة التي قررت فيها ذلك - رأت فيما يرى النائم السيد المسيح (عليه السلام) يزورها في منامها، هابطا من السماء وسط هالة نورانية مقدسة باسطا يديه أمامه، بينما صوت الجوقة الكنسية يدوي مرتلا لحن «المجد لله في الأعالي»، بصوت الأخت «تابيتا»، وقد خيرها إما أن تبيع بيرة الكويتي، وهي بيرة منزلية تصنع من دقيق الذرة، أو العرقي الذي تقطره من البلح، أو تذهب وتبحث عن عمل ما في الخرطوم، لكنها لن تتخلى عن الطفل بأي حال من الأحوال، فسيكون له شأن عظيم مستقبلا.
اجتهدت في تربيته منذ ذلك الوقت.
ولما لم تكن قد حصلت على أي تعليم يذكر، لم تجد بدا من صناعة الشاي والقهوة ومشروب الكركدي الساخن لطلاب الجامعة، منذ ذلك الوقت. وقد تعلمت كيف تتحدث وتتعامل ببذاءة الرجال حتى تمنع تحرشات الطلاب المتدفقين بفعل هرمونات البلوغ بها، فلا شيء يغري الرجل أكثر من المرأة المستسلمة الضعيفة، ولا يخيفه شيء أكثر من المرأة القوية التي لا تخشاه، وتعرف كيف تتحدث وتتعامل مثله، وربما ألعن منه. وقد ساعدها صوتها المبحوح الذكوري وطلاقة لسانها في مسعاها على ما يبدو.
قالت من بين ضحكاتها، وهي ترفع طرف ثوبها وترمي به على كتفها لينزلق ويسقط مجددا: «لم يلمسني رجل في حياتي غير المرحوم جوزيف، الله يرحمه، كان شديدا لا يكل ولا يمل من هذا الشيء، لا يوجد رجل مثله، فلا تضع نفسك في رهان خاسر، واحتفظ ببضاعتك التي تشبه بضاعة الأطفال تلك، ولوح بها في مكان آخر بعيدا عني.»
قال «إبراهيم» في خشوع: «الله يرحمه.»
وأضاف بسرعة، بعد أن تلاشت هالة الخشوع من على وجهه في لمح البصر: «لا بد أنه مات لأنك اعتصرته حتى آخر قطرة. أعرف نساء الدينكا جيدا، يحببن الجنس أكثر من حبهن لأولادهن. صدقيني لولا أنك في مقام والدتي يا ميري؛ لكنت فعلت بك شيئا بذيئا منذ العام السابق، لكنني شاب متدين أخشى الله، وأخشى أن تدمني الصنعة بسببي، وأحمل ذنبك في رقبتي ما حييت.»
واختلطت ضحكته المجلجلة بضحكتها المبحوحة المسترسلة، ثم مسحت دموع الضحك من عينيها بطرف ثوبها، وقالت، وهي تحمل آنية فضية بها أكواب شاي، لتقدمها لبعض الزبائن: «استغفر الله، جنا فور مجنون، خليني استرزق.»
ابتسم «إبراهيم» ساخرا، وهو يشعر بالرضا عن نفسه، بعد أن استشعر بعض الخجل في ردها، أن يجعل «ميري» سليطة اللسان التي تتحدث وتشتم ببذاءة طوال الوقت، وتستجلب سيرة الأمهات في شتائمها دوما تشعر ببعض الخجل، لهو إنجاز تاريخي بكل المقاييس، يجب أن يجد مكانه في الصفحات الأولى من الصحف المحلية والعالمية، لو كان هناك عدل في هذه الدنيا. فقط عليه ألا ينسى أن يحكي خبر انتصاره للشلة في يوم ما عندما يلتقيهم، سيضحك عبد الرحمن كثيرا، وسيكذبه سعيد كالعادة لكنه لن يهتم، يعرف كيف يجعل القصة أكثر تشويقا وإثارة للانتباه.
والتفت إلى «عمار» الذي ظل صامتا طوال فترة جلوسهما، متسائلا عن سبب صمته، لكن هذا كان يحملق تجاه بوابة الجامعة في تركيز.
كانت تلك الفتاة تقف أمام الباب في ارتباك واضح، وهي تبحث في حقيبة يدها، ثم تخرج هاتفا محمولا وتحاول الاتصال بشخص ما، بدا واضحا أن محاولاتها لم تكن موفقة من أثر الانزعاج الذي اعتلى وجهها وهي تحاول تكرار الاتصال عدة مرات.
أطلق «إبراهيم» صفيرا قصيرا منبهرا، وكذا فعلت «ميري»، ثم ألحقته بعبارة غزل فاحشة.
التفتت الفتاة ناحيتهم فجأة فدفن كل منهما وجهه في كوب الشاي بسرعة، وتظاهروا بأنهم منشغلون في شيء ما، وعندما رفع «عمار» عينيه مجددا رآها قادمة ناحيتهما تمشي على استحياء.
فتاة دقيقة الحجم هي، ذات جسد نحيف نوعا ما، مكتنز من وسطه، تحكم لف طرحتها حول وجهها حتى أخفت ذقنها داخلها، وإن سمحت لبعض الخصلات من شعرها المصفف بعنايه بالانزلاق قليلا من طرف الغطاء المحكم، تحمل شنطتها النسائية على كتفها، وتضم كتابا ما على صدرها بكلتا يديها. بدا له شكلها طفوليا جدا وقتها . أما أكثر ما شد انتباهه فقد كان عينيها اللتين تطلان على الوجود من خلف نظارة طبية أنيقة بلا إطارات.
عينان واسعتان شفافتان بريئتان، شعر أمامهما بأنه وغد جدا، نجس جدا، منحط جدا، ملوث جدا. تلك عيون لم تخلق للبكاء أو التكدر، ولم تر صاحبتهما سوءا طوال حياتها.
عينا ملاك لو كان للملائكة عيون، تحكيان عن البراءة الخام كما خلقها الله.
توقفت بجوارهما، وسألتهما بصوت طفولي عذب جدير بتلك الملامح عن مكتب المسجل. «هل هكذا تبدو رائحة الجنة؟» سأل «عمار» نفسه عندما غمره أريج عطرها، وحين أحس بالرعشة الباردة تسري في جسده، وأخطأ قلبه عدة خفقات، أدرك أنه نسي - تقريبا - كل شيء عن اللغة العربية في تلك اللحظة.
كيف يتحدث الناس، وكيف تصدر الأصوات؟
نهض «إبراهيم» بسرعة من مجلسه - لم يلحظ ارتباكه لحسن الحظ - وراح يصف لها مكان مكتب التسجيل، وهو يشير بيده الممدودة تجاه الكلية، بينما يحني رسغ راحته يمينا ويسارا؛ لتأكيد الاتجاهات.
كانت تلك المرة الأولى التي التقاك فيها يا سيدتي، وقد تحدث فيما بعد كثيرا، وبإسهاب أثناء الجلسات عن تلك اللحظة، وعن شعوره وقتها باعتبارها لحظة ميلاد جديد بالنسبة له. لم يكن مجرد انجذاب عاطفي، أو حتى جنسي تجاه أنثى ما بالنسبة له، لقد أصابته رؤيتك في صميم الروح.
أعتقد أن تعبير الحب من النظرة الأولى تبسيط مخل للعواطف المعقدة التي بدأ يكنها تجاهك. - «شهادة عربية.»
قالها «إبراهيم» بلهجة تقريرية كأنه يفسر لغزا محيرا، وهو يعود ليجلس في مقعده، وأضاف: «هذا الوجه الناعم الرائق وتلك الملامح البريئة الخالية من أدوات التجميل، من الجلي أنها لم تكتوي بلفح شمسنا الحبيبة من قبل، هذه الفتاة لم تقتحم ازدحام السوق العربي، ولم تتعارك للظفر بمقعد شاغر في حافلات المحطة الوسطى بحري، ولم تضع مستحضرا لتبييض وجهها أو نفخ مناطقها السعيدة. فليقطع ذراعي إن لم تكن من طالبات الشهادة العربية، ربما إحدى دول الخليج كذلك من لهجتها الغريبة.»
قال «عمار» في شرود، وهو يتحسس السوار الأبيض الذي يحيط بمعصمه كالساعة، وقد نقشت عليه كلمات باللغتين العربية والإنجليزية بخط منمق دقيق: «هل تعرف التخصص الذي ستنتسب له؟»
قال «إبراهيم»: «اقتصاد، ستكون معنا في نفس الدفعة يا روميو، اسمها «هبة» بالمناسبة.»
وأضاف وهو ينهض من مجلسه: «هلم. أريد أن أعرفك ببعض الشباب في الشلة.»
وقف «عمار» شاردا يرمق طائرة هليكوبتر حربية تحلق من بعيد، وهو يفكر في تلك الفتاة، بينما ما زالت رائحة عطرها تفوح في المكان وتدغدغ دواخله بلطف. قال «إبراهيم» مخاطبا «ميري» شيئا ما عن إضافة قيمة الشاي إلى حسابه معها. غمغمت «ميري» بعدم رضا شيئا ما عن عدم سداده لدينه القديم معها منذ شهور، ورد «إبراهيم» ضاحكا بشيء ما عن ظروف الطلبة وحنان الأم.
لم يكن «عمار» يعي ما يدور حوله. شعر للحظة بدقات قلبه تتزايد، وكأنه على وشك فقدان الوعي. الأرض تميد تحت قدميه وبرودة قاسية تسري في أطرافه.
لا يدري كم استمر على هذا الحال، لكنه وجد نفسه فجأة على الأرض، بينما «إبراهيم» يهزه من كتفيه في عنف، وهو يقول شيئا ما.
وفي لحظة انتهى كل شيء، وسمع صوت «إبراهيم» الجزع يسأله عما أصابه.
استند على الحائط ونهض، وهو ينفض التراب عن سرواله، وقال: «لا شيء أنا بخير.» - «ماذا تعني أنك بخير، تجلس على الأرض فجأة، وترمقني بعينين مذهولتين زجاجيتين، ثم تنهض وتقول لي إنك بخير؟» - «صدقني أنا بخير، لا بد أنها ضربة شمس، أو شيء من هذا القبيل. لا شيء يخيف.»
نظر له «إبراهيم» في شك، ثم راح يتواصل حديثه الذي انقطع، وبينما كان «عمار» يتظاهر بالاستماع والاهتمام، كان خياله يجرفه إلى ما بعد لحظات من رؤية «هبة». ثم يغمض عينيه، ويسترجع رائحة عطرها التي علقت في ذاكرته للأبد.
الآن تقفز بنا التسجيلات الصوتية للجلسات قفزة هائلة إلى مطلع العام الدراسي الثاني. عندما بدأ يتحدث فيها عن بداية نشاطه السياسي بالجامعة، بتردده بداية على أركان النقاش في الكلية، ثم مشاركته فيها خطيبا، وهو ما كان يفتخر به على نحو خاص. فبعد الحادثة الأخيرة التي حدثت في يونيو قبل أشهر، عندما قامت الشرطة بمحاصرة الكلية واعتقال بعض الطلاب الناشطين سياسيا، وبسرعة البرق وبتأثير تلك الأحداث وموجة الغضب التي عمت الطلاب، ظهرت عشرات الحلقات السياسية، وأركان النقاش في كليات الجامعة. كان خطيبا حماسيا، ويمتلك قدرة عالية على أسر انتباه الحضور وتهييج العواطف، يسوق الحديث سهلا بلا تعقيد أو إسفاف، ويتحدث بلهجة هادئة بدون صراخ وانفعال عن جيفارا والمهاتما غاندي وسالابوس وعروة بن الورد، ويضرب الأمثال للناس شارحا ومفسرا ومقارنا بين التجربة المحلية، وتجارب دول العالم المختلفة.
وقليلا قليلا بدأ نجمه يسطع، وتحول إلى اسم معروف في الكلية ثم الكليات المجاورة ثم الجامعة ثم الجامعات المجاورة.
وبالتوازي مع نشاطه السياسي وازدياد شعبيته في الجامعة، كانت العلاقة تتطور بينه وبين «هبة» بسرعة.
في البداية كانت العلاقة بينهما هادئة متحفظة، مجرد ابتسامات من على البعد من باب التحية وردها. ثم بدأ الأمر في ذلك اليوم عندما كان يتحدث في وسط حلقة النقاش عن خطة الحكومة؛ لرفع الدعم عن بعض السلع الأساسية وتحرير سعرها، فرآها تقف من بعيد مع إحدى صديقاتها، تحتضن دفترا مزخرفا بكلتا يديها، وتضمه لصدرها بذات التأثير الطفولي الذي يعشقه، وتنظر له في فضول. وعلى الفور قطع حديثه وراح ينشد إحدى أغاني فيروز، وهو ينظر لها مباشرة، ويقوم بعمل حركات استعراضية بيديه؛ لتتماشى مع نسق الكلمات:
أعطني الناي وغن فالغنا سر الخلود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
هل تخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرا في كئوس من أثير
أعطني الناي وغن فالغنا خير الصلاة
وأنين الناي يبقى بعد أن تفنى الحياة
ومع أن الجمع حوله لم يفهم معنى ما قاله أو علاقته بموضوع النقاش السياسي، إلا أنهم راحوا يصفقون في حماس. وهو ما كان يطلق عليه في الجلسات غرور الإنسان السطحي، فأغلب هؤلاء لم يفهموا معنى ما قال ولا علاقته بأي شيء، لكنهم اعتبروا أنه يتحدث بشيء فوق فهومهم وإدراكهم اللحظي، ولما لم يشأ أحدهم الظهور بمظهر الأحمق الذي لم يفهم عمق المعاني ، راح الجميع يصفق بحرارة.
وحدها هي من عرفت أن الكلمات تخصها، فاحمرت وجنتاها وأطرقت للأرض خجلا، ثم انسحبت من المكان بسرعة هربا من نظراته. ثم رويدا رويدا بدأت تحضر الحلقات التي يقيمها على نحو منتظم. تنظر له في إعجاب، فيزداد أداؤه حماسا، ويلقي بأول قصيدة تقفز لذهنه، فتشعر بالخجل مجددا، ويزداد تصفيق الحضور حرارة. قال لي: «كنت أعرف أنها السبب الرئيسي لاستمراري في تلك الحلقات، علني أظفر برؤياها وأسترق نظرة شاردة أو ابتسامة من ثغرها الجميل. كان حضورها يدفعني دوما لتخطى إمكانياتي، ومحاولة إثارة إعجابها في كل مرة.»
ومع نهاية العام الدراسي الأول، وبداية العام الثاني، وفي يوم صيفي حار، صارحها بحبه لها.
ولم ترد. فقط التمعت عيناها بذلك البريق الخافت، وراحت تحدق في المنديل الورقي الذي تمسكه في يدها بخجل، وإن بدت السعادة بوضوح على وجهها الطفولي التقاطيع. عرف واطمأن وقتها أنها تبادله نفس المشاعر.
أحب تلك التقطيبة التي تظهر بين حاجبيها عندما تفكر أو تتظاهر بالدلال، وتلك اللمعة الخافتة في عينيها الساحرتين عندما تنظر له وفي عينيها ألف حديث وحديث، أحب طريقة إشاحتها بوجهها عنه، وعندما تضربه في كتفه برقة عندما تشعر بالخجل. أحب الطريقة التي تغمض بها عينيها عندما تضحك في قصص «إبراهيم» المختلقة.
أحب «إبراهيم»؛ لأنه يضحكها، فتشع كل هذا السحر.
أحب الضحكة ذاتها.
عشق غيرتها، وأحلامها، وطموحها، وجنونها، ودلالها. أحب الاستماع بلا كلل لساعات عن تفاصيل يومها، ماذا قالت لصديقتها؟ وماذا قالت تلك لها؟ فيم كانت تفكر قبل النوم، وبعد النوم؟ آراؤها في الحياة، ماذا تحب وماذا تكره؟ ورغبتها الدائمة في سماعها ترديده عبارات الحب كتعهد يومي، حتى يثبت صدق مشاعره وأنه لم يتغير بعد. أحب طريقة عتابها له عندما تقطب حاجبيها كالأطفال وتلتصق به وتسند رأسها على صدره وهي تعبث في أزرار قميصه.
عشق تلك التفاصيل الصغيرة.
لكنه كان متعبا جدا بفكرة محدودية علاقتهما.
يرهقه شعوره الدائم بأنه ليس ملائما لها.
وقال له «إبراهيم» ذات يوم، وهما يرشفان الشاي عند «ميري»: «تحبها وتحبك، وتتبادلان عبارات الغزل وقصائد نزار قباني، كل هذا جميل وإنني لأحسدك عليه وعلى علاقتك بأجمل بنات الدفعة. لكن فلنكن صريحين، ما الذي تأمله من تلك العلاقة حقا؟» - «ماذا تعني؟» - «ما هي الخطوة التالية؟» - «سنتزوج.»
قال «إبراهيم» مشفقا: «هل أنت بهذه البراءة فعلا؟ وهل تظن أن والدها سيقبل بك؟!» - «ولم لا؟» - «من هن على شاكلتها يتزوجن من أبناء رجال الأعمال، أو وزراء الحكومة، أو ذلك القريب المقيم في الخارج، والذي ينتظر في شوق اليوم الذي تتخرج فيه حتى يختطفها ويطير بها إلى حيث يقيم، وليس شابا معدما حديث التخرج، يعمل باليومية في السوق الشعبي.»
قال «عمار» في ضيق: «لن أعمل باليومية للأبد، سأجد عملا بعد التخرج.» - «ليست تلك المشكلة، هب أنك وجدت عملا جيدا، وقمت بتغيير وضعك المعيشي، وهذا ما أراه مستحيلا في هذا البلد، لكن ليست تلك المشكلة الحقيقية.» - «وما هي المشكلة الحقيقية؟»
قال «إبراهيم» في بساطة: «يا صديقي الساذج، أنت من دارفور. لن يقبلوا بك زوجا لبنتهم ذات العرق العروبي الأصيل.»
نظر له «عمار» في حدة ولم يرد، من الواضح أنه فهم ما يرمي إليه على الفور. فكر للحظة أن يقوم بخنق «إبراهيم» ليصمت ويكف عن الحديث. وفي الواقع فقد لمس حديث صديقه ذات الوتر الحساس الذي ظل يؤرقه طوال شهور، فحتى هو كان يشعر في قرارة نفسه بنفس الشعور.
الشعور بحرمة تلك العلاقة اجتماعيا بحسب قاضي المجتمع الصارم. الشعور بأن العلاقة بينهما مؤقتة تنتهي بانتهاء مراسم الدراسة، ثم ينتهي كل شيء. لا يوجد أكثر من ذلك.
قالت له «هبة»، وقد جلس ثلاثتهم في مجلس «ميري»، إنها تخشى عليه من بطش الحكومة، وتخشى أن يصيبه مكروه، وطمأنها ألا تحمل هما، فلن يصيبه إلا ما كتبه الله له.
قال «إبراهيم» ممازحا: «وأنا المسكين لا أحد يخاف علي، أو يخشى علي من شيء. راعوا مشاعري.»
قالت «هبة» ضاحكة: «أنت شيطان رجيم، لن يصيبك شيء.» - «مظلوم وحياتك.»
التفتت «هبة» إلى «عمار» ونظرت له نظرة طويلة بعينيها الواسعتين حتى شعر بالاضطراب. قالت وقد تغيرت لهجة حديثها بما يشبه الهمس: «هل لا تزال تلك الحالة الغريبة تصيبك؟»
قال «عمار» وقد سره اهتمامها وطريقة حديثها: «بضع مرات فقط، اطمئني، ليس شيئا يثير القلق.»
قالت، وهي تقطب حاجبيها: «هل فكرت في الذهاب إلى المستشفى؟» - «ذهبت مرة فعلا. وقد قال الطبيب إنني بخير، لم يعرف ما أصابني، قال إنها أعراض نقص السكر في الدم، وقد نصحني بالإكثار منه وتجنب الشمس المباشرة.»
قال «إبراهيم» مقتحما النقاش: «أي سكر؟ هؤلاء الأطباء لا يفقهون شيئا. صدقني عندما أقول لك إنك ممسوس، هذا من تأثير الجن. خالتي أصيبت بذات الأعراض التي تصيبك، وقد حفيت قدماها في مراجعة الأطباء بلا فائدة، اكتشفوا في النهاية بعد وفاتها أن جارتها - تلك الحيزبون - تدفن لها عملا تحت زير الشارع.» - «يا أخي فال الله ولا فالك.»
قال «إبراهيم» بذات الحماس متجاهلا تعليق «هبة» الغاضب: «أعرف شخصا في حلة كوكو يعمل بالقرآن، ويقوم بطرد الجن المتلبس بمبلغ رمزي، يمكنني ترتيب جلسة لك لو أردت.»
قال «عمار» ضاحكا: «مثل جلسات طرد الأرواح الشريرة.» - «شيء من هذا القبيل. وسأكون موجودا لتكبيلك وربما ضربك كذلك، في حال ما إذا قررت الصراخ والانتفاض عند خروج الجن منك.»
ضحك «عمار»، وقال: «لا، شكرا. لا أومن بهذه الأشياء.»
نظرت له «هبة» في تساؤل، وقال «إبراهيم» ممتعضا: «لا تؤمن بالقرآن! أي فاسق أنت ومن أي مباءة جئت؟!» - «لا أقصد هذا. بالطبع أومن به، فقط لا أومن بتحميله أكثر مما يطيق.»
قالت «هبة»: «لن تخسر شيئا إذا قمت بجلسة في كل الأحوال، فلم لا تجرب؟»
وقال «إبراهيم»: «هناك الكثير من الأحاديث المروية عن النبي (
صلى الله عليه وسلم ) عن فضل الرقية الشرعية في فك السحر وطرد الجن من الجسم، سيقرأ عليك القرآن، وسيخرج الجن من طرف أصبع قدمك الأصغر. هذا كل شيء.»
لم يشأ «عمار» أن يخوض في نقاش خاسر كما قال لنفسه، فوعدهم بالتفكير في الأمر والمحاولة في يوم ما. وبينما انخرطت «هبة» في نقاش جانبي مع «إبراهيم» بدأ يشعر بأنه ليس على ما يرام .
حسنا. اعتقد أن التأثير كان ساحقا هذه المرة. بل كان مدمرا لو شئت الدقة.
ففي البداية كان الدوار.
والأرض تميد تحت قدميه، بينما كل شيء يتأرجح ويهتز أمام ناظريه.
ثم بدأ الضيق يجتاح صدره فجأة، يشعر بأنه لا يستطيع أن يتنفس. وقف على قدميه دفعة واحدة، ثم انحنى للأمام متكئا براحتيه على ركبتيه وكأنه يصلي، فغر فاه عن آخره وهو يعب الهواء في نهم، يتدفق شلال الأوكسجين، لكنه لا يصل إلى رئتيه فعلا. لا تزال رئتاه تنقبضان.
بدأ قلبه يخفق بجنون، وراحت دقاته تزداد بشكل كبير حتى بدأ يسمع صوت الدوي في أذنيه بوضوح. وبرودة قاسية تسري في أطرافه التي بدأت في الارتعاش فعليا. «لا بد أنها مشكلة في القلب»، قال لنفسه وهو يجاهد للتنفس. وعندما بدأ يشعر بالانفصال والاغتراب عن المكان داهمه ذلك الشعور المرعب والمسيطر بقوة بأنه سيموت هنا والآن.
يحاول أن يصرخ في هلع: لا أريد أن أموت الآن. لكن صوته الراجف يحتبس في حلقه. شفتاه ترتجفان كما أطرافه.
هذا هو الموت يا صاحبي وتلك سكراته، ولكم كانت حياتك قصيرة مختصرة!
كحشرة المايفلاي تولد وتموت قبل غروب شمس نفس اليوم. تلك هي حياتك.
لكنني لا أريد أن أموت. لم أصل منذ أيام.
وبينما يردد الشهادتين بصوت مرتجف، وهو يسقط بركبتيه على الأرض، كان يفكر أن آخر ما سيراه سيكون وجه «إبراهيم» الممتقع، ووجه «هبة» الجميل المذعور، وهي تنحني نحوه إذ سقط على الأرض وتصرخ بشيء ما، وأن آخر ما سيسمعه سيكون صوت «ميري» المبحوح المولول. «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.»
أصوات متداخلة، أياد تتلقفه بسرعة وتحشر جسده كيفما اتفق في سيارة توقفت على جانب الطريق، صوت تنفس ثقيل ولهاث. «الحقوا الولد بيموت.» «حاسب الراس، بالراحة.»
حشد غفير من المارة على جانب الطريق يراقبون الموقف في فضول واستمتاع واضح. البعض يقف على أطراف أصابع قدميه ويشرئب بعنقه فوق الجموع، حتى يحصل على زاوية أفضل لمشاهدة العرض الشائق.
شخص يموت في الشارع العام . يا للمتعة!
صوت بكاء «هبة» يسمعه كأنه قادم من واد بعيد، وصوت طالبة تصرخ في جزع من مكان ما، وقد أرعبها الموقف. «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.»
3
أذكر عندما رأيتها أول مرة.
أذكر رائحة عطرها.
أذكر رائحة الشاي والنعناع، رائحة الغبار، وأصوات أبواق السيارات في الشارع الرئيسي.
وفي اللحظة التالية لم يعد هناك سوانا.
اكتسى العالم بالسواد، ولم يبق إلا نحن.
أنا وهي فقط.
كل الأصوات والأشخاص والروائح في الخلفية مجرد ممثلين يعزفون سيمفونية لقائنا الأول.
كانت ترتدي عباءة سوداء وتمشي على وجل إذ تتقدم ناحيتنا، وعلى وجهها الدقيق الملامح شامة صغيرة تستقر على خدها الأيمن فتزيدها فتنة وكمالا، وخوف طفولي وشعور بالضياع خفق له قلبي.
هشة جدا.
خجولة جدا.
أنثى جدا.
وعندما التقت عينانا، تحرك شيء ما في داخلي في تلك اللحظة.
شيء لم أكن أدرك حتى وجوده من قبل.
عرفت أنها هي.
هي المنتظرة. من كنت أبحث عنها طوال حياتي. وكأن الله بعث لي ملاكا من الجنة؛ ليعوض روحي الجرداء المتعبة، ويجزيني خيرا بعد صبر وطول انتظار.
حمدت الله على نعمته.
وحمدت الله عليها كثيرا. «...» صمت.
سألت نفسي: هل هو الحب؟ ربما، لا أعرف؛ فأنا لم أجرب الحب من قبل.
لكن ذلك الشعور الدافئ في صدري يقول بأنني وجدت ضالتي أخيرا، وقد حان الأوان لأغرس رمحي في الشط، وأرفع علم ملكيتي وحيازتي، وأعلن وصولي وانتصاري بهذا الفتح الجديد. «...» صمت.
يقولون: إنه لم يوجد بعد ذلك الرجل الذي يتعامل مع الأنثى بطريقة عادلة. فهو إما رفعها عاليا وتعامل معها بقدسية الأم والأخت، أو حط منها واعتبرها جسدا لإشباعه، أو جارية خلقت لخدمته، أو ماكينة بيولوجية للتفريخ وتمرير الجينات.
بالنسبة لي لم يكن شعوري تجاهها أيا من هذا، وصدقني عندما أقول لك إنني لا أفهم طبيعة مشاعري تجاهها على نحو واضح بعد، ليس حبا خالصا وليس اشتهاء خالصا، وليس إعجابا محضا. هو شيء من هذا وذاك. «...» صوت سعال خفيف في الخلفية. «...» صمت.
فتنتني عيناها ، وتلك النظرات النقية التي تحمل نقاء ألف طفل، وتحتضنك بدفء حضن أنثى محبة، وتخبرك بكل أسرار عبارات الحب، وغزل شعراء الجاهلية وعذابات قيس، ورهبة الجمال. سقطت نظراتها على روح قاحلة ظامئة أنبتت فيها بعض الخضرة هنا وهناك، وبعض الأمل.
لا أريد شيئا من الدنيا سوى أن أفني سنوات عمري القادمة أمام تلك العيون، أنهل المزيد حتى أرتوي.
وفي محرابهما أخلع قناعي الاجتماعي الزائف، وأتعرى أمامهما بكل ما في من عيوب وأسرار، وأشعل بخوري وألبس صليبي، وأحمل سجادتي للصلاة.
ستكون عبادتي التي أتقرب بها لوجه الله، وأشكره على بديع صنعه.
عندما التقت عينانا أدركت أنني قد تغيرت للأبد.
كان هذا تاريخ ميلادي الجديد.
ما كان من قبلها لم يكن.
وما كان وما سيكون من حياتي، بدأ في تلك اللحظة. «شريط تسجيل رقم «04»، حالة «55148»، جلسة «06»، عيادة الطب النفسي، مستشفى الخرطوم التعليمي». ملاحظات: «تداعي حر
Free association CBT Session . تشخيص: «لا يوجد».»
4
في نهاية شهر ديسمبر 2012م، قابلت «عمار» للمرة الأولى.
كان قد تم تحويله إلى عيادتي بواسطة الدكتور أنور حسين، أحد الزملاء بقسم الباطنية بالمستشفى، بعد أن تم إسعافه للمستشفى في حالة يرثى لها إثر أعراض جسدية شديدة الوطء. فشلت كل فحوصات الدم وتخطيط كهربائية وصدى القلب، وفحوصات الأوعية في إيضاح مسبب عضوي ما، وإن لاحظوا وجود كمية زائدة من هرمون الأدرينالين في تحليل الدم. وقد اشتبه الزميل الفاضل في أن التمظهرات الجسدية ذات طبيعة نفسية ما. قال لي، وكان محقا، إنه يظن أن الأعراض الجسدية المصاحبة للحالة ربما تكون انعكاسا لاضطراب نفسي غير مفهوم، وقد أراد مشورتي الطبية بالخصوص.
كانت الأعراض واضحة: ضيق التنفس وبرودة وارتعاش الأطراف، وشعور الاغتراب والانفصال عن الواقع، إضافة إلى الشعور المسيطر بدنو الموت، والجو العام المشحون بالذعر المتطرف. من الوهلة الأولى عرفت أنه كان ضحية لإحدى نوبات الذعر، وهي نوبات مرعبة تنشأ فجأة بدون سبب حقيقي يفسر كل هذا الرعب، وكل ردود الأفعال الجسمانية الشديدة المصاحبة للنوبة من تأثير إفراز الأدرينالين في الجسم. عند بدء النوبات قد يعتقد المصاب أنه يتعرض لنوبة قلبية أو مشكلة في التنفس، لكن أكثر ما يميزها هو الشعور المؤلم بقرب الموت.
في الغالب لم أكن من نوعية الأطباء المتحمسين لاستخدام العلاج الكيميائي المباشر، ووصف مانعات استرداد السيروتونين والنورأدرينالين، أو أي من المهدئات الصغرى، فليست مضادات الاكتئاب هي العلاج الأنجع دائما. قد تعطي مفعولا وقتيا مهدئا للأعراض، لكنها لن تفيد على المدى الطويل، لم يكن أمامي سوي اتباع نمط العلاج السلوكي الإدراكي (
CBT )؛ لأستطيع الوصول بالتحليل النفسي لجذور الأفكار السلبية التي تسبب له تلك النوبات وتغذيها، لتغييرها لاحقا بأفكار أكثر صحية.
هكذا قمت بتحديد جلستين شهريا معه، مع بعض النصائح العامة إذا ما داهمته نوبة أخرى مجددا، خاصة عندما عرفت أنها النوبة الثالثة التي تداهمه خلال شهرين فقط. وأنه قد تعرض لأولى النوبات قبل شهرين في الجامعة، وقد تلاشت بسرعة قبل أن يصل للمستشفى. «حاول أن تسترخي، تنفس من أنفك، تذكر أنه لا يوجد تهديد حقيقي على حياتك الأمر لا يتعدى رد فعل خاطئ من جسدك تجاه خطر غير حقيقي. احصل على بعض الرياضة، لا تفزع قدر الإمكان.»
لم يكن «عمار» من الشخصيات السهلة السبر، كان شخصا متحفظا دفاعيا، ومنغلقا على نفسه بشدة، ولإحساسه في البداية بعدم الأمان ظل يعاملني بعداء مستمر. لكن سرعان ما تخلى عن سلوكه هذا بعد مضي عدة جلسات، وأصبحت تصرفاته أكثر انفتاحا وتقبلا.
تمدد على الأريكة وجلست خلف رأسه، وككل الجلسات يحكي لي عن أي شيء يشاء، بينما أقوم أنا بتسجيل المحادثة وتدوين الملاحظات، ومحاولة توجيه ذكرياته لمعرفة شيء ما قد يفيد في فهم جذور أزمته. - «ماذا أحكي اليوم؟» سألني وهو يحرك جسده على الأريكة لوضع أكثر راحة. - «أي شيء.» قلت له: «ما الذي تحب أن نتحدث عنه؟» - «لا أعرف.» قالها في هدوء.
قلت له: «حسنا، يمكنك أن تحكي لي عن اليوم الذي أصبت فيه بالنوبة الأولى.»
قال مغمضا عينيه، وهو يشبك كفيه فوق بطنه: «أعتقد أنه كان قبل عام تقريبا.» - «هل كان هنالك شيء مميز في ذلك اليوم؟» - «لا، كان اليوم الأول لي في الجامعة.»
قمت بكتابة بعض الملاحظات، ثم سألته: «حسنا، متى أصبت بها مجددا؟»
صمت لحظات، ثم قال: «أعتقد أنها كانت بعد شهرين أو ثلاثة من النوبة الأولى، كانت في ديسمبر نهاية العام السابق.»
مجددا سألته: «هل كان هنالك شيء مميز في ذلك اليوم؟»
قال، وهو يتململ في رقاده قليلا: «كانت هناك احتجاجات وسط الطلاب بالجامعة. بدأ الأمر عندما قامت قوات الأمن باقتحام إحدى داخليات السكن الطلابي، ثم راحت الأمور تتأزم وتخرج عن السيطرة. وانتظم الطلاب في حملة احتجاجات واسعة بالجامعة، حتى قاموا بإلقاء القنابل المسيلة للدموع علينا، ثم اقتحموا الجامعة واعتقلوا بعض الطلاب.» - «هل كنت تشارك في الاحتجاجات؟» - «لا، كنت أزور بعض الأصدقاء في الكلية.» - «وبعد؟» - «لا أتذكر كل الأحداث جيدا، قاموا بتطويق الكلية من الخارج، وكنا نختبئ نحن في إحدى القاعات عندما داهمتني النوبة. تعاون بعض الطلاب على حملي والخروج بي من الجامعة بطرق ملتوية حتى أوصلوني للمستشفى. لكن النوبة انتهت قبل وصولي للمستشفى.»
قمت بتدوين بعض الملاحظات في مفكرتي: «هل أصبت بنوبة أخرى؟» سألته. - «نعم.» رد باقتضاب. - «متى؟» سألته.
قال: «في شهر يونيو، منتصف هذا العام.»
سألته: «هل كان هنالك شيء مميز في ذلك اليوم؟» - «كانت هنالك احتجاجات في العاصمة، وقد قامت الشرطة بحصار الجامعة ورميها بقنابل الغاز، بل قاموا بإطلاق الرصاص الحي. رأيت طالبا يموت أمام ناظري، بعد أن قاموا بإصابته برصاصة في رأسه من خارج أسوار الجامعة. لم أستطع النوم يومها ولعدة أيام تالية، وظلت صورته وهو مسجى على الأرض، ورأسه ينزف بلا انقطاع، تبرز أمامي كلما أغلقت عيني. وفي ذات الليلة داهمتني ذات الأعراض.»
مرت لحظة صمت، بينما كنت أحاول أن أستوعب ما سمعته. وبسرعة طفت على سطح ذهني ذكرى انتفاضة أكتوبر، بعد أن قامت الشرطة بقتل القرشي، طالب جامعة الخرطوم في ذاك الوقت، وقبل أن يجف دمه اندلعت ثورة عارمة في البلاد أطاحت بحكومة عبود.
كنت صبيا صغيرا آنذاك، لكنني ما زلت أذكر صوت هدير الجموع ، عندما تدفقت للشوارع وهي ترفع اسم القرشي على لافتاتها، وأهازيج النصر وأغاني الحماس التي تتغنى بمجد تلك الأيام، والتي حفظناها فيما بعد عن ظهر قلب. تعلق في ذاكرتي تحديدا أغنية محمد الأمين:
يا أكتوبر نحن اللي عشنا ثواني زمان
في قيود ومظالم وويل وهوان
كان في صدورنا غضب بركان
وكنا بنحلم بالأوطان
نسطر إسمك يا سودان
لم أكن أعرف أن قتل الطلاب أضحى عملا اعتياديا الآن، لا يحرك غضب الشوارع، ولا يطير رقاب الحكومات. قلت له: «وآخر النوبات هي التي أصابتك قبل أيام، وتم فيها إسعافك للمستشفى؟» - «نعم.» - «تقول إنها كانت بدون سبب واضح؟» - «نعم.» - «هل يمكنك أن تصف شعورك في ذلك الوقت، أعني قبل أن تداهمك النوبة الأخيرة؟»
صمت لدقائق طالت، ثم قال بهدوء، وهو يشدد على الحروف: «الكراهية.»
وساد الصمت مجددا للحظات، إلا من صوت بكرة جهاز التسجيل مجددا؛ إذ يدور في هدوء، وصوت قمرية حطت على أسلاك أعمدة الكهرباء في الخارج، وهي تسجع بصوتها اللحني الجميل بما يشبه عبارة «احمدوا ربكم»، كما كانت تقص علي والدتي رحمها الله في عهد الطفولة الغابر، وتقول: إن نداء القمرية لحمد الله نداء مقدس، وهو مصداق حقيقي لقوله تعالى
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، وأنها ساعة مستحبة للدعاء يجيب الله فيها أي شخص، فكانت كلما رأت واحدة أو سمعت سجعها ترفع يديها أمام وجهها، وتتمتم بعبارات خافتة.
أضاف «عمار» بذات الهدوء: «كراهية شديدة كانت تعتمل في صدري، بدون أن أعرف لها سببا أو جهة.» «حسنا، هذا هو.» قلت لنفسي مفكرا: «أعتقد أنني قد وضعت يدي على أول الطريق.»
الفصل الثاني
هيبنوسيس
الآن انكشف السر.
كنت تعيش في كذبة يا صاحبي.
كذبة مريحة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب.
لكن روحك كانت تتقيح صديد ماض حاولت ونجحت في تناسيه ودفنه في أعمق أعماق اللاشعور لديك، آثرت أن تتحاشى الحقيقة وتعيش الكذبة.
لكنك كنت تدرك دوما أن شيئا ما ليس على ما يرام.
إنه الفضول الإنساني القاتل.
كان آدم فضوليا ؛ لهذا طرد من الجنة.
وأنت يا صاحبي فضولي كالقطط.
أنت قصدتني وطلبت الحقيقة. ولم تعلم أن الحقيقة ستسمم روحك، وتزلزل كيانك وإيمانك بالله.
أنت طلبت الحقيقة، وأردت أن يرفع الستار.
فلا تلمني. ***
1
منذ كنت طفلا صغيرا وأنا أعشق الخريف.
حتى وأنا في هذه السن يا سيدتي، ما زال الخريف يهيج في داخلي كل المشاعر المتناقضة غير المفهومة، الشعور بالشوق لتلك المحبوبة الغامضة التي لا أعرف من هي.
الشعور بالحب، الحب الغامر المتدفق لكل شيء.
ما زال وجهي يكتسي بتلك الفرحة الطفولية عندما أرى حبيبات المطر تتساقط بصوتها الرتيب المميز بعد أن قطعت كل هذه المسافة من السماء لتسقط تحت قدمي أنا بالذات، وكأنها تنزل لتغسل روحي ذاتها.
الريح الباردة التي تلامس وجهك في رفق حاملة معها رائحة الطين الطازج وروث الماشية، رائحة الأشجار الندية وقد غسلت للتو، رائحة الحقول البعيدة.
الرائحة الرطبة المنعشة التي تتغلغل في أعماقك، وتشعرك مع كل شهيق بأنك حي، وأنك موجود.
وأنك تملأ المكان.
لكن هذا الإحساس سرعان ما يتلاشى عندما تقرر أن تخرج لقضاء حوائجك، وتكتشف أن عليك أن تكون راقص باليه محترفا، وأن تتقافز كالضفادع عبر البقع الجافة في الشوارع التي تحولت لبرك سباحة، لو كنت حسن الحظ فعلا، فلن تنزلق قدمك في هذا المستنقع.
إن بلادي يا سيدتي لا تحتمل الخريف ولا تطيقه بيوتها، إنه يثقل كاهل الفقراء ويركلهم في العراء يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء. سيقول لك المسئولون إنهم تفاجئوا بالخريف هذا العام لهذا لم يستعدوا للأمر جيدا، ربما العام القادم.
هم رجال عمليون جدا، كانوا يتوقعون إشعارا خطيا ممهورا بتوقيع الخريف بأنه على وشك الوصول، وأن عليهم أن يستعدوا، لكنه - كضيف قليل الذوق - يصر أن يأتي بدون سابق إنذار كل مرة.
إن للخريف عادات سيئة حقا في آداب الزيارة!
كانت ظهيرة يوم قائظ من أيام شهر يوليو عام 2013م. يوم الثلاثاء تحديدا. أحد تلك الأيام الحارة الخانقة التي تعقب هطول المطر، والتي تضيق لها روحك وتستشعرين لزوجة الهواء على مسام جلدك. أذكر اليوم جيدا؛ فقد كانت آخر مرة أرى فيها «عمار» عندما زارني في العيادة.
كنت مشغولا مع إحدى المرضى في العيادة، امرأة مسكينة توفي زوجها وأصيبت بعدها بالعمى، وقد فشل أهلها في معرفة السبب برغم عرضها على كل مستشفيات «الخرطوم» وشيوخ «أم ضوا بان». كانت أعراض الهستيريا واضحة، لم ترغب المسكينة في رؤية الدنيا بعد زوجها، لهذا تسببت لنفسها بالعمى، لكنها كانت تتماثل للشفاء.
رافقتها للخارج حيث ينتظرها أحد أقاربها، وأدخلت «عمار». والحقيقة أنني كنت أنتظره، فقد بدأت أكون نظرية معينة تتعلق بأسباب ما يمر به، فقط احتجت لإثباتها.
قال لي في فضول، وهو يدلف للداخل ويشير بإبهامه للباب حيث خرجت المرأة: «مم تشكو؟» - «أعراض هستيرية، تسببت لنفسها بالعمى، ليس شيئا مهما.» أجبته.
سألني بنفس الفضول: «تسببت لنفسها بالعمى؟ هل هذا ممكن؟!» - «نعم. هل يمكنك أن تمنحني بضع لحظات؟ أريد أن أكتب بعض الملاحظات. تفضل بالجلوس.»
راح يتجول في العيادة وهو ينظر للصور المعلقة على الحائط في لامبالاة، وهو يهز رأسه بخفة على إيقاع أغنية تتردد في ذهنه على ما يبدو. بينما انهمكت أنا في تدوين بعض الملاحظات عن المريضة السابقة. - «من هذه؟!»
رفعت رأسي ورأيته يحدق في صورة على سطح المكتب، قلت: «هذه ابنتي.» - «إنها جميلة.» - «شكرا لك.» - «ما اسمها؟» - «منى.» - «اسم جميل. كم عمرها؟»
شعرت بتلك القبضة الغامضة الباردة تعتصر قلبي، حتى لشعرت أن دقاته قد اضطربت للحظات. أي شيخ محطم تركته خلفك عندما أغمضت عينيك الجميلتين للأبد؟!
أي حزن خلفته لوالدتك حتى أصابها الهزال، وأصبحت لا تقوى على مفارقة سرير المرض؟! فليرحمك الله.
خلعت نظارتي، وقلت وأنا أتأمل صورتها: «كان عمرها 10 سنوات عندما توفيت.»
قال بلهجة معتذرة: «آسف، ربنا يرحمها.»
هززت رأسي وعدت لأوراقي، لكنني عرفت أنني لن أستطيع التركيز مجددا، لهذا وضعتها في درج المكتب، وأشعلت سيجارة.
نظر لي باسما، وقال: «لم أكن أعرف أنك تدخن!»
قلت له وأنا أتأمل ملامحه القاسية الوسيمة، وعينيه الذكيتين: «أحيانا ما أفعل. هل يمكنك أن تجلس؟»
هكذا جلس على الكرسي أمامي وراح يهز قدميه في ملل واضح. قلت له وأنا أنفث الدخان: «هل انتهى العام الدراسي بعد؟» - «نعم. بضعة أشهر، وسأبدأ عامي الثالث في الكلية.» - «هل يمكنك أن تخبرني مجددا عن ذلك الحلم الذي تزامن مع بدء النوبات؟»
قال وهو يهز كتفيه: «كما قلت لك سابقا، دائما أكون في صحراء غريبة فيها سحب سوداء وأرى صقرا ضخما يطاردني، ثم أستيقظ قبل أن يصل إلي.»
قلت له وأنا أطفئ السيجارة: «والصوت الذي تسمعه، قلت إنك تعرف صاحبه.» - «لا أعرفه، لكنه يبدو مألوفا بالنسبة لي، وكأنني سمعته من قبل في مكان ما، ربما أتخيل أنني أعرفه. لا يوجد منطق في الأحلام كما تعلم.» - «ولم تستطع تحديد أين سمعته بعد؟»
قال بلهجة ساخرة: «كنت آمل أن تخبرني أنت.»
كنت قد كونت نظريتي الخاصة عن أسباب ما يمر به، فقط احتجت لإثبات نظريتي. لهذا سألته مجددا: «هل يمكنك إخباري متى كانت أول مرة ترى فيها هذا الحلم؟»
راح يمسح على مؤخرة عنقه، وهو يحاول التذكر، ثم قال: «قبل عامين تقريبا.» - «بعد انتقالك للخرطوم للدراسة؟» - «نعم.»
رحت أسجل بعض الملاحظات، ثم سألته: «ومتى أصابتك أولى نوبات الذعر التي وصفتها؟»
قال وهو يزم شفتيه ويضيق عينيه: «قبل عامين تقريبا. لست أذكر بالتحديد.»
قلت له وأنا أعيد ارتداء نظارتي: «حسنا. أريدك أن تخبرني إن كنت مخطئا، لقد داهمتك أول نوبة ذعر بعد بدء هذا الحلم الذي تصفه في الظهور.»
راح ينقر على سطح طاولة المكتب بأطراف أصابعه بخفة، محاولا التذكر، ثم قال: «نعم، أعتقد ذلك.» - «وكانت النوبة تصيبك بعد أن ترى الحلم دائما، أو تمر بموقف صادم.» - «لم أفهم.»
قلت، وأنا أقلب أوراق مفكرتي: «لقد أصابتك النوبة الأولى - وصححني إن كنت مخطئا - بعد أن حلمت بذلك الحلم في نفس اليوم، أول أيام الجامعة. وأصابتك النوبة الرابعة عندما حلمت بذات الحلم مجددا. بينما أصابتك النوبة الثانية والثالثة بعد حدوث الاشتباكات بين الشرطة والطلاب، في ديسمبر 2011م، ويونيو 2012م. أليس كذلك؟»
راح ينظر لي في اهتمام لأول مرة، وقد اتسعت عيناه قليلا. قال في انبهار: «نعم، هذا ما حدث بالضبط .»
قلت له: «هل تريد أن تعرف ما أعتقده؟ أعتقد أن لنوباتك علاقة بكل ما يمثل لك رمزا للسلطة العسكرية في حياتك، كأفراد الأمن والشرطة، أعتقد أن حلمك المتكرر يرمز لذات الشيء على نحو أو آخر. هناك شيء ذكرته لي من قبل بطريقة عرضية أثناء الجلسات ونسيته فيما بعد، في أول أيامك في الكلية عندما التقيت «هبة» للمرة الأولى، قلت إنك قد رأيت طائرة حربية بطريقة عرضية تحلق من بعيد، ثم أصابتك النوبة الأولى، لم يكن الحدث مهما بالنسبة لك، وعلى نحو ما تسرب للاوعيك، لكنني أعتقد أنه كان المحفز الحقيقي لنوبة الذعر التي أصابتك. رمز آخر للسلطة العسكرية، وأعتقد أن شعور الكراهية الذي وصفته يرتبط بتلك السلطة بنحو أو بآخر.»
وفتحت درج مكتبي، وأخرجت تلك الصحيفة التي أرسلها لي صديقي من دار الوثائق القومية منذ عدة أيام، رحت أبحث عن خبر معين في الصحيفة أمام عينيه المتسائلتين، أخيرا وجدت الخبر المطلوب. قمت بكتابة بعض الملاحظات على مفكرتي، ثم طويت الصحيفة مجددا، وقلت مضيفا: «بحسب بياناتك، أنت ولدت عام 1993م، في منطقة تسمى «أبو حمرة» في شمال دارفور.»
راح ينظر لي في شك، وراحت عيناه الذكيتان تنظران لي، ثم للصحيفة المطوية وكأنه يحاول أن يستنتج ما هنالك. قال في اقتضاب وكأنه أهين: «نعم، شمالي دارفور.» - «تحديدا في قرية (...) بمنطقة «أبو حمرة» غرب شنقل طوباية. أليس كذلك؟» - «نعم، ولكن كيف تعرف ذلك؟» - «قمت بعمل بعض البحوث، أعتقد أنني أعرف سبب ما تمر به، لكنني لست متأكدا بعد.» - «أي بحوث؟ ماذا يوجد في الصحيفة؟»
قلت له وأنا أعتدل في جلستي: «أعتقد أنني أعرف ما دهاك. أعتقد أن الحلم المتكرر ونوبات الذعر التي تنتابك أعراض لشيء آخر؛ شيء أعمق.» - «شيء مثل ماذا؟» - «هذا ما سأحاول اكتشافه.» قلت له، وأضفت «ماذا تعرف عن التنويم الإيحائي
HYPNOSIS ؟»
قال محاولا إعادة نطق الكلمة: «هيب هيبو.»
قلت مقاطعا: «هيبنوسيس. وسيلة لوضعك في حالة ذهنية مسترخية، إنها تساعد على التداعي الحر للأفكار، والذكريات القديمة في وعيك. يشبه الأمر حالة ما قبل النوم، عندما يسترخي جسدك، ويصفو عقلك من الأفكار.»
قال في هدوء: «تريد أن تنومني مغناطيسيا؟» - «ليس تماما، فقط أريد مساعدتك على التذكر.» - «تذكر ماذا؟» - «لدي نظرية أريد اختبارها. لا أعتقد أن للأمر علاقة بضغوط عملك أو دراستك، أعتقد أن الأمر يتعلق بذكرى أو ذكريات معينة مدفونة في عقلك، وسأحاول استرجاعها.»
أومأ برأسه موافقا، فطلبت منه أن يستلقي على الأريكة الموجودة في ركن العيادة، وجلست جواره.
قلت له، وأنا أشير إلى صورة معلقة على الجدار مرتفعة نسبيا عن مستوى بصره: «أريدك أن تثبت بصرك على تلك الصورة لبضع دقائق.»
مرت بضع دقائق، وهو يحدق في الصورة بتركيز، ثم سألني: «هل سأغيب عن الوعي؟» - «ليس تماما، فقط سأساعدك على الاسترخاء، سيكون الأمر أشبه بأحلام اليقظة بالنسبة لك، ستتداعى أفكارك، ولن تشعر بنفسك هنا. فقط عليك أن تركز على صوتي.»
أومأ برأسه موافقا، فأردفت: «أريدك أن تغمض عينيك الآن، أريدك أن تركز على تنفسك حتى تسترخي.»
أغمض عينيه، وراح يتنفس في هدوء. - «أنت مسترخ الآن، لا شيء يشغل ذهنك. هل تسمع صوتي؟»
أومأ برأسه موافقا، قلت له وأنا أخفض من نبرة صوتي: «أنت تزداد استرخاء، وعقلك يصفو أكثر فأكثر.»
مرت بضع دقائق أخرى، فقلت له بصوت هادئ: «ماذا تذكر عن يوم الخميس 17 يونيو عام 2004م؟»
قال بصوت عميق كأنه في بئر: «لا أذكر شيئا.»
عشر دقائق صمت. - «لا شيء يشغل ذهنك الآن، ارجع بذاكرتك للعام 2004م، أين كنت؟»
لم يرد، وساد الصمت لمدة طالت - حوالي ربع ساعة - إلا من صوت تنفسه المنتظم، سألته مجددا: «أين كنت في العام 2004؟» - «في القرية.» قالها بهدوء. - «أين كنت في شهر يونيو من العام نفسه؟»
ساد الصمت مجددا. مرت حوالي ربع ساعة، أعيد عليه السؤال بدون رد من جانبه. - «أين كنت في شهر يونيو عام 2004؟» - «...» - «أين كنت في شهر يونيو عام 2004؟» - «...» «أين كنت في شهر يونيو عام 2004؟»
لاحظت أن زاوية فمه ترتعش، لم تكن ارتعاشة واضحة، ولكنها تختلج باضطرابات خفيفة. بينما راح يحرك أصبعي السبابة والإبهام بحركات عشوائية قصيرة سريعة ، كأنه يقوم بالتسبيح. قال: «في القرية.» - «ماذا كنت تفعل؟»
أصبعا يده يزدادان ارتعاشا على نحو ملحوظ الآن. - «كنت في المدرسة.» - «ماذا تذكر عن المدرسة؟»
توقفت أصابعه عن الارتعاش، ولاح شبح ابتسامة باهت تلاعب على شفتيه قبل أن يختفي بسرعة، قال: «سليمان.» - «أنت تزداد استرخاء، وذهنك صاف جدا.» - «من هو سليمان؟» - «صديقي.» قالها في اقتضاب وحدة. - «أين كان سليمان يوم الخميس 17 يونيو؟» - «كان معي في المدرسة.» - «وأين ذهب؟»
لم يرد، وطال الصمت، رحت أنظر لساعتي، بعد مرور خمس دقائق، سألته: «أين كنت بعد المدرسة يوم الخميس 17 يونيو؟»
مجددا بدأت زاوية فمه تختلج، وعادت أصابعه تتحرك بذات الوتيرة الغريبة. تقلص وجهه وبدأت وتيرة تنفسه تتسارع. لم يرد.
قلت: «أنت في مكان آمن، أنت تزداد استرخاء الآن. أين كنت بعد المدرسة يوم الخميس 17 يونيو؟»
مرت دقائق، صدره يعلو ويهبط، قال بصوت أشبه بالأنين: «الصقر.» - «أي صقر؟»
مجددا راح تنفسه يتسارع، وراحت أصابع يده تتحرك في ارتعاشات لاإرادية، أعدت سؤاله: «أي صقر؟»
قال وهو يئن: «أمي.» - «ماذا حصل لأمك؟»
سأعفيك يا سيدتي من ذكر تلك الجلسة بتفاصيلها تلك، فلقد استمرت قرابة الساعة ونصف الساعة على هذا النحو، حتى استطعت أن أستخرج مكنونات ذاكرته عن ذلك اليوم.
كانت مجموعة متفرقة من المعلومات التي ذكرها لي ردا على أسئلتي، وسأحاول أن أجمعها في رباط واحد؛ حتى أحكي لك ما حدث في السابع عشر من يونيو، وكأنني كنت شاهدا عليه.
2
الخميس: 17 يونيو 2004م
قال المعلم محذرا، وهو يجمع أوراقه: «قبل أن تنطلقوا لمنازلكم، تذكروا: سيكون الاختبار يوم الأحد القادم، يجب أن تستذكروا جيدا.»
دوى جرس نهاية اليوم، فانطلق التلاميذ خارج غرفة الفصل في صخب، قال له «سليمان» في حماس: «أبويا قال حيشتري لي شنطة كابتن ماجد من الخرطوم لو نجحت.»
قال «عمار» ضاحكا، وهو يعدل حقيبته القماشية على ظهره: «إنت بليد ما حتنجح.»
قال «سليمان» وهو يبتسم ابتسامة واسعة: «إنت الخير والبركة، سأجلس بجانبك في الامتحان.»
وضحكا. إن القرية تبعد مسافة عشر دقائق مشيا، يقطعونها عبر غابة أشجار الهشاب التي تفصل بين القرية والمدرسة، «سليمان» يسكن في المنزل المجاور لهم، لهذا كانا يترافقان في الذهاب للمدرسة والعودة يوميا، هكذا راحا يسيران في صمت ما عدا صوت تهشم الأغصان وأوراق الأشجار الجافة المتساقطة تحت أقدامهما في الطريق، قال له «سليمان» وهو يسير إلى جانبه: «عندما تنتهي المدرسة سأسافر، وأعمل في الخرطوم مع عم الزاكي؛ حتى أجمع المال وأتزوج فطومة.»
قال له «عمار» باسما: «ولكن فاطمة لا تريدك، إنها تحب ود الريس.»
قال «سليمان» غاضبا: «أنت فقط تشعر بالغيرة؛ لأنك رأيتها تبتسم لي.» - «ابتسمت لود الريس أيضا.» - «من قال هذا؟» - «جبريل الذي يدرس في الصف الثامن، لقد أخبر كل المدرسة.»
قال «سليمان» في غضب، وهو يركل بعض الأغصان الجافة على الأرض: «ذلك الكاذب، إنه يقول أي شيء؛ ليثير غيظي.»
قال «عمار» بخبث: «لقد أقسم جبريل أيضا إنه رأى ود الريس يقبلها خلف مسجد حاج إسماعيل عند صلاة المغرب، عندما كانت تجلب الماء من البئر.» - «الكاذب ابن الكلب، سألقنه درسا.»
كانا قد وصلا بداية القرية، وراحا يدلفان بين بيوت القش المتناثرة بلا نظام، قال له «عمار» ضاحكا: «لا تنسى أن تستذكر للامتحان؛ حتى تستطيع أن تنجح، وتتزوج فاطمة قبل ود الريس.»
ابتعد «سليمان» وهو يلوح بقبضته، ويسب ويتوعد. بينما دخل «عمار» المنزل، وهو يخلع حقيبته القماشية صائحا: «أمي أنا جائع!»
أتاه صوت والدته من داخل مطبخ المنزل: «أنا أعد الغداء، اخفض صوتك؛ إن أختك نائمة.»
راح يغير ملابسه، ويتأمل أخته الرضيعة في غيظ، منذ وفاة والده العام الماضي في أحد مستشفيات الخرطوم، وقدومها للدنيا، وهي تنال كل الاهتمام والدلال من والدته، وتعاملها كأنها معجزة صغيرة، ولا يدري لذلك سببا، فأقصى ما رآها تقوم به أنها تبكي وتتغوط، ورائحة مخلفاتها شنيعة تزكم أنفاسه، لقد اضطروا في أحد الأيام أن يشعلوا البخور في البيت؛ حتى تختفي الرائحة، لا يرى ذلك شيئا مميزا لهذه الدرجة، فكل ماشية عمدة القرية تتغوط بكفاءة عالية، وبرغم هذا لا أحد يدللها.
أخرج جهاز الكاسيت طراز «باناسونيك» العتيق من تحت السرير. هو يحب هذا الجهاز جدا؛ لأنه يذكره بوالده الذي كان لا يراه إلا نادرا عندما يأتي إليهم كل عام أو اثنين أياما معدودات، عندما كان متغربا في الخرطوم.
أصبح الكاسيت يلازمه طوال اليوم، ويقوم بتشغيله يوميا فور عودته من المدرسة، جلبه له والده قبل سنوات في إحدى إجازاته القصيرة من الخرطوم، وقد جلب له معه بعض شرائط الكاسيت؛ حتى يسمع القرآن الكريم وبعض خطب الدعوة الدينية.
هو يحب القرآن، وكان يسمعه مع والده عندما مرض مرضه الأخير، وكان ملازما للفراش يستمع للقرآن يوميا.
لكنه لا يحب الاستماع لخطب هؤلاء الدعاة الذين يصرخون في غضب دائما، ويتوعدونك بجهنم طوال الوقت.
كما لا يحب تلك الموسيقى التصويرية التي تعمل في خلفية صوت الخطيب، موسيقى مرعبة منذرة بالويل تشعره بقرب وقوع كارثة ما.
لقد سمع أحدهم في إحدى الخطب يقول: إن من لا يصلي فإن الله سيغضب منه يوم القيامة وسيعذبه في القبر، ويرسل له الثعبان الأقرع؛ ليكسر ضلوعه. ووالده لم يكن من المصلين.
لقد بكى في ذلك اليوم عند قبر والده، وهو يتخيل أن الثعابين تعتصر جسده الواهن، لكن أمه قالت له: إن النبي قد قال «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.»
ومنذ ذلك اليوم وهو يدعو لوالده عند كل صلاة؛ حتى يوسع الله له في قبره.
رفع كفيه الصغيرتين لأعلى وقال همسا: «يا رب لا تسلط على أبي الثعابين، أعدك أنني سأدعو له كل يوم؛ حتى لا تغضب منه.»
ثم مسح على وجهه.
قام بتركيب أحجار البطارية الجافة في مؤخرة جهاز الكاسيت، ووضع شريطا داخله، وضغط على زر التشغيل، راح الصوت الشجي ينساب عبر سماعات جهاز التسجيل:
كل أجزائه لنا وطن، إذ نباهي به ونفتتن
نتغنى بحسنه أبدا، دونه لا يروقنا حسن
حيث كنا حدت بنا ذكر، ملؤها الشوق كلنا شجن
نتملى جماله لنرى، هل لترفيه عيشه ثمن
قالت له أمه إن اسمه «حسن العطبراوي »، تقول إنه مطرب مشهور يعرفونه في نواحي الخرطوم، لطالما أحب تلك الأغنية، وعشق ذلك الصوت القوي المبحوح قليلا، كان يجرفه بخياله للخرطوم.
البيوت الطينية وبيوت الطوب الأحمر المتناثرة على ضفاف النيل، السوق العربي المزدحم دائما بطلاب الجامعات والباعة وحافلات المواصلات، السيارات الفارهة في الشوارع المزدحمة التي يراها أحيانا في التلفزيون، مراكب صيد السمك في النيل، والبنايات الشاهقة في أحياء الخرطوم الراقية، الفتيات المضرجات بأطنان من مساحيق التجميل على وجوههن، جميلات لكنهن لا يشبهن فطومة.
المآذن الفخمة التي لا تشبه مساجد القرية في شيء.
قال له «سليمان» من قبل، وهو يقسم على المصحف: إنهم يضعون جهاز تكييف في المساجد؛ حتى يستطيعوا أن يصلوا في الجو الحار.
تمنى أن يصلي يوما في أحدها.
خير هذي الدماء نبذلها، كالفدائي حين يمتحن
بسخاء، بجرأة بقوى، لا يني جهدها ولا تهن
تستهين الخطوب عن جلد، تلك تنهال وهي تتزن - «يا ولد، اخفض الصوت، ستوقظ أختك.»
جاءه صوت أمه من داخل المطبخ، فقام بتقليل الصوت، وهو يدمدم معترضا.
في البداية لم يستطع تمييز الصوت جيدا.
يشبه صوت مولد الكهرباء أو طلمبات ري المزارع، بذلك الهدير العالي المنتظم، لكنه أكثر قوة وضجيجا، وسمع صوت أمه تصرخ في جنون، وهي تندفع فجأة لداخل الغرفة، كأنها رأت شيطانا: «عماار تعال.»
ورآها تجري نحو سرير أخته، وتختطفها من السرير.
لم يفهم ما يحدث. - «أمي، ما ال...؟»
هنا دوى الانفجار، وأحس بدفعة قوية من الهواء الساخن، والغبار يجتاح قطية القش ويلفح وجهه، حتى إن حائطها راح يترنح وهو يصدر صريرا مزعجا، بينما راح التراب يتساقط من السقف.
كانت أمه تحمل أخته على كتفها بيد، وباليد الأخرى راحت تدفعه أمامها، وعلى عينيها ارتسمت نظرة رعب لم يرها في حياته، حتى إنه شعر بالذعر هو نفسه. - «أمي ماذا يحصل؟»
كانت تجري في جنون، وهي تندفع نحو غرفة المطبخ، وتردد بصوت مرتجف: «استر يا رب، استر يا رب.»
صوت الهدير من الخارج يزداد قوة وصخبا، وشعر أنه يصدر من كل مكان، وفي كل مكان في نفس اللحظة. تأثير الدولبي الشهير الذي يعرفه السينمائيون، حتى إنه بدأ يشعر بالصوت يتخلله، وتهتز له عظام جسده ذاتها:
أصوات الصراخ في الخارج تلك:
أيها الناس نحن من نفر، عمروا الأرض حيث ما قطنوا
يذكر المجد كلما ذكروا، وهو يعتز حين يقترن
في المطبخ وفي الركن الملاصق للحائط كانت هنالك طاولة طينية تستعملها والدته؛ لوضع أدوات المطبخ عليها، كان قد ساعد والده في بنائها قديما، لقد بنوها بالطين المحروق، حتى إنها أصبحت صلبة كالإسمنت، دفعته أمه تحت الطاولة، وحشرت نفسها بجواره، وهي تحتضن أخته في قوة، كانت تضمها لصدرها بيدها، بينما تطوقه إليها بيدها الأخرى.
وأحس بجسدها يرتجف بقوة إذ تضمه اليها. - «لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، يا رب سترك!»
لم يكن يفهم ما يحدث، لكن رعب والدته جعل عدوى الرعب تنتقل إليه تلقائيا، وأحس بدقات قلبه تتسارع، حتى إنه كان يسمعه بوضوح.
أصوات الصراخ في الخارج تتعالى. لماذا يصرخون؟!
دوى انفجار آخر.
كان قريبا هذه المرة؛ فقد كان الصوت صاخبا ومرعبا، حتى إن بعض أواني المطبخ الموضوعة أعلى الطاولة، راحت تتساقط على الأرض الرملية، واهتزت القطية في قوة وأصدرت صريرا أكثر إزعاجا، معلنة أنها لن تتحمل أكثر.
وانفجرت أخته في البكاء.
المزيد من التراب الناعم يتساقط من السقف.
وكثيرون في صدورهم، تتنزى الأحقاد والإحن
دوحة العرب أصلها كرم، وإلى العرب تنسب الفطن
أيقظ الدهر بينهم فتنا
ولكم أفنت الورى الفتن - «لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.»
كانت بجواره فجوة بين القش في الحائط الخارجي، قرب رأسه من الفجوة لينظر إلى الخارج.
كانت طائرة الأباتشي تحلق على علو منخفض، وقد أثارت عاصفة من الغبار تحتها غطت على الموجودات تقريبا.
على جانبها كانت صورة جميلة لصقر يفرد جناحيه، وأسفله كتابة بخط منمق لم يستطع قراءتها.
كانت مصدر صوت الهدير العالي.
النيران تتصاعد من بعض بيوت القش المجاورة لهم، وقد وارتفعت سحابة ضخمة من الدخان الأسود القاتم من البيوت المحترقة. استطاع تمييز أحد البيوت المحترقة.
منزل «سليمان».
وبرغم تعذر الرؤية بسبب الدخان، استطاع رؤية أشباح رجال ونساء القرية وهم يتراكضون هربا، صوت طفل يصرخ باكيا في مكان ما، ورأى رتلا من سيارات الدفع الرباعي تدخل القرية، وفي مؤخرتها رجال ملثمون يحملون المدافع الرشاشة، ويطلقون النار في الهواء، وهم يتصايحون في حماس.
صراخ، صراخ.
صوت بكاء أخته يمزق أعصابه.
صوت الرصاص ينطلق بغزارة في الخارج.
هذا غير حقيقي، لا يمكن أن يكون حقيقيا.
بدأ يشعر بالغثيان، وبدت الأصوات تخفت تدريجيا من حوله، ولدهشته بدأ يشعر بالانفصال عن المكان، يشعر أنه ليس هنا فعلا، ما يحدث مجرد سراب بعيد، هو ليس هو.
يا بلادي، يا بلادي
يا بلادي، يا بلادي
يا بلادا حوت مآثرنا، كالفراديس فيضها منن
فجر النيل في أباطحها، يكفل العيش وهي تحتضن
تعلمين يا سيدتي أن «عمار» لم يكن يعرف شيئا عن «اضطراب الآنية»، وبالتأكيد لا يهمه أن يعرف مصطلحا متحذلقا يصف شعوره بكلمات مركبة حينها، لكن تلك اللحظات الكابوسية كانت أكبر من قدرته على الاستيعاب، أستطيع تخيل النظرة الذاهلة الخالية من أي تعبير التي راح يرمق بها أمه تصرخ فيه بشيء ما، وهي تهزه من كتفه هزا، وهي تضع أخته في حجره.
كان يحدق مشدوها في ذرات التراب الدقيقة التي تتراقص بلا هدى، في قلب حزمة من ضوء الشمس الداخل عبر ثقب بسقف القطية.
وعلى نحو ما، بدا له المنظر ساحرا.
فجأة، وبدون سابق إنذار عادت كل الأصوات حوله دفعة واحدة، عاد إحساسه بالواقع، وعاد شعوره بالرعب. وسمع أمه تصرخ فيه: «دافع عنها بحياتك يا عمار.»
ونظرت له نظره طويلة لن ينساها، ثم قبلت أخته، واندفعت للخارج.
كانت أخته تبكي فوضع يده على فمها، واحتضنها عليه بقوة، هناك أصوات أشخاص يتجولون في البهو الخارجي للمنزل. «إنهم الرجال الملثمون» قال في نفسه، وهو يزداد تشبثا بأخته، لا بد أن أمه أحست بدخولهم للمنزل، فخرجت لهم حتى لا يدخلوا للمطبخ ويروهم.
سمع أحدهم يصرخ في وحشية: «تعالي يا عاهرة.»
صوت ضربة مكتومة، وأحدهم يعالج مزلاج البندقية ، وبضع ضحكات ساخرة، قدر أنهم حوالي ثلاثة أو أربعة رجال، من أصوات أقدامهم، وهي تتجول في المكان. كان أحدهم قد دخل إلى المطبخ بالفعل، وسمع صوت الخطوات الثقيلة تتحرك هنا وهناك.
رائحة خانقة فاحت في المكان مع دخول الرجل، مزيج من رائحة صوف الماشية والعرق والبول.
سمع صوت أمه تهتف في الخارج: «أنا لوحدي هنا ليس معي شخص بالمنزل، زوجي في الحقل.»
رد أحدهم ساخرا: «جميعنا سنتزوجك اليوم، يا زغاوية يا غلفاء.»
وأطلق أحدهم سبة بذيئة، ثم راحوا يضحكون في مرح، في الوقت الذي كانت فيه خطوات الرجل في المطبخ تقترب منه، ومعها تزداد رائحة الرجل الكريهة، انكمش على نفسه أكثر، وازداد ضغطه على فم أخته؛ حتى لا تصدر صوتا، حتى خشي أنه سيؤذيها.
أسوأ كوابيسه أن تبكي الآن.
كان يتنفس بصوت عال فكتم أنفاسه.
يبدو أن دهرا قد مر قبل أن يسمع صوت خطوات الرجل تبتعد وتخرج من المطبخ، وكذا اختفت أصواتهم؛ إذ خرجوا جميعهم من القطية.
كان الدخان الأسود يتسلل للمنزل عبر فتحات الجدران، وراح يسعل، سيصاب بالاختناق هو وأخته إن بقوا فترة أطول في المنزل، خرج من مكانه وراح يتسلل، المطبخ، فالبهو الخارجي، فالشارع.
كان الدخان يغطي على كل شيء تقريبا، وقد ألهب عينيه وأحرق صدره.
كان المنظر في الخارج قطعة من الجحيم.
رائحة البارود وبيوت القش المحترقة، رائحة الشياط المميزة لبشر احترقوا أحياء.
رأى من بين الدخان ذلك الرجل يجرى وهو يتلوى بينما اشتعلت فيه النيران. رأى أحدهم يزحف على الأرض غير مصدق، وقد اصطبغ جلبابه الأبيض باللون الأحمر. يزحف للحظات ثم يسقط بلا حراك.
هنالك شخصان يحملان جسد شخص مصاب كيفما اتفق، وهما يركضان محاولين الاختباء خلف بعض البيوت المتهدمة.
امرأة تبكي في هيستيريا منحنية على جسد رجل مغطى بالدماء.
طفل صغير منتفخ البطن يقف أمام أحد المنازل المتهدمة يحتضن دمية قطنية ملوثة بالطين وهو يبكي، بينما راح الجميع يتراكضون حوله ، بدا أن لا أحد يراه أو يسمعه.
هنالك جثث متفحمة مكومة جوار مدخل مسجد القرية، يبدو أنهم كانوا يحاولون الهرب من المسجد عندما سقط عليهم الصاروخ الأول - أم هو الثاني؟ - حاولوا الفرار، لكن النيران لم تمهلهم.
جثث أخرى متناثرة بعضها متفحم وبعضها ممزق.
صراخ، صراخ.
المزيد من الرصاص يطلق.
قرر أنه قد رأى ما فيه الكفاية؛ لذا راح يجري.
يجري ويبكي.
يجري ويتمخط.
يجري ويتعثر.
يجري ويحاول أن يحافظ على أخته في كتفه حتى لا يسقطها.
صوت الرصاص يتوالى خلفه.
أيها الناس نحن من نفر، عمروا الأرض حيث ما قطنوا
يذكر المجد كلما ذكروا، وهو يعتز حين يقترن
حكموا العدل في الورى زمنا
أترى هل يعود ذا الزمن؟!
لماذا لا تزال تلك الأغنية تتردد في ذهنه؟!
صوت بكاء أخته يمزق أذنيه. ألن تخرس تلك اللعينة؟
شعر بوخز خفيف في أعلى كتفه من الخلف، وسائل دافئ يتدفق على ظهره. لا يعرف معنى هذا لكن لا وقت يضيعه، عليه أن يبلغ الجبل بسرعة.
ومن خلف الأشجار المحترقة التي راح الدخان يتصاعد منها، لاح له جبل القرية رابضا يراقب ما يحدث في لامبالاة.
لقد كان هنا لعشرات السنين، وسيظل هنا للمزيد منها.
لقد عاصر كل الأجيال التي مرت بالقرية، شهد كل أفراحهم وأتراحهم.
شهد مواسم الحصاد الوفير ومواسم البوار.
كان هنا في احتفالات الزواج والطهور التي يقيمونها ليلا على أضواء النيران، يضحكون ويغنون ويذبحون الماشية، ويولمون الولائم فرحا.
وكان هنا عندما يرتفع صوت عويلهم في مآتم البكاء والحزن، عند فقد الأحباب.
شهد مولد أجداده ووفاتهم، وسيشهد مولد ووفاة الأحفاد.
كلهم كانوا يأتون ويذهبون. لكنه ظل دائما هناك، يقف ويراقب في صمت.
وفي ذاكرته العتيقة مئات الحيوات التي عاصرت القرية.
كانت على سفح الجبل صخرة بارزة، رفع جسد أخته أعلى الصخرة، ثم راح يلفها. وجد تجويفا خلفها فأراح جسد أخته داخله، ثم رمي بنفسه بجانبها وهو يلهث، صدره يعلو ويهبط بسرعة وأنفاسه تتلاحق. والتفت خلفه ليرى القرية.
ما تبقى منها إن صح التعبير.
لم تعد هناك قرية.
كانت أعمدة الدخان السوداء تتصاعد من بيوت القش المحترقة، وأشجار الهشاب . وأطفال ونساء يتراكضون هنا وهناك، ومن مكانه استطاع أن يرى المدرسة، كانت ألسنة اللهب تتصاعد من السور الخارجي.
كان ذلك الرجل الذي يرتدي النظارات السوداء يقف في مقدمة سيارات «التاتشر» الرابضة في منتصف القرية عاقدا كفيه خلف ظهره، كان يرتدي زيا نظيفا مختلفا عن باقي الرجال، بينما يصيح ببعض العبارات في مجموعة من الرجال الملثمين الذين يتقدمون ببطء، وهم يشهرون فوهات البنادق الآلية ويبحثون بين الركام.
رأى بعض الرجال الملثمين يكومون جثث الموتى في مكان واحد. وفي الطرف الآخر من القرية، كان بعض رجال القرية يفترشون الأرض على بطونهم وأياديهم خلف رءوسهم، بينما يحوم حولهم بعض الملثمين، وهم يشهرون فوهات مدافعهم الآلية في تحفز.
رأى ثلاثة رجال ملثمين يحملون فروع الأشجار كسياط، ويضربون ظهور النساء بينما يقومون بوضعهن في مؤخرة إحدى السيارات. استطاع أن يميز أمه بثوبها الأخضر الذي اشتهرت به، كانت في مؤخرة سيارة الدفع الرباعي المكشوفة، وهي تضع رأسها بين كفيها، وبجوارها تكومت مجموعة من النساء.
هل تبكي؟!
بدأ يشعر بنبض في أعلى كتفه، تحسسه بأصابعه، فإذا هي مليئة بالدماء.
لماذا يشعر بذلك الثقل في جفنيه؟
وأمام عينيه الضبابيتين ظهرت بقعة سوداء راحت تتوسع بسرعة، بينما أحس برأسه يزداد ثقلا.
صاح بصوت مبحوح أشبه بالأنين: «أمي.»
ثم غاب عن الوعي.
يبدو أن جهازه العصبي قد قرر أخيرا أنه قد احتمل بما فيه الكفاية. •••
نحن بالروح للسودان فداء
فلتدم أنت أيها الوطن
3
كان الثلث الأخير من شهر سبتمبر عام 2013م.
أذكر تلك الأيام، عندما أعلنت الحكومة قرارها برفع الدعم عن الدقيق والمحروقات في البلاد، ارتفعت الأسعار في سرعة جنونية، وأصبح الجنيه لا يساوي الورق الذي يطبع عليه، كنت أرى نظرات الوجوم على الوجوه النحيلة في الشوارع، لم يكن هذا قرارا اقتصاديا البتة، كان قرارا بالإعدام للسواد الأعظم من الشعب الذي يعيش تحت خط الفقر.
نظرات ذاهلة ووجوه كالحة تراها تحكي عن البؤس في أعمق أشكاله .
كان الجو العام مشحونا بالتوتر، وهناك نذر انتفاضة شعبية في الخرطوم، بعد أن تناهى إلى مسامعنا حدوث بعض التظاهرات في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، وبورتسودان، وبعض الولايات الأخرى، واعتدت أن أرى سيارات الشرطة تجوب الحواري، ومدرعات مكافحة الشغب متوقفة في بعض الشوارع الرئيسية، وأنا في طريقي للعمل صباحا أو المنزل ليلا.
كان التوتر والترقب هما سيدي الموقف.
لقد مرت قرابة الشهرين منذ رأيت «عمار» آخر مرة، لم يعد لزيارتي مرة أخرى بعد الجلسة الأخيرة، وقد شغلتني دوامة العمل حتى نسيت أمره.
كنت عائدا في وقت متأخر للمنزل، دخلت المنزل، ودخلت المطبخ أعد العشاء، وهو ما كان روتينا يوميا لي، فبعد وفاة «منى» ابنتي منذ عامين، أصيبت زوجتي بحالة اكتئاب حادة، كانت تجلس طوال اليوم ساهمة ترمق المكان بعينين ذاهلتين صامتتين، أحيانا كنت أصحو على صوت بكائها في منتصف الليل، أقوم بتهدئتها وتذكيرها بأنها بين يدي ربها، وعليها الصبر ولا شيء سواه، فتعود للنوم، أو تبتلع أحد أقراص السيبرالكس المضادة للاكتئاب، والتي أصبحت تقتات عليها بشكل يومي في السنتين الأخيرتين.
حملت صينية العشاء ودخلت غرفة النوم، كانت جالسة في طرف السرير تحدق في الظلام عبر النافذة، وضعت الطعام أمامها، وقلت: «لم تأكلي شيئا منذ الصباح.»
نظرت لي بعينيها الذابلتين، ووجهها الشاحب لفترة، وكأنها لا تراني، ولم ترد، فقط راحت تأكل ببطء، وهي ترمق النافذة بنفس الوجوم، قلت لها مجددا، وأنا أضع لقمة في فمها: «هل جاءت أختك اليوم؟» - «نعم، لقد أعدت الإفطار، ونظفت المنزل وأعدت لي الحمام. المسكينة تتعب نفسها معي كل يوم برغم مشاغلها في منزلها.»
قلت لها باسما: «عندما تتعافين ستردين لها الجميل.»
صمتت وراحت تمضغ الطعام في بطء، سألتها مجددا: «هل قرأت شيئا من القرآن؟»
طوقت جسدها الذابل بذراعيها النحيلتين، وقالت في هدوء: «نعم.»
سألتها، وأنا أزيح خصلات شعرها من أمام وجهها: «ماذا قرأت؟»
راحت تتلو بصوت متهدج: .
قلت معقبا: «إنا لله وإنا إليه راجعون.»
راحت شفتاها ترتجفان حتى إن بقايا الطعام راحت تتساقط من فمها، وقالت بصوت كالبكاء: «أنا راضية بقضاء الله، ولكنني لا أفهم، لماذا؟ لماذا أخذها مني؟ لماذا يبتليني فيها؟ ما ذنب فلذة كبدي حتى ينهشها السرطان وتموت؟ إنها مجرد طفلة؟ قل لي لماذا؟ أرجوك!»
وقبل أن أرد، تكومت على نفسها في طرف السرير، وانخرطت في نوبة بكاء حادة، قالت لي بصوت متهدج، وهي تنظر لي من بين دموعها في توسل: «أرجوك قل لي إنها لم تعان.»
جلست جوارها صامتا، ووضعت رأسها على ركبتي، أغمضت عينيها، وراحت تردد بصوت مبحوح: «إنا لله وإنا إليه راجعون، أستغفر الله العظيم، يا رب اغفر لي، يا رب اغفر لي!»
رحت أمسح على شعرها، وأنا أتأمل ملامحها الشاحبة في صمت، كان حزنها عميقا، لم تفلح معه كل محاولاتي في إعادتها لسابق عهدها.
لم تجد كل مضادات الاكتئاب، لم تجد كل نظريات علم النفس، لم يجد الزمن ولا النسيان، كانت تزداد حزنا يوما بعد يوم.
تمكن منها الاكتئاب، حتى بت أخشى أن أتركها لوحدها، تلاشت منها الحياة منذ وفاة «منى»، أصبحت جسدا بلا روح.
فقدت كل شيء حقا.
وتذكرت «عمار».
كان يبكي في حرقة بعد أن انتهت الجلسة الأخيرة، وأنا أرمقه في صمت، لم أشأ أن أقاطعه، كانت المرة الأولى التي أراه فيها بهذا الضعف، منكمشا على نفسه في الأريكة، يبكي بطريقة تقطع نياط القلوب.
تحطم غلاف البرود والتعالي الذي كان يلف به نفسه، عاد طفلا صغيرا يبكي فقدان أهله.
مرت ربع ساعة كاملة قبل أن يخفت صوت نشيجه، جلس على الأريكة وراح يرمق الأرض في شرود بعينين حمراوين كالدم، وإن عاد وجهه يكتسي غلاف البرود السابق، قال دون أن ينظر لي، كأنه يتحاشى نظراتي: «كيف نسيت شيئا كهذا؟»
قلت له: «لم تنس.» - «إذن، لماذا لم أتذكره إلا الآن؟» - «أنت لم تنس، لقد كانت صدمة قوية جدا، أقوى من أن تتحملها نفسك، لذلك قمت لاشعوريا بكبتها ودفنها في عقلك الباطن. إن فقدان الذاكرة
Amnesia
من أهم حيل الدماغ الدفاعية؛ لتجاوز الصدمات العاطفية القوية، أسلوب عقلك الخاص؛ ليحفظ لك اتزانك النفسي حتى لا ينهار جهازك العصبي كله، وتهيم على وجهك في الطرقات ذاهلا يقذفك الأطفال بالطوب . أنت رأيت أشياء أقوى من أن يتحملها طفل بعمرك، أقوى من أن يتحملها أي شخص إن أردت رأيي، أعتقد أنه كان تصرفا حكيما بعد كل شيء.»
سألني مجددا بنفس الشرود، دون أن ينظر لي: «لهذا كنت أرى ذلك الحلم، وأصاب بتلك النوبات؟» - «نعم، إن نوبات الذعر من الأعراض الشائعة لاضطرابات ما بعد الصدمة.
لقد أخطأت في تفسير مسببات حلمك في المرة الأولى، عندما تنام تتراخى قبضة عقلك الواعي عليك، وتعود السيطرة للعقل اللاواعي، كان الحلم لغة العقل الباطن لإخبارك بهذا الحمل الثقيل المدفون فيه. يمكنك أن ترى الأمر كصراع داخلي يخوضه عقلك الباطن، فهو صاحب قرار تجاهل هذه الذكرى واعتبار أن شيئا لم يكن حفاظا على اتزانك النفسي، وفي نفس الوقت كان هذا الكبت يسبب لك اضطرابا مكتوما متراكما، لهذا كان يبحث عن التوازن، ويحاول بلغته الخاصة أن يخرج لك رمزيات هذه الذكرى في شكل حلم.
كانت نوبات الذعر التي تصيبك نتيجة هذا الصراع، نتيجة التضارب بين عقلك ومشاعرك؛ لهذا كنت تصاب بتلك النوبة دائما عقب رؤيتك للحلم.»
ثم نهضت من جواره وجلست خلف المكتب، وقلت وأنا أشبك أصابع يدي أمام وجهي: «الصقر الذي يطاردك في الحلم هو الصقر الذي رأيته في الطائرة، لكنه في حلمك يرمز للطائرة نفسها. السحب السوداء هي الدخان الذي رأيته يعم المكان. أصوات الرعد هي صوت الطائرة العالي. وهروبك في الحلم هو هروبك من تلك الذكرى. لكنها - برغم هروبك منها - كانت تطاردك وتكبلك بأن ترشح في اللاوعي لديك باستمرار، لهذا كانت قدماك تتباطآن في الجري.
هل ترى النمط المتكرر؟ إن الرمزية في كل مكان.»
ونظرت له متسائلا، وأردفت: «لكنني لم أعرف الصوت الذي يخاطبك بجملة والدتك، قلت إنه يبدو مألوفا؟ أعتقد أن له علاقة بنحو أو بآخر بصوت سمعته ذلك اليوم.»
نظر لي في برود، كان قد استعاد شخصيته الأولى، قال وهو يمسح الأثر الملحي لدموعه على خديه: «لقد كان صوت ذلك المطرب في جهاز التسجيل، العطبراوي.»
هززت رأسي في تفهم ولذت بالصمت، كنت أعرف أنه لن يعود كما كان بعد هذه الجلسة، إن أوقاتا عصيبة تنتظر هذا التعس، لكنه ذكي جدا، وبقليل من المساعدة سيستطيع أن يتخطى هذه المحنة.
كان يفكر في عمق وهو يرمق الأرض، رفع رأسه وسألني: «ماذا يوجد في الصحيفة؟»
فتحت الصحيفة، كان هناك خبر أسفل الصفحة الثانية يقول باقتضاب: «سلاح الجو يقصف المتمردين بمنطقة أبو حمرة، غربي شنقل طوباية.»
كان تاريخ الصحيفة: الجمعة 18 يونيو 2004م.
كنت قد وصلت لاستنتاج أن سببا ما يمر به «عمار» يتعلق بذكرى مكبوتة ما، موقف صادم معين من طفولته نسيه أو حاول تناسيه يسبب له تلك الأعراض التي بدت لي أقرب لاضطرابات ما بعد الصدمة في مناطق الحروب والكوارث؛ لذا طلبت من أحد أصدقائي القدامى في دار الوثائق القومية أن يبحث لي عن أي خبر يخص المنطقة التي نشأ فيها «عمار»، كانت محاولة بعيدة المدى على كل حال، لكنني فوجئت به بعد أيام يبعث لي بنسخة من إحدى الصحف اليومية تذكر المنطقة، وبرغم أنها لا تذكر القرية تحديدا، لكنني قدرت أنه كان شاهدا على الأمر، أو فقد شخصا ما.
لم أتوقع أن يكون استنتاجي دقيقا إلى هذه الدرجة.
ناولته الصحيفة، ورحت أتأمله في صمت، وجهه يخونه مجددا، وراح صدره يعلو ويهبط، قال بصوت باك: «أمي لم تكن من المتمردين عندما اغتصبها «الجنجويد» وقتلوها كالكلب الأجرب، أختي لم تكن متمردة، أصدقائي وكل من أعرفهم لم يكونوا متمردين، كانوا أشخاصا بسطاء مسالمين، لم يريدوا شيئا سوى أن يتركوا وشأنهم، لكنهم أصروا على إزالتهم من الوجود.» - «كيف تعرف هذا؟»
كور الصحيفة بقبضتيه بغضب، ونظر لي في حدة وهو يقول: «لقد فقدت الوعي واستيقظت بعد ذلك في مستشفى بالمدينة، قالوا لي إنني أصبت برصاصة في ظهري، وقاموا بعمل عملية جراحية؛ لاستخراجها وإنقاذي. قالوا لي إن أختي كانت مصابة بحروق خطيرة عندما نقلوها للمستشفى وحاولوا جهدهم لإنقاذها، لكنها لم تنج.»
وارتجفت شفتاه وهو يضيف: «كانت تبكي لساعات بجواري وهي تنزف تحت شمس الصحراء الحارقة وأنا فاقد للوعي، حتى جاء الرعاة من القرية المجاورة بعد ساعات من رحيل الملثمين، وراحوا يبحثون عن ناجين، لقد استدلوا على مكاننا من صوت بكائها الواهن، لقد أنقذت حياتي، كنا سنموت هناك معا لو لم يجدونا.»
دموعه تبلل خديه، ويده ترتجف إذ تكور الصحيفة في قوة: «سمعت الأطباء يتهامسون أن الجنجويد قاموا باغتصاب النساء، بعد أن قاموا بأسرهن، اغتصبوا حتى القاصرات منهن، واعتدوا عليهن بالضرب وقتلوهن. قالوا لم ينج من القرية سوى بعض المزارعين الذين كانوا في الحقول وفروا للقرى المجاورة مع بداية الاعتداء، وأنا، وطفلة من الأسيرات، وجدوها هائمة على وجهها في الصحراء.»
كانت زوجتي قد نامت، وهي مستلقية على ركبتي، وضعتها في الفراش بحذر وقمت بتغطيتها، ثم قبلتها على جبينها، وانسللت خارج الغرفة في هدوء.
دخلت المطبخ ورحت أعد كوبا من الشاي، صببت الشاي، ورحت أقلب القدح بالملعقة، وأنا أرمق الظلام عبر النافذة في شرود.
صوت كلب يعوي في الخارج، فيرد عليه آخر بنفس العواء الطويل. ثم الصوت المزعج المميز لمحرك «الركشة»، يتردد من مكان لشخص لا زال يبحث عن رزقه في هذا الوقت من الليل.
قال لي «عمار» بسخرية من وسط دموعه التي غطت وجهه فعليا: «قالوا إنهم كانوا يكبرون ويهللون، وهم يتناوبون على اغتصاب النساء، هل تعلم هذا؟ قالوا إننا كفار وأنجاس؛ لأننا نثور على حكومة التوحيد في الخرطوم، قالوا إننا لا نصلح سوى لتربية الماشية، وتقديم النساء لمجاهديهم حتى يعلوا راية الله.»
قلت له في هدوء: «هم لا يمثلون الله أو الدين، لقد استخدموا الدين كمطية لتحقيق أهدافهم في الحكم وتمكين أنفسهم، نطقوا باسم الله لخداع البسطاء، حتى في مجالنا ستجد بعض الانتهازيين الذين يستغلون الطب النفسي؛ ليتلاعبوا بالناس خدمة لمصالحهم الشخصية، لكنك لن تلوم علم النفس، ستلومهم هم.»
قال في مرارة: «ولماذا لا يتدخل الله؟ لماذا يسمح لهم بالتلاعب بدينه؟ لماذا لم يتدخل لإنقاذ أمي، وهم يغتصبونها ثم يرمونها بالرصاص في قلب الصحراء كالكلب الأجرب ؟ لماذا لم يمنعهم من ذبحنا؟»
ومن بين عينيه الدامعتين تبدت نظرة احتقار لم أدر سببها، وقال وكأنه يبصق: «بعضهم احتمى بالمسجد عند القصف. ظنوا أن قدسية بيت الله ستحميهم منهم، لكنهم قصفوهم في مسجدهم. إنه لم يستطع حتى حماية من كانوا في بيته يبتهلون له لينجيهم.»
ثم انفجر في البكاء، وهو يغطي وجهه بكفيه، وقال وهو ينشج: «سأفعل أي شيء؛ حتى أراهم مرة أخرى.»
كنت أنظر له في صمت.
كل هذا التجاذب بين مشاعر الغضب والحزن!
لكنني كنت أتفهم موقفه على أية حال. لقد ظل يكبت كل هذه المشاعر في داخله طوال سنوات. إن غضبه ما هو إلا انعكاس لحزنه العميق تجاه ما حدث وعجزه عن فعل شيء في وقتها لمساعدة أحبائه، كلاهما وجهان لنفس العملة، حزن تراكم داخله على مدى سنين الكبت، حتى تحول لغضب عارم تنامى في لاوعيه كجني ثائر ظل محبوسا لسنوات ينتظر أن يخرج من قمقمه، وعندما يخرج سيحطم كل شيء في طريقه، إن الشيء الصحيح الآن أن يقوم بتصريف كل مشاعر الحزن المكبوتة في داخله، لا بد من تطهير دواخله؛ حتى يصل إلى مرحلة القبول والتصالح مع ما حدث.
إن نموذج «كيبلر روث» يصف خمس مراحل يمر بها كل من ابتلي بمحنة في حياته، تبدأ من الرفض القاطع وعدم التصديق، ثم الغضب والثورة على من كان متسببا له في محنته، ثم المساومة والمفاوضة مع القوى العليا - الله - التي يراها سببا رئيسيا فيما يمر به، حتى الاكتئاب والتقبل كآخر مرحلة.
إنه يتنازع بين ثلاثة المراحل الآن في نفس الوقت، يرفض ويغضب ويساوم، ويتقلب بينهم في سرعة شديدة مع هيجان واضطراب مشاعره.
لكنني كنت أعرف أنه شخص ذكي، وسيستطيع أن يصل إلى مرحلة التصالح النفسي مع ماضيه بسرعة.
انتهى قدح الشاي، قمت بإطفاء نور المطبخ وذهبت لأستلقي، كانت زوجتي تغط في النوم، فانسللت إلى جوارها في هدوء.
تلك العزيزة المسكينة، لقد كنت في قمة الأنانية معها.
تركتها تواجه فقد «منى» لوحدها، بينما قمت بالهروب ودفن مشاعري في العمل، كنت أعمل حتى أوقات متأخرة من الليل حتى أتجنب المنزل وأتجنبها أطول فترة ممكنة، كنت أتجنب كل شيء يذكرني ب «منى».
وتركتها لوحدها تواجه أحزانها بنفسها.
لا بد من إجازة طويلة من العمل حتى أكون بجانبها، ربما نسافر في رحلة طويلة خارج البلاد. إنني إذ أتوقع من «عمار» مواجهة حزنه بشجاعة بينما أتهرب أنا من مواجهة حزني، فهذا النفاق بعينه ولا شيء سواه.
لقد علمني يا سيدتي - دون أن يدري - درسا مهما في حياتي.
لا تهرب من أحزانك، تحد قدرك.
قف في وجه الإعصار، وستخرج قويا منتصرا.
وأنا الذي ظننت أنني كففت عن التعلم منذ عقود!
ما زلت أذكره يشد قامته أمامي، ينظر لي بهدوء بوجهه الصلب البارد الخالي من التعابير، ويقول لي، وهو يصافحني ويشد على يدي: «برغم كل شيء فقد ساعدتني كثيرا يا دكتور، وإني لك من الشاكرين.»
هذا شخص كان يبكي أسرته وكامل عشيرته منذ لحظات. شخص خسر كل شيء في حياته، وما زال يقف في هدوء، وينظر لي بعينيه الذكيتين في لطف وكأنه يواسيني.
قلت له وأنا أرافقه للباب: «إن الأهم من معرفة المشكلة هو كيفية التعامل معها، فالأصعب هو القادم، ستمر بالكثير من التقلبات ولا بد من إشراف مختص، لن تتوقف نوبات الذعر التي تصيبك لمجرد أنك عرفت مسبباتها، أنصحك بأن تواظب على الجلسات.»
نظر لي باسما، صمت للحظات إذ وقف على الباب، مطرقا للأرض، ثم قال بصوت هادئ:
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما،
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى.
إنها الحرب!
قد تثقل القلب،
لكن خلفك عار العرب.
لا تصالح.
ولا تتوخ الهرب!
لم أفهم ما قال، ليتني فعلت.
أعتقد أنني لو كنت أكثر فطنة وقتها يا سيدتي لفهمت ما ترمي له كلماته، ولما حدثت المأساة التي حدثت له لاحقا.
لكنني كنت غبيا، غبيا لدرجة لا تصدق.
وقفت على الباب أرمقه إذ يبتعد، وهو يجرجر قدميه متثاقلا، مطرقا للأرض قليلا.
احتضنت زوجتي من الخلف، وأغمضت عيني.
لقد انكشف السر أخيرا .
كنت تعيش في كذبة، يا صاحبي.
كذبة مريحة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
لكن روحك كانت تتقيح صديد ماض، حاولت ونجحت في تناسيه ودفنه في أعمق أعماق اللاشعور لديك.
آثرت أن تتحاشى الحقيقة، وتعيش الكذبة.
لكنك كنت تدرك دوما أن شيئا ما ليس على ما يرام.
إنه الفضول الإنساني القاتل.
وقد كان آدم فضوليا؛ لهذا طرد من الجنة.
وأنت يا صاحبي فضولي كالقطط.
أنت قصدتني وطلبت الحقيقة، ولم تعلم أن الحقيقة ستسمم روحك وتزلزل كيانك وإيمانك بالله.
أنت طلبت الحقيقة، وأردت أن يرفع الستار.
فلا تلمني.
الفصل الثالث
وفي النفس شيء من حتى
هؤلاء يا سيدي هم مربط الأزمة وأساس البلاء.
هم الورم السرطاني الذي نشأ وتضخم في جسد أمتنا في غفلة منها.
سرطان لم تجد معه كل جرعات الكيماوي، والمسكنات وانتظار فرج الله. ***
1
اندلعت الانتفاضة الشعبية في قلب الخرطوم.
كان الكل يتوقع الأمر، لكن كمية المتظاهرين التي خرجت للشوارع فاقت التوقعات، كنت أرى سيولا من الشباب تتدفق في الشوارع الرئيسية في الخرطوم، طلاب جامعات، طالبات من المراحل الثانوية، عمالا، موظفين، مختلف الطبقات الاجتماعية، والسحنات والخلفيات القبلية، لكن ما يميزهم أنهم كانوا جميعا شبابا، رجالا ونساء.
كانت الشوارع تغلي حرفيا.
الإطارات المحترقة في الشوارع. اللافتات التي تحتوي عبارات تندد بالنظام الحاكم، والهتاف المدوي الذي تصرخ به مئات الحناجر في نفس الوقت «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.»
أرى الغضب، أرى الانفعال، أرى نظرة من نفد صبره في الوجوه النحيلة الكالحة الغاضبة.
وشعرت الحكومة بالذعر، لا بد أنها شعرت بالذعر؛ لأن ردها كان عنيفا.
وفوجئ المتظاهرون العزل بالقوات الحكومية تواجههم بالرصاص الحي.
عندما تحاصر القط في ركن الغرفة بلا باب خلفي للهروب، فسينشب مخالبه في وجهك.
وقد أنشبت مخالبها في وجه الجميع.
شمشون يهدم المعبد صارخا «علي وعلى أعدائي». يبدو أنه دائما ما يكرر التاريخ نفسه، فكل قصص الطغاة نجدها تتكرر نفسها في أساطير التراث الإنساني بتفاصيلها المأساوية.
وراح الشباب يتساقطون.
وإن بدا أن الدم يزيد فقط من حماس وغضب المتظاهرين، يسقط أحدهم مضرجا بدمائه فتتلقفه الأيدي، ويحملونه فوق رءوسهم ويواصلون الهتاف، واستمرت الجموع في التدفق والخروج للشوارع ، وفي خلال أيام توسعت دائرة المظاهرات، حتى شملت كل أحياء الخرطوم تقريبا.
كانت أوقاتا حرجة للغاية.
لذا قررت أن ألازم المنزل في هذه الأيام؛ لصعوبة الوصول للمكتب في ظل الظروف الراهنة حتى تهدأ الأمور، وتقدمت بطلب إجازة حتى نهاية العام، تمت الموافقة عليها سريعا من صديقي الدكتور «حمزة» مدير المستشفى. أريد أن أظل بجانب زوجتي في هذه الفترة.
أفتح التلفاز لمتابعة الأخبار؛ لأرى المذيعة الحسناء مع ضيفها الملول يتحدثان عن أيام الفن الجميل، قناة أخرى تستعرض بعض الفواصل الغنائية لمطرب متعرق متحمس. لا أخبار عن الخرطوم في العالم الموازي الآخر، حيث كانت الشوارع تضج بالهتافات، وأزيز الرصاص وقنابل الغاز.
أفتح الصحيفة فأرى ذلك الوزير، يتحدث عن «عملاء الغرب أصحاب الأجندات الخاصة الذين يحاولون تخريب صفونا وسلامنا»، مع الكثير من الشتائم للشباب الرقيع الذي جرؤ على الخروج على حاكمه، وبعض فواصل المديح للحكومة الرشيدة. صحيفة أخرى تتهمهم بأنهم مجموعة من الشواذ والعاهرات، صفحة أخرى بنفس الصحيفة تتحدث عن المخربين المدعومين خارجيا من قوى الماسونية والظلام.
وتذكرت «عمار».
كان جالسا على الكرسي مقابلي في إحدى الجلسات الأولى، ويقول لي في انفعال بأسلوبه الخطابي المميز كحاله دائما، كلما كان الحديث سياسيا: «أساس أزمتنا، يا سيدي، ليس في رموز الحكومة فقط، هؤلاء ما كانوا ليستمروا في حياتنا لولا تلك الكائنات الطفيلية، المنتفعون الذين لا يملكون ضميرا ولا دينا ولا ذمة، كلهم متملقون مداهنون، كلهم يملكون عشرات المنازل الفخمة والسيارات الحديثة، ويتزوجون ثلاثا ورباعا من فتيات في عمر بناتهم، كلهم يلبسون البذلات الاشتراكية والجلباب، ولهم ذات علامة الصلاة في الجباه الخاشعة، يحملون المسابح يتظاهرون بذكر الله، وفي عيونهم المسبلة المتراخية ترى نظرة من شبع بعد جوع.
لا عمل لهم سوى إراحة مؤخراتهم المترهلة على كراسي المكاتب، وإذا اضطروا للنهوض فإنهم يتراصون خلف الزعيم المفدى يهتفون له في حماس، ويبررون له سوء إدارته وفشله في كل شيء.
عملهم تقديم الولاء ولا شيء سواه. ترى في عيونهم قبح الفساد والتدين المزيف. ترى المرضى الذين يموتون من أجل جرعة دواء أو أكسجين في المستشفيات الحكومية معدومة الإمكانيات. ترى الأمهات اللواتي يتسولن في محطات الوقود وإشارات المرور من أجل توفير لقمة لكل تلك الأفواه التي تعوي في المنزل. ترى المدارس الخربة، والإعلام المنافق، والجنيه المعدوم القيمة، وندرة كل شيء.
سترى فيهم فقرك، وعذابك، ومعاناتك، وقلة حيلتك، وهوانك بين الشعوب، وخيارك الأزلي بين أن تجوع في وسط زوجتك وأطفالك، أو تتشرد عنهم في بلاد العالم متغربا ولاجئا.
تريد حلولا؟ سيرفعون لك أصبع السبابة إياه، ويقولون لك إن «هي لله». «هي لله»، لكنها المؤامرة فاصبروا. «هي لله»، لكنه الاستهداف الخارجي فتحملوا. «هي لله»، وبسم الله تحمل قهرك وارض بفقرك واربط حجرا على بطن أولادك. لا ذنب لنا فيما تمرون به، هذا ابتلاء إلهي؛ لأنكم ابتعدتم عن دينكم يا حمقى.
يعدونك بالسماء، بينما يعيثون هم في الأرض فسادا.
هؤلاء يا سيدي هم مربط الأزمة وأساس البلاء، هم الورم السرطاني الذي نشأ وتضخم في جسد أمتنا في غفلة منها، سرطان لم تجد معه كل جرعات الكيماوي والمسكنات وانتظار فرج الله، إن هو إلا الاستئصال ولا شيء سواه، وللأسف فكلنا نطمح أن نكون مثلهم ونتفاخر بأنهم أقاربنا، إن الفقر يدمر الأخلاق كما تعلم.»
ومرت الأيام.
حتى كان الثلث الأول من شهر أكتوبر، وقد بدأت وتيرة الاحتجاجات تخف نوعا، لكن كانت هناك دعوات لمظاهرات حاشدة يوم غد الجمعة، سميت «جمعة الحرية».
كانت زوجتي قد نامت منذ ساعات، جلست في تلك الغرفة الخارجية التي حولتها لمكتب متواضع أضع عليه مراجعي وأوراقي التي أجلبها من المكتب أحيانا، أشغل بعض الموسيقى الخفيفة التي تساعدني على التركيز، وأحتسي الشاي وأدون بعض الملاحظات عن بعض المرضى، إن العمل في الليل يناسبني أكثر، فهو يجعلني أكثر تركيزا وهدوءا.
هكذا استغرقت في مراجعة بيانات إحدى الحالات التي تزورني في العيادة، عندما رن جرس الهاتف المحمول، من الذي يتصل في الرابعة صباحا؟
كان الرقم غريبا، فتجاهلت المكالمة ، وعدت لأوراقي، مرت ثوان ثم عاد الهاتف يرن مرة أخرى.
هذه المرة رددت على المكالمة. - «ألو .»
سمعت صوت تنفس ثقيل من الطرف الثاني، ولم يرد. - «ألو، من معي؟»
لا رد مجددا، فقط المزيد من صوت التنفس الثقيل. «هذه مزحة سخيفة» قلت لنفسي. وهممت أن أغلق الخط، عندما سمعت الصوت المتحشرج المخنوق: «كانوا أنبل ما فينا.»
كان الصوت متحشرجا مكتوما كأن صاحبه كان يبكي، وإن بدا لي مألوفا للغاية. لقد سمعت هذا الصوت من قبل!
صحت في دهشة: «عمار!»
سمعت صوت جلبة من عنده، صوتا معدنيا قويا، وصريرا ما بدا لي أنه باب قديم يفتح، شخص ما يصرخ بكلمات لم أستطع تبينها، أصوات مختلطة.
صوت بكاء مكتوم، رافق صوته المتحشرج: «قل لها إنني قد أحببتها.»
صوت الضوضاء في الخلفية يتعالى، ثم انقطع الاتصال.
ظللت مشدوها لبرهة، لقد اختلف صوته جدا، لكنه كان «عمار»، أين كان كل هذه الفترة؟ وما معنى هذا الذي قاله؟
أعدت الاتصال بنفس الرقم مجددا، صوت الرنين الطويل، ثم انفتح الخط، اختفت الضوضاء، لكن لم يكن هناك رد من جانبه. صمت مطبق من الطرف الآخر، ولسبب خفي لم أتحدث، أصخت سمعي منتظرا رده.
لا أدري لماذا، لكن خطر لي ذلك الشعور الغامض بأن هناك شخصا آخر غيره على الجانب الآخر من الهاتف.
شخص يسمعني، لكنه لا يرد، فقط يرهف السمع.
ظللت صامتا لحوالي دقيقة، قبل أن ينقطع الاتصال من عنده. وضعت الهاتف في توجس، ورحت في شرود أتحسس السوار الأبيض الذي يحيط بمعصمي كالساعة، وقد نقشت عليه كلمات باللغتين العربية والإنجليزية بخط منمق دقيق يصعب قراءته.
ما معنى حديثه؟ من هم الذين «كانوا أنبل ما فينا»؟ ومن تلك التي أحبها وعلي إخبارها بذلك؟
أين كان طيلة هذه الفترة؟
كعادته لا يزال يلفه الغموض، وها هو ذا يظهر مجددا؛ فقط ليرمي لي مزيدا من الألغاز، لكن هذه المرة يداهمني شعور ممض بأن شيئا ما ليس على ما يرام. ولكن لماذا أهتم؟
لا أخفي عليك يا سيدتي أنني طيلة سنوات عملي العشرين في عيادتي بالمستشفى لم أقابل شخصية مثله، لقد بدأ يشغل تفكيري ويأخذ حيزا حتى من حياتي الشخصية، كنت دوما أفكر في مقولاته، والأحاديث التي جرت بيننا.
ربما جذبني غموضه وحماسه وصدق مبادئه وبساطته. ربما كنت أتعاطف معه للمأساة التي مر بها؛ لشعوري غير المبرر بالذنب كوني أنتمي عرقيا لأولئك الذين دمروا حياته، وأجرموا في حق أسرته. ربما كل هذه الأسباب مجتمعة، لا أدري حقا.
لكنه ظل يحتل مساحة متعاظمة من خريطة حياتي.
استغرقني التفكير قليلا؛ حتى سمعت الأذان ينادي لصلاة الفجر، لملمت أوراقي، سأصلي في المسجد وأذهب للنوم. ربما فيما بعد سأتقصى الأمر.
في الصباح. قالت لي زوجتي، وهي تضع أواني الإفطار على الطاولة: «يقولون إنه ستكون هناك مسيرة ضخمة غدا.»
قلت لها وأنا أحمل المنشفة على كتفي وأتثاءب: «شباب أرعن. لقد مات الكثير منهم في الأيام السابقة، وما زالوا يصرون على الاستمرار.» - «قبل أن أنسى، لقد اتصل بك صديقك الدكتور «أحمد الماحي»، وطلب أن تعيد الاتصال به عندما تستيقظ، يقول إن الأمر مهم.»
قبلتها على جبينها، وغمغمت بما معناه أنني سأفعل واتجهت للحمام. وعلى مائدة الإفطار جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، كان وجهها قد استعاد حيويته نوعا، وإن ظل الشحوب يسيطر عليها.
بدأت حالتها النفسية تتحسن نوعا ما بعد أن تقدمت بإجازتي، وأقمت في المنزل. وقلت نوعا ما نوبات الشرود التي تصيبها.
كانت تجلس لفترات طويلة أمام النافذة ترمق الخارج في شرود ذاهل. أحيانا تمر عليها ساعات دون أن تتحرك، وعندما تعود لوعيها فهي تبكي بحرقة طوال الوقت.
لم يكن التحسن كبيرا، لكنه على الأقل كان خطوة في الطريق الصحيح.
قلت لها: «سنسافر في الشهر القادم، إن تغيير المكان سيفيدك وسيكون تغييرا نحتاجه نحن الاثنان.» - «أين سنذهب؟» - «أي مكان، اختاري.»
شبح ابتسامة باهت تلاعب على ثغرها لثانية، ثم اختفى. وراح قناع الشحوب اللعين ينسج شباكه بسرعة على وجهها الناحل.
لشد ما افتقدت ابتسامتها.
بلا مبالغة كانت ابتسامتها هي سبب زواجي منها. لها ابتسامة ساحرة تضيء المكان، وتشعرني دوما أن كل شيء على ما يرام، أمام إشراقة وجهها كنت أغسل درني متوضئا من همومي وأشغالي .
وأغدو في حضرتها طفلا صغيرا يحتاج إلى من يربت على ظهره بحنان، ويخبره ألا تقلق ولا تهتم يا صغيري، فكل شيء بخير.
بالنسبة لي هي الأم الفاضلة، والأخت الحكيمة، والصديقة المتفهمة، والزوجة المصونة، الأنثى الكاملة الخام التي خلق الله من رحمها الرجل ناقصا بدونها، خائفا مرتبكا يتخبط. «جلاتيا» كما في الأساطير الإغريقية التي هام بها «بيجالمون»، وألقى بنفسه عند قدميها يقبلها، ويشعل البخور عند محرابها.
وكأنما قرأت أفكاري، وضعت راحة يدها على يدي فوق الطاولة، وقالت وهي تتأملني: «سنتخطى هذه المحنة، سنكون بخير.»
وضعت راحة يدي الأخرى فوق يدها، وابتسمت بما معناه «سنفعل»، لكن رنين الهاتف قاطع شرودي، فتنحنحت في خجل وراحت تلم الأطباق. ونظرت على المتصل، كان الدكتور أحمد الماحي، زميلي في المستشفى مجددا، رددت على المكالمة، وقلت بلهجة معتذرة: «دكتور أحمد كنت سأتصل عليك بعد قليل.»
رد علي ضاحكا: «بعد أن حصلت على إجازتك، وظللت مع المدام لم يعد لديك وقت للرد علينا.»
قلت ممازحا: «الشغلة أولويات.» - «لا بأس. أعتذر عن إزعاجك، فقط أريد أن أتأكد من شيء، هناك طالب بجامعة الخرطوم اقتصاد المستوى الأول، اسمه «عمار سليمان»، هل كان أحد مرضاك؟» - «نعم، ولكن لماذا؟» - «اتصل بي زميل من مشرحة مستشفى الخرطوم صباحا، يريدون أن يعرفوا إذا كنت تعرف أحدا من أسرته أو أقربائه، لقد توفي صباح اليوم!»
2 «يقولون إنك ألقيت بنفسك في النيل. لماذا فعلتها، ومثلك لا ينتحر؟»
أردد العبارة فيما يشبه الذهول، ثم أحملق في الظل المنبجس أمامي من العدم، فأراه واقفا يشد قامته إزائي، ينظر لي بهدوء بوجهه الصلب البارد الخالي من التعابير، ويقول لي، وهو يصافحني ويشد على يدي: «برغم كل شيء؛ فقد ساعدتني كثيرا يا دكتور، وإني لك من الشاكرين.»
أقول له مدافعا عن نفسي: «لكنك أنت من طلبت الإجابات. طلبت الحقيقة، ولم تعلم أن الحقيقة ستزلزل كيانك وإيمانك. لقد سممت روحك، ودفعتك إلى التخلص من جحيم المعرفة بالانتحار. إن المعرفة تقتل، الضباب هو ما يجعل الأشياء تبدو ساحرة.
قالها أوسكار وايلد من قبل وأراه محقا.»
يتجول في العيادة بلا اكتراث، ويداه معقودتان خلف ظهره، ويقول دون أن يلتفت لي: «ظننت أنه يوم القيامة. كانت النيران هائلة، والصراخ رهيبا، ورائحة الموت تعبق في المكان وتزكم أنفاسي.»
ثم بالتفاتة حادة إلي يضيف: «كانوا يكبرون ويهللون، وهم يتناوبون على اغتصاب النساء، هل تعلم هذا؟» «عمار» الطفل يحمل أخته على كتفه، وهو يجري هربا من الموت المتربص في كل خطوة. يجري ويبكي عبر الدخان والنار، ووسط شهقات الاحتضار.
ببراعة يقهر الموت ويفلت من قبضته المستبدة.
ثم تموت أخته موتا بطيئا مؤلما، ويرتمي هو في أحضان الموت فيما بعد طائعا مختارا آسفا، متأثرا بجراح ذكراه.
يمد الموت لسانه ساخرا، ويضحك في عبثية.
تختفي العيادة. وأرى جسده ممددا على المحفة، وقد أغلقت عيناه الذكيتان للأبد.
في تلك اللحظة تلاشت مبادئه وأفكاره وأحلامه، وعقده النفسية. انتصروا واستسلم، توالت عليه صفعات الحياة، حتى لم يعد يستطيع الوقوف أكثر.
وأقول لطبيب المشرحة إنه بلا أهل ولا أقارب، لا أحد له في هذه البلاد الظالم أهلها. - «إن الأهم من معرفة المشكلة هو كيفية التعامل معها، فالأصعب هو القادم، ستمر بالكثير من التقلبات ولا بد من إشراف مختص، لن تتوقف نوبات الذعر التي تصيبك لمجرد أنك عرفت مسبباتها، أنصحك بأن تواظب على الجلسات.»
قلت لك أن تعود لزيارتي، كنت أعرف أن القادم هو الأسوأ، وأن مشاعرك المضطربة ستضللك، وستتآكل معها روحك ذاتها.
لكنك فضلت أن تلعق جراحك منزويا. جعلك غرورك واعتدادك بنفسك تظن أنك أقوى منها، حتى قادتك للانتحار هربا من نفسك.
أن يكون ما يشقيك هو نفسك التي بين جنبيك، تلك أعظم الفواجع.
ينظر لي باسما إذ وقف على الباب، وتلمع عيناه الذكيتان، وهو يقول بصوت هادئ:
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما.
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى.
إنها الحرب!
قد تثقل القلب،
لكن خلفك عار العرب.
لا تصالح،
ولا تتوخ الهرب! - «لكنك أمعنت الهرب يا صاحبي. تمكن منك الاكتئاب، حتى قررت أن تهرب من جحيم نفسك بالتخلص منها . ظننت أن ذكاءك سيساعدك على تخطي مأساتك، كنت مخطئا مجددا.
أشقاك ذات العقل الذي كنت أعول عليه، لماذا لم تكن مثل أي شخص آخر وتتقبل قدر الله كما هو؟» - «الله لا يقبل الظلم. هذا الإله الذي يدافع عن الطغاة، ويطالبكم بالصبر هو إله من صنيعتكم، هو الأفيون الذي تتعاطونه لتغيبوا عن واقع لا تستطيعون دفعه وتغييره، فقط تبررون به لأنفسكم حقيقة أنكم أجبن من اللازم.»
يقولون يا سيدتي: إن بعض عمال الكمائن على ضفاف النيل سحبوا جثته من النهر عند ساعات الشروق الأولى، ثم اتصلوا بالشرطة.
يقولون إنه مات منتحرا، لقد رآه بعض الشهود، وهو يلقي بنفسه من على جسر المنشية في الثالثة صباحا، ما يطابق الزمن التقديري لوقت الوفاة بحسب تقرير الطبيب الشرعي. - «ولماذا لم يحاولوا إنقاذه، يا حضرة الشرطي، أو يتصلوا بالشرطة وقتها؟» - «لم يشك أحد، ظنوا أنه مجرد متسكع آخر.»
هو أكثر ذكاء من أن ينتحر. لماذا فعلتها بعد مرور شهرين كاملين؟
ظللت تقاوم طيلة هذه الفترة، حتى وصلت للحد الذي ليس بعده منزع؟
لماذا اتصلت بي قبل موتك بلحظات؟ لماذا تصر على سحبي إلى عالمك، حتى بعد أن قررت أن تنهيه بنفسك؟
ما كل هذه الأنانية؟
وأفيق من شرودي فأجدني جالسا في صالة المنزل أشاهد التلفزيون المغلق بعينين لا تريان، وقد بدأ الليل يرخي عباءته على الموجودات، لقد قضيت اليوم متنقلا بين مشرحة المستشفى، وقسم الشرطة أخضع للاستجواب لأفسر لهم، ربما، سبب انتحاره.
يقول لي الشرطي، وهو ينظر لي من أعلى النظارة بعينين مرهقتين: «هل بدر منه في جلسات العلاج النفسي ما يدل على سبب انتحاره؟ ولماذا انتحر؟»
كلا يا سيدي لم يبدر منه شيء من ذلك، كان ثائرا متمردا حانقا لكنه لم يكن انتحاريا، على الأقل هذا ما ظننته، فكما يتضح كنت مخطئا.
تحقيقات الشرطة الأولية تقول إنه قد خاض مشاجرة مع أحد أصدقائه في الداخلية التي يسكنها؛ مما يفسر الرضوض في وجهه وجسده.
لقد رآه بعض الشهود، وهو يلقي بنفسه من على جسر المنشية في الثالثة صباحا، ما يطابق الزمن التقديري لوقت الوفاة. - «متى رأيته أو تحدثت معه آخر مرة؟»
ويقول لي نفس الحافز الخفي الذي شعرته أثناء مكالمتي معه الأخيرة ألا أتحدث عن مكالمتي الأخيرة معه.
لم أحدثه منذ قرابة الشهرين، يا سيدي. لقد اختفي، وبدون سابق إنذار.
تتواصل الأسئلة الرتيبة، ثم يطلبون مني العودة للمنزل على وعد الاتصال بي مجددا إذا ما جد جديد، لا بد من أن يكون له أقارب في مكان ما؛ حتى يقوموا بترتيبات إجراءات الدفن.
سأزور الجامعة في الأيام القادمة، وأبحث عن أصدقائه في الدفعة، ربما أستطيع التوصل إلى شيء ما.
النعاس يغلبني الآن، أحتاج لمعجزة؛ كي أنهض وأصل إلى السرير، ربما سأنام حيث أنا.
لقد رآه بعض الشهود، وهو يلقي بنفسه من على جسر المنشية في الثالثة صباحا، ما يطابق الزمن التقديري لوقت الوفاة.
لا بد أنني أصبت بالوسواس أخيرا؛ فعقلي يكرر ما سمعته من الطبيب في المشرحة صباح اليوم كدمية عطب مفتاحها.
هل كان اليوم فعلا؟! لماذا يبدو لي وكأنه كان بالأمس؟
أعتقد أن ساعتي البيولوجية قد اختلت اليوم، ربما تحتاج لبعض الصيانة.
وابتسمت وأنا أتخيل نفسي أتجول في السوق؛ بحثا عمن يعيد صيانة ساعتي البيولوجية. «ساعاتي شاطر يا إخوانا.»
هل تبدو كساعات اليد يا ترى؟!
كم أحتاج لصيانة شيء كهذا!
أفكاري تتطاير بعشوائية، وعقلي يهدر كجهاز بروجكتور قديم يرمي الضوء على سطح شاشة التلفزيون المظلمة أمامي، أشاهد انعكاس أفكاري على سطحها اللامع، كأنني جالس في إحدى دور السينما الريفية، فلا ينقصني إلا بعض الجمهور الذي يصرخ محتجا، ويسب والدة عامل العرض عند حذف اللقطات الإباحية.
الإطارات المحترقة، لافتات تندد بالوضع الاقتصادي وتدعو للثورة، دخان القنابل المسيلة للدموع. «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.» «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.»
يدوي صوت الرصاصة، فيسقط ذلك الشاب اليافع، والدماء تقطر من شعره، أحدهم يتوقف عن الجري، وينحني في لهفة ليحمله، فتصيبه رصاصة أخرى ليسقط ميتا فوق صديقه. «إنها ثورة الشواذ والعاهرات.» «عمار!» «عمار!»
هل ما زالوا يتحدثون عن الرخاء والناس جوعى؟
عن الأمن والناس في ذعر؟
وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟ «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.» «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.»
ينتشر دخان قنبلة الغاز في ضاحية بري، ومن لا مكان تظهر مدرعات الأمن فجأة أمامهم، ثم يدوي الرصاص بكثافة في اتجاههم، تتفرق الحشود في الحي المجاور، يحاول أن يركض في اتجاه ذلك المنزل، يشعر بالوهن ثم تخذله قدماه ويتهاوى على الأرض والدماء تتفجر من صدره وتغمر قميصه، ينحني أحد أصدقائه فوقه بسرعة، ويخلع قميصه، ويكومه على صدره محاولا وقف النزيف، وهو يهتف بطريقة هستيرية طالبا المساعدة، يرتعش أصبعه للحظات، وترتجف شفتاه، وهو يحاول قول شيء ما، ثم تهمد حركته بينما الدماء تسيل على الأرض في غزارة.
لا يعرفون أنه سيكون أحد أيقونات الثورة فيما بعد.
هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان، أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟ «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.» «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.»
الجثة تخرج من ثلاجة المشرحة وقد غطي جسده بملاءة بيضاء ما عدا وجهه، لوهله اعتقدت أنه يشعر بالبرد، لكنه لا يستطيع أن ينطق. أريد أن أخبر الطبيب أن يتركه في الخارج قليلا. «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل.»
العينان المغمضتان في سلام، والملامح الباردة الصلبة، التي لم تعد باردة وصلبة الآن.
عينه اليسرى متورمة للغاية، وحولها كدمة سوداء قبيحة، وهناك جرح طولي جاف يشق شفته العليا، وآثار جروح متناثرة على وجهه.
يقولون إنه قد خاض مشاجرة مع أحد أصدقائه في الداخلية التي يسكنها؛ مما يفسر الرضوض في وجهه وجسده.
لقد رآه بعض الشهود، وهو يلقي بنفسه من على جسر المنشية في الثالثة صباحا، ما يطابق الزمن التقديري لوقت الوفاة.
هل قابلته فعلا؟
ربما كنت أحلم، ربما ما زلت أحلم!
سأستيقظ غدا وأكتشف أنني كنت أحلم بكل هذا. «نحن فرطنا في سماحة أهل دارفور وسماحة الأعراف، كيف يستجيب الله لدعائنا، ونحن نسفك دماء المسلمين ودماء بعضنا؟ كيف نسأل الرحمة وأيدينا ملطخة بالدماء؟!» «برغم كل شيء فقد ساعدتني كثيرا يا دكتور، وإني لك من الشاكرين.»
شيء ما خاطئ جدا.
ولم أدر متى توقف فيضان عقلي العشوائي عن السريان، وغرقت في نوم عميق.
3
برغم مرور أكثر من أسبوعين على انطلاق الانتفاضة الشبابية، لم تتوقف المظاهرات اليومية في الشوارع.
كان أعنفها على الإطلاق ما أطلق عليها اسم «جمعة الشهداء» قبل عشرة أيام تقريبا، تقاطرت فيها الجموع من شمبات، وود نوباوي، والعباسية، والفتيحاب، وجبرة، والصحافة، وأمبدة، والثورة، وبري، والكلاكلة، والديم، والشجرة، والسلمة، ومايو، وشارع الستين وامتداد ناصر شارع أوماك، والحاج يوسف، والجريف، كل مناطق الخرطوم تقريبا بأعداد وصلت للآلاف.
وبرغم أن جموع المشاركين كانت قد بدأت تخف نوعا ما في أكتوبر بعد «جمعة الحرية» قبل ثلاثة أيام، تناهت إلى مسامعنا بعض الدعوات للخروج مجددا في مسيرات حاشدة مجددا.
ما زالت الشوارع تغلي، كما هو واضح، بلا أمل في تهدئتها.
أقود سيارتي متجها إلى جامعة الخرطوم، وأحاول قدر الإمكان تفادي الشوارع التي تمتلئ بالمسيرات. وبصعوبة أتخطى الشوارع التي تمتلئ بالمتظاهرين أو الإطارات المحترقة مرات، ثم أعود أدراجي؛ لأسلك طرقا أخرى عوضا عن الطرق الرئيسية التي تسدها مدرعات مكافحة الشغب والشرطة مرات أخرى.
هكذا، وبعد كثير من الجهد والوقت - والوقود للأسف - وصلت إلى مدخل الجامعة التي بدت لي خاوية على عروشها، إلا من بعض الطلبة المتناثرين هنا وهناك خارج الحرم الجامعي فرادى وأزواجا وجماعات، يتحلقون حول «ستات الشاي».
أثار انتباهي على نحو خاص وجود عدد من مدرعات الشرطة قرب الجامعة، وتوقف بعض أفرادها في تحفز واضح.
في الداخل أستوقف أحد الطلبة، وأسأله عن طلبة «المستوى الثاني، اقتصاد»، فيشير إلى بعض القاعات في آخر الجامعة، ويقول لي: «لا أعرف منهم أحدا، لم يبدأ عامهم الدراسي الجديد بعد، والدراسة متوقفة حاليا فلا يوجد طلاب، لكن تلك قاعاتهم الدراسية، قد تجد بعضا منهم هناك.»
أعبر الممر الطويل المؤدي إلى الاتجاه الآخر من الجامعة، وجدت طالبا وطالبة يجلسان أمام إحدى القاعات في وضعية بدت لي حميمة للغاية، كانت الطالبة تضحك بصوت خافت، وبتلك الطريقة التي توحي بأنه يقص عليها شيئا «قليل أدب»، رأياني فتوقفا عن التهامس، وأطرقت الفتاة للأرض بحياء؛ مما أكد لي ما تخيلته، بينما رفع لي الشاب عينين متسائلتين منزعجتين؛ لتعكيري صفو خلوته غير الشرعية، سألته عما إذا كان يعرف المدعو «عمار سليمان» أو أحد أصدقائه، فعاد يكرر الاسم مفكرا، ثم قال: «عمار سليمان، امممم ليس الاسم غريبا، أحد الطلاب الدارفوريين، أليس كذلك؟»
لم يعجبني وصفه، وبدا لي تنميطا في غير محله، فرددت بلهجة يشوبها الانزعاج: «نعم». - «نعم أعرفه، كنت أراه أحيانا يخطب في أركان النقاش بالكلية، خطيب مفوه لو طلبت رأيي، كان يعرف دوما كيف يثير حماس الحضور بخطابه.» - «هل تعرف أين أجد أحدا من أصدقائه؟»
مط شفتيه، وراح يفكر مجددا، وقال: «لا أعرف شلته جيدا، لكن لديه ذلك الصديق الذي يلازمه كظله، اسمه «إبراهيم آدم»، إن لم تخني الذاكرة، شخصية معروفة في الكلية. هو أحد أعضاء رابطة الطلاب الاتحاديين في الجامعة.»
كانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسم «إبراهيم»، فلم يذكره «عمار» بالاسم من قبل في الجلسات - في الواقع هو لم يذكر لي صراحة سوى اسم «هبة» - وكان يشير له دائما بصفة «صديقي/زميلي». وفيما بعد قمت بعمل مقابلات مع عدة شهود، واستطعت تجميع أطراف القصة التي حكيتها لك سابقا.
فكثير من جوانب حياته الشخصية والسياسية في الجامعة لم يحكها لي أثناء الجلسات، كان كتوما للغاية فيما يخص علاقاته الاجتماعية، كذلك؛ فإن كثيرا من تفاصيل عملية الانتهاك الجنسي والنفسي التي تعرض لها في المعتقل، لم يحكها لي «إبراهيم»؛ لعدم معرفته بها، لكنني اعتمدت تقرير الطبيب الشرعي لاحقا، وخمنت البقية.
أعتقد يا سيدتي أنهم يطلقون عليه منظور الراوي
Narrator’s Point of View
في الأدب. فنحن هنا بصدد أقصوصة أرويها لك بمنظوري كراو مطلع على الأحداث التي تدور في الخلفية، وشخصية من الشخصيات التي تشترك في السياق، وتتكلم عن غيرها من الشخصيات، أملك بعض المعلومات؛ لكنني لا أقوم بضخها إلا فيما يخدم سياق الأحداث.
فلم يمنحني المؤلف - ضيق الأفق - كامل الصلاحية؛ لمعرفة كل شيء عن تفاصيل حياة «عمار» من البداية فأريح وأستريح. لكنه يصر على إرهاقي في ربط الأحداث والاستنتاج ومقابلة الشهود، فقط ليحتفظ لنفسه بشعور العليم المطلع على شيء، إرضاء لهواجس امتلاك المعرفة الكاملة، وكل ما يغذي نزعات ال (
God Comlex ) في أعماق ذاته الطفولية المختلة. لكنني أعرف أنه قد فقد السيطرة على شخوص ومجريات روايته، وبدأت أحداثها تفلت من يده فعليا، وتتخذ مجراها الخاص ككائن مستقل.
لكن ظلت هناك فترة غامضة من حياة «عمار» بالنسبة لي وللمؤلف نفسه، وهي الفترة ما بين عام 2004م، بعدما تعرضت قريته للهجوم من الجنجويد، وحتى عام 2011م، عندما التحق بجامعة الخرطوم.
في تلك الفترة لا توجد أي معلومات بخصوصه؛ أين كان يقيم؟ ومع من؟ من الشخص الغامض الذي احتواه وأسكنه في بيته؟ هل كان من أقربائه؟ من هم؟ إجابات أسئلة كهذه كانت ستضيء الكثير من جوانب شخصيته الغامضة، فهو لم يحك لي أي شيء عنها من قبل، ولم يشر إليها خلال جلساته معي.
ولم أجد لاحقا ما يشير إلى شيء منها، ما عدا معلومة يتيمة عن مكان صدور شهادته الثانوية من مدرسة، من ولاية أخرى تماما، إحدى المناطق الطرفية من مدينة الفولة في غرب كردفان.
ولما كانت تثير من الأسئلة أكثر مما تجيب؛ لذا تجاهلتها في السرد.
كان الطالب مفيدا، قام بإجراء بعض الاتصالات مع بعض زملائه، ثم أمدني بعنوان سكن «إبراهيم»، وهي إحدى داخليات السكن الطلابي المشتركة في نواحي أم درمان.
وبينما كانت الشمس تتواري في حياء ناحية المغيب، وهي تنثر ضوء الشفق الأحمر القاني على الموجودات، رحت أقود سيارتي في ذلك الشارع الضيق في إحدى حواري أطراف أم درمان، أحاول - بلا نجاح - تفادي اللوحة التشكيلية الجميلة التي تعاون سكان الشارع على رسمها، توليفة جميلة هي من الحفر والمطبات، وبقع الماء والطين المتناثرة في عشوائية سرمدية، لو رآها الخواجة «دالي» لجن جنونه، ولشد شعر رأسه فرحا من فرط الإلهام.
أتوقف حتى لا أدهس ذلك الطفل الشبه العاري الذي يسيل المخاط من أنفه، وهو يقوم بدحرجة إطار سيارة قديم بيد، ويمسك سرواله القصير حتى لا يسقط بيده الأخرى، وخلفه مجموعة من أقرانه يتصايحون في حماس. ثم أتوقف مجددا للسماح لربة ذلك المنزل من أن ترمي الماء المتخلف من غسل «العدة» بواسطة طشت حديدي صدئ، تنظر لي في كراهية للحظات، ثم تتواري خلف باب المنزل.
كنت غريبا عن المكان، في منطقة تكره الغرباء، وتتوجس منهم.
أتوقف أمام داخلية سكن الطلاب، وهو مبنى قديم من طابقين، لا يوجد عليه دهان من أي لون، تم تغطية حوائط الطابق الأرضي بالإسمنت، في حين ظل الطابق الثاني عاريا إلا من الطوب الأحمر. يقع أمام ميدان كبير تناثرت على أطرافه الأربعة إطارات قديمة لشاحنات، مدفونة طوليا حتى نصفها في الأرض، لتشكل كراسي بدائية للجلوس والتسامر في الليل، كما تعمل أيضا كمدرجات لا بأس بها؛ لجلوس المشجعين حال وجود مباراة ما تقام في الميدان.
كانت هناك سيارة «بوكس» رابضة في الطرف الآخر للميدان، وإن بدت لي مألوفة نوعا.
أدلف للداخل وأسأل عن «إبراهيم آدم»، فيقول لي شاب، وهو ينشر ملابسه على حبل في الحوش الداخلي الضيق: إنه قد خرج مع بعض أصدقائه للإفطار في دكان قريب، لكنهم سيعودون قريبا، ثم يقترح، في تهذيب، بأن يقودني إلى الغرفة حيث يمكنني انتظاره.
نصعد السلالم الداخلية الضيقة إلى الطابق العلوي، كانت شقتان مفتوحتان كقلب حبيبين، وخطر لي أن المبنى خال من الطلاب تقريبا، فلم أصادف إلا اثنين أو ثلاثة حتى الآن.
وكأنما قرأ أفكاري، قال لي الطالب، ونحن ندلف إلى إحدى الغرفتين في الشقة: «لقد سافر أغلب الطلاب إلى أسرهم في الولايات بعد أن توقفت الجامعة مع بدء الانتفاضة، فكلنا قادمون من ولايات خارج الخرطوم.»
سألني عما أريد شربه، فشكرته بحرارة على لطفه واعتذرت، فغادرني بابتسامة لطيفة متعللا ببعض الأشغال الخاصة.
رحت أقلب بصري في المكان، كانت غرفة كأي غرفة أخرى، ضيقة قليلا، مع رائحة عطن خانقة كريهة كرائحة الأحذية تفوح في المكان. وبدا غياب اللمسة الأنثوية واضحا للعيان، فقد كانت في قمة الفوضى. الملابس الداخلية والقمصان والجلاليب معلقة على مسامير دقت في الحائط كيفما اتفق، الأحذية متناثرة في كل مكان، علب الطعام الفارغة، وقوارير الماء والكولا، وبقايا السجائر، وأكياس التمباك، تزين أرضية المكان، ومجموعة من حقائب السفر كبيرة الحجم تكدست كيفما اتفق تحت الأسرة ذات الطابقين.
هناك رسوم منحوتة على الحائط الإسمنتي، لقلوب تخترقها سهام تنقط دما، ووجوه دامعة حزينة لشخص يحاول برهنة موهبته في الرسم، مع بعض الأبيات الشعرية عن معاناته وعذابه بعد فقد المحبوبة.
هناك عبارات ركيكة نحويا كتبت بالحبر الجاف على الحائط، تعبر عن حالة الكاتب الوجدانية، وتقلب مشاعره في الأزمنة المختلفة. «زيكراء خالدة مين ود قلبا، يوم الأحد الموافق ...» «تحياتي لي من دمر حياتي»، «ياء قلبي المعزب بهجر الحبيبة» ... إلخ.
وبعض العبارات الرنانة الأخرى التي تستجدي عمقا لا تحتويه.
برغم ضيقها (الغرفة) يسكنها ستة أشخاص، بحسب عدد الأسرة المزدوجة، أزحت بعض الأوراق والكتب الدراسية المتناثرة في السرير السفلي وجلست على طرفه، وأنا أنظر لساعتي.
سألت نفسي: ماذا تفعل يا دكتور جمال؟
لقد مات الفتى، وانتهى ذلك الفصل من حياتي، فما الذي أريد تحقيقه بالضبط؟
والسؤال الأهم: لماذا أفعل هذا؟
لقد كان مجرد مريض من ضمن المئات الذين يزورونني في عيادتي بحثا عما يريح نفوسهم المضطربة، ويفك لهم طلاسم ذواتهم المعقدة كما شاء لها الله، بحثا عن علة ما.
فلماذا أهتم به هو بالذات!
لا أعرف، لكن ظل ذلك الدافع الأرعن يقودني للبحث عن المزيد.
قاطع أفكاري دخول ذلك الشاب إلى الغرفة، تقدم نحوي وصافحني بعينين متسائلتين، وهو يقول: «تبحث عني؟» - «أنت إبراهيم آدم؟» - «نعم.»
عرفته بنفسي بإيجاز، وقرأنا الفاتحة على روح «عمار»، قال لي وهو يجلس في السرير المقابل: «لم أكن أعرف أن عمار - رحمه الله - كان يقابل طبيبا نفسيا.»
كان قصير القامة نوعا، أميل للبدانة، له عينان واسعتان حساستان، ووجه أملس خال من الشعر، ومن أول وهلة يثير انطباعا أنثويا مبهما لمن يقابله.
قلت له: «نحن نتفهم المرض العضوي ونحترم الأطباء، ربما لدرجة الانبهار والتقديس أحيانا، لكننا لا نفهم المرض النفسي. نراه ضربا من الشعوذة وتلبسا شيطانيا، ينتمي لعوالم الشيوخ والأحجبة والأعمال السحرية المدفونة وكل طقوس كهنة الفودو في الكاريبي، وليس إلى الطب المادي الحديث. لا تزال نظرة مجتمعنا للطب النفسي قاصرة، فكل الذين يترددون على عياداته يوصفون بالجنون أو البرجوازية أو كلاهما. ربما لم يخبرك لمثل هذه الأسباب.»
هز رأسه في ملل واضح مؤمنا على كلامي، وهو يرمقني بنفس العينين المتسائلتين، كانت عيناه الحساستان تعبران عما يحتشد في ذهنه من تساؤل، قلت له بسرعة حتى لا يجرفه خياله: «قالوا لي إنك كنت من أقرب أصدقائه، قدمت لأسألك إذا كنت تعرف أحدا من أقاربه حتى أستطيع التواصل معه من أجل ترتيب إجراءات الدفن.»
تفكر قليلا، ثم قال: «كلا في الواقع، لم يكن المرحوم يتحدث عن أهله أو أسرته كثيرا، وكل ما أعرفه عنه أنه من شمال دارفور.» - «ألم يكن هناك أحد يزوره هنا أو في الجامعة؟» - «على قدر علمي: لا.» - «متى قابلت المرحوم آخر مرة؟»
قال: «في اليوم السابق لوفاته، رأيته في الجامعة صباحا وأفطرنا معا، ولم أره بعدها؛ لأنه لم يعد للسكن معنا. اعتقدت أنه يقضي الليلة مع صديق ما.»
شكرته على وقته، وتركت عنده رقم هاتفي، وطلبت منه أن يتواصل معي إذا ما استجد شيء ما.
كان مهذبا كريما، أصر على أن أتناول معهم الطعام، لكنني تعللت بمشاغلي على وعد بتلبية الدعوة في وقت ما. وقام بمرافقتي حتى سيارتي برغم إصراري ألا يفعل، قال لي إنه سيبحث في الأمر، وسيعاود الاتصال بي إذا ما توصل إلى شيء يفيدني في الوصول لأحد أفراد أسرته أو أقاربه.
رحت أقود سيارتي عائدا للمنزل في شرود.
لم يفدني «إبراهيم» كثيرا، بل أضاف لي المزيد من علامات الاستفهام، لماذا لم يعد «عمار» للسكن الداخلي من الجامعة في اليوم السابق لانتحاره؟
ومن هذا الصديق الغامض الذي قضى معه اليوم؟
على قدر معرفتي به، فهو لم يكن من النوع الذي يملك عددا من الأصدقاء، في الواقع لم يحك لي سوى عن «إبراهيم» باعتباره صديقه الوحيد.
فمن هذا الصديق الذي لم يحك لي عنه، ولا حتى لصديقه الوحيد؟
ومن هذا الشخص الذي تشاجر معه؟ هل هو ذلك الصديق الغامض؟ ولماذا يتشاجر معه ثم يبيت معه الليلة لينتحر في اليوم التالي؟
يبدو لي الأمر برمته غير قابل للاستيعاب المنطقي. ثمة حلقة مفقودة في تسلسل الأحداث.
ثم لمعت في رأسي فكرة. «هبة.»
لو كان هنالك شخص ما أقرب لعمار من «إبراهيم»؛ فهي «هبة»، ربما تعرف شيئا عن ذلك اليوم الأخير الذي اختفى فيه من الجامعة والسكن الداخلي.
أذكر أن «عمار» قد ذكر لي مكان إقامتها من قبل، أثناء حديثه عندما قام بتوصيلها للمنزل، وهو قريب من هنا بجوار السكن الداخلي، لكنني لا أذكر العنوان تحديدا، فلا بد أن أراجع التسجيلات الصوتية للجلسات حتى أستعيده.
إضافة إلى ذلك فقد حل الليل، والوقت غير صالح للزيارة في كل الأحوال.
سأعود للمنزل الآن، وأحاول مجددا يوم غد.
4
توقفت بالسيارة أمام منزل من طابقين في منطقة الثورة بأم درمان، منزل حديث الطراز تحيط به حديقة جميلة من أشجار الدمس والجهنمية، وزهور صباح الخير، يطوقها سور حديدي ذو حواف مدببة تتوعد المعتدين بالأذى الجسيم.
رحت أسير وسط روائح الزهور، حتى بلغت الباب الحديدي الخارجي، وضربت الجرس.
مرت لحظات ثم انفتح الباب عن عاملة أثيوبية جميلة المحيا، نظرت لي في تساؤل فسألتها: «هل هبة موجودة؟»
أجابتني بلغة عربية ركيكة: «غير موجودة، لا يوجد سوى أختها هادية.» - «هل يمكنني الحديث معها؟» - «انتظر لحظة.»
ثم غابت للحظات، ثم انفتح الباب بطريقة مواربة عن وجه «هادية»، فتاة دقيقة القامة، تتلفح بثوب سوداني لا بد أنها ارتدته على عجل من هيئته، قدرت أن عمرها لا يتجاوز الخمسة عشر عاما، قلت لها: «أنا دكتور جمال، أحد أساتذة «هبة» في الكلية.»
راحت تنظر لي في شك، ورأيت تساؤلها عن السبب الذي يدفع أستاذا جامعيا لزيارة طالبته في منزلها في عينيها بوضوح، قلت لها مردفا: «فقط أردت أن أسألها بخصوص أحد زملائها في الجامعة، يدعى «عمار سليمان»، متغيب عن الجامعة منذ فترة، وودت لو أعرف إذا ما كانت تعرف عنوان سكنه، أو أي شيء يساعدني للوصول إليه.»
هل كنت أتخيل؟ أم أن ملامح وجهها قد تغيرت عندما نطقت اسم «عمار»؟ بدا عليها الانزعاج للحظات، قالت لي في اقتضاب: «هبة غير موجودة الآن.»
سألتها متوددا: «هل تعرفين متى ستعود؟» - «لن تعود قريبا. لقد تزوجت قبل أيام، وسافرت مع زوجها خارج البلاد.»
وقفت مشدوها للحظات من وقع الخبر.
تلك هي إذن الحلقة المفقودة!
لقد تزوجت «هبة» بالتزامن مع انتحار «عمار».
لا بد أنه قد سمع بخبر زواجها، فقرر الانتحار. وقبل أن ينتحر ترك لي رسالته الأخيرة «قل لها إنني قد أحببتها.»
لا أعرف معنى العبارة الأخرى التي قالها «كانوا أنبل ما فينا» ولا هوية ذلك الشخص الغامض الذي تشاجر معه قبيل انتحاره، لكن - بقليل من التجاوز - يمكنني افتراض أنه كان غاضبا مما عرفه، فتشاجر مع شخص ما في غمرة غضبه، ثم قرر الانتحار.
أو ربما تناول مشروبا كحوليا ما.
نعم. يبدو كل شيء منطقيا الآن.
شكرت «هادية» على وقتها، واعتذرت لها عن الزيارة بدون موعد مسبق، وتركت عندها رقم هاتفي على أمل أن تعاود «هبة» الاتصال بي في يوم ما.
وطوال طريق عودتي كنت أقود شارد الذهن، حتى كدت أدهس أحد المشاة العابرين للطريق في غمرة شرودي. «حمااااااااار.»
لوحت له بيدي معتذرا بينما أنطلق، بينما هو يبحث في الأرض بجنون عن بعض الطوب - على الأرجح - ليقذفني به.
شيء ما خاطئ.
شيء ما خاطئ.
فإذن بلغت به الهشاشة النفسية حدا جعله ينهي حياته من أجل زواج الفتاة التي أحبها. يبدو أن النفس البشرية أكثر تعقيدا مما أظن فعلا.
لا يوجد ضوابط، ولا يمكنك توقع أي شيء.
لقد رآه بعض الشهود، وهو يرمي بنفسه من على جسر المنشية في الثالثة صباحا، ما يطابق الزمن التقديري لوقت الوفاة.
منذ أيام تتردد في ذهني بطريقة وسواسية.
يبدو كل شيء منطقيا الآن، لكن ظل هناك ذلك الهاجس الملح داخلي يردد بصوت خافت وبإصرار أن هنالك شيئا ما خاطئا.
لا يزال في النفس شيء من حتى. «حتى» التي أرهقت سيبويه، ولم يجد لها موضعا نحويا محترما، ومات وفي قلبه شيء منها. حرف لعوب زلق لا يمكن الإمساك به وتصنيفه، فهو مرة للابتداء ومرة للعطف ومرة للنصب ومرة للجر، ويتنقل بين كل المواضع كوزير فاسد بكشف التنقلات الوزاري الجديد، بحكومة تعشق تدوير نفاياتها، في بلاد تجاوزها العالم، وتخطاها الزمن، فلم يبق لها إلا تاريخ غابر. تنكص إليه، وتتمسك به؛ لتبرر به حاضرها البائس.
لقد رآه بعض الشهود وهو يرمي بنفسه من على جسر المنشية في الثالثة صباحا، ما يطابق الزمن التقديري لوقت الوفاة.
ظلت تلك العبارة هي «حتى» الخاصة بي.
ربما لهذا دلالة ما؟
ما هي؟!
لمع خاطر في ذهني فجأة، فتوقفت بالسيارة إلى جانب الطريق، وبسرعة رحت أبحث عن هاتفي المحمول، ثم رحت أقلب في سجل المكالمات الواردة.
حتى وجدتها.
المكالمة الأخيرة التي وردتني من «عمار»، كان وقت المكالمة في الرابعة والنصف صباحا.
يقول الشهود إنهم رأوه يقفز في الثالثة صباحا.
تقرير الطبيب الشرعي يؤكد أقوال الشهود في أن الوفاة قد حدثت في الثالثة صباحا.
ظلت تلك الجملة تتردد في ذهني، منذ نطق بها الشرطي، يبدو أنني قد تنبهت للمفارقة بطريقة لاواعية، بينما تخطاها ذهني المرهق وقتها.
ما معنى هذا؟
يعني هذا أنه توفي، ثم قام شبحه بالاتصال بي بعد ساعة ونيف.
أو قد يعني - ببساطة - أن أقوال الشهود والتقرير الشرعي كاذبة!
لماذا يكذب الشهود؟! •••
قال الدكتور «أحمد الماحي»، وهو يرشف الشاي: «أعتقد أنك أصبت بالبارانويا أخيرا يا صديقي.»
قلت، وأنا أعبث في درج مكتبي بلا داع: «ما زلت أعتقد أنه ليس من عينة الأشخاص الانتحاريين.»
قال: «قلت إنه أحب هذه الفتاة، ما اسمها؟» - «هبة.» - «نعم. قلت إنه أحب «هبة» هذه جدا، يبدو هذا سببا قويا لانتحاره، لو أردت رأيي. تعرف الطريقة العاطفية الحمقاء التي يفكر بها هؤلاء العشاق، «لقد تزوجت حبيبتي فتبا لكم جميعا». كان لدينا مريض منذ فترة في قسم الكسور رمى بنفسه من أحد أعمدة الضغط العالي؛ لأن حبيبته لا ترد على اتصالاته.» - «يا إلهي. وهل هو بخير الآن؟» - «نعم، قمنا بتخريجه منذ بضعة أيام، لكننا أبلغنا الشرطة، وقام هؤلاء بفتح بلاغ جنائي ضده بتهمة الشروع في الانتحار. سيواجه أوقاتا عصيبة عندما يتسلى حضرة الصول بصفعه على سبيل الملل وتزجية الوقت، قبل أن يحيلوه للسجن العام. ستتبخر كل مشاعره المرهفة وسيلعن اليوم الذي عرفها فيه.»
كنا جالسين في عيادتي، وقد زارني زميلي الدكتور «أحمد» عندما علم بقدومي للمستشفى، جلسنا نرشف الشاي. وحكيت له - باختصار شديد - عن القصة، ونقلت له شكوكي الخاصة من قضية الانتحار.
قلت في شرود، وأنا أفتح الدرج وأعيد أغلاقه مرارا: «لكن ليس هذا الشخص. هذا شخص عرف أنه قد فقد عائلته وكامل عشيرته في لحظات، وبرغم هذا خرج من مكتبي بخطوات واثقة ووجه هادئ. لماذا يقتل نفسه بسبب زواج الفتاة؟ أعرف أنه أحبها جدا، لكن ليس لدرجة تخليه عن حياته.» - «ربما كان تأثير وفاة أهله عليه قويا، وإن لم يبد عليه ذلك، وكان زواج تلك الفتاة هي القشة الأخيرة التي جعلته يقرر الانفجار، أنت أعلم مني بهذه الأشياء، وتعرف تراكمات الضغوط النفسية على الشخص.»
قلت بنفس الشرود: «وماذا عن أقوال الشهود وتقرير الطب الشرعي الخاطئ عن وقت الوفاة؟! أليس هذا مريبا بما يكفي؟» - «لا أحبذ نظرية المؤامرة، أعتقد أن القصة أكثر ببساطة مما تعتقد. إن تقرير الطب الشرعي لا يعطي الوقت الحقيقي للموت، ولكنه وقت ترجيحي. يوجد هامش للخطأ يصل لساعات وأحيانا عدة أيام، فلا بد إذن أنهم قالوا إن الوفاة حصلت في هذا الوقت استنادا إلى أقوال الشهود.» - «حسنا. ولماذا يكذب الشهود؟»
ابتسم ابتسامة عريضة، وهو يضع قدح الشاي على الطاولة، قال لي، وهو يميل إلى الأمام، كأنه يحادث طفلا: «لن أسميه كذبا، لا يوجد أحد سيرى شخصا يقفز من جسر، فينظر إلى ساعته ويدون الوقت، لا بد أن توتر الموقف جعلهم لا ينتبهون للوقت الحقيقي.»
قلت في إصرار: «سيكون هناك اختلاف في رواياتهم على الأقل، لا أن يكون هناك اتفاق على أنها الثالثة تحديدا.»
قال في نفاد صبر: «هناك تفسير معقول غير المؤامرة، أنا واثق من هذا.»
ثم نظر في عيني بتركيز، وأضاف في فضول: «لكن دعك من هذا، وأخبرني: لماذا تهتم بقصة هذا الفتى إلى هذا الحد؟»
قلت له في صدق: «حقا لا أدري».
قال ضاحكا: «حتى أنت يا بروتوس. الدكتور جمال عبد الرحمن شخصيا وبخبرته الطويلة في علم النفس لا يستطيع فهم نفسه! إذن فليمت قيصر.»
قلت: «إن النفس البشرية لا تزال لغزا محيرا بالنسبة لنا، وما زال علم النفس طفلا يحبو ويحاول الفهم. تشبه دغلا متشابك الأغصان، كلما أضأنا منه جزءا واجهتنا أجزاء أخرى أكثر تشابكا وغموضا، لم نر بعد إلا الجزء البارز من جبل الجليد. لكن أعتقد أنني ربما أشعر نحوه بالتزام أدبي ما.»
راح الدكتور «أحمد» يتحدث، بينما كنت أتابعه بنصف ذهن، لا بد أن ساعة قد مرت قبل أن أسمعه يتمتم بعبارات وداعية، ويقول شيئا عن مرضى نسي عنهم كل شيء وعليه العودة، ودعته ثم عدت للجلوس خلف المكتب شاردا.
رن جرس الهاتف فجأة حتى أجفلت، رددت على الهاتف متوجسا (لا أدري لماذا). - «ألو.» - «هل هذا رقم د. جمال عبد الرحمن؟» - «نعم.» - «أنا إبراهيم.» - «إبراهيم من؟» - «إبراهيم آدم، صديق عمار. لقد زرتني في المنزل قبل يومين.» - «إبراهيم، اعذرني لوقاحة جهلي. هل تحصلت على عنوان أي من أقربائه بعد؟»
صمت للحظات، بدا أنه متردد فيما يقول، قال بصوت بدا لي غريبا: «لا، ليس بعد. أردت الحديث معك بخصوص شيء آخر. هل يمكننا أن نلتقي؟»
سألته بحذر: «تريد الحديث بخصوص ماذا؟» - «بخصوص عمار.» - «ماذا عنه؟»
صمت أطول. ثم قال بنفس الصوت الغريب: «عمار لم ينتحر يا دكتور. لقد تم قتله!»
الفصل الرابع
البيت
إنهم يبايعون الشيطان نفسه.
يعملون لإقامة بلاد المازونية، أو الماسونية في أرض السودان.
لا يذكر الاسم جيدا، لكنهم سيعبدون الشيطان على أية حال. ***
الخميس: 3 أكتوبر 2013م
بعد الرابعة والنصف صباحا لا يستطيع «مجاهد» النوم مجددا.
لذلك كان يشعر بقمة النشاط، بعد أن انتهى من تنظيف الحافلة، وراح يقلب عينيه مزهوا بما أنجزه في مملكته الصغيرة هذه.
جلس على كرسي السائق، وأدار المحرك.
انطلق صوت الهدير المعدني الواثق المطمئن برزق يوم جديد.
راح يقلب في صندوق القفازات بحثا عن شريط الكاسيت المناسب لبدء اليوم. أغاني الأعراس الشعبية، محاضرات محمد سيد حاج، مصطفى سيد أحمد، محمود عبد العزيز، أغاني أثيوبية متنوعة، صولات الربع.
نعم، هو محمود.
تنساب الموسيقى من جهاز الكاسيت، بينما يتحرك هو بالحافلة في الضفة الوعرة بحذر. كان يسير بمحاذاة أسفل كبري المنشية، عندما تذكر شيئا فجأة.
لماذا لا يلقي نظره على ذلك الشيء الذي أسقطه الرجلان الغامضان في النيل قبل نصف ساعة؟!
إن الفضول يغمره، سيلقي نظرة خاطفة، ثم يعود أدراجه. وقد انتهى من التنظيف مبكرا على أية حال، وما زال أمامه بضع دقائق لينفقها.
الحافلة تتهدج في الطريق الوعر بمحاذاة النيل، بينما راح يرمق الضفة على يساره في فضول.
لا شيء بعد خمس دقائق.
قرر الرحيل. لا بد أن الموج قد ألقى به بعيدا على أية حال.
أعاد ناقل الحركة للخلف، وراح يرجع ببطء ليصل للطريق الممهد الصاعد للشارع الرئيسي، عندما لمح شيئا على الضفة.
أوقف الحافلة وراح يشرئب بعنقه، لكن زاوية الرؤية لم تكن واضحة، فقد كان مختفيا خلف بضع شجيرات على ضفة النيل.
هكذا ترجل من مقعده، واقترب من الضفة الطينية أكثر.
سر الغرام نبع الحنان
قمرية في قلبي الودود
غنت على سمع الزمان
من وحي إلهام الخلود
إحنا التقينا على أمل
فعلام هجران الصدود؟
كانت قمامة فعلا!
كتلة متمازجة قبيحة من القماش والألوان والأكياس البلاستيكية، تتموج علوا وهبوطا مع تيار الماء، لكنها ظلت ثابتة في مكانها، بعد أن اشتبكت بأفرع بعض الشجيرات على الضفة.
لم تكن الرؤية واضحة جدا، كان ضوء الشمس يتسرب باهتا، لكن ظلمة الليل كانت لا تزال أكثر انتشارا.
لم تكن الرؤية واضحة جدا، فلم يتذكر الحد الذي اقترب منه. لكنه يتذكر أنه، وفي التالية، كان قد سقط على الأرض، وهو يصرخ بلا انقطاع.
لا بد أن ساقيه كانتا تملكان عقلا خاصا بهما ؛ لأنه لم يفكر كثيرا عندما وجد نفسه يجري في رعب في الاتجاه الآخر.
يثب فوق الحفر الطينية، فتنزلق قدمه ويسقط بوجهه على الأرض الطينية، لم يهتم ببصق فضلات الطين من على فمه، وهو يعاود الجري ويتفادى الحشائش النامية متجها للشارع العام.
كان يجري ويصرخ في هستيريا؛ لذلك بدا له ما جال في خاطره سخيفا جدا في تلك اللحظة. «المروحة تحتاج بعض الزيت.»
عليه ألا ينسى ذلك.
1
قال «إبراهيم» وهو يفتح قارورة «العرقي» الثانية، ويصب بعضا منه في كوب زجاجي: «سأحكي لك كل شيء، فلا تقاطعني من فضلك.»
كان في الميدان المظلم خارج المنزل عندما وصلت، جالسا على إحدى الإطارات المدفونة طوليا في حواشي الميدان، ويحتضن قارورة الخمر في شرود.
جلست جواره في صمت.
كان رأسي يضج بالحيرة، ولساني يحتشد بالأسئلة، لكنني قررت أن التزم الصمت؛ حتى أستمع إلى ما سيقوله أولا. مد لي الكوب الزجاجي بدعوة صامتة فرفضت عرضه بهزة من رأسي، جرع محتويات الكوب مرة وحدة، تقلص وجهه، وهو ينفث من بين أسنانه، ثم عاد لهدوئه، وراح يصب المزيد في الكوب. - «بدأ الأمر في النصف الثاني من سبتمبر، عندما بدأنا نسمع أحاديث هامسة في الجامعة عن نذر انتفاضة شعبية تلوح في الأفق.
قالوا إن بعض الشباب في ود مدني قاموا بعمل تجمعات ليلية، وحرق بعض الإطارات في الأحياء وفي الشوارع الرئيسية. قالوا إن الأمر بدأ يصبح جديا، حتى إن الشرطة تدخلت عدة مرات، وقامت بفض عدة تجمعات هناك.
كانت الخرطوم تترقب في حذر.
كان عمار قد بدأ في عمل بعض اللقاءات السرية مع بعض الطلاب بالجامعة وجامعات أخرى، لحشد أكبر كمية من الشباب، لتشكيل لجان في الأحياء السكنية، إذا ما انتقلت الشرارة من الجزيرة للخرطوم، وهو ما كان يتوقعه.
كانت الخطة بسيطة؛ أن تقوم كل مجموعة باستقطاب الشباب المقيمين في الأحياء المجاورة لأماكن إقامتهم، لتكوين لجنة للحي، ومن ثم تقوم هذه المجموعة باستقطاب آخرين في أحياء أخرى، وهكذا. وسيلة فعالة لضمان انتشار الفكرة بأسرع ما يمكن. يشبه الأمر نظام التسويق الشبكي الذي كان منتشرا منذ فترة. هل تعرف التسويق الشبكي؟
لا.
أين كنت تعيش؟ كهوف قندهار؟ هه هه.
التسويق الشبكي عندما تبيع منتجا ما مقابل عمولة من الشركة، وعندما يقوم زبونك ببيع المنتج لآخرين، تحصل أيضا ع...
قاطعته بنفاد صبر: «لا يهمني أن أعرف ما هو، أرجو أن تستمر في قصتك.» - «قصة التسويق الشبكي؟» - «عمار، لجان الأحياء.»
ظل ينظر لي بعينين مخمورتين لثوان مبتسما في بلاهة، وكأنه لم يسمعني، ثم قال فجأة كأنه لم يتوقف: كان عمار يعتقد أن الكل متحفز ويتأهب للمشاركة في الانتفاضة، فقط هم يحتاجون إلى دفعة أولى، أن يروا أشخاصا قد خرجوا للشوارع فعليا، عندها ستحرك بقية التروس في الماكينة، وستنطلق الانتفاضة الشاملة.
كانت مهمة اللجان أن تكون هي الشرارة الأولى التي تخرج للشوارع. كانت الخطة التي وضعها «عمار» بأن يقوموا بالتنسيق مع بقية اللجان المجاورة؛ لعمل تجمعات صغيرة تعتمد على تكنيك الكر والفر والمسيرات القصيرة، وأن تنشأ بالتوازي في مناطق مختلفة من الخرطوم؛ لتشتيت أفراد الأمن وإرهاقهم.
تولى «عمار» مهمة تنسيق التواصل بين هذه المجموعات، وتحديد أوقات وأماكن التجمعات؛ حتى لا يحدث تضارب بينها، وكانت مهمة «محمود» تحديد أماكن التجمع، واختيار بيوت آمنة للانسحاب والتقاط الأنفاس في حالة مهاجمة المظاهرة.
في تلك الفترة لم أعد أرى عمار.
اختفى تماما، لم يعد يحضر للمنزل أو للجامعة للمحاضرات.
المرة الوحيدة التي رأيته فيها لثوان كان برفقة ذلك الطالب اللزج «محمود» أحد طلاب العلوم السياسية بجامعة النيلين، كان معجبا بعمار وطريقته الحماسية في الخطابة، ويحضر دوما حلقات النقاش التي يقيمها بالجامعة، لكن علاقتهما وقتها لم تتعد السلام من بعيد وهزات الرأس. فجأة أصبح صديقه الحميم، وأصبح يلازمه كظله.
حتى «هبة» حبيبة القلب لم تعد تراه، قابلتني في نشاط الجامعة بعد أيام وجلسنا نشرب الشاي، كانت بادية القلق، قالت لي إنها لم تعد ترى «عمار» في الجامعة، ولم يعد يتصل بها أو يرد على اتصالاتها، أو رسائلها. قالت لي إنها تخشى أن يكون قد أصابه مكروه ما.
لا أخفي عليك يا دكتور: إنني بدأت أشعر ببعض الحنق تجاهه، لقد بدأ يتجاهلني ويخرجني من دائرة اهتمامه. كنت صديقه الوحيد بالكلية وتوقعت أن يأتمنني على أسراره في تلك الفترة، لا أن يتجاهلني، ويبدأ في التسكع مع هذا ال «محمود». لم يكن هذا مفهوما بالنسبة لي.
لن أقول إنني شعرت بالغيرة؛ حتى لا يبدو شكل العلاقة غريبا، لكنني كرهت «محمود» جدا.
قلت لها: إنه بخير، لكنه منشغل في شيء ما، قلت لها كاذبا إنه أوصاني بأن أطمئنها، وأخبرني بأنه سيتصل بها قريبا. فلا داعي للقلق. قالت إن هناك شيئا مهما للغاية تريد الحديث معه بخصوصه، وطلبت مني أن أخبره أن يتواصل معها في أقرب فرصة، شيئا ما عن والدها وضغوط أسرتها، لم أفهم شيئا مما قالت؛ لأنها انفجرت بالبكاء مع بداية حديثها ولم أفهم حرفا.
ثم بدأ الأمن في حملة الاعتقالات مبكرا؛ تحسبا وخوفا من انتقال العدوى للخرطوم، استهدفوا قيادات الأحزاب والنشطاء الميدانيين، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كذلك، كانوا يداهمون المنازل ليلا ونهارا.
في ذلك اليوم كنت عائدا من الجامعة، عندما وجدت سيارة البوكس الحكومية الزرقاء تقف أمام السكن الداخلي، قاموا باعتقالي واقتيادي لأحد المراكز الطرفية بالعاصمة. وهناك قال لي قائدهم الضخم الجثة إنهم يعرفون أن «عمار» متورط في تكوين جماعات سرية؛ بهدف تحريض الغوغاء وبعض ذيول التمرد والخلايا النائمة للخروج للشوارع، وتخريب ممتلكات الدولة وإشاعة الفوضى. قال إن الدولة تعتبره مارقا وشخصا خطرا. قال إنهم يريدون مني مساعدتهم في الوصول إليه.
وعندما قلت لهم إنني لا أعرف مكانه، ولا كيفية الوصول له قاموا بتهديدي، عرضوا علي صورا لقريتي، قالوا لي إنهم يعرفون مكان إقامة والدتي وأخي الصغير، يعرفون أسماءهما الثلاثية، وتاريخ ميلادهما ومكان بيتي، يعرفون شيخ «مبارك» إمام المسجد، و«صلاح» راعي الماشية و«هارون» صاحب البقالة المتهالكة، وحاجة «فاطمة» التي تبيع القدوقدو والكول والتركين، وعم «جمعة» المجنون الذي يجري في شوارع القرية، ويسيره الأطفال بالطوب وروث البهائم. يعرفون كل هؤلاء.
قالوا لي إنني سأكون مسئولا عن أي مكروه يصيبهما ، إذا لم أتعاون معهم. - «لن تسمح بأن تتأذى الوالدة التي حملتك في بطنها تسعة أشهر. لست ابنا عاقا. أليس كذلك؟»
وعندما خرجت في اليوم التالي، عرفت أنني سأفعل ما يريدون.
بالطبع لا حاجة لأن أقول لك إن الانتفاضة اندلعت في الخرطوم بعدها بيومين، وكلنا نعرف تفاصيل المسيرات اليومية لطلاب الثانوي والجامعات، وتوتر الأوضاع والأرواح التي أزهقت.
توقفت عن الذهاب للجامعة، وبدأت ألازم المنزل.
ثم بدأ الحديث همسا عن جمعة قادمة يحتشد فيها المتظاهرون بحشود ضخمة، نوع من الضربة القاصمة التي ستوحد الجميع وترعب الأمن، وتجذب أنظار العالم الخارجي لسوء الوضع؛ حتى لا تطلق الحكومة يدها في قتل الجميع بجنون. وبقليل من الحظ والإصرار سيحدث التغيير المنتظر.
أسموها جمعة الشهداء، تكريما لأرواح العشرات الذين ماتوا في الأيام السابقة.
وفي يوم الخميس السابق لها وردتني مكالمة هاتفية من «عمار».
قال لي إنهم يحشدون ليوم الجمعة، وإنهم سيتجمعون في ميدان الرابطة في شمبات، كان يبدو قلقا متوترا من نبرة صوته، وطلب مني أن أوصل رسالة خاصة ل «هبة»؛ لأن هاتفها لا يعمل منذ أيام، وأنه يشعر أنها تتجنبه.
كان منزعجا للغاية، شعرت أن هنالك شيئا ما يدور ولا أفهمه.
طلب مني كذلك أن أخبر الزملاء في السكن الداخلي أن يساندوا إخوانهم يوم غد، وأن يلتحقوا بهم في الميدان.
أغلقت الهاتف متوجسا، كنت أتمنى ألا يتصل بي أو يظهر مجددا، لا أريد أن أخوض مثل هذا الصراع مع نفسي.
هل أبلغهم بمكان وجوده غدا؟ كل ذرة من جسدي تصرخ رفضا.
ماذا لو قاموا بتنفيذ تهديدهم فعلا، وحصل مكروه ما لأمي وأخي؟ لن أستطيع العيش مع نفسي مجددا.
ظللت طيلة الليل أتقلب في فراشي وأفكر في الذي سأفعله، وعندما بدأ ضوء شمس الصباح يتسرب من الخارج، كنت قد حسمت أمري.
قلت للضابط بالهاتف إنني أعرف مكانه، وإنني أريد ضمانات أنهم سيتركونني وشأني بعد هذا، ولن يمسوا أحدا من أسرتي بسوء.
قال لي في إخلاص: إنهم لا يهتمون بي أو بأسرتي، لا يريدون سوى «عمار». قال لي إنني أفعل الصواب، وأخدم بلدي كأي مواطن صالح.
توقف «إبراهيم» عن مواصلة السرد، ورمى بزجاجة الخمر الفارغة، ثم أخرج ثالثة من خلف الإطار الذي يجلس عليه.
بدا لي أن الجملة الأخيرة التي نطق بها قد أثرت عليه بشكل خاص، فقد ظل ساهما للحظات، وهو يفتح القارورة ويسكب محتوياتها في الكوب بطريقة آلية.
سألته: «وماذا حدث بعد هذا؟»
ظل صامتا للحظات، وقال وهو يهز الكوب في رفق، دون أن ينظر لي: «أخبرتهم بأنه سيكون في الميدان غدا.»
قلت له مشجعا: «لن أستطيع أن ألومك حقا، لربما فعلت نفس الشيء لو كنت في مكانك.»
نظر لي ساهما، وبدا واضحا أن كلامي قد منحه شيئا يتشبث به، سألني: «حقا؟» - «بالتأكيد. لقد وجدت نفسك في موقف شديد الحساسية، إما هو أو أسرتك. أستطيع تفهم خيارك الذي اتخذته بعد كل شيء.»
هز رأسه في بطء ساهما، وكأنه يؤكد على كلامي، وجرع جرعة سخية من الشراب. عيناه الحمراوان تتلألآن بغشاء دموع رقيق يعكس الأضواء الخافتة المتناثرة من البيوت المحيطة بنا، وقد ارتسمت على ملامحه الأنثوية تقاسيم تشي بعمق ما يعانيه، يحملق في وجهي وهو لا يراني، ينظر خلالي إن صح التعبير، بدا واضحا أنه يرى ذكرياته ماثلة أمامه في تلك اللحظة. قال: «أتمنى أن أستطيع تبرير نفسي بما تقول، لكنني لا أصدق هذا، كان بإمكاني إيجاد حلول أخرى، لو لم يشل الخوف تفكيري إلى هذه الدرجة.»
على أية حال، خرجنا بعد صلاة الجمعة في مجموعات صغيرة، واتجهنا إلى ميدان الرابطة في شمبات، كان المتظاهرون بالمئات، وخلال ساعات تدفق المزيد والمزيد.
ارتفعت عشرات اللافتات المنددة، وتعالت مئات الأصوات، ومن مكان ما ظهر أحدهم يطلق بعض الهتافات، وتبعه البقية يرددون الهتاف ويتبعونه بتصفيق إيقاعي قصير منتظم. «حرية»، «حرية»، «حرية».
كنت أنا و«عمار» و«محمود» ومجموعة كبيرة من زملاء الجامعة نتوسط التجمع ونردد الهتافات. وفي لحظات أحاطت قوات الأمن بالميدان وبدأت قنابل الغاز تتساقط على الجميع كالمطر.
لا أستطيع أن أجزم ما الذي حدث بالضبط، فقد حدث كل شيء بسرعة.
أذكر أنني سمعت صوت رصاص يطلق بغزارة، ساد هرج ومرج وبدأ الجمع في التزعزع. وبدأت أصوات الهتافات والصراخ في التداخل، فلم أعد أفهم حرفا.
صبي يرتدي الفانلة الداخلية، وقد ربط قميصه على وسطه، يحمل أحجارا وراح يقذفها على سيارات الأمن، انحنى ليحمل حجرا آخر، ثم سقط منكفئا على وجهه.
في لحظة كان حيا، في اللحظة التالية همدت حركته، وتكوم على الأرض دون أن ينطق حرفا، وكأنك نزعت القابس فجأة.
فإذن كان هذا هو الموت!
وكأنني أشاهد عرضا سينمائيا ما، راح الشباب يتساقطون كالذباب، يدوي صوت الرصاصة، ثم يسقط أحدهم، ثم آخر، ثم آخر.
وبدا أن الأمر لن ينتهي.
كان دخان الغاز يتكاثف في الميدان، بينما لا زالت القنابل تتساقط في سخاء، وتعالت أصوات السعال، وأصوات الاختناق، وراح بعض الأشخاص ينزعون ملابسهم في جنون، بعدما احترقت عيونهم وشعبهم الهوائية بفعل الغاز.
حدث كل هذا في لحظة، وفي اللحظة التالية بدأ الجنون.
كان الجميع يركض في الأنحاء بلا هدى.
توقف رجل أربعيني في منتصف الميدان يصرخ في الجموع التي راحت تتدافع حوله، ويدعوهم لعدم الهروب، لكن بدا ألا أحد يستمع أو يعيره انتباها.
ووجدت نفسي أجري بلا تفكير. أمامي شاب ساقطا على ظهره، وقد تحول صدره إلى كتلة ضخمة من الدماء، لم أكن أعرف أن جسد الإنسان يحتوي كل هذا القدر من الدماء. قفزت من فوقه مواصلا الجري.
أصوات الصراخ والاختناق لا تطاق.
كنت أجري مع مجموعة صغيرة؛ للوصول لأحد الأحياء المحيطة بالميدان، ولا أسمع سوى صوت لهاثي. لا أثر لعمار أو محمود.
آخر الميدان، فالترعة، فالشارع الرئيسي.
ومن لا مكان ظهرت سيارة مكافحة الشغب كالكابوس وهي تسد الطريق، ورأيت الجنود يقفزون منها بسرعة، وهم يحملون الدروع الزجاجية الضخمة يحتمون خلفها، ويوجهون فوهات بنادقهم نحونا في تحفز. «لا فائدة من الجري» قلت لنفسي، عرفت أنهم سيطلقون علي الرصاص في ظهري فورا لو حاولت الهروب، هكذا خررت على الأرض على ركبتي رافعا يدي للأعلى مستسلما.
لا فائدة من المقاومة أو أي محاولات بطولية. لا أريد أن أموت اليوم.
كنت متعرقا بشدة، مرهقا بشدة، وألهث ككلب مشرد في يوم قائظ لا ظل فيه. أشعر بأن بقايا دخان قنابل الغاز يحرق أمعائي، أريد هواء، أريد أن أتنفس يا ولاد الكلب.
وعندما عبرت العربة المدرعة جسر القوات المسلحة، وتوجهت ناحية موقف شندي، لم أكن أعرف أنني سأرى أحد بيوت الأشباح للمرة الأولى في حياتي.
2
كان منزلا أرضيا عاديا كأغلب المنازل السودانية، مجموعة من الغرف المبنية بالطوب الأحمر، تتناثر على طول جدران المنزل، وحمام خارجي وحوش كبير في المنتصف.
كنا خمسة أشخاص، أنا و«عمار» و«محمود» طالب العلوم السياسية، وشاب آخر لا أعرفه، وبيننا شيخ كبير في السن، عرفت فيما بعد أنه أحد أعضاء حزب شهير من أحزاب المعارضة، اعتقلوه من أحد ميادين الخرطوم في مظاهرة أخرى، يبدو أنه أصيب فيها؛ فقد كان الدم الجاف يغطي نصف جلبابه العلوي، لكن هذا لم يمنعهم من ضربه بالخراطيش في رأسه وظهره بعنف، وهم يشتمونه بأشنع الألفاظ.
كان الجلادون يرتدون طواقي قطنية تغطي وجوههم ما عدا فتحة للعينين والفم، فلم نستطيع أن نميز منهم أحدا، أوقفونا في الحوش الخارجي، وطلبوا منا أن نقف ووجوهنا قبالة الحائط، وراحوا يضربوننا في ظهورنا بشكل عشوائي بما يتوفر في أيديهم من خراطيش وسيطان، وبعض العيدان الخشبية، مع سيل من الشتائم العنصرية والمهينة.
كانوا يضربوننا في غل.
يضربوننا في كراهية.
يضربوننا في حقد.
وبطرف عيني كنت أرى «عمار» يقف قبالة الحائط صامتا، وقد أغمض عينيه وهو يزم شفتيه في قوة، برغم كل هذا الضرب لم ينطق بحرف، برغم أننا كلنا كنا نصرخ ونتلوى، وقد أثار موقفه هذا حفيظة الجلادين فراحوا يخصونه بالضرب، ويتكالبون عليه دوننا، حتى إن بعضهم كان يشعر بالتعب فيتوقف قليلا، فيواصل الجلاد الآخر المهمة عنه.
أطلق الشيخ أنينا خافتا، ثم تهاوى على الأرض وفقد الوعي، فحملوه كالخراف وألقوه في جانب الحوش، ثم عادوا لضربنا.
بعد عشر دقائق - مرت كأنها دهور - توقف الضرب فجأة، وسمعت صوتا جهوريا خلفي: «ديل مالهم يا عسكري؟»
قال العسكري في احترام واضح من نبرة صوته: «قبضناهم في مظاهرات اليوم سعادتك، الداخلية موصية عليهم، كانوا راصدين تحركاتهم من فترة.»
مرت لحظات ثم أمرنا بالاستدارة، واستدرنا أربعتنا، فرأيت ذلك الرجل يقف قبالتنا ويداه معقودتان خلف ظهره، كانت إضاءة المصباح الكهربائي الذي ينير الحوش تأتي من خلفه، وتغرق وجهه في الظلام، فلم تكن ملامحه واضحة جدا.
طيلة فترة إقامتي في المعتقل لم أعرف اسمه الحقيقي، فقد كان الجلادون دوما ينادونه باسم «سعادتك» فقط.
قال بصوت جهوري: «انتو العاملين شغب، وبتطلعوا الشوارع وتحرقوا في الطرمبات، وتطالبوا بإسقاط الحكومة؟! قايلنها فوضى.»
قدرت أنه يمثل دورا قياديا في المكان، فقد وقف الجلادون جواره في شيء من الاحترام، وبطريقة عسكرية متصلبة نوعا ما، قدرت أنه الرتبة الأكبر كذلك.
فيما بعد عرفت أنه ضابط برتبة كبيرة في الأمن، وهو المسئول عن مجموعة من «بيوت الأشباح» في الخرطوم، ويشرف شخصيا على تعذيب الناشطين والمعارضين الذين يتم اعتقالهم، في حالة وجود معلومات حساسة عند المعتقل، لذلك يقومون باستخراجها تحت وطأة التعذيب، بأسرع طريقة، بعيدا عن الأساليب القانونية التي تتطلب وقتا، بالإضافة أنها تكون تحت الرادار، وبعيدا عن نظر المنظمات الحقوقية، والمؤسسات المدافعة عن حقوق الإنسان.
تقدم «سعادتك» نحونا بخطوات هادئة، ويداه لا تزالان معقودتان خلف ظهره، كأنه قائد عسكري يتفقد صف جنوده، ومر أمامنا وهو يحملق في وجوهنا عن قرب، كانت له لحية بيضاء قصيرة، وكرش منتفخ قليلا، ويحمل مسبحة في يديه المنعقدتين خلف ظهره، وشفتاه تتمتمان بالتسبيح بصوت خافت، ثم توقف أمام «عمار» للحظات، وهو يتفرس في ملامحه، ثم سأله بصوت هادئ ولهجة ساخرة قليلا: «عارف بنعمل في الخونة والمأجورين البحاولوا يزعزعوا الأمن شنو؟»
كان «عمار» منهكا، وشعرت أنه يبذل جهدا للاحتفاظ برباطة جأشه وهدوء ملامحه. كنت أعرفه جيدا، وعرفت أنه يفعل ما في وسعه حتى لا يظهر لهم انهزامه أو خوفه أو حتى تأثره بما حصل، ويبدو أن هذا ما جعل هذا ال «سعادتك» يتوقف أمامه دونا عن الباقين.
ولمعت في عقلي ذكرى ذات يوم، ونحن في نشاط الكلية نرتشف القهوة، قال لي: «لا تستهن أبدا بقوة المسجون الأعزل في مواجهة سلاح السجان، أنت لست ضعيفا كما تعتقد، فالإيمان بالحق قوة هادرة تكتسح كل ما أمامها، فقط إن أنت آمنت بقضيتك، ولرب صرخة ثائر أعزل يواجه أسلحة الظلم بصدر مفتوح، ترتجف لها أفئدة من باتوا في قصورهم مدججين بالسلاح، ولا مناص.
فلا تخيفنك المشقة. ليس صاحب القضية كالمأجور للدفاع عمن سلب قضيته. هي معادلة الحق والباطل الأزلية، كما طرحتها فلسفة «جان جاك روسو» أن القوة لا تؤسس الحق، بينما يؤسس الحق للقوة وإن لم تكن مادية، وكما عبر عنها النص القرآني
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون .
فصاحب الحق له اليد العليا بحكم أصالة قضيته وإيمانه بها، وهو عين ما نطق به العظيم «محجوب شريف» ذات يوم:
مساجينك مساجينك، نغرد في زنازينك
نغني ونحن في أسرك، وترجف وأنت في قصرك
فإنك إن قضيت على خوفك انتصرت على السجان. وما أهازيج نصرنا إلا دماؤنا المسفوحة على قارعة الطرقات.»
يقف أمام كبير الجلادين في تحد ووجه بارد خال من أي تعبير، ولما لم يرد انهال عليه أحد الجلادين بالخرطوش، وهو يصيح بغلظة: «رد على السؤال.»
رأيت «عمار» يمسك الخرطوش بيده، قبل أن يصل إلى جسده، وهو يرمق الجلاد بنظرة نارية، لم أستطع رؤية نظرته جيدا، لكنني عرفت أنها أخافت الجلاد حقا، ارتج جسده، وتراجع خطوة للخلف، وعيناه متسعتان كأنه تلقى صفعة.
ثم «يا ابن الشرموطة.»
وتكالبوا عليه صفعا وركلا، حتى سقط أرضا.
قال «سعادتك» وهو يوجه حديثه لبقيتنا متجاهلا ما يحدث: «ما بنقبل إنو أي صعلوك عاطل محرشنو الشيوعيين، يحاول يلعب في أمن واستقرار البلد دي، ويفرض أجندته علينا بالفوضى، ده خط أحمر.»
ثم جمع المسبحة بكلتا يديه ومسح على وجهه، وأشار إليهم بأن يضعونا في الزنازين، ما عدا «عمار» الذي سيوضع في زنزانة انفرادية «عشان يتروق» بحسب تعبيره.
توقف «إبراهيم» عن الحديث؛ إذ جرع جرعة كبيرة من الشراب. تقلص وجهه مجددا للحظات، وهو ينفث الهواء من بين أسنانه؛ لتخفيف مرارة ما ابتلعه، ثم مسح على فمه بظاهر يده اليسرى.
قال، وهو يصب المزيد من «العرقي» في الكوب الزجاجي: «كانت الزنزانة التي وضعونا فيها - ما عدا عمار، وذلك الشيخ الذي فقد وعيه - عبارة عن غرفة ضيقة جدا، لا تتعدى المتر والنصف طولا وعرضا، تفوح منها رائحة خانقة وكريهة للغاية.»
كنا نشعر بوجود مياه في الأرض، فقد كانت أقدامنا تغوص فيها حتى الكاحل، وبعد أن تعودت عيوننا على الظلام، أدركنا أننا في غرفة عالية السقف، بها نافذه عالية صغيرة بحجم قبضة اليد تدخل ضوءا شحيحا.
أدركت من الوهلة الأولى أن المياه هي مصدر الرائحة الشنيعة، فقد كانت عبارة عن خليط آسن من البول والبراز الطافي على وجه الماء، يبدو أنها مخلفات أشخاص كانوا قبلنا في هذا المكان، واضطروا لقضاء حاجتهم في مكانهم.
كان شعورنا بالتقزز عميقا وأقدامنا تغوص في ذلك المستنقع، حتى إن «محمود» أفرغ معدته، بينما أغلق الشاب الآخر أنفه بأصابعه، قلت له مرهقا: «لن تستطيع كتم أنفاسك للأبد، بعد قليل ستتعود أنفك على الرائحة.»
لم تكن مساحة المكان تسمح باستلقاء أي منا، فهي بالكاد تتسع لوقوف ثلاثتنا، دعك من استحالة الجلوس على ذلك الماء الآسن، لذلك أسندت جسدي على الحائط، وأغمضت عيني، وأنا أحلم ببتر قدمي التي تعوم في تلك القذارة، وأمضينا ليلتنا على هذا الحال، وكنت أغفو لثوان وأنا واقف في مكاني ثم أفتح عيني مفزوعا، ثم أعود فأغفو مجددا، حتى رأيت ضوء الفجر يتسرب عبر النافذة الضيقة.
مرت ساعات ونحن على هذا الحال، حتى كانت العاشرة صباحا، فأخرجونا للذهاب لدورات المياه، ثم أعادونا مجددا للزنزانة، وبعد ساعات أخرجونا للحوش الخارجي، وأجلسونا القرفصاء تحت الشمس الحارقة لساعتين، كانوا خلالها يمرون بنا ويتسلون بشتمنا، أو ركلنا أو ضربنا بالخرطوش، ثم أعادونا للزنزانة مجددا، وظللنا على هذا الحال حتى صباح اليوم التالي.
ومع بزوغ شمس اليوم التالي سمعنا صوت مزلاج الباب يزاح من الخارج، وظهر أحد الحراس، كانوا قد نزعوا أغطية الرأس التي تخفي وجوههم، توقف في الخارج حتى لا يطأ بقدميه المياه القذرة في الزنزانة، ثم شتمنا بألفاظ بذيئة، وقال في سخرية: «نتمنى أن تكونوا قضيتم ليلة هانئة في فندقنا، إذا احتجتم أي شيء لا تترددوا في الاتصال بخدمة الغرف.»
ثم أشار لي وأمرني بالخروج، فخرجت معه. كانت قدماي متشنجتان من الوقوف طوال الليل، لكنني رحت أسير معه في ممر طويل توزعت الغرف على جانبيه. وأمام إحدى الغرف رأيت حارسا بدا لي شكله مألوفا وقتها، أذكر أنني رأيته من قبل لكن أين؟
ثم توقف «إبراهيم» عن السرد، وقال مخاطبا إياي: «فيما بعد استطعت التذكر، كان الرجل الصاخب الذي رأيته في تظاهرات الجمعة بنفس يوم اعتقالنا.» - «تعني من الذين قاموا بفض المظاهرة؟» - «لا، بل كان مشاركا فيها. أذكره جيدا؛ فقد كان أحد الذين يتقدمون الصفوف ويبتدءون الهتاف ونحن نردد خلفه، وقد حاول إضرام النيران في إحدى محطات الوقود مع بعض المتحمسين بحجة أنها من ممتلكات الحكومة ويجب إتلافها، حتى أوقفه بقية المتظاهرين بالقوة.» - «تعني أنهم كانوا يبحثون عن ذريعة؛ لقمع المظاهرات بحجة التخريب؟!»
قال في برود: «هل لديك تفسير آخر؟»
هززت رأسي في صمت، وأشرت إليه أن يستمر في روايته، قال وهو يجرع المزيد من الشراب: «في آخر الممر جهة اليسار، كانت هناك غرفة ذات باب خشبي مختلف عن بقية الأبواب الحديدية المنتشرة في الممر، طرق الحارس الباب في أدب، ثم فتح الباب، وأمرني بالدخول، وأغلقه خلفي.»
كان «سعادتك» يجلس خلف مكتب خشبي كبير تناثرت عليه الأوراق، رآني فاتسعت ابتسامته ونهض يصافحني، وهو يقول: «أرجو أن تغفر لنا الضرب الذي تلقيته بالأمس، لكننا لم نستطع استثناءك كما تعلم؛ حتى لا تثير شكوكهم فيك.»
هززت رأسي بمعنى ألا بأس، وأنا مطرق للأرض دون أن أنظر إليه، قال: «أنت تقدم خدمة عظيمة للوطن، هؤلاء الكلاب الخونة يريدون إشاعة الفوضى وتخريب البلد؛ حتى نصبح كالبلدان المنكوبة التي غرقت في الفوضى حولنا. أنت لا تريد لبلدك أن تصبح مثل تلك البلدان أليس كذلك؟»
رفعت رأسي ونظرت له، وهو ينظر لي مبتسما. هل رأيت يا سيدي من قبل ذئبا يبتسم؟
حسنا، كان هو ذلك الشخص.
يرسم على وجهه ابتسامة عريضة محاولا تصنع اللطف، وينظر لي من فوق النظارة بعينين ضيقتين، لم تستطع الابتسامة إخفاء ما فيهما من شراسة، كانت هناك نظرة ساخرة تشيع من عينيه.
نظرة تقول بوضوح: أنت لست رجلا، لقد وشيت بأصدقائك، أيها الخائن الجبان؛ فلتتعفن في جهنم.
قلت له: «لا أريد ذلك.»
دار حول المكتب وجلس في الكرسي المقابل لي وقال: «سأضعك في نفس الزنزانة مع ذلك المدعو «عمار»، لديه معلومات تهمنا، أريد منك أن تعرف عدد لجان الأحياء التي كان يترأسها أو يشترك فيها، من كان يقوم بتعبئة الشباب للتظاهر؟ من كان يمولهم؟ أين يتقابلون؟ أريد أسماء وعناوين ومعلومات كاملة. هل تفهم؟»
هززت رأسي موافقا، فصرخ فجأة بصوت غاضب: «هل تفهم؟»
فزعت للحظة حتى ارتج جسدي من المفاجأة، تغير وجهه فجأة إلى النقيض، في ثوان اختفى اللطف، وتلاشت الابتسامة العريضة، ورحت أحدق في وجه شيطاني ونظرة يتطاير منها الشرر. حاولت أن أرد لكن خرج صوتي مبحوحا ضعيفا، فسعلت قليلا ثم قلت: «نعم، أفهم.»
لثوان راح يرمقني بذات النظرة الغاضبة، ثم - فجأة - عادت ابتسامته على وجهه، وعادت النظرة اللطيفة، أشعل سيجارة ومد لي واحدة، فاعتذرت. قال، وهو ينفث الدخان: «برغم كل شيء؛ فأنتم مثل أبنائي، هل تعلم أنه لدي ابن في مثل عمرك؟»
المزيد من الدخان. - «لا أحب العنف إلا مضطرا، لذلك أحبذ تجربة الوسائل السلمية أولا. أتمنى أن تستطيع إقناع صديقك بالتحدث؛ حتى لا أضطر لاستخراج الحديث منه بالطرق الصعبة.»
المزيد من الدخان. - «لديك حتى صباح الغد.»
عاد، وجلس خلف مكتبه، وقال مضيفا: «بلدك فخور بك. لا تنس ذلك.»
ثم نادى على الحارس خارج المكتب، فدخل وأدى التحية العسكرية، وخرجت معه.
رحنا نمشي في ذات الممر عائدين، قال لي الحارس، وهو يعبث في كيس التمباك، ثم يخرج «سفة»، ويضعها في شفته السفلى: «صاحبك دقس، سعادة خاتيهو في راسو. شكله بتاع كفاوي.»
ثم أضاف وهو يعيد كيس التمباك إلى جيبه، ويمسح على أطراف أصابع يده اليمنى بيسراه؛ حتى يتخلص من البقايا: «الله يستر.»
وصلنا إلى آخر الممر، ودلفنا إلى ممر جانبي، ثم توقف الحارس بجانب الباب الحديدي في آخر الممر، أخرج المفاتيح وعبث في القفل قليلا، وعندما انفتح الباب أمرني بالدخول، ثم أغلق الباب خلفي.
كانت الغرفة مظلمة، وتوقفت جوار الباب حتى تعتاد عيناي على الظلام قليلا، كانت زنزانة ضيقة، لكنها أكثر اتساعا من الزنزانة الأولى، أرضيتها جافة لحسن الحظ، لكن لا توجد بها نافذة واحدة، كانت قبرا إسمنتيا مصمتا، ما عدا بعضا من ضوء النهار يدخل شحيحا للزنزانة من أسفل الباب.
رأيت الجسد المكوم على الأرض في أحد زوايا الغرفة. كان «عمار».
هرعت إليه وانحنيت عليه، أسندت ظهري للحائط، ووضعت رأسه على فخذ رجلي.
وبرغم الظلام استطعت رؤية أن الدماء كانت تغطي كل وجهه تقريبا.
يتنفس بصوت عال مع صوت صفير ينبعث مع تنفسه، لا بد أن أنفه متهشم كذلك.
غمرنا - إذ جلسنا في الميدان - ضوء «ركشة» قادمة من الناحية الأخرى، ثم توقفت أمامنا، توقف «إبراهيم» عن الحديث، وقام بإخفاء زجاجة «العرقي» خلف إطار الشاحنة الذي يجلس عليه.
ترجل منها شابان من السكن الداخلي، توقفا وتحدثا قليلا مع «إبراهيم» عن مباراة ما سيشاهدونها في النادي القريب من المكان، بينما كنت أنا هائما مع أفكاري في شرود.
أستطيع أن أتفهم شعور «إبراهيم» بعد ما تسبب به لصديقه، لكنني لا أفهم سبب شعوري أنا الآن.
شعور غامر مؤذ بتأنيب الضمير يغمرني، ويعتصر قلبي بقبضة باردة لا ترحم.
أنا لم أشارك فيما حدث. ولم تكن لي به أي صلة.
فلماذا يؤنبني ضميري إلى هذا الحد؟ كأنه يلومني على ما اقترفته يداي!
بعد ثلاثين عاما في الطب النفسي أعجز أحيانا عن فهم نفسي، وطبيعة مشاعري.
لكنني على الأقل أعرف الآن أن «عمار» لم ينتحر.
أعترف يا سيدتي بأنني كنت مخطئا في كل ما يخصه تقريبا، لكنني أحسن الحكم على البشر، وهو لم يكن من نوع الأشخاص الذين يقتلون أنفسهم .
ليس من النوع الذي ترتسم النظرة المجنونة على وجهه، أو يضحك في هيستريا قبل أن يقذف بنفسه في غياهب البحر.
أعرف أنه شخصية معتلة جدا، مشوهة جدا. وتحكمه أحيانا دوافع سايكوباتية مضادة للمجتمع ينجح جيدا في قمعها، هناك دائما ذلك الدافع الخفي لكراهية كل المجتمع الذي لم يقف معه في محنته بنحو أو بآخر، الكل كان متواطئا مع الجنجويد فيما حدث له، ولو كان بالصمت وعدم الإدانة. فلا أصدق لحظة أن توجهاته السياسية المضادة للحكومة هي من قبيل النضال الخالص.
لو أردت رأيي يا سيدتي: فهو كان يحاول تصفية ثأر شخصي، النيل ممن تسببوا في معاناته وآلامه. ومن يفكر بالانتقام - يقولون - يجب أن يحفر قبرين مسبقا.
لكنني لا أملك إلا التعاطف معه، فبرغم كل شيء كان ضحية أقداره السيئة.
قال «إبراهيم»، وهو يعود ليجلس جواري بعد أن انصرف أصدقاؤه: «رحت أمسح الدم من وجهه بطرف قميصي، فيما أغمض هو عينيه، واستكان جسده على رجلي.»
مرت فترة من الصمت، لا أدري كم هي. تناهى إلى مسامعي صوت شخص ما يصرخ في إحدى الزنازين، شخص يخضع للتعذيب في هذه اللحظة بالذات، ويعلم الله ما الذي يفعلونه به. صوت ضربات مكتومة، يتكرر الصراخ، ثم يسود صمت رهيب.
التوتر والخوف يفعمان الجو وتحملهما نسماته.
سمعت صوت مفتاح يعبث في الباب، ثم انفتح بصرير معدني مزعج، ثم انبعث الضوء فجأة في المكان.
كان قويا مفاجئا، حتى إنني أغمضت عيني في ألم، وعندما فتحتهما وجدت أحد الحراس يحمل دورقا به ماء، ويقف أمامنا وهو ينظر ل «عمار» في دهشة، ثم يردد: «لا حول ولا قوة إلا بالله.»
وبدوري نظرت إليه، وهالني ما رأيت.
في الضوء المباشر استطعت أن أرى أن ملامحه قد تغيرت تماما. اختفت عيناه تماما وأصبحتا خطا ضيقا تحت جفنين متورمين، لدرجة لا تصدق، تورمت شفته العليا بشدة، وفقد بعض الأسنان من أسنانه العلوية.
نزعوا أظافر يديه، هشموا عظام كف يده، وشوهوا أنفه، وأطفئوا السجائر في عنقه.
الدم يسيل من كل مكان في وجهه وجسده وأطرافه، حتى سال على السروال الذي ارتداه.
يمسك يدي بكلتا يديه، ورأسه على حجري، وهو يطلق صوت الصفير المنتظم إذ يتنفس.
خذ شعور تلك العاهرة التي فرغ أحدهم من قضاء وطره بين قدميها، ثم رمى لها أوراقا نقدية قيمة استمتاعه بجسدها على وجهها، قبل أن يغادر.
خذ شعور يهوذا الإسخريوطي، وهو يتسلل من قاعة العشاء الأخير، ثم يرى عيسى «عليه السلام» مصلوبا على الصليب الخشبي؛ بسبب خيانته.
لو جمعت كل مشاعر احتقار الذات، فلا أعتقد أنها ستكفي لوصف شعوري تجاه نفسي في تلك اللحظة.
كان شعورا لا يوصف، وشعرت بقلبي يتمزق.
الآن أفهم معنى أن تكره نفسك وتحتقرها، ففي تلك اللحظة كرهت نفسي.
كنت أبكي في حرقة، وأنا أحتضن رأسه.
منهكا كأسوأ ما يكون، فتح عينيه المتورمتين، في الحقيقة كانت عينا واحدة، فالأخرى كانت متورمة، لدرجة لم يستطع فتحها، ورفع يده يتحسس وجهي، قال بصوت واهن: «إبراهيم، أنت بخير؟»
زاوية فمي تتشنج بانقباضات قوية، والدموع تغمر وجهي، حتى وأنت في هذا الحال تحاول الاطمئنان علي؟!
لا أدري كم استغرقني الوقت، حتى أفقت من نوبة البكاء تلك، لكنني كنت أشعر بالدوار، والجفاف في حلقي.
كان الحارس قد وضع إناء الماء على الأرض، وغادر الزنزانة دون أن أنتبه إليه، جلبت الماء وشربت، ثم رحت أسقيه، فراح يشرب في نهم.
مرت ساعات من الصمت إلا من صوت صفير أنفه، ثم انفتح الباب مجددا، ودخل الحارس الذي جلب الماء، وهو يحمل بعض السندويتشات، وضعها أمامنا، وقال لي: «مواعيد الذهاب لدورة المياه الرابعة عصرا.»
وفتح الباب. توقف قليلا، وهو ينظر إلى «عمار» المستلقي على حجري، ثم غادر.
كان مختلفا عنهم، نحيلا طويل القامة قليلا، له ملامح طفولية وادعة، على عكس باقي الحراس، ضخام الجثة الذين يتطاير الشر والحقد من عيونهم المحتقنة. وعلى نحو ما بدا لي أنه يتعاطف معنا.
جلس «عمار» جواري مسندا ظهره للحائط ، ومدد إحدى ساقيه أمامه بينما ثنى الأخرى تحتها، أعطيته أحد السندويتشات فهز رأسه رافضا، قلت له: «أعتقد أنه يجب علينا التعاون معهم، وإخبارهم بما يريدون معرفته، أنت لن تتحمل المزيد.»
شبح ابتسامة خافتة يرتسم على شفتيه الداميتين، ينظر للأرض في شرود بعينين متورمتين، طال الصمت حتى بدا لي أنه لم يسمعني، ثم راح يردد:
لا تصالح!
ولو منحوك الذهب.
أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما.
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى.
كانت إحدى قصائد أمل دنقل التي يرددها دوما في أركان النقاش بالجامعة، أعرف أنه يحب الرجل، ويحفظ الكثير من أشعاره.
قلت له بعصبية: «ليس هذا وقت الأشعار، ولا وقت ادعاء البطولات، هل تعرف ما معنى أنهم جلبونا لأحد بيوت الأشباح؟ يعني أننا في الأغلب لن نخرج من هنا أحياء، إن لم نخبرهم بما يريدون معرفته، لا أحد يعرف أين نحن، لا أحد سيبحث عنا. هل تريد أن تتعفن في هذه المزبلة؟ ومن أجل ماذا؟ فقط أخبرهم عن المشتركين في تلك اللجان، ودعنا نخرج من هنا أحياء ما دمنا نستطيع.»
قال، وهو يريح رأسه على الحائط: «لن أفتدي نفسي بالآخرين، وهم يواجهونهم الآن في الشوارع، لن أستطيع العيش مع نفسي إذا كنت سببا في القبض عليهم وإجهاض الثورة.»
قلت بنفس العصبية: «هذه الثورة لن تستمر على أية حال، سيذبحونهم كالخراف، وسيشعر الآخرون بالخوف وينتهي كل شيء، ليست ثورة تستند على أي وعي بل مجرد رد فعل للجياع، وثورات الجياع لا تدوم، التاريخ يقول إن ثورات الجياع لا تدوم. إن من لا يثور من أجل موت مواطنيه في الجنوب وفي دارفور، ومن لا يثور من أجل حريته لن يثور من أجل الخبز. من يقايض كرامته بخبزه لا يحصل على أي منهما في نهاية المطاف.» - «ربما. لكننا سنكون على الأقل فعلنا ما بوسعنا، لا أن تنتهي بسبب أنانية بعضهم وتمسكهم بالحياة، لسنا أفضل ممن ماتوا ويموتون الآن في الشوارع.»
كنت أعرف في قرارة نفسي أنه سيقول ما قال، فهو من أولئك الأشخاص الحالمين المثاليين الذين يسعون للاستشهاد، وتسجيل المواقف البطولية بحماس محموم، يؤمن بنفسه إلى درجة التعصب، والغباء أحيانا .
أسندت رأسي للحائط بجواره وأغمضت عيني، سألته: «لماذا كنت تتجنبني، وتتجنب هبة مؤخرا؟»
شعرت بيده تتحسس يدي بجواره، ثم ترتفع حتى وضع راحته على كتفي، وقال: «لم أكن أتجنبكما، كنت أحاول حمايتكما. لقد كان أفراد الأمن يراقبون الجامعة والسكن مؤخرا، فلم أرد أن أقترب منكما؛ حتى لا تتورطا فيما يحدث، لم أشأ أن يربطوا بينكم وبيني؛ حتى لا يحاولوا أذية أحدكما؛ لإجباري على الظهور.»
وددت أن أتخفف من هذا الحمل الثقيل، وأقول له إنهم استطاعوا اكتشاف العلاقة بيننا مبكرا، وإنهم قاموا باعتقالي والضغط علي لتسليمه لهم.
تمنيت أن أقول له إنني السبب في وجوده في هذا المعتقل الآن. ليثور، أو يضربني، أو يبصق علي، أو ينعتني بالجبان. يفعل أي شيء يخفف من وخزات الضمير، واحتقاري لنفسي في تلك اللحظة.
لكنني لذت بالصمت.
وظللنا جالسين في مكاننا طيلة اليوم، نتحدث عن كل شيء، حتى غلبنا النعاس ونمنا حيث نحن، حتى صباح اليوم التالي عندما تم استدعائي لمكتب «سعادتك»، أخبرته أنني لم أحصل منه على شيء، ولك أن تتخيل غضبته الجارفة علي وقتها.
شتمني بأشنع الألفاظ، ثم أمر بإعادتي للزنزانة الأولى. قضيت فيها ثلاثة أيام تعرضنا فيها لكافة صنوف التعذيب، ابتداء من الضرب بالسياط والركل والصفع حتى الصعق بالكهرباء، والحرمان من النوم، ومن دخول دورات المياه، وحتى العبادة.
عندما طلبنا أن يسمحوا لنا بأن نصلي، قال لي الحارس ساخرا، وهو يركلني في ظهري بالحذاء العسكري، عندما أجلسونا في الشمس الحارقة: «إن الله لا يدخل مثل هذه الأماكن؛ فلا داعي لصلاتكم.»
وفي صبيحة اليوم الرابع من الاعتقال، تم إطلاق سراحنا - أنا والشاب الآخر - لكنهم ظلوا يتحفظون على «عمار» و«محمود». مع تهديدنا بأنهم سيقومون باعتقالنا مجددا، إذا وجدونا بالقرب من مظاهرة مرة أخرى.
3
قال «سعادتك»: «لقد رأيت من هم مثلك كثيرا، لا أحد يصمد هنا. كلهم ينهارون، كلهم يبكون ويتوسلونني؛ لأمنحهم راحة الموت في النهاية بعدما أفرغ منهم.»
قال «سعادتك»: «لن يسمع أحد صراخك ولا توسلاتك، سأجعلك تشتهي الموت ولا تناله.»
قال «سعادتك »: «من الخير أن توفر علينا، وعلى نفسك العناء، وتخبرني بما أريد معرفته.»
يداه معقودتان خلف ظهره، وأصابعه تلتهمان حبيبات المسبحة في سرعة.
يقف في منتصف الزنزانة في فخر، كأنه قائد حربي يتفقد جيشه قبل المعركة الأخيرة، شفتاه تتمتمان ببعض الأذكار.
يمكنني أن أرى «عمار» وقد أجلسوه على كرسي حديدي صدئ، يداه مقيدتان خلف ظهر الكرسي، ورجلاه مقيدتان مع بعضهما بحبل ليفي خشن، وحوله حارسان ضخما الجثة ينظران له في برود.
بصعوبة، يا سيدتي، يمكنك أن تتبيني ملامحه الآن، فقد تشوهت تماما، انتفخت كل أجزاء وجهه، وكأن سربا من النحل كان يتسلى بلسعه في كل مكان، وزادته الدماء التي تسيل من كل فتحات وجهه الطبيعية، وغير الطبيعية.
كان مرهقا جدا. خائر القوى تماما.
يشير «سعادتك» برأسه بإيماءة خفيفة لأحد الحراس، فيحمل مشبكين حديديين من النوع الذي يستعمل لشحن بطاريات السيارات، ويضعهم على حلمتي صدر «عمار»، ثم يفتح علبة بلاستيكية في يده، ويضغط على أحد الأزرار، وينتشر الأزيز المميز لصوت اندفاع الشحنة الكهربية عبر الأسلاك.
ينتفض جسد «عمار» بقوة للحظات، وتفوح رائحة مزعجة في المكان، ثم يتوقف الصعق، فيرتمي رأسه على صدره، ويتدلى خيط رفيع هو مزيج من اللعاب والدماء من طرف فمه. - «أعطني أسماء.»
يقولها «سعادتك»، وأصابعه تزداد سرعة في التهام حبيبات المسبحة.
صوت الصفير يتعالى مع صوت تنفس «عمار»، لكنه لا يرد.
يشير «سعادتك» برأسه مجددا للحارس، ثم يتكرر نفس المشهد، ويرتجف جسد الشاب الدامي في شدة للحظات بدت كدهر، ثم يتوقف الصعق.
يطلق أنينا خافتا ثم يدلى رأسه على صدره مجددا في إعياء، بينما لا يزال جسده يرتعش ارتعاشات متقطعة. بعد كل هذه الطاقة التي سرت في جسده، لا بد أن عظامه قد أضحت دقيقا. - «ما هي أسماء المشتركين في لجان الأحياء؟»
لا رد. - «كيف تحشدون الشباب؟»
لا رد. - «أين يقيمون وكيف تتواصلون مع بعضكم؟»
لا رد. - «من يمولكم؟»
لا رد.
تنهال الصفعة على عنقه في قسوة من أحد الحراس، ثم يلف الآخر كيسا بلاستيكيا على وجهه، تمر دقائق ثم يهز رأسه في عنف، يحاول عب الهواء فيلتصق الكيس أكثر بفمه المفتوح وطاقتي أنفه.
ينتفض جسده مجددا، وهو يتلوى في الكرسي، بينما يزداد الحارس تشبثا بالكيس البلاستيكي من خلف رأسه.
تمر دقيقة أخرى. صدره يكاد ينفجر، ويتلوى بعنف أكثر.
ينتفض جسده بارتعاشات قصيرة، يطلق أنينا محموما، وهو يجاهد من أجل الهواء. ورويدا رويدا يبدأ الظلام في الزحف أمام عينيه المذعورتين.
يقف «سعادتك» يرمق المشهد في نشوة واضحة وعيناه تلتمعان، بينما تزداد حركة أصابعه على حبيبات المسبحة.
بعد سنوات من مشاهدة مثل هذه الأشياء، أصبح الأمر يجلب له النشوة أكثر من أي شيء آخر.
كان شعوره بالسلطة والقوة مطلقا إلى حد مفزع.
تعلم تمويت ضميره عبر سنوات من التكرار. في البداية كان يرى أشباح ضحاياه يزورون كوابيسه ويقضون مضجعه، فيستيقظ في سريره صارخا والعرق يغمره، حتى أدمن الأقراص المنومة، وأصبح لا يستطيع النوم بدونها، وفيما بعد توصل إلى الحل السحري.
هؤلاء ليسوا ضحايا فعلا. بل هم مجموعة من الشيوعيين الكفرة، الذين يحاربون الإسلام.
يسعون لإسقاط الحكومة التي تتمسك بالدين، حتى يقيموا دولتهم العلمانية على أنقاضها. يطالبون بالحرية والديمقراطية وكل تلك المصطلحات التي استجلبوها من بلاد الخواجات، حتى يفتتحوا البارات والإندايات في قلب الخرطوم، ليشربوا الخمور علنا ويضاجعوا النساء في الشوارع بعد أن ينزعوا عنهن الحجاب، وينشروا الشذوذ الجنسي، تماما كما يفعل هؤلاء الأنجاس في أوروبا.
لقد قال له شيخ عبد الله - المعروف بتقواه وصلاحه - إنهم يبايعون الشيطان نفسه - أولاد الكلب - ويعملون لإقامة بلاد المازونية أو الماسونية في أرض السودان. لا يذكر الاسم جيدا، لكنهم سيعبدون الشيطان على أية حال.
لو شئنا الدقة؛ فهو يقوم بعمل جليل هنا، يدافع عن الدين، ويحارب عبدة الشيطان هؤلاء. هو لا يعرف الكثير عن الدين، فهو لم ينل حظه من التعليم لأسباب يطول شرحها، لكنه يثق بشيوخ الدين؛ لأنهم يعرفون كل شيء.
لم يكن يعرف الكثير عن الدين كما قلت، لكنه يعتبر نفسه شخصا متدينا على الصراط المستقيم، ملتزما بتعاليم الله وآراء الأئمة من السلف الصالح، ليس متعصبا إلى الحد الذي يجعله يرتدي الحزام الناسف أو يهدر دم كل من اختلف معه، وليس متساهلا إلى الحد الذي يجعله يأكل الخنزير مثلا. برغم أنه يسكر ويشرب عرقي البلح في تجمعات الأنس والسمر، وأحيانا يأتيه بعض خمر الخواجات اللذيذ المعتق كالويسكي والنبيذ والفودكا، والذي يجلبه له صديقه اللواء في الداخلية، كلما قام جنود إدارته بمصادرة بضاعة أحد تجار التهريب، كما أنه يزني كلما أتيحت له الفرصة لذلك. لكنه يلتزم بتحريم الله فيما يخص الخنزير، فبعض الحرام - يقول - أهون من بعض.
قال له شيخ عبد الله إنه عندما يموت، فسيكون شهيدا تزفه الملائكة كالعريس في موكب سماوي جميل، بينما تفوح منه رائحة المسك والصندل، وموسيقى جميلة في الخلفية. قال له إن الله سيبني له بيتا في الجنة، كذلك كجزاء لجهاده ضد المازونية. - «حدادي مدادي يا شيخ؟» - «بالحيل يا ولدي، حدادي مدادي.»
قال له إنه سيمنح خدما جميلي الشكل، يسهرون على راحته، مع الكثير من الحور العين، ينكحهن متى شاء وكيف شاء، وبأي وضعية شاء، بدون حدود لطاقته الجنسية، وبدون «فياجرا». - «بنات سمحات جنس سماحة، وغلف ما مطهرات، لونهن شدة ما أبيض لمن تشوف الدم ماشي شرررر في عروقهن.»
ويتحسس عضوه الذكري في شغف، وهو يحلم بالشهادة في سبيل الله. ويبتسم عندما يتخيل النظرة التي ستعلو وجه أم العيال - تلك البقرة - عندما تراه مرتميا في أحضان الحور.
إن الكثير من المرح في انتظاره.
لهذا - يمكننا أن نفهم - يحمل معه المسبحة دائما، لتذكره دائما بالله وجهاده من أجل دينه، ومن يومها وهو ينام قرير العين كالأطفال، بلا كوابيس من أي نوع.
بحركة سريعة أزال الحارس الكيس البلاستيكي، فراح «عمار» يعب الهواء في جشع لدقائق وجسده يرتجف.
ثم تهانف، وراح يبكي.
ربما يكون قد نجا من الموت لحظتها، لكنني أشك فعليا في نجاته من اعتلال العضلة القلبية بعد هذه الخبرة.
ابتسم «سعادتك » في رضا. بعد كل هذه السنوات كون نظريته الخاصة أن كل الناس ضعفاء، جبناء، مهما تظاهروا بغير ذلك.
ففي النهاية، مهما بدوا أقوياء، صامتين، متحدين، صلبين، متظاهرين بالبطولة، فإنهم يولولون كالنساء، وتنطلق ألسنتهم في سخاء بين يديه.
يعرف كيف يدفع الشخص إلى ذلك الحد الفاصل بين الحياة والموت مرارا مع إرهاقه جسديا، حتى يجعله يشتهي الموت ولا يناله، وهي خبرة محطمة للأعصاب فعلا، والنتيجة ألا أحد يستطيع مواصلة الصمود، كلهم ينهارون في النهاية.
قال، وهو يدور حول «عمار» في بطء بينما يداه لا تزالان معقودتين خلف ظهره، ليمنح نفسه ذلك التأثير بالسيطرة المطلقة الذي يحبه كثيرا (رآه في أحد الأفلام الهندية): «لدي كل اليوم لهذا. هلم تكلم يا فتى.»
سمع صوت «عمار» يهمهم بصوت خفيض غير مفهوم، ورأسه مائل على صدره، فقرب رأسه منه، وهو ينحني عليه نصف انحناءة. - «ماذا تقول؟»
ببطء يرفع «عمار» وجهه إليه، وهو ينظر له بعينين لا تريان، ومن هذا القرب بدا له وجهه بشعا للغاية، مع كل هذا التورم في عينيه وجبهته وشفتيه، والدماء التي تسيل عليه. وراح يردد بصوت واهن:
أن سيفان سيفك
صوتان صوتك،
أنك إن مت
فللبيت رب،
وللطفل أب
هل يصير دمي - بين عينيك - ماء؟
أتنسى ردائي الملطخ بالدماء؟
تلبس - فوق دمائي - ثيابا مطرزة بالقصب؟
لم يفهم «سعادتك» كلمة مما قيل، لكنه شعر أن الفتى يسخر منه أو يتحداه للمزيد.
كان يتوقع بعض التوسل أو بعض الأسماء الثلاثية، لكن آخر ما توقعه أن يسمع بعض الشعر المقفى، خاصة بعد نوبة البكاء التي رآها منذ قليل.
توقف للحظات يرمق «عمار» بنظرة نارية وعضلات فكه تتوتر، أصابعه تبتلع حبات المسبحة في سرعة أكبر، ثم رفع رأسه لأحد الحارسين، وقال من بين أسنانه: «لديكما حتى صباح الغد، أريد تقريرا كاملا على سطح مكتبي بأسماء تلك اللجان والمشتركين فيها، أو جثته الهامدة.»
ثم طرق على باب الزنزانة من الداخل، ففتح الباب ذلك الحارس النحيل طويل القامة قليلا، ذو الملامح الطفولية الوادعة، وأدى التحية العسكرية في توتر، ثم أغلق الباب خلف «سعادتك»؛ إذ ينصرف مغادرا المكان.
كان «عمار» مرهقا منهكا كما يجب أن يكون، وقد فقد الإحساس بأطرافه تقريبا.
تعلمين يا سيدتي: إنني لم أكن أعرف يقينا ما حدث ل «عمار» بعد مغادرة «إبراهيم» للمعتقل، وكما قلت لك سابقا؛ فقد تحصلت على بعض هذه التفاصيل لاحقا من مصادر مختلفة، وبروايات مختلفة بطبيعة الحال، لكنني أحاول سد الثغرات في القصة باستنتاجاتي الخاصة، معتمدا على تقرير الطبيب الشرعي.
لست واسع الخيال بشكل خاص، لكنني أستطيع تخيل كل الصفعات والركلات التي تعرض لها من الحارسين.
أستطيع تخيل الحراس، وهم يشتمونه في بذاءة، ثم يقولون له إنهم سيضاجعونه كما تضاجع النساء.
أستطيع رؤيتهم يجردونه من ملابسه، ويشدون وثاقه على طاولة ما، ثم يتناوبون على اغتصابه، بينما هم يسبونه بأقذع الألفاظ.
بالتأكيد لا أعرف فيم كان يفكر وهو يشعر بأنفاس الحارس الجشعة الحارة على مؤخرة عنقه، ويسمع صوت خواره إذ يتلمظ منتشيا.
لم يكن يصدق.
لم يكن يفهم.
وعندما بدأ يشعر بالدوار، والاختناق، بينما ينزلق وعيه، وينفصل عن المكان والزمان ببطء، عرف أنها نوبة أخرى تداهمه في تلك اللحظات تحديدا.
نوبة أخرى.
وأمام عينيه الغائمتين رأى شريط حياته يمر أمام ناظريه في ثوان.
طائرة الأباتشي تثير عاصفة من الرمال، وبجانبها صورة صقر جميل الشكل.
والدته، أخته، سليمان، المسجد.
فطومة تبتسم، وتطرق للأرض في خجل، وهي تحكم لف الطرحة حول رأسها.
المدرسة.
السكن الداخلي.
الجامعة. «هبة» تقبله في القاعة الخالية، ثم تجهش بالبكاء.
وطفل صغير منتفخ البطن يقف أمام أحد المنازل المتهدمة، يحتضن دمية قطنية ملوثة بالطين.
مجتمع بكامله ينمحي من خارطة الوجود أمام ناظريه في دقائق معدودة.
رأى كل هذا أم لم يره، لا أعرف حقيقة. لكنني أعرف أنهم قد استطاعوا تحطيم آخر خطوط دفاعاته النفسية في تلك اللحظة.
رصيد جديد من القسوة يضاف لأرشيفه المأساوي.
نوبة أخرى.
نوبة عنيفة أخرى.
وعندما رفع رأسه للسماء، بعدما فرغوا منه، ورموه على أرض الزنزانة الباردة كخرقة قديمة بالية، منكمشا على نفسه كالجنين في بطن أمه، بوجه منتفخ، ودماء تسيل، ونفس مسحوقة مضطربة، وأطراف ترتعش. سأل الله بصوت مرتجف دامع «لماذا تفعل هذا بي؟»
لم يجاوبه شيء سوى الصمت المطبق.
وصوت قديم من عمق ذاكرته المشوشة، لقمرية تسجع بصوتها اللحني الجميل أن «احمدوا ربكم.»
الفصل الخامس
أنبل ما فينا
لقد قتل هؤلاء آلاف المرات، قبل أن يقتلهم الرصاص والبحر.
تحولوا لجثث تمشي على قدمين.
جثث أفقدها الظلم، الذي كانوا يتجرعونه صباحا ومساء، حلمها وأملها بغد أفضل. ***
1
في تمام الخامسة وتسع دقائق، صباح يوم الخميس، الثالث من أكتوبر توقف قلب «عمار» عن الخفقان.
يقول تقرير الطبيب الشرعي إن سبب الوفاة كان لنقص السوائل بسبب النزيف الداخلي والخارجي للجسم. بالإضافة لفشل الكثير من الأعضاء الحيوية في العمل دفعة واحدة.
كأنه كان متماسكا، حتى قرر الكف عن الحياة فجأة.
بعد شهر ونيف من بقاء الجثمان في المشرحة، والكثير من المعاملات الورقية والإجراءات الإدارية المعقدة، أقف في المقبرة حول الجثمان المسجى على «عنقريب» خشبي مجدول، بينما اللحاد يخرج من القبر بعد أن استكمل اللمسات الأخيرة فيه. «الفاتحة على روح المرحوم.»
ترتفع الأكف أمام الوجوه الواجمة، ويتردد حرف السين بكثرة من بين الشفاه شبه المغلقة.
أرمق الجثمان المسجى على «العنقريب» الخشبي، وقد كف عن الحياة للأبد.
كنت أتمنى أن أقول إن الجنازة كانت أسطورية، وقد تقاطر المئات من المشيعين يبكونه في حرقة، بينما تلطم النساء، ويشققن ملابسهن في لوعة. لكن لم يكن هناك شيء من هذا، لم يتجاوز المشيعون أصابع اليدين، أنا و«إبراهيم» وبضع من الشباب من دفعته في الجامعة.
هذا كل شيء. «آمين.» «آمين.»
يتعاون شابان مع اللحاد في إنزال الجثمان في القبر، بينما كنت أرمق «إبراهيم» خلسة من خلف نظارتي السوداء؛ إذ يقف واجما مطرقا للأرض.
كانت الخرطوم قد استعادت هدوءها، ظل اهتمام الناس منصبا على شهداء الثورة، لذلك لم تنل وفاته قدرا من الاهتمام، لقد توفي في خلفية الحدث الأهم الذي يشغل الناس فلم يعيروه انتباها.
أتحسس السوار الأبيض الذي يحيط بمعصمي كالساعة، وقد نقشت عليه كلمات باللغتين العربية والإنجليزية بخط منمق دقيق.
عندها رأيتها.
كانت تقف خارج المقبرة، تستظل من حر الشمس بأحد الأشجار، وتحمل منديلا ورقيا تدفن فيه أنفها، وهي تبكي بلا انقطاع.
على يديها نقوش طازجة لرسومات حناء مزخرفة، والقلادة والأساور الذهبية حول جيدها ويديها، مع الثوب السوداني الخفيف المميز للمتزوجات حديثا. كانت هي.
الجسد الأنثوي الصارخ النحيف نوعا، والنظارات الطبية الأنيقة، والعينان الواسعتان البريئتان اللتان تشعرانك بأنك وغد جدا، نجس جدا، منحط جدا.
عينا ملاك لو كان للملائكة عيون، تحكيان عن البراءة الخام كما خلقها الله.
نفس العينين اللتين فتنتا «عمار» من قبل.
الآن أعرف أنه يجيد الوصف حقا.
هممت أن أتقدم نحوك وقتها يا سيدتي؛ لأقدم واجب العزاء، لكنني أحجمت عندما رأيت ذلك الشاب الوسيم يقف بجوارك، ثم يضع رأسك الباكي على صدره ويحتضنك معزيا. آثار الحناء على يديه ورأسه الحليق يوحيان بأنه متزوج حديثا كذلك.
ثم رأيتك تركبين معه السيارة، وتنطلقان بعيدا.
هكذا وجدتني أقود سيارتي في شرود، عبر شوارع «ود نوباوي» متجها إلى المنزل، بعد انتهاء مراسم الدفن. صوت العطبراوي يتردد عبر أثير الراديو:
أيها الناس نحن من نفر، عمروا الأرض حيث ما قطنوا
يذكر المجد كلما ذكروا، وهو يعتز حين يقترن
حكموا العدل في الورى زمنا، أترى هل يعود ذا الزمن؟
ردد الدهر حسن سيرتهم، ما بها حطة ولا درن
نزحوا لا ليظلموا أحدا، لا ولا لاضطهاد من أمنوا
أبتسم في سخرية مريرة مع المقطع الأخير للأغنية، وأقول لنفسي بصوت مسموع: «لم نضطهدهم فقط، لقد قتلناهم يا عطبراوي.» «عمار» الطفل يلتفت لي، وهو يبكي، يحمل أخته على كتفه، ثم يمد أصبعه السبابة في وجهي، وفي عينيه اتهام صامت. - «ظننت أنه يوم القيامة، كانت النيران هائلة، والصراخ رهيبا، ورائحة الموت تعبق في المكان، وتزكم أنفاسي.»
أتنهد في عمق، وأنا أرمق الطريق بعينين غائمتين لا تريان، أدرك أن عيني مغرورقتان بالدموع. فأوقف السيارة على جانب الطريق، وأجذب فرامل اليد لأعلى، وأريح رأسي على مسند الرأس في الكرسي.
في ذلك اليوم؛ إذ نحن جلوس في الميدان المظلم الخالي، قال لي «إبراهيم»، وهو يطوح بزجاجة «العرقي» الخالية في منتصف الميدان : «قالوا إنهم ألقوا بالجثة في النيل، وسيجعلون الأمر يبدو انتحارا؛ حتى لا تكون هناك أسئلة، قالوا لي إنه يجب علي أن أتعاون معهم، لو أردت أن أضمن سلامة والدتي وأخي.
أعرف أنهم لا يمزحون؛ فقد قتلوا أحد الشهود، وكان هذا صبيا صغيرا رآهم يلقون بالجثة في النيل، وأبلغ الشرطة. وقد قتلوه بلا رحمة. قالوا لي هذا، وهم يضحكون لتخويفي، وأحسبهم قد نجحوا في ذلك.»
ثم أشعل سيجارة، وراح يشفط الدخان في نهم، وينفثه في قلب الظلام وهو يتأمله في شرود، وأضاف: «أعرف أنهم سيتخلصون مني في أقرب فرصة تسنح لهم ما إن تهدأ الأمور، لا يتحملون وجود شهود قد يثيرون لهم المتاعب. لن أنتظرهم مكتوف اليدين، حتى يأتوا ويتخلصوا مني، لقد قررت الخروج من هذا البلد اللعين الذي يتحكمون في كل شيء فيه. أعرف شخصا ما سيساعدني وأسرتي على الوصول إلى الحدود الليبية، وسنحاول من هناك الوصول إلى أي بلد أوروبي يقبل بنا كلاجئين. أنصحك بأن تفعل الشيء ذاته حفاظا على سلامتك، لا بد أنهم قد لاحظوا ما تفعله.»
سألته: «إذن لم توجد مشاجرة، كانت الجروح على جسده من آثار التعذيب في المعتقل؟»
قال، وهو يقذف بعقب السيجارة: «نعم. لقد لقنوني ما شهدت به في قسم الشرطة كشاهد على انتحاره، قاموا بنسج قصة مشاجرتنا تلك حتى يبرروا بها آثار الكدمات والجروح على جسده. أعتذر أنني كذبت عليك مسبقا، أرجو أن تتفهم موقفي، لم يكن لدي خيار.» - «إذن فقد كنت أنت الشاهد الذي رآه يرمي بنفسه في النيل؟» - «نعم.» - «ماذا عن بقية الشهود؟» - «لا يوجد بقية، أنا الشاهد الوحيد.»
مرت فترة صمت ثقيلة، إلا من صوت طفل ما يعوي في أحد المنازل المحيطة بالميدان. سألته وأنا أتأمل الميدان الخالي: «ماذا تعني عبارة كانوا أنبل ما فينا؟»
نظر لي في تساؤل، فأضفت موضحا: «قبل وفاته اتصل بي المرحوم، وقال لي عبارة «كانوا أنبل ما فينا»، لم أفهم ما يعنيه.»
وضع راحتي يده على مقدمة جبهته، وانحني للأمام قليلا مسندا مرفقيه على فخذيه ، بدا لي وكأنه يشعر بالصداع. صمت للحظات، ثم قال: «يقصد قتلى سبتمبر. في الفترة الأخيرة، كان يقول باستمرار إنهم أظهروا أنبل ما فينا، فليس في تاريخ الإنسانية ما هو أنبل من الثورة على الظلم، أو الموت من أجل هذا المبدأ. وأن العسس الذين قتلوهم في الشوارع كانوا أسوأ إخفاقاتنا الإنسانية، لقد قتلوا من تمرد ليطالب بحقه وحقهم في الحياة.»
نهضت من مجلسي بصعوبة، لقد طالت مدة جلوسنا على الإطار حتى تيبست مفاصلي، وشعرت أن ردفي يزنان أطنانا.
شعور غامر بالسلام الداخلي يغمرني. أستطيع أخيرا أن أقول بضمير مستريح: إنني قد حصلت على الخاتمة التي أنشدها، أشعر أنني قد وصلت لآخر الطريق، هذه هي الحقيقة.
لم يخيب «عمار» ظني بعد كل شيء.
وتذكرت عبارة الحقوقية الأمريكية جلوريا ستاينم «الحقيقة ستحررك، حتى لو أزعجتك في بادئ الأمر». أعتقد أن المقولة تنطبق على كلينا - أنا وإبراهيم - في هذا الموقف.
وقبل أن أنصرف، سألته: «لماذا حكيت لي كل هذا».
برغم الظلام الدامس استطعت أن أرى كمية الألم التي كانت ترتسم على وجهه لحظتها. عيناه تتلألآن بالدموع (في الواقع هو لم يكف عن البكاء منذ ابتدأت الجلسة)، وتتسع طاقتي أنفه باستمرار، كأنه على وشك النحيب.
عرفت أنه يقاسي جدا. هذا شخص عانى كثيرا، وهو يتقلب في فراشه ليلا.
إن للضمير قدرة هائلة على المحاكمة والإدانة والعقاب. قاض يقظ يراقب أفكارك وعواطفك، سكناتك وخلجاتك، وما تسول به نفسك، ويجلدك بلا رحمة، حتى إن البعض كان يفضل الهروب منه بالانتحار، كما كنا نسمع أحيانا عن قصص الجنود العائدين من مناطق الحروب. «الأنا العليا» المثالية عندما تتصادم مع «الهو» العابث، تنتج صراعا ملحميا جديرا بالأساطير.
قال بصوت متهدج جدير بتلك الملامح: «لقد كان صديقي الوحيد، كان أقرب للأخ من الصديق، وقد مات بسببي؛ بسبب جبني ووشايتي. حاولت أن أتناسى ما حصل، لكن زيارتك الأخيرة لي أعادت لي كل شيء ، لم أستطع الاستمرار، ضميري يقتلني. لم أعد أستطيع النوم؛ حتى لا أراه في أحلامي مجددا، لم أعد أستطيع الاستيقاظ ؛ حتى لا أفكر فيه، أتمنى أن يسامحني أينما كان.»
دعيني يا سيدتي أشرح لك بعض خيوط الأحجية المعلقة، قبل أن يدهمنا الزمن ونتفرق، وقد حانت ساعة الفراق.
أعرف الآن أنه لفظ أنفاسه الأخيرة بعد مكالمة الهاتف الأخيرة تلك، أعتقد أنهم ضبطوه متلبسا بالهاتف؛ مما جعلهم يمعنون في تعذيبه أكثر، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بين أيديهم بعدها بقليل.
لا أعرف يقينا كيف تحصل على الهاتف المحمول في وضعه ذلك، لكنني لا أحتاج لكثير من الذكاء أو الخيال؛ لأعرف أنها كانت محاولة المساعدة التي قدمها له ذلك الحارس النحيل طويل القامة قليلا، ذو الملامح الطفولية الوادعة، الذي كان يتعاطف معه في محنته.
أو ربما قام بسرقته بطريقة ما.
لا أعرف يقينا، لكن لا يوجد تفسير آخر.
أعرف أنه قام بالاتصال بمنزلك وقتها، عندما أحس بالحاجة لسماع صوتك ربما، ومن سوء حظه قابل والدك. لا بد أن والدك تحدث كثيرا وقتها، لا بد أنه أهانه جدا.
لا بد أنه أخبره بما كان يخشاه، رفضه القاطع لتلك الزيجة لعدم تكافؤ الأنساب والقبائل «... وما عندنا بنات بتزوجوا عبيد.»
لا بد أنه تحدث إلى أختك «هادية».
لا بد أنها بكت كثيرا، وهي تخبره عن حفل زواجك لابن عمك العائد من السعودية، والذي يتم في تلك اللحظة بالتحديد.
أن يفقدك للأبد، كانت تلك القشة التي قصمت ظهره، اللحظة التي تكف فيها الصخرة الصماء عن تحمل المزيد من القطرات، فتنهار أمام قطرة الماء التالية، ويتصدع شرخ البرود والتماسك، ويظهر عاريا بكل ما فيه من وهن.
لم يتحمل فكرة فقدانك؛ لهذا كف عن التحايل على الموت ورفع راية الاستسلام الأخيرة.
أعرف أنه أحبك جدا.
لقد كنت الجزء الأكثر بهجة في حياته التعسة.
ربما لهذا طلبت منك زيارتي اليوم؛ لأبلغك رسالته القصيرة الأخيرة «قل لها إنني قد أحببتها.»
وأرجو أن تتقبلي أسفي؛ لأنها لم تكن قصيرة إلى هذا الحد.
أعرف كذلك أنهم استطاعوا تتبع رقم هاتفي في تلك المكالمة، عرفت هذا عندما كنت أرى ذات سيارة البوكس رابضة خلفي، كلما أدرت رأسي.
أعرف أنهم باتوا يراقبون منزلي وعيادتي منذ فترة.
يريدون أن يعرفوا ما الذي توصلت إليه بالضبط؛ لهذا - يمكنك أن تفهمي - لم أعد آمن على نفسي أو أسرتي بعد اليوم، لقد رتبت كل شيء؛ حتى أغادر البلاد مع زوجتي في الأيام المقبلة.
تبكين في ألم.
أعرف أن قبضته الباردة تعتصر قلبك الآن.
ولم الحزن؟! ألسنا نحن الأحق بالرثاء منه؟!
سنظل نواجه كل هذا القبح، بينما هو في راحة أبدية الآن، بين يدي ربه. ربما يجد عنده بعض الإنصاف الذي فقده معنا.
لا أراه شهيدا ولا بطلا. أعرف أنه كان ضحية أقداره الخاصة، وبطلا بلا بطولة.
كدون كيشوت إذ يحارب طواحين الهواء، ويندفع إلى مصيره المحتوم بحماس محموم، ذاك كان هو.
كان يعيش الكذبة يا سيدتي، وعندما عرف قبح الحقيقة كان أضعف من أن يتحملها، فاختار الهروب إلى الأمام على أن يعيش في الزيف.
الهشاشة النفسية تجعلنا نعلق ذواتنا بأول شخص يفتح لنا أذرعه محتضنا رءوسنا. وهذا ما فعله بالضبط.
لكن، أعتقد أن الوقت قد حان لأخرس قليلا، وأكف عن الثرثرة، وأدعك لبعض مما أنت فيه.
2
الثلاثاء: 26 ديسمبر 2017م
تدق الساعة في مكتبي معلنة أنها التاسعة مساء.
أكتب على ذيل الورقة: «تدق الساعة في مكتبي معلنة أنها التاسعة مساء.»
ثم أضع الورقة فوق كومة الأوراق الأخرى التي ظلت تتكدس في بطء وإصرار طوال السنوات الأربع الأخيرة.
أخلع نظارتي، ثم أحمل كأس «النبيذ» براحة يدي، وأضم قاعدته الزجاجية الطويلة بين أصابعي، وأنا أهزه في رفق.
أنهض من مجلسي، وأقف أمام النافذة الزجاجية التي تحتل كل الحائط الغربي من مكتبي بشقتي الواقعة في الطابق الحادي والعشرين من البناية (في الواقع احتجت للعديد من الأشهر، حتى اعتدت النظر عبر النافذة بدون أن تتجمد قدماي رعبا، أو أشعر بالدوار المميز لفوبيا المرتفعات)، أرمق مدينة تورنتو المضيئة، وهي تستعد لاحتفالات العام الجديد.
الكرات الثلجية الهشة تتساقط من السماء بطريقتها الهادئة الساحرة التي تغريني بالخروج والتجول في الشوارع بلا هدى، لكنني لست مولعا بشكل خاص بالسكتات الدماغية المفاجئة أو الذبحات الصدرية، أو أن أصاب - في أفضل الحالات - بالغنغرينا وأفقد أحد أطرافي، ثم أتجمد وأموت.
ربما في ليلة أخرى.
أحدق من ارتفاعي الشاهق في طبقات الجليد ناصعة البياض التي تغطي الشوارع ورءوس الأشجار، بينما المارة يرتدون الملابس الشتوية الثقيلة، ويمشون على الطرقات الزلقة. قالوا في نشرة الطقس الليلة إن الحرارة ستسقط ما دون الصفر في هذه الأيام. بحيرة أونتاريو الفاتنة تتلألأ من بعيد في ظلام الليل، تحت تأثير أضواء تورنتو التي لا تنام، وتترك ذلك التأثير الذي أعشقه.
رائحة البخور السوداني الذي أشعلته زوجتي آمال في الشقة، قبل أن تخرج لعملها في العيادة القريبة تفعم رئتي، وتحرك في دواخلي شبقا جنسيا خافتا يدغدغ مشاعري، ويستجلب من ذاكرتي كل روائح الدلكة والدخان، وطقوس ليالي الخميس الماجنة في السودان.
لقد أنجبنا طفلا جميلا منذ عامين. ألم أخبركم بعد؟
منذ عامين بدأت الحياة تدب في زوجتي أخيرا. ولأول مرة منذ سنوات أرى ابتسامتها الساحرة تعود من جديد، وتضيء المكان.
تضحك، تقهقه، يتورد وجهها فرحا وخجلا، تغازلني في دلال، تقف على أطراف أصابع قدميها، وتقبلني في نهم.
تتقافز في المكان فرحا كالأطفال.
تقول لي إن «عمار» الصغير يشبهني - لسوء حظه - فأقول لها إنه يشبهها أكثر. تلك الابتسامة الجميلة تقول إنه يشبهها أكثر.
أرشف النبيذ، وأرجع بالذاكرة إلى الوراء.
أربع سنوات تحديدا.
كنت جالسا لوحدي في العيادة، أرمق الظلال المتراقصة على جدران المكتب، والتي يرسمها ضوء الأباجورة على سطح مكتبي، وأحدق في الباب حيث خرجت «هبة» في شرود.
تغمرني رائحة عطرها التي ما زالت تفوح في المكان.
صوت نقيق ضفدع في مكان ما يغازل أنثاه، متوسدا أحد المستنقعات الطافحة في الشوارع.
من بعيد، يتناهى إلى مسامعي صوت رصاص يطلق في مكان ما، ثم صمت مطبق، ثم يعاود صوت الرصاص تمزيق هدوء الليل مجددا.
وكأنها ظاهرة ديجا-فو، رحت أحدق مجددا في الظل الماثل أمامي يتشكل من العدم، فأراه واقفا يشد قامته إزائي، ثم ينظر لي بهدوء بوجهه الصلب البارد الخالي من التعابير، ويقول : «برغم كل شيء؛ فقد ساعدتني كثيرا يا دكتور، وإني لك من الشاكرين.»
يختفي الظل، ثم أراه مجددا يقف بجواري قبالة النافذة، يرمق الظلام في الخارج عاقدا يديه خلف ظهره. يرهف السمع في انتباه لصوت غاضب تحمله الرياح من بعيد، يتردد في الأرجاء ويشق سكون الليل:
يا والدة أعفيلي، وعدي القطعتو معاك
إنو الكلام ممنوع، في شلة الحكام
يا والدة دمي بفور، لما البلد تغلي
لما العساكر ديل، الشوهو الإسلام
سجنونا باسم الدين
حرقونا باسم الدين
كتلونا باسم الدين
الدين بريء يمه
الدين بقول الزول، إن خلى حقو يموت
الدين بقول تمرق
تمرق تقيف في الضد
وتواجه الحكام
وسمعت أصوات تصفير، وأصوات تكبير، وهتافات مختلطة غير مفهومة.
لا بد أنها مظاهرة تتكون الآن.
أصوات رصاص بعيدة تحملها رياح الليل. ثم يعود السكون.
قال دون أن يلتفت لي: «كانت شرارة سبتمبر بعض الأمل الذي فقدوه. عرفوا مدى هشاشة ذلك الفيروس الشيطاني الذي ظل يتخلل مسام جسدهم ربع قرن من الزمان. رأوا ضعفه أمام حفنة من طلاب الثانوي والجامعة العزل إلا من بعض إيمانهم.
عرفوا أنه - كأي فيروس في الواقع - يقوى ويستمر على حساب ضعف الجسد المضيف. يقوى بشعورنا بالأفضلية تجاه إخواننا في ذات الوطن المختلفين عنا في اللون درجة، وفي الدين مذهبا، وفي القبيلة مسمى.
تستحكم قبضته المستبدة على أعناقنا، كلما نبذ بعضنا بعضا بمسميات الأفضلية القبلية، والتفاضل الديني، ونقاء الدم وعراقة الأصل. وننسى أننا على ذات المركب الغارق.
وبينما نشغل أنفسنا في مجالسنا، وفي صفحاتنا على الفيسبوك بتوافه الأشياء، يزداد من خلفنا الطوفان الذي سيبتلعنا جميعا.»
أغمغم لنفسي وأنا أتحاشى النظر إليه: «سيشوهون سيرتك وسيرتهم، سيلبسون عليكم مسوح الشياطين، ويصفونكم بالعمالة والارتزاق، وكل ما ليس فيكم.» - «لا أحد سيصدقهم.» - «بل سنصدقهم.»
أقولها في عصبية، ثم أشعل سيجارة. أدرك سخافة موقفي الآن فيما لو دخل علي أحد الزملاء، ووجد الطبيب الأشيب الوقور يتحدث إلى نفسه!
أضيف بنفس العصبية: «اكذب واكذب واكذب؛ حتى يصدقك الناس. نظرية وزير الإعلام النازي «جوبلز» إياها. وهم يا صاحبي يكذبون بوجه صلب، يكذبون بوقاحة، يكذبون بأعصاب باردة، ويبيعوننا أكاذيبهم صحفا يومية ندفع مقابلها من قوت أولادنا.
وسنصدقهم؛ ليس لأننا حمقى، بل لنفس الأسباب التي نصدق بها الخرافات، نرغب في تصديق ما يريحنا ويعيننا على تقبل واقعنا المزري ولو كان كذبا، عوضا عن اعتناق حقيقة قد تؤلمنا. إنها طبيعة النفس البشرية كما تعلم.» - «لا أظن ذلك، ما زلت أرى بعض الأمل.» - «وأنا لا أرى سوى الظلام الكئيب.»
أنفث الدخان في بطء، وأنا أتأمل الدخان المتراقص في فضاء المكتب.
بعين الخيال أرى صورة ذلك الطفل في زيه المدرسي المميز لطلاب المرحلة الثانوية، وقد انكفأ على وجهه في الشارع العام، وكف عن الحياة، الدماء تغرق رأسه، وتسيل على الأرض في غزارة.
أرى تلك الوالدة تضع يدها على قلبها في قلق، وترمق الأفق بنظرة ساهمة في انتظار عودته.
ربما سيطرق الباب الآن.
ربما سيعود.
أرى فشل جهود المحامين المتطوعين في تقديم أي بينة ضد أي من المتهمين بقتل المتظاهرين، وتقييد القضايا ضد مجهولين.
لا يوجد متهمون يا سادة، فانفضوا.
أرى النظرات الحزينة البائسة على الأجساد النحيلة في الشوارع، وقد ازدادت حزنا وبؤسا واستسلاما.
خطؤهم الشنيع أنهم سمحوا لأنفسهم ببعض الأمل عند انطلاق الانتفاضة الشبابية، ظنوا أنها ستكون اللحظة الفارقة في إخراجهم من بؤسهم الذي استمر قرابة ربع قرن من الزمان.
كان ضوءا باهتا أضاء ظلام مستقبلهم فجأة، ثم عاد وانطفأ ليعود الظلام أكثر تكاثفا. «أستغفر الله العظيم.»
تقولها والدتي، وهي تمسح دموع الضحك بطرف ثوبها، لتعود وتستغفر من ذلك الذنب العظيم، ثم ترتسم على وجهها ملامح الحزن المفاجئ، كأنها تعاقب وجهها بتلك الملامح، لأنه تجرأ على رسم ملامح الفرح ولو لحين.
وكأن الضحك كبيرة تحتاج طلب الغفران. «أستغفر الله العظيم.»
تقولها الوجوه التعيسة في الشوارع؛ إذ تستغفر من الذنب، بعدما اكتشفت إثم أملها في شيء من التغيير. كان ذنبهم أنهم شعروا بالأمل بسبب بعض الشباب الحالم، حتى استيقظوا ذات صباح على أملهم مبعثرا في الطرقات مع دماء شبابهم الثائر.
عندما نعتاد على الفقر سنين عددا، تغدو تطلعات الرفاهية والعيش الكريم نوعا من الترف الفكري. تابو أسطوري لا يصح مناقشته، وذنب يستوجب الاستغفار لمجرد التفكير فيه.
أرى المظاهرة الليلية تبدأ في التشكل، وتبدأ الحشود في التوافد حول ذلك الشخص النحيل الذي يرتدي الجلباب والطاقية المميزين للزي السوداني التقليدي، تحمله الأكتاف، وهو يهتف وتردد الجموع خلفه بصوت هادر:
حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.
حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.
من بين عشرات الوجوه التي تزدحم في تلك المساحة الضيقة، أرى ذلك الشاب ذا الملامح الأنثوية المبهمة يلتف ببطانية ثقيلة اتقاء للبرد القارس، ويحتضن بيمناه ويسراه امرأة كبيرة في السن وصبيا يافعا، عيناه الصافيتان تلتمعان في قلب الظلام؛ إذ تحدقان في شاطئ غير مرئي، بينما المركب المتهالك يمخر بهم عباب البحر، بلا يقين في النجاة.
يتهادى في العدم حيث لا شيء سوى الظلام البكر الخام، ولفحة برد قارس، وبعض ضوء شحيح باهت، يتسرب من بين ثنايا السحب القاتمة، يبعثه لهم القمر المتواري خجلا - ربما - من رؤية مصيرهم البائس.
وعندما ابتلعهم الموج الأسود.
لم يصرخ أحد.
انتهى كل شيء بسرعة.
كان لا يزال يقف أمام النافذة يرمق المظاهرة التي تتشكل من بعيد باهتمام. يتكاثف الظل ويهتز باستمرار بتلك الطريقة البلورية المرهقة للعين، كعدسة كاميرا تحاول تركيز البؤرة على مشهد ما، يعود التركيز لثوان قبل أن يهتز مجددا. أعتقد أن كلمة (
Focusing ) في اللغة الإنجليزية، والتي يعرفها كل من يتعامل مع برامج تحرير الصور، تصف هذا المشهد بالضبط.
قال في شرود: «لقد قتل هؤلاء مئات المرات قبل أن يقتلهم الرصاص والبحر، تحولوا لجثث تمشي على قدمين، جثث أفقدها الظلم، الذي كانوا يتجرعونه صباحا ومساء، حلمها وأملها بغد أفضل. لم يعد لهم خيار سوى البقاء ومواجهة الموت جوعا ومرضا، أو مواجهته أمام فوهات البنادق، وفي أعماق بحر داكن ليس له قرار، يتلمظ ويطلب المزيد من أجسادهم التي كانت تضج أملا وحلما ببلاد بعيدة، يعيشون فيه كما شاء لهم الله.
أحرارا.
انتشر البؤس على وجوههم كعدوى فيروسية، لا تضعفها كل المضادات الحيوية لأكاذيب الساسة، ولا فتاوى تجار الدين بحرمة الخروج عليه.
بثورتهم أعطوهم بعض الأمل الذي فقدوه. قالوا لنا: من حقكم أن تعيشوا بأفضل مما تفعلون، بإمكانكم تغيير واقعكم إن أردتم، هذا حقكم في الحياة، وليس مكرمة تساومون بها مقابل أمنكم. بموتهم قالوا لنا ذلك، هؤلاء الذين قضوا في سبتمبر كانوا أنبل ما فينا.»
الصوت الغاضب المبحوح يواصل الصراخ في الخارج:
يمة الشباب بحيو، وأنا بالسكوت ميت
هزاع وسنهوري، أيمن ولي الدين
حازم وفاء واحمد، ديل كلهم حيين
أكرم صهيب أحمد، ومحمد الخاتم
مازن منى وعاصم
لابسين حرير أخضر
سندس وإستبرق
وأنا «دمي» بتفرق، ساكت وبتفرج
وأم در عروس النيل
لابسة الرحط والحق، مليان بخور ولبان
ويزغردن نسوان
للكل يوم عرسان.
الهتاف يقلق سكون الليل ويستدعي المزيد من الجموع للتوافد في المكان. أصوات زغاريد النساء تنطلق في خلفية الهتاف، وتزيد من حماسة الشباب الغاضب.
مدرعات مكافحة الشغب تحمل الرجال المدججين بالأسلحة النارية، والهراوات وقنابل الغاز، تتقدمها مجموعة من دوريات الشرطة وهي تتوجه لمكان التجمع، وصوت السرينة؛ إذ يعوي بذلك الصوت الطويل المنذر بالويل وأضواؤها الخاطفة تنتشر في كل مكان، وتبدد ظلام الليل.
أبواب البيوت في الشوارع تفتح، وتمتد الرءوس من الداخل في خوف واضح. هناك نفوس ستقابل خالقها هذه الليلة.
ثم فجأة - وكأنما هبط علي وحي ما - أدركت الآن لماذا اهتممت ب «عمار» كل هذه الفترة.
كان ابني.
هذا ما كنت أراه فيه بلا زيادة أو نقصان.
كان يمثل لي الابن الذي تمنيته أن يكون، ولم أرزق به طيلة حياتي، ولما قابلته طورت ناحيته مشاعر أبوية صادقة.
وإن كانت غير مفهومة بالنسبة لي في وقتها.
ظننتها إعجابا وشفقة، وقد كنت مخطئا مجددا.
مخطئا كالعادة.
أعتقد أنه في قرارة نفسه كان يبادلني نفس المشاعر.
كانت «هبة» هي احتياجه للحب الأنثوي الذي دفن مع والدته منذ سنين.
بقليل من الذكاء وكثير من الخيال والتركيز أرى الآن القاسم المشترك الذي رآه هو - لاشعوريا - بين والدته و«هبة» (وهو متروك لخيال قارئ هذه الأوراق الآن).
كان يراها فيها.
لهذا انجذب لها بتلك السرعة.
لهذا أحبها بذلك العنف.
ولهذا يئس من الحياة عندما فقدها؛ فهو لم يفقد محبوبته في واقع الأمر، لكنه فقد والدته مجددا.
كنت أنا الأب الذي لم يجده معه في عهد الطفولة، والمراهقة والشباب.
الأب الذي يستمع، ويتفهم، وينصح، ويوجه بحكمة للصواب.
ويحمي!
ما ظننتها آخر فصول أنانيته المستمرة لجري إلى عالمه المأساوي، كانت تلك المكالمة - في واقع الأمر - هي نداء الاستغاثة الأخير منه.
استغاث بي طلبا للحماية.
لجأ لي عندما أحس بالخوف والوحدة، وهو ينزف ويلفظ أنفاسه الأخيرة على أرض الزنزانة الإسمنتية الباردة.
كان بحاجة إلى من يحميه منهم.
في لحظاته الأخيرة تلاشت هالة البرود والتعالي الذين لطالما أحاط بهما نفسه، عاد طفلا صغيرا خائفا منكمشا على نفسه يخشى الظلام ويرجو حماية الكبار.
أعرف أنني في أعماقي قد أدركت هذه الحقيقة.
عرفت أنني قد تخليت عنه في الوقت الذي كان يحتاجني فيه جدا، برغم عدم إدراكي الواعي لحقيقة مشاعري.
لهذا كان الشعور بالذنب يقتلني.
لم أستطع مساعدة «منى»، ولم أستطع مساعدته.
وللهروب من شعوري بالتقصير تجاهه، رحت أبحث في قضيته بعد وفاته، حتى أجد ما أبرئ به نفسي أمامها.
هل كان بإمكاني تغيير أي شيء حقا؟! هل كان بوسعي تلافي أي مما حصل؟!
ثم أمسك القلم وأبدأ الكتابة. «هل كان بالإمكان تلافي بعض مما كان؟»
السؤال الذي ظل يؤرقني ويقض مضجعي.
تلك هي اللعنة التي أورثني إياها «عمار»، وظلت تطاردني منذ وفاته.
القاضي الصامت في أعماقي ينظر لي في صرامة. حان وقت المحاكمة يا عزيزي.
لكن لم يكن بإمكاني تغيير شيء، تلك أقدارك ومشيئتك، ومن أنا لأغير خطتك الأزلية؟!
لسنا سادة أنفسنا، ولا أصحاب مصائرنا. فما بين الكاف والنون كان كل شيء، وما سيكون كذلك. كل القتلة والقديسين والأنبياء والعاهرات واللصوص والملوك والفقراء بلا مأوى ولا قوت والملائكة والشياطين، من عاش ومات منهم ومن سيعيش، كل قصص الحروب، ومجازر ما قبل التاريخ وما بعده، من قتل ومن قتل، من زنى ومن عف، من صدق ومن كذب، من آمن ومن هرطق، ومن أباد البشر والشجر في دارفور، وفي التاريخ ألف دارفور. ما كل هؤلاء إلا دمى الماريونت التي تتراقص بلا هوادة على خشبة مسرحك الأزلية، ولا يسمح فيها بالارتجال عن النص المكتوب، فلا تملك الأعناق إلا الانصياع مكرهة.
فلماذا تقاضيني على ما قضيته لي رغما عني بلا حيلة مني في تغييره؟ ولماذا تؤلب علي ضميري؟ لم يكن بوسعي تغيير شيء، هل تسمعني؟
لم يكن بوسعي تغيير شيء.
تلك مرافعتي عن نفسي وذاك دفاعي، فانظر ماذا ترى.
ولا تتحججن بجهل الأولين، ولا تقف ما ليس لك به علم. وهل عرفت يا ابن آدم أي شيء عن نفسك، قبل أن تدعي معرفة كل شيء عني!
تتحدث كحكماء القصص القديمة يا رب، مر وقت طويل منذ أن تحدثنا معا آخر مرة، لم تعد تزورني مؤخرا، فقط تسمعني وتتجاهلني كالعادة.
أقولها وأنا أحدق مشدوها في الضوء الباهر المتراقص، كالموج عبر ثقب انفتح بغتة في السماء.
ثم بدأ ذلك النبض يخفق في صدغي.
بهدوء، لكن بإصرار.
لا بد أنها نوبة صداع أخرى على الأبواب.
وأنظر عبر نافذة العيادة حيث الشارع الخلفي الخالي شبه المظلم، فأرى ذات السيارة البوكس متوقفة عبر الطريق، وفي مساحتها الخلفية المكشوفة يجلس شخص سقطت عليه إضاءة عمود الشارع من الأعلى، فأخفت ملامحه في الظلام، وعكست حدود جسده الخارجية بطريقة السلويت المميزة مما جعل مظهره مرعبا، ينفث دخان السيجارة في هدوء، ومن وضعية جسده قدرت أنه ينظر لنافذة العيادة في تركيز.
صوت بعيد حاد لأجراس كأجراس الكنائس يتردد في مكان ما وهو يتعالى رويدا رويدا. يتردد داخل عقلي بوضوح مزعج، هل تسمعه معي؟
أرى الظل يظهر من العدم، ويتشكل أمامي بتلك الطريقة المتموجة المخيفة. «عمار» الطفل يحمل أخته على كتفه، وهو يجري هربا من الموت المتربص في كل خطوة، يجري ويبكي عبر الدخان والنار، ووسط شهقات الاحتضار.
ببراعة يقهر الموت، ويفلت من قبضته المستبدة.
أرى الدخان يتصاعد من أطلال قريته التي تمت إبادتها عن بكرة أبيها.
الظل يتموج ويتشكل بسرعة، تتمطى أجزاءه الخارجية، ثم تعود للاندماج لتعيد تشكيل المشهد. هل رأيت من قبل صورة مجهرية للأميبا؟ حسنا. يشبه الأمر هذا بالضبط.
أرى والدته تتعرض للاغتصاب.
تصرخ، تقاوم، تخمش، تبكي، تتوسل، تئن، تستغيث، تدعو.
بينما يتناوب عليها الجنجويد بالعشرات، ثم يطلقون عليها النار في الرأس.
أرى أخته تموت في الجبل موتا بطيئا مؤلما.
صوت الأجراس هذا!
لا أدري إن كنت رأيت هذا في الظل حقا، أم هي خدع الظلام والظلال البصرية، أم أن عقلي لا زال يتلاعب بي.
لكن هل هناك ظل فعلا؟
أصوات أقدام وجلبة خارج المكتب، وأصوات همهمات تردد فيها اسم «عمار» عدة مرات. أرى ومضات من ضوء كشافات يدوية تنعكس لثوان على الزجاج الخشن في باب المكتب. لا أعرف ما يحدث، لكن الأصوات أشعرتني بالخوف فعلا.
هو ليس هنا حقا. فبالتأكيد أنا خاضع لنوع من أنواع الهلوسة. هلوسة بصرية وسمعية، فأرى وأسمع وأتفاعل مع أشياء ليست موجودة في الواقع.
ربما كنت أهلوس من البداية. ربما لم أعرفه أصلا.
من يضمن لي أنني طبيب أصلا، ولست أحد المرضى المحتجزين في المستشفى؟
هل كانت «هبة» هنا فعلا؟
يصعب علي تخيل نفسي جالسا لساعات، أحكي كل هذه الأحداث للكرسي الخالي أمامي.
صوت الأجراس هذا!
وأنظر إلى نفسي في انعكاس غطاء الأباجورة النحاسي اللامع الموضوع على سطح المكتب، يعمل بكفاءة كمرآة جيدة الصقل، وكثيرا ما كنت أستخدمه لتشذيب شاربي، ليست ملامح وجهي التي أعرفها. اختفى الشيب وتلاشت الملامح العجوز المرهقة واختفت النظارات، وجدت نفسي أحملق في الوجه الجامد ل «عمار» في انعكاس المرآة يحدق في بإصرار. أحرك وجهي يمينا ويسارا في بطء، وعيناي معلقتان على الانعكاس فيقلدني بدقة.
لماذا يرتدي نفس قميصي؟
أتحسس السوار العريض الذي يحيط بمعصمي كالساعة. وأرفع معصمي أمام وجهي وأنا وأدفع النظارة لأعلى قليلا على قصبة أنفي بسبابتي، وأضيق عيني أكثر . برغم الضوء الخافت أستطيع أخيرا أن أقرأ المكتوب بخط منمق دقيق: (عمار سليمان، ح، رقم: 55148 - فصام/
Schizophrenia -
DSM code 295.1/ICD .)
ما معنى هذا؟!
بدأت أشعر بذلك النبض يتزايد في الصدغ الأيسر في رأسي. يخفق بقوة بدوي كدوي الطبول يسري كالتيار الكهربي في تلافيف مخي.
أشواك حادة تغزو أعلى عيني أسفل الجفنين.
الصداع يتعاظم، الصداع اللعين يتعاظم.
الأسبرين.
أين الأسبرين عندما تحتاجه؟!
صوت الأجراس هذا!
من جديد أرى الظل يتراقص عبر المكان، ثم يتمدد على الأريكة أمامي، يبكي في حرقة. ينظر لي ويقول، وهو يمسح الأثر الملحي على وجهه: «لقد فقدت إيماني يا دكتور، لم أعد أومن بإله غير مكترث لا مبال، ولماذا الخضوع لسطوته؟! لا أومن به، ولا أحب فكرة أن أمي قد ذهبت للعدم. وصارت إلى اللاشيء، إنه لا يوجد قصاص، أتمنى وجوده وأرفضه بكل جوارحي.» «يا إلهي» يصرخ بها بألم بالغ، وضيق متعاظم ناء به صدره المرهق. «لماذا خلقتني لكل هذه المعاناة، أنا لم أطلب ذلك.»
يخفت الظل ويتلاشى، فأقول له صارخا: «كيف تتمرد عليه وأنت صنيعته؟! قفزت إلى المجهول، ووقعت بين يدي من ليس كمثله شيء. أنت الجزء من الكل، الفاني من الخالد. أنت جزء من روحه ذاتها منذ نفخك من روحه الأبدية قبل ملايين السنين. كما جاء في الأساطير الأولى. وكما نطق القرآن.
فاعرف، يا بني، أنه سيتفهم معاناتك كما تفهمتها. وسيعذر ضعفك كما فعلت. لا أتوقع منه أقل من ذلك.»
فيجاوبني صدى صوت بعيد، ما زال يتردد في الأرجاء، ويشق سكون الليل:
يا والدة أعفيلي، وعدي القطعتو معاك
الطلقة ما بتكتل
بكتل سكات الزول
Página desconocida