توقف «إبراهيم» عن الحديث؛ إذ جرع جرعة كبيرة من الشراب. تقلص وجهه مجددا للحظات، وهو ينفث الهواء من بين أسنانه؛ لتخفيف مرارة ما ابتلعه، ثم مسح على فمه بظاهر يده اليسرى.
قال، وهو يصب المزيد من «العرقي» في الكوب الزجاجي: «كانت الزنزانة التي وضعونا فيها - ما عدا عمار، وذلك الشيخ الذي فقد وعيه - عبارة عن غرفة ضيقة جدا، لا تتعدى المتر والنصف طولا وعرضا، تفوح منها رائحة خانقة وكريهة للغاية.»
كنا نشعر بوجود مياه في الأرض، فقد كانت أقدامنا تغوص فيها حتى الكاحل، وبعد أن تعودت عيوننا على الظلام، أدركنا أننا في غرفة عالية السقف، بها نافذه عالية صغيرة بحجم قبضة اليد تدخل ضوءا شحيحا.
أدركت من الوهلة الأولى أن المياه هي مصدر الرائحة الشنيعة، فقد كانت عبارة عن خليط آسن من البول والبراز الطافي على وجه الماء، يبدو أنها مخلفات أشخاص كانوا قبلنا في هذا المكان، واضطروا لقضاء حاجتهم في مكانهم.
كان شعورنا بالتقزز عميقا وأقدامنا تغوص في ذلك المستنقع، حتى إن «محمود» أفرغ معدته، بينما أغلق الشاب الآخر أنفه بأصابعه، قلت له مرهقا: «لن تستطيع كتم أنفاسك للأبد، بعد قليل ستتعود أنفك على الرائحة.»
لم تكن مساحة المكان تسمح باستلقاء أي منا، فهي بالكاد تتسع لوقوف ثلاثتنا، دعك من استحالة الجلوس على ذلك الماء الآسن، لذلك أسندت جسدي على الحائط، وأغمضت عيني، وأنا أحلم ببتر قدمي التي تعوم في تلك القذارة، وأمضينا ليلتنا على هذا الحال، وكنت أغفو لثوان وأنا واقف في مكاني ثم أفتح عيني مفزوعا، ثم أعود فأغفو مجددا، حتى رأيت ضوء الفجر يتسرب عبر النافذة الضيقة.
مرت ساعات ونحن على هذا الحال، حتى كانت العاشرة صباحا، فأخرجونا للذهاب لدورات المياه، ثم أعادونا مجددا للزنزانة، وبعد ساعات أخرجونا للحوش الخارجي، وأجلسونا القرفصاء تحت الشمس الحارقة لساعتين، كانوا خلالها يمرون بنا ويتسلون بشتمنا، أو ركلنا أو ضربنا بالخرطوش، ثم أعادونا للزنزانة مجددا، وظللنا على هذا الحال حتى صباح اليوم التالي.
ومع بزوغ شمس اليوم التالي سمعنا صوت مزلاج الباب يزاح من الخارج، وظهر أحد الحراس، كانوا قد نزعوا أغطية الرأس التي تخفي وجوههم، توقف في الخارج حتى لا يطأ بقدميه المياه القذرة في الزنزانة، ثم شتمنا بألفاظ بذيئة، وقال في سخرية: «نتمنى أن تكونوا قضيتم ليلة هانئة في فندقنا، إذا احتجتم أي شيء لا تترددوا في الاتصال بخدمة الغرف.»
ثم أشار لي وأمرني بالخروج، فخرجت معه. كانت قدماي متشنجتان من الوقوف طوال الليل، لكنني رحت أسير معه في ممر طويل توزعت الغرف على جانبيه. وأمام إحدى الغرف رأيت حارسا بدا لي شكله مألوفا وقتها، أذكر أنني رأيته من قبل لكن أين؟
ثم توقف «إبراهيم» عن السرد، وقال مخاطبا إياي: «فيما بعد استطعت التذكر، كان الرجل الصاخب الذي رأيته في تظاهرات الجمعة بنفس يوم اعتقالنا.» - «تعني من الذين قاموا بفض المظاهرة؟» - «لا، بل كان مشاركا فيها. أذكره جيدا؛ فقد كان أحد الذين يتقدمون الصفوف ويبتدءون الهتاف ونحن نردد خلفه، وقد حاول إضرام النيران في إحدى محطات الوقود مع بعض المتحمسين بحجة أنها من ممتلكات الحكومة ويجب إتلافها، حتى أوقفه بقية المتظاهرين بالقوة.» - «تعني أنهم كانوا يبحثون عن ذريعة؛ لقمع المظاهرات بحجة التخريب؟!»
Página desconocida