كان ضوءا باهتا أضاء ظلام مستقبلهم فجأة، ثم عاد وانطفأ ليعود الظلام أكثر تكاثفا. «أستغفر الله العظيم.»
تقولها والدتي، وهي تمسح دموع الضحك بطرف ثوبها، لتعود وتستغفر من ذلك الذنب العظيم، ثم ترتسم على وجهها ملامح الحزن المفاجئ، كأنها تعاقب وجهها بتلك الملامح، لأنه تجرأ على رسم ملامح الفرح ولو لحين.
وكأن الضحك كبيرة تحتاج طلب الغفران. «أستغفر الله العظيم.»
تقولها الوجوه التعيسة في الشوارع؛ إذ تستغفر من الذنب، بعدما اكتشفت إثم أملها في شيء من التغيير. كان ذنبهم أنهم شعروا بالأمل بسبب بعض الشباب الحالم، حتى استيقظوا ذات صباح على أملهم مبعثرا في الطرقات مع دماء شبابهم الثائر.
عندما نعتاد على الفقر سنين عددا، تغدو تطلعات الرفاهية والعيش الكريم نوعا من الترف الفكري. تابو أسطوري لا يصح مناقشته، وذنب يستوجب الاستغفار لمجرد التفكير فيه.
أرى المظاهرة الليلية تبدأ في التشكل، وتبدأ الحشود في التوافد حول ذلك الشخص النحيل الذي يرتدي الجلباب والطاقية المميزين للزي السوداني التقليدي، تحمله الأكتاف، وهو يهتف وتردد الجموع خلفه بصوت هادر:
حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.
حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.
من بين عشرات الوجوه التي تزدحم في تلك المساحة الضيقة، أرى ذلك الشاب ذا الملامح الأنثوية المبهمة يلتف ببطانية ثقيلة اتقاء للبرد القارس، ويحتضن بيمناه ويسراه امرأة كبيرة في السن وصبيا يافعا، عيناه الصافيتان تلتمعان في قلب الظلام؛ إذ تحدقان في شاطئ غير مرئي، بينما المركب المتهالك يمخر بهم عباب البحر، بلا يقين في النجاة.
يتهادى في العدم حيث لا شيء سوى الظلام البكر الخام، ولفحة برد قارس، وبعض ضوء شحيح باهت، يتسرب من بين ثنايا السحب القاتمة، يبعثه لهم القمر المتواري خجلا - ربما - من رؤية مصيرهم البائس.
Página desconocida