إهداء
مقدمة
تمهيد
1 - هل تحممت بعطر وتنشفت بنور!
2 - هيبنوسيس
3 - وفي النفس شيء من حتى
4 - البيت
5 - أنبل ما فينا
إهداء
مقدمة
Página desconocida
تمهيد
1 - هل تحممت بعطر وتنشفت بنور!
2 - هيبنوسيس
3 - وفي النفس شيء من حتى
4 - البيت
5 - أنبل ما فينا
هيبنوسيس
هيبنوسيس
تأليف
مهند رحمه
Página desconocida
إهداء
إلى أولئك الذين بذلوا حيواتهم في سبيل حلم آمنوا به، واعتنقوه.
الذين صنعوا - على قصر مدة تواجدهم في الحياة - معنى وجودهم فينا.
وفي ذاكرة التاريخ.
إلى أرواح شهداء ثورة سبتمبر.
يوم نموت،
سيمحو النسيم الرقيق آثار أقدامنا على الرمال،
بعدما يفنى النسيم.
ترى من يخبر الأبدية،
أننا مشينا هنا مرة في فجر الزمان؟
Página desconocida
من أغاني شعب البوشمن
مقدمة
«هل كان بالإمكان تلافي بعض مما كان؟»
السؤال الذي ظل يؤرقني، ويقض مضجعي.
تلك هي اللعنة التي أورثني إياها «عمار»، وظلت تطاردني منذ وفاته.
لقد ترددت كثيرا - حوالي أربع سنوات - قبل أن أقرر أخيرا أن أمسك القلم وأبدأ كتابة أحداث ذلك العام. في البداية كان خوفي الشخصي من تعرضي للمضايقة، أو سحب رخصتي الطبية وقتها، ينازعه شعوري بالمسئولية الأدبية عما حدث. شعور أثقل كاهلي ومنعني حتى من ممارسة عملي كما يجب، حتى قررت أخيرا - تحت إلحاح ضميري - ضرورة الكتابة، ونشر أحداث تلك الفترة المشئومة للرأي العام.
الصفحات التالية عبارة عن تفريغ أدبي لمجموعة متنوعة من التسجيلات الصوتية، والملاحظات الورقية التي تم جمعها في الفترة من: ديسمبر 2012م، حتى يوليو 2013م، عن المريض «عمار سليمان»، صاحب الحالة رقم «55148»، بعيادة الطب النفسي في مستشفى الخرطوم التعليمي.
ونظرا لما تحتويه هذه الأوراق من تفاصيل شخصية للغاية، تنتهك خصوصية المريض المعني، كما تنتهك بند سرية المعلومات التي يقدمها المريض للطبيب النفسي، بحسب المادة الخامسة، من إعلان مدريد للجمعية العالمية للطب النفسي، للعام 1996م، الذي ينص على:
ينبغي أن تبقى المعلومات التي تم الحصول عليها من خلال الجلسات العلاجية سرا، ولا تستخدم - حصرا - إلا بغرض تحسين الصحة النفسية للمرضى، ويعتبر ممنوعا على الأطباء النفسيين استخدام مثل هذه المعلومات لأسباب شخصية، أو لفائدة مادية أو أكاديمية ، ويمكن تخطي هذه السرية فقط في حالة ما إذا كان هناك ضرر جسدي أو نفسي قد يقع على المريض أو شخص آخر، أو أي تهديد على الحياة، يمكن حدوثه إذا استمرت هذه السرية.
ولما كان الضرر الناتج عن كتمان مثل هذه المعلومات أكثر من إفشائها، فقد ارتأيت أن المصلحة العامة تقتضي نشر هذه التفاصيل، خاصة وأن المريض المذكور قد قدم موافقته الشفهية والخطية بموافقته على نشرها في حال وفاته.
Página desconocida
وقد كان.
أما بخصوص الأشخاص المشتركين في هذه الأحداث فقد اطمأننت إلى استحالة الوصول إليهم لاحقا، وتعرضهم لأي نوع من أنواع المضايقة أو التحرش.
وأحسبني قد بذلت كل الجهد؛ حتى لا يسبب هذا الكتاب ضررا أو حساسية لأي من الشخصيات المشاركة في أحداثه، كما أحسبني - كذلك - كنت مراعيا للمصلحة العامة في نشر هذه الأوراق.
والله ولي التوفيق.
د. جمال عبد الرحمن مصطفى
الطبيب النفسي، ورئيس هيئة الإرشاد والصحة النفسية،
بمستشفى الخرطوم التعليمي سابقا
تمهيد
الخميس: 3 أكتوبر 2013م
في الرابعة والنصف صباحا لا يستطيع «مجاهد» النوم مجددا.
Página desconocida
يظل على سريره لدقائق، يرمق السقف في شرود وهو يفكر في أحداث اليوم السابق. وهي عادته في السنوات الثلاث الأخيرة التي ظل فيها يعمل مساعدا في إحدى حافلات النقل العام.
والدته تعرف زوجة «الجلابي» صاحب الحافلة شخصيا، وقد توسطت له عندها؛ حتى يستطيع الحصول على الوظيفة. فبعد أن توفي والده، اضطر لترك المدرسة والعمل للمساعدة في نفقات البيت، ومصروفات دراسة أخته الصغرى.
يرمق مروحة السقف العتيقة التي تدور في إنهاك، وإصدار صوت صرير مزعج، (تحتاج بعض الزيت)، يفكر في نفسه.
لا بد أن يتذكر أن يشتري بعضا منه في أقرب فرصة.
بالأمس كان ذلك الراكب الذي افتعل مشاجرة معهما، واتهمهما بالجشع وفراغ العين؛ لأن «عم عبد الله» ظل يماطل في التحرك من المحطة حتى تمتلئ الحافلة، ثم ابتدأت نوبة من النقاش المحموم بين ركاب الحافلة الذين راحوا يؤكدون أن كل سائقي الحافلات جشعون فارغو العين، ويتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي ولى، عندما لم يكن سائقو الحافلات جشعين إلى هذا الحد.
انبرى أحد الركاب، وقال في ذكاء واضح: «زمن نميري الناس كان عندها ضمير.»
هز الجميع الرءوس استحسانا، ثم تحول النقاش إلى «زمن نميري».
هناك شاب نحيل متعرق، يحاول بمرفق يده ملامسة صدر الفتاة التي تجلس بجانبه، ويتظاهر بأنه لا يفعل، وقد ارتسمت على وجهه كل آيات البراءة والنقاء وصلاح القديسين.
هناك طالب جامعي يضع سماعات الهاتف المحمول في أذنيه، وظل طوال الرحلة يعبث في شعره بأصابعه، وينظر عبر النافذة في شرود هائما في ملكوت الله.
هناك شخص يتحدث عبر الهاتف المحمول بصوت جهوري، ويحكي أدق تفاصيله الشخصية أمام بقية الركاب الذين يرهفون السمع في استمتاع واضح.
Página desconocida
هناك ذلك الرجل العصبي الذي أصر على عدم دفع الأجرة الجديدة، ثم شتمه وشتم السائق وشتم البلد وشتم الحكومة. «الحرامية أولاد الكلب، بتسرقونا عيني عينك كده؟!»
هكذا توسط العقلاء وأولاد الحلال لتهدئة الرجل، وقام أحدهم بتسوية الأزمة، ودفع المبلغ المتبقي عنه. ثم ابتدأت حلقة نقاش أخرى بين ركاب الحافلة، الذين راحوا يؤكدون أن الحكومة تسرق أموالهم بالفعل، ويتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي ولى، عندما لم تكن الحكومات تفعل ذلك.
انبري أحدهم، وقال في ذكاء يحسد عليه: «نهاجر الخليج نخليها ليهم.»
فهز الجميع الرءوس استحسانا، ثم تحول النقاش إلى مزايا ومساوئ العمل في دول الخليج. «عم عبد الله» (السائق) رجل كبير في السن، قضى نصف عمره في قيادة حافلات «الجلابة». فبعد أن أحيل للصالح العام بعد قدوم الحكومة الجديدة لم يجد لنفسه عملا يتقنه غير القيادة.
عمل في بعض الشركات الخاصة، وقاد شاحناتها لنقل البضائع عبر الولايات، وعمل في التهريب لفترة عبر حدود بلاد الأحباش، قبل أن يستقر في عمله في حافلات النقل العام.
وقد كون ثروة لا بأس بها طوال سنوات عمله العشرين؛ حتى يستطيع ترك شيء ما لزوجته وأبنائه بعد وفاته، وهو ما كان واردا حدوثه بشدة بعد قائمة الأمراض التي يجمعها في إصرار.
ابتداء بالسكري والضغط، وحتى مشاكل القلب وهشاشة العظام. ومؤخرا أخبره الطبيب بأنه مصاب بمرض نادر في الدم يسمى «فقر الدم الانحلالي المناعي الذاتي».
لم يفهم حرفا مما قيل، لكنه راح يحدث الجميع عن «فقر الدم الانحلالي المناعي الذاتي» الذي أصابه دون سائر خلق الله.
كان يؤمن بأنه كلما ازداد مرضه كان هذا دليلا على صلاحه وتقواه. - «المؤمن مبتلى» يقولها في خشوع، ثم يحمل المسبحة ويتمتم ببعض الأوراد.
بعد سنوات من العمل في المجال تعلم أنه حتى يستطيع الحفاظ على اتزانه النفسي في هذا العمل، فعليه أن يتحاشى المعارك الصغيرة، وأن يتجاهل تحرش الركاب الغاضبين به وبمساعده الشاب الصغير.
Página desconocida
فهؤلاء ليسوا غاضبين منه فعليا (يقول لنفسه)، لكنهم يبحثون عن متنفس ما يخرجون فيه غضبهم المتراكم من ضغوط حياتهم الشخصية.
وهو ما كان يتفهمه جيدا؛ نظرا للأوضاع المعيشية التي ظلت تضيق منذ سنوات.
لكنه كان يحتفظ دوما بفأس جميلة تحت مقعده تحسبا للأسوأ.
بعد الرابعة والنصف صباحا، لا يستطيع «مجاهد» النوم مجددا كما قلت.
لذلك يبدأ روتينه اليومي بأن يشرب الشاي بالزلابية اللذين يجد والدته تعدهما. يصلي الفجر في المنزل، يقبل رأسها وتدعو له بالتوفيق والرزق. ثم يقود الحافلة حتى النيل بجوار كبري المنشية، يقوم بغسلها وتنظيفها، ثم يقودها مع شروق الشمس إلى منزل «عم عبد الله»، ليبدأ يوما جديدا.
اليوم تحديدا رأى شيئا غريبا بجوار الكبري.
كان ينظف الحافلة من الداخل كالمعتاد، الشارع خال في ذلك الوقت المبكر من الصباح قبل شروق الشمس، عندما رأى سيارة بوكس تتوقف أعلى الجسر، يستطيع أن يراها بوضوح من مكانه بالأسفل.
وتساءل مع نفسه عن السبب الذي جعل السائق يقود السيارة، وقد أطفأ ضوء الكشافات الأمامية برغم الظلام الحالك.
رأى شبح رجلين يخرجان من السيارة، ثم يتجهان لمؤخرة السيارة ويلتقطان شيئا ما يتعاونون لحمله بصعوبة واضحة، ثم يرمونه من أعلى الجسر في النهر.
دوى صوت الشيء إذ يرتطم بالماء، يغوص لثوان قبل أن يعود ويطفو مجددا، وينساب مع تيار الماء، حتى اختفى في الظلام.
Página desconocida
الرجلان يقفان على حافة الجسر ينظران إلى مكان سقوط الشيء لدقيقة، ثم يعودان للسيارة وينطلقان.
لم يكن «مجاهد» يفهم ما رآه، وإن بدا له الموقف مريبا على نحو خاص، لكن الرجلين كانا يتصرفان بثقة وهدوء.
لا أحد يفعل شيئا مريبا، ويتصرف بهذا الهدوء. «نفاية!» فكر في نفسه، وهو يرمق السيارة؛ إذ تختفي من مجال بصره.
لكن من الذي يتخلص من نفاياته في الخامسة والنصف صباحا؟! ثم من الذي يتخلص من نفاياته بهذه الطريقة؟!
لا وقت لديه للفهم، عليه أن ينتهي من التنظيف؛ حتى يصل لعم عبد الله في الموعد. - «المروحة تحتاج بعض الزيت.»
قالها مذكرا نفسه، وهو يعود لتنظيف مقاعد الحافلة.
الفصل الأول
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور!
عينان واسعتان شفافتان بريئتان شعر أمامهما بأنه وغد جدا، نجس جدا، منحط جدا، ملوث جدا.
تلك عيون لم تخلق للبكاء أو التكدر، ولم تر صاحبتهما سوءا طوال حياتها.
Página desconocida
عينا ملاك لو كان للملائكة عيون، تحكيان عن البراءة الخام كما خلقها الله. ***
1
هل تسمحين لي يا سيدتي بإشعال سيجارة؟
حسنا، شكرا لك.
سأخبرك سرا لا يعلمه أحد سواي. أنا لا أحب التدخين ولا المدخنين ولا أطيق رائحة السجائر، وبرغم هذا أحمل في جيبي علبة سجائر دائما.
تسألينني: ولماذا أدخن إذن؟!
أعتقد أن السجائر تساعدني على التركيز وترتيب أفكاري.
ربما أنا أمارس الإيحاء على نفسي بأن أعتقد أنني سأصبح فجأة أكثر حنكة وحكمة عندما أنفث الدخان، وأرى الدخان السام يتراقص أمام ناظري قبل أن يتلاشى، وكأنها مشاكل فكري ذاتها تتلاشى أمام ناظري.
يقولون: إن «فرويد»، أبا التحليل النفسي، كان الغليون لا يفارق شفتيه، كل علماء النفس العظماء كانوا يدخنون بشراهة، ربما السجائر تجعلني أشعر أنني مثل هؤلاء العظماء على نحو أو آخر.
نوع من التقمص إن صح التعبير. إن لم أكن مثلهم؛ فسأحاول أن أبدو مثلهم.
Página desconocida
حين أفكر في «عمار» أدرك كم كان القدر مراوغا وظالما معه.
لقد بعثره يا سيدتي بلا ذنب جناه، صنع منه مأساة تمشي على قدمين، وأفقده إيمانه فينا وفي عدل الله.
نعم، كنت أعرف «عمار».
ليس بقدر معرفتك به ربما، لكنني استطعت أن أنفذ خلف أسوار الصمت والغموض التي أحاط بها نفسه، كان كظلمات بحر لجي ليس له قرار، تغشاه الأمواج وتغلف حقيقته.
غامضا كالموت، تعيسا كإبليس، عندما طرد من رحمة الله.
من أين جاء «عمار»؟ وكيف عاش؟
كيف كانت لحظاته الأخيرة؟
هل وجد الراحة التي كان ينشدها؟
هل وجد الأجوبة على تساؤلاته التي طالما أقضت مضجعه، وجعلته كارها لكل شيء؟
فيم كان يفكر وهو يمشي متثاقلا يجرجر قدميه، خارجا من عيادتي لآخر مرة، بعدما عرف ما لم يكن عليه أن يعرفه؟!
Página desconocida
لا أعرف بالضبط فيم كان يفكر، ولكنني أستطيع رؤية النظرة الخالية من أي تعبير التي كست وجهه. نظرة من لم يعد لديه شيء ليخسره.
هل فكر في أمه العجوز الطيبة وأخته، وهو يغلق عينيه للأبد؟!
هل بكى؟
لن أعرف أيضا.
كل ما أستطيع تقديمه هو مجموعة من الفرضيات، ونظرتي الخاصة لما حدث، خصوصا بعد كم الغموض الذي غلف حياته ووفاته.
ما أعرفه يقينا أنه كان يحتوي على أشلاء شخصية مبعثرة للغاية، شخصية مرضية غير سوية، فشلت في التعاطي مع المجتمع ومع الواقع كما هو.
لكنه برغم كل شيء قد صنع معناه في الحياة كما شاء.
كسر شماعة الظروف والرضا بالمقسوم في حياته. لم يستطع الواقع أن يسيطر عليه كباقي الظانين مثلي. إنهم بطول تواجدهم في الحياة فقد عاشوا حيواتهم الباهتة لنهايتها.
شربوا من كأسها المترع، حتى آخر نقطة.
فيما أرى، فهو وأمثاله سيلهمون شباب هذا الجيل والأجيال التالية في هذا البلد التعس. هو وكل الشباب الصادق النضر الذي هتف معه في شوارع الخرطوم. إنهم يستطيعون التغيير حقا.
Página desconocida
لا حدود للطموح. يمكنك أن تحقق المستحيل طالما أردت ذلك.
وقد صدق الشافعي رحمه الله عندما قال: قد مات قوم وما ماتت مكارمهم. وعاش قوم وهم في الناس أموات.
الظلم يا سيدتي يقهر الرجال، وقد قهره وحطمه.
كنت أنا وهو ضدين في كل شيء، وبالضد يظهر عمق الخلاف وتزيد هوة الفرق بين الأجيال.
جيلي وجيله.
أسعى للتبرير، وهو يسعى للإدانة.
أومن بالقضاء والقدر خيره وشره. وهو يوقن أننا سادة أقدارنا، وأصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في حيواتنا. «لسنا أحجارا في رقعة شطرنج، نسير وفق ما رسم لنا سلفا» هكذا قال لي.
كنت أقاومه طالبا بعض التأني والحكمة، وهو يدفعني بسرعة جنونية طلبا للمجد.
ماذا سيستفيد من صنع مجد لن يعيش ليراه ويستمتع به؟
كدون كيشوت في معركته العبثية؛ إذ يحارب طواحين الهواء، كانت تلك حياته المأساوية.
Página desconocida
غاضبا دائما كأحد آلهة الإغريق الأسطورية.
متمردا على كل شيء، كافرا بكل شيء.
المرات التي التقيته فيها كانت كافية لأعرف أنك، يا سيدتي، كنت أحد الفصول المهمة في حياته، لا أراني مبالغا إن قلت إنك كنت الفصل الأهم في حياته التعسة.
القشة التي قصمت ظهر البعير، إن صح التعبير.
أرى الحيرة والتساؤل في عينيك. لقد دعوتك لزيارتي في عيادتي المتواضعة بعد معاودتك الاتصال بي، دون أن أعرفك بنفسي أو سبب زيارتي، وهذا مما لا بد منه ما دمنا سنمضي في التفاصيل القادمة معا.
لم أعتقد أن «هادية» ستحتفظ برقمي وتسلمك إياه فعلا، ظننتها سترميه في أقرب سلة قمامة، أو تنسى كل شيء عني. أشكرها لهذا وأرجو أن توصلي لها اعتذاري لكذبي عليها بخصوص هويتي.
أعتقد أن اللافتة التي رأيتها في باب المكتب، والتي تقول: د. جمال عبد الرحمن - الطبيب والمعالج النفسي، تختصر الكثير. لكنها لن تقول لك ما أنا بصدد إخبارك به الآن.
إن لم تخني الذاكرة؛ فقد حدثت كل هذه الأحداث التي سأحكيها لك الآن في الفترة التي كان «عمار» يتردد فيها على عيادتي ما بين شتاء عام 2012م وخريف عام 2013م. أما الأحداث نفسها فقد ابتدأت قبل هذا بكثير. بعض التفاصيل عرفتها لاحقا من أصدقائه الذين التقيتهم، وبعض التفاصيل لم أعرفها حقا وما زالت غامضة بالنسبة لي، لكني حاولت ملء الفجوات المتناثرة هنا وهناك باستنتاجاتي الخاصة.
هل حصلت على انتباهك كاملا يا سيدتي؟
حسنا، أعتقد أن القصة بدأت كالتالي.
Página desconocida
2
كانت السماء تصطبغ بلون أحمر قاتم يميل للسواد، وراحت السحب السوداء القاتمة تتراكم بسرعة بصوت قرقعة مكتوم ، وكأن الرعد يتنحنح قبل أن يطلق زئيره القادم، وبسرعة بدأت الموجودات في التلاشي في قلب الظلمة. شق لسان من البرق قلب السماء والتمع الوهج القوي الخاطف يبهر عينيه، وقبل أن يتلاشى بالكامل، دوى زئير صوت الرعد يصم الآذان.
كان خائفا كما يجب، قلبه يتواثب بين ضلوعه، وهو يتأمل الصحراء الخالية المنبسطة أمامه، والرمال الناعمة الحمراء بلون السماء. ويتساءل مع نفسه كيف جاء هنا؟
لا يعرف، ما يعرفه أنه خائف، وأن أنفاسه تتلاحق، وأن عليه أن يهرب.
وكأن الوضع ليس كابوسيا بما فيه الكفاية، ظهر ذلك الصقر في الأفق من لا مكان، وهو يحلق بسرعة. وعندما التمع وهج البرق مجددا وأضاء الموجودات. لثوان أدرك أن الصقر ضخم على نحو غير طبيعي. كما أدرك أنه يندفع من الأعلى نحوه بالذات.
هكذا أطلق ساقية للريح.
صوت الرعد يزداد قوة ورعبا وهو يجري، ينظر للخلف، يتعثر ويسقط في الرمال الحمراء، وهو يسب ويلعن، ينهض ويجري مجددا. يشعر أن قدميه تتثاقلان أكثر فأكثر.
سمع صوتا جهوريا يتردد في إصرار، وبلهجة آمرة: «دافع عنها بحياتك»، «دافع عنها بحياتك»، «دافع عنها بحياتك».
يدافع عمن؟!
لم تكن هناك جهة جغرافية يصدر منها الصوت، كان يتردد في كل مكان. ولغرابته فقد بدا له مألوفا.
Página desconocida
قدماه تتثاقلان أكثر وأكثر. السحب تزداد سوادا وكثافة، وصوت الرعد يزداد ضجيجا.
لسان جديد من البرق يشق المكان، وينير الموجودات حوله لجزء من الثانية.
التفت خلفه. كان الصقر على بعد عشرة أمتار منه، وقد فرد أجنحته ومد مخالبه للأمام متهيئا للانقضاض عليه، وهو يضحك بصوت عال أشبه بالقهقهة.
منذ متى تضحك الصقور بصوت عال أشبه بالقهقهة؟!
فتح «عمار» عينيه.
ولوهلة ظل يحدق في الأعمدة الحديدية المتشابكة أسفل السرير الذي يعلوه، ويحاول استيعاب أين هو وماذا يفعل بالضبط؟
نفس الحلم للمرة الثانية في شهر واحد.
نفس الحلم بنفس التفاصيل.
كان «إبراهيم» ينظر له منحنيا عليه بنصفه الأعلى، وهو يضحك بطريقته المميزة التي تشبه القهقهة. - «شكله كان كابوس.» قال إبراهيم.
نظر له متسائلا، فأضاف وهو يرمي منشفة الاستحمام على كتفه ويتجه للحمام المرفق بالغرفة: «كنت بتتكلم وانت نايم، اصحى ورانا جامعة».
Página desconocida
راح يتمطى، وهو يلوك تلك الأشياء الغامضة التي يلوكها كل من يصحو من النوم. اليوم أول أيام الجامعة.
جامعة الخرطوم الجميلة المستحيلة، كما يسميها أبناؤها. كانت الدراسة فيها حلما بعيد المنال بالنسبة له في فترة من الفترات، والآن أضحت واقعا غير قابل للتصديق.
فمنذ أن انتقل إلى الخرطوم - منذ حوالي الشهر - وظل في هذا السكن الداخلي الخاص بالطلاب، وهو يكرس كل جهده لشيء واحد، أن يدرس بجد ويتخرج بتقدير عال حتى يستطيع بناء حياته العملية لاحقا.
كنت تعلمين بالتأكيد يا سيدتي؛ فهو لم يكن من الشخصيات التي يمكنك وصفها بالاجتماعية، وطوال فترة وجوده بالسكن لم يعقد صداقات مع أي من الشباب المقيمين معه، فقد كان شخصا صموتا منعزلا، لا يريد شيئا في الدنيا إلا أن يترك لشأنه، لكن صداقة حميمة انعقدت أواصرها بسرعة بينه وبين «إبراهيم» منذ بداية انتقاله للمكان، عندما اقترح عليه الأخير الانضمام للميز الشهري الذي يقيمونه بالسكن، وهو مبلغ زهيد نوعا ما يتشارك الشباب في دفعه؛ لشراء مستلزمات الأكل بالجملة مرة في الشهر، ثم يتقاسمون الأدوار للطبخ فيما بعد. وقد أعجب هذا الاقتراح «عمار» أيما إعجاب، خاصة وأن قدرته المالية لم تكن تسمح له برفاهية الأكل الخارجي يوميا، فلم يكن لديه أسرة في ولايته التي قدم منها ترسل له مصروفا شهريا كبقية الطلبة، لكنه يمارس بعض الأعمال الهامشية، حتى يستطيع توفير بعض المال للدراسة وإيجار السكن، وما يتبقى - وهو قليل - يذهب تكاليف المعيشة. كان يعمل في أحد دكاكين تقطيع أكياس البلاستيك في السوق الشعبي بنظام اليومية، يدر عليه مبلغا لا بأس به يغطي احتياجاته الأساسية في اليوم. أحيانا يقوم بشراء كميات كبيرة من صاحب الدكان يبيعها له بسعر الجملة، ثم يقوم هو ببيعها لأصحاب البقالات في المنطقة بالتقطيع، لم يكن يربح الكثير، لكنه يتحصل على مبلغ إضافي يضعه في مكان جانبي؛ لتغطية رسوم التسجيل للجامعة أو الامتحانات أو أي طوارئ قد تحصل له . «إبراهيم» على النقيض منه، كان شخصا اجتماعيا لدرجة بعيدة، كثير الحركة والكلام والضحك، يعرف كل شخص في السكن بالاسم والتفاصيل الدقيقة. شخص حيوي متبسط في الحديث يندر أن تراه مستقرا في مكان واحد، ودائما ما تسبقه ضحكته المجلجلة المميزة التي اشتهر بها تدوي في أرجاء المكان.
عرف فيما بعد أن «إبراهيم» سيدرس معه في نفس الدفعة، برغم أنه يسبقه بعام في الكلية، لكنه أعاد العام الأول؛ لرسوبه في نصف المواد دفعة واحدة، وكاد أن يتعرض للفصل من الجامعة، لولا تدخل رئيس رابطة الطلاب الاتحاديين بالجامعة - التي كان هو عضوا فيها - وبعض الأجاويد، وفاعلي الخير، فتم قبول إعادته للعام الدراسي فقط. «إبراهيم» ينفي الحادثة جملة وتفصيلا، ويؤكد بعد القسم المغلظ أنها مؤامرة ضده من الهيئة التدريسية بالكلية؛ فقد اقتحم مكتب أحد أعضاء الهيئة التدريسية من قبل؛ للاستفسار عن شيء ما بخصوص الامتحان، ورأى بأم عينيه الدكتور الأشيب الوقور في وضع مخل مع إحدى الطالبات الجدد، وكاد أن يملأ الدنيا صراخا ويجمع الطلاب، لولا بكاء الطالبة وتذلل الدكتور له؛ حتى لا يثير فضيحة لا داعي لها. قال له إنه سيشتري صمته بأن يضمن له النجاح في كل المقررات طيلة سنوات دراسته؛ حتى يتخرج بالتقدير الذي يشاء.
صفقة جميلة وافق عليها بسرعة، وتصافحا، ثم خرج لحال سبيله. - «ابن اليهودية خدعني وغدر بي. كان يعرف أنني سأكون شوكة في حلقه؛ لذلك جعلني أعيد العام حتى يستفرد بها، لكنني لن أصمت، وليكونن انتقامي مريعا تتناقله الأجيال، وتحكيه الجدات في خوف لأحفادهن على ضوء القمر ليلا.»
لكن لا أحد يصدق «إبراهيم»؛ فروايته التي حكاها للكل - حتى عم الطاهر صاحب البقالة العجوز في ناصية الشارع - كانت تتغير كل يوم، بل تتغير في اليوم ذاته عدة مرات. فتارة يقول إنه رآهما عاريين في المكتب، وتارة أخرى وجدهما في سيارة الدكتور الخاصة، وأحيانا تتحول الطالبة إلى والدة إحدى الطلاب، ثم إحدى المدرسات بالهيئة التدريسية، ثم فتاة ليل ترتدي ملابس عارية مثيرة، وتحمل سوطا تضربه به، بل أحيانا ينسى كل هذا، ويقول إنه ضبطه متلبسا، وهو يمارس العادة السرية ويحملق في صورة إحدى مذيعات القنوات الفضائية، ويصرخ كالنساء من أثر اللذة.
يضيف ما يشاء من البهار بما يراه مثيرا يجذب انتباه المستمع، ويحذف ما يشاء مما يراه لا يخدم قصته أو يقلل من تشويقها، ثم يعيد صياغتها وتركيبها لتغدو رواية جديدة آخر النهار. وفي كل مرة يحلف أيمانا مغلظة بالله وملائكته ورسله والشيخ البرعي أنها الحقيقة، ولا شيء سواها.
لم يكن اليوم الأول في الجامعة كما تصوره «عمار»، وقد شعر بالإحباط عندما وجد أن الجامعة كانت شبه خالية، ولم يكن فيها سوى بعض الطلبة، قال لهم أحد أصدقاء «إبراهيم»، عندما التقوه في ساحة النشاط: إنه لن تكون هناك محاضرات حتى الأسبوع القادم. هكذا جلسا في الكافتيريا وطلبا بعض السندويتشات، ثم خرجا أمام بوابة الجامعة، وجلسا في صناديق البيبسي الفارغة بجوار «ميري» التي تبيع الشاي والقهوة.
قال «إبراهيم»: «بما إنك برلوم لسه، وده أول يوم حاكون أنا دليلك في الجامعة. أنصحك تمسك في طرف قميصي، عشان ما يخدعوك السناير، ويدخلوك استراحة البنات زي ما حصل مع حسن التعبان.»
Página desconocida
ردد «عمار» الاسم في تساؤل: «حسن التعبان؟»
وكأنه كان ينتظر الرد المتسائل. راح «إبراهيم» يحكي له، بفخر، كيف أنه قد قام بخداع أحد الطلبة الجدد في موسم التسجيل للعام الدراسي السابق، عندما أقنعه بأن استراحة الطالبات هي مكتب العميد، ثم جلس مع شلته يضحكون مع صراخ الفتيات في الداخل، قبل أن يخرج الطالب ممتقع الوجه، بينما أصوات الشتائم واللعنات تنهال عليه من الطالبات في الاستراحة.
ثم أطلق ضحكته المجلجلة، وقال: «المسكين من يومها اتعقد، أطلقنا عليه لقب «حسن التعبان»، وهو ما اشتهر به في الكلية، وظل يلازمه حتى الآن.»
سأله «عمار»: «ولماذا فعلتم هذا؟» - «لأن الجامعة مملة يا صديقي، بعض المرح لن يؤذي أحدا.» - «قلت إنه قد تعقد من الموقف، هذا مؤذ.»
وضعت «ميري» أمامهما كوبي الشاي في صينية فضية صغيرة، وقالت مخاطبة «إبراهيم» وهي تعود لمقعدها بلهجة عربي جوبا المحببة: «لم تبدأ الدراسة بعد؟»
قال «إبراهيم» وعيناه تلاحقان الطالبات اللائي رحن يتدفقن عبر بوابة الجامعة دخولا وخروجا: «ليس بعد، يقولون إنها ستبتدئ الأسبوع القادم؛ لإتاحة الفرصة لتقديم مزيد من الطلاب.» - «يتأخرون دوما، وكل مرة بعذر جديد»، قالت ميري وهي تقوم بتذويب السكر في قهوة أحد الزبائن.
تساءل «عمار»: «هل يفعلون هذا كل عام؟»
قالت «ميري»، وهي تقوم بتحريك الصينية النحاسية الصغيرة بحركات سريعة؛ لإشعال الجمر: «كل عام، وكثيرا ما تتوقف الدراسة في الكلية عند حدوث الاضطرابات والاعتصامات السياسية.»
قال «إبراهيم»: «لقد أوقفوا الدراسة لمدة شهرين في العام السابق؛ لأن أحد الأساتذة منع طالبا من دخول امتحان منتصف العام، وقد تضامن معه طلاب الدفعة، وأضربوا كلهم عن الجلوس للامتحان.»
قالت «ميري»: «الله يحلكم بالسلامة يا أولادي.»
Página desconocida
ورد «إبراهيم»: «الموضوع ولادة فعلا.»
ثم غمز ل «عمار» بعينه، وقال وهو يلكزه بمرفقه مغيرا مجرى الحديث: «الطالبات الجدد! أعرفهن من ملابسهن الزاهية الجديدة، دماء جديدة تحقن في شريان الكلية، وفرص جديدة للذئاب المخضرمين من الطلاب القدامى.»
قال «عمار» مبتسما: «تقصد بالذئاب القدامى أنت طبعا.»
قال مقهقها: «فقط أمنحهم ما يريدون.» - «ماذا تقصد؟» تساءل «عمار». - «ألا ترى تلك الوجوه المرسومة بعناية، وأطنان المكياج تلك. لم تبذل الواحدة منهن كل هذا الجهد كل يوم حتى لا تنظر إليها، سيكون هذا نوعا من عدم العرفان وقلة الذوق؟!»
قال «عمار» ضاحكا: «منذ متى كان غض بصرك عن الفتيات نوعا من قلة الذوق».
قال «إبراهيم» في حماس: «بل هو الواقع. عندما تنظر لها فأنت تسديها جميلا، نوعا من الإقرار بجهدها. عيناك ستقول لها أنت جميلة ولافتة للنظر، ولا بأس ببعض عبارات الغزل العابر. لن تشعر أن كل هذا الجهد في التزين كان بلا داع، ستمنحها الدعم النفسي الذي تحتاجه.» - «أرجو أن تعفيني من فلسفتك الغريبة تلك.» - «ليست فلسفة غريبة. انظر إلى تلك المؤخرات المنتفخة والصدور الثائرة، وكأنهن خرجن بذات المواصفات من خط إنتاج مصنع ما، هل تظنها مصادفة؟»
نظر له «عمار» متسائلا دون أن يجيب، فأضاف بذات الخبث: «كل هذا من أجلي ومن أجلك يا صديقي المثالي . هذا العرض المجاني هو الفخ الذي يقمن بنصبه بصبر لذلك الأحمق الذي ينظر. يعجبك ما ترى ثم تبدأ في التقرب منها والتعارف؛ طمعا في الحصول على بعض هذا الشيء. ثم «بوووم»، تجد خاتما في يدك وصالة تمتلئ بالمهنئين، بينما تبتسم ببلاهة لمصور الزفاف.
وقبل أن تدرك ما هنالك تجد نفسك بين سبعة أطفال عراة يسيل المخاط من أنوفهم، وتراقب في هلع الآنسة الهيفاء الرقيقة ذات الصدر الناهد الذي سال له لعابك من قبل، والعقل المثقف الجميل الذي كان يناقشك في أشعار نزار قباني وروايات إحسان عبد القدوس وفلسفة ابن رشد وإميل سيوران، وقد تحولت إلى ذلك الكائن الأسطوري الضخم الذي يشخر بجانبك الآن في السرير، كائن شحمي مترهل قادم من أسوأ كوابيسك، لا هم له سوى فرك البامية ومتابعة الدراما التركية، والجلوس في وضع الصليب وربط أكياس البلاستيك حول الحناء حتى تسود جيدا.
وستلومك على كل شيء. ستلومك لحماقتك عند اختيارك الدائم للطماطم التالفة، واللبن المغشوش، واللحم السيئ. ستلومك على حظها التعس الذي أوقعها معك برغم صفوف الأطباء والمهندسين ورواد الفضاء الذين كانوا يصطفون أمام بيتها لطلب يدها، لا بد أن «السارة» جارتهم الشمطاء التي كانت تكيد لها عند «فكي أبكر» كانت شريكتك، أو كنت شريكها في مؤامرة إتعاسها. ستلومك على قطوعات الكهرباء، وفيضانات الخريف، وثقب الأوزون، وندرة قردة البونوبو في غابات الكونغو الاستوائية.
ستدرك بعد فوات الأوان أن معشوقتك «مخطوطة المتنين غير مفاضة، ريا الروادف بضة المتجرد» قد تبخرت مع أحلامك للأبد، وأنك قد تعرضت لخدعة محكمة. إن كيدهن عظيم، كما قال النبي (
Página desconocida
صلى الله عليه وسلم ).»
قال «عمار» مصححا: «تلك آية قرآنية، وليست حديثا نبويا.» - «ما اختلفنا»، ورشف رشفة سخية من كوب الشاي «لكنني لن أقع في مثل هذا الفخ. أكتفي بالنظر وحفظ كل شيء هنا»، وأشار لرأسه «كله يحفظ في هذه الفلاشة الربانية، أعيد تشكيله فيما بعد كيفما شئت عندما أنفرد بنفسي في الحمام، تلك اليد الجميلة يمكنها أن تتحول إلى أي فتاة أشاء.»
وراح يقهقه بذات الضحكة المجلجلة، وهو يلوح بيده اليسرى أمام وجه «عمار» المتقزز. - «عليك اللعنة. أنا أستعمل معك ذات الحمام.»
قالت «ميري» ضاحكة: «لا تدع صاحبك المستمني هذا يلوث أفكارك، إنه معقد من جنس البنات لأنه لا يجد أي فتاة تقبل به.»
قال «إبراهيم» في حدة: «بل لا توجد فتاة أقبل أنا بها.» - «عليك النبي!» - «وحياتك يا ميري»، ورشف المزيد من الشاي «محسوبك معشوق الجنس اللطيف في الكلية، كلهن رهن إشارة مني، لكنني لا أريد، لا أميل لتلك السحالي الملطخة بالأصباغ المنتفخة بالمركبات الكيميائية، وهل هذا جمال يغري؟ لا يوجد جمال طبيعي كالذي يوجد من حيث أتيت.» - «الكديس لما ما يلقى اللبن بقول مسيخ. قل إنك لا تقدر عليهن وتتحجج بهذه الحجج الخائبة.»
قال «إبراهيم» في تحد: «هل تريدين تجربتي يا بنت ملوال، حتى تتأكدي بنفسك.»
ابتسم «عمار» خجلا، وضحكت «ميري» حتى بانت أسنانها الدقيقة المتراصة في عناية. كانت ذات جسد نحيف ممشوق وأطراف طويلة، ليست جميلة على نحو خاص، لكن لا يمكنك نعتها بالقبح بضمير مستريح، تملك نوعا من الكاريزما المبهمة غير واضحة المعالم، جاذبية خاصة تنبعث منها كالسحر عندما تتحدث بصوتها الأجش، ولهجتها التي تأخذ فيها من اللغة أساسياتها، ولا تراعي فيها تصريفات الأفعال، أو دقة نطق الضمائر، أو ما اصطلح الشارع على تسميته بعربي جوبا.
لا أحد يعرف متى قدمت للخرطوم تحديدا، ولا متى بدأ نشاطها أمام الجامعة، لكنها كانت دوما موجودة هناك. هي نفسها لا تذكر متى قدمت للعاصمة تحديدا، تسميه يوم الكتاحة؛ فقد كانت هناك عاصفة ترابية هائلة تجتاح العاصمة عند قدومها، اعتبرته نوعا من الترحيب الحكومي - وربما الإلهي - احتفاء بقدومها إلى مدينة صنع القرار. أو كما تقول «محل الطيارة تقوم والرئيس ينوم». تعرف أنها قررت شد رحالها بعد وفاة زوجها منذ سنوات إثر إحدى غارات الجيش على مواقع تمركز كتيبتهم في الجنوب، قبل أن تضع الحرب أوزارها لاحقا ببضع سنوات. وقد ترك لها طفلا وحيدا جميلا أشعرها بالإحباط والمسئولية، فلم تعد حرة بعد اليوم، فكرت في البداية في التخلي عنه وتركه لعمها «بيتر» ليشتد عوده قليلا، ثم يلحقه بالجيش المحلي الذي يحارب الحكومة، لكنها - وفي نفس الليلة التي قررت فيها ذلك - رأت فيما يرى النائم السيد المسيح (عليه السلام) يزورها في منامها، هابطا من السماء وسط هالة نورانية مقدسة باسطا يديه أمامه، بينما صوت الجوقة الكنسية يدوي مرتلا لحن «المجد لله في الأعالي»، بصوت الأخت «تابيتا»، وقد خيرها إما أن تبيع بيرة الكويتي، وهي بيرة منزلية تصنع من دقيق الذرة، أو العرقي الذي تقطره من البلح، أو تذهب وتبحث عن عمل ما في الخرطوم، لكنها لن تتخلى عن الطفل بأي حال من الأحوال، فسيكون له شأن عظيم مستقبلا.
اجتهدت في تربيته منذ ذلك الوقت.
ولما لم تكن قد حصلت على أي تعليم يذكر، لم تجد بدا من صناعة الشاي والقهوة ومشروب الكركدي الساخن لطلاب الجامعة، منذ ذلك الوقت. وقد تعلمت كيف تتحدث وتتعامل ببذاءة الرجال حتى تمنع تحرشات الطلاب المتدفقين بفعل هرمونات البلوغ بها، فلا شيء يغري الرجل أكثر من المرأة المستسلمة الضعيفة، ولا يخيفه شيء أكثر من المرأة القوية التي لا تخشاه، وتعرف كيف تتحدث وتتعامل مثله، وربما ألعن منه. وقد ساعدها صوتها المبحوح الذكوري وطلاقة لسانها في مسعاها على ما يبدو.
Página desconocida