Vida del Pensamiento en el Nuevo Mundo
حياة الفكر في العالم الجديد
Géneros
3
فإذا جاز أن نعد اعتزال الفلاسفة في أبراجهم ضربا من الأرستقراطية العقلية، وامتزاجهم مع سائر عباد الله في ميادين العمل نوعا من الديمقراطية، فلا شك أن الفلسفة البراجماتية - على هذا الاعتبار - تصبح انعكاسا للديمقراطية السياسية في مجال التفكير النظري.
على أن هذه الفلسفة البراجماتية ليست في حقيقة الأمر نباتا جديدا منقطع الصلة بالماضي، فها هو ذا أحد أعلامها «وليم جيمس» - وسنحدثك عنه في الفصل التالي - يقول عنها على غلاف العنوان نفسه الذي يصدر به كتابه فيها إنها «اسم جديد لطريقة قديمة في التفكير.» فماذا يعني؟ أكان التفكير فيما مضى مصطبغا بنفس الصبغة العلمية العملية التي تميز الفلسفة البراجماتية؟ وإن كان الأمر كذلك فأين الجديد؟ أم هي جدة في الاسم وحده، أما الطريقة فقديمة كما هو ظاهر المعنى في عبارة «وليم جيمس»؟ الجواب على ذلك يردنا إلى الفلسفة الإنجليزية التي كانت بغير شك وثيقة الصلة بالاتجاهات الفكرية في الولايات المتحدة، حتى لقد ظلت هذه الاتجاهات صدى لها قبل أن تتمخض عن لون أمريكي صريح، وطابع متميز فريد.
فالوجهة السائدة بين فلاسفة الإنجليز: بيكن ولوك وباركلي وهيوم ومل، هي الاعتماد على الخبرة الحسية، أي على التجربة كما تأتي بها الحواس مما تشاهده وتتأثر به، وإذن فلا جديد من هذه الناحية، أعني أنه لا جديد في انصراف المذهب البراجماتي إلى عالم الواقع كما يتبدى في خبراتنا الحسية، لكن الجديد هو في استبدال النظر إلى المستقبل بالنظر إلى الماضي، التجريبية الإنجليزية تلتفت إلى الوراء، إلى الماضي، والبراجماتية الأمريكية تنظر إلى الأمام إلى المستقبل، ذلك أن الفيلسوف الإنجليزي عندما أراد تحليل المعرفة الإنسانية، شغل نفسه بردها إلى أصولها، وبالنظر في كيفية اتصالها بتلك الأصول؛ إذ راح يحلل العلاقة بين الأشياء الخارجية، وما تطبعه على حواسنا من آثار وبين حصيلتنا من المعرفة التي تنشأ عن ذلك، أما المذهب البراجماتي فيربط معارفنا بعالم التجربة، لا من حيث النشأة، بل من حيث النتائج، فالفيلسوف الأمريكي إذ يقف أمام عبارة تعبر عن واحدة من أفكارنا، لا يسأل - كما يسأل زميله الإنجليزي: كيف نشأت؟ وكيف جاءت؟ بل يسأل نفسه: ما النتائج التي تترتب على هذه الفكرة في عالم الواقع؟
وإنه لمما يلفت النظر أن التجريبية الإنجليزية قد اتجهت نحو «النتائج» في مجالين من مجالات التفكير: في مجال العلوم، وفي مجال الأخلاق، لكنها لم تتجه هذه الوجهة في بقية التفكير النظري، فجاءت البراجماتية الأمريكية لتكمل هذا النقص، وتجعل النظر إلى النتائج مبدأ شاملا لميادين الفكر جميعا، نعم كان النظر إلى «النتائج» العملية رائد الباحث في العلوم، فلم يكن مقياس «الفرض» العلمي الذي يفرضه العالم في محاولته تفسير ظاهرة طبيعية، إلا ما يترتب على هذا «الفرض» من نتائج، فإن وجدت النتائج المترتبة على الفرض مطابقة لما يحدث في الواقع، أصبح «الفرض» نظرية علمية مأخوذا بها، وكذلك كان النظر إلى «النتائج» العملية رائد الفيلسوف الأخلاقي في إنجلترا - بصفة عامة - كما هي الحال مثلا في مذهب المنفعة الذي أخذ به «مل»، ومؤداه أن الفعل يكون فضيلة أو رذيلة حسب ما يترتب عليه من نتائج تسعد الناس أو تشقيهم، والفعل الذي ينشأ عنه أكبر مقدار من السعادة لأكثر عدد من الناس هو الفعل الفاضل، وإذن فلا تستطيع - وأنت إزاء فعل تريد الحكم عليه من الوجهة الخلقية - لا تستطيع أن تطلق هذا الحكم على الفعل، إلا بعد النظر إلى نتائجه التي ستترتب في عالم الواقع على أدائه، فإذا كان النظر إلى «النتائج» العملية في عالم الواقع هو مقياس الحكم على الفروض العلمية، ومقياس الحكم على الأفعال حكما خلقيا، فلماذا لا يكون هو نفسه مقياس الحكم على الفكرة كائنة ما كانت؟ لماذا وأنت إزاء فكرة ما، تريد الحكم عليها بصواب أو بخطأ؟ لا تنظر إليها من حيث نتائجها، فإن أنتجت عملا تصلح به حياة الإنسان كانت فكرة صائبة، وإلا فهي فكرة خاطئة، هذا هو أساس الفلسفة البراجماتية - الفلسفة العلمية العملية - التي هي طابع الفكر الأمريكي الحديث، فإذا كانت «البراجماتية» اسما جديدا لطريقة قديمة؛ فذلك لأن الطريقة كانت متبعة - ولا تزال متبعة - في ميدان العلوم، وفي ميدان الحياة اليومية، ثم أمسك الفلاسفة عن تطبيقها في مجال تفكيرهم النظري، فالطريقة قديمة كانت - ولا تزال - قائمة، وأما الجديد فهو تعميمها على كل ضروب الفكر، والفضل في هذا الجديد هو أولا ل «بيرس» الذي وضع الأساس، ثم ل «جيمس» و«ديوي» اللذين سارا على نهجه بعد شيء من التعديل عند كل منهما، وسنكمل هذا الفصل بالأول؛ لنقصر الفصل التالي على الآخرين. (2) «تشارلز ساندرز بيرس»
4
واصطناع المنهج العلمي
هو مثل من الأمثلة الكثيرة التي يعترف فيها الناس بالفضل بعد أن يمضي عن الحياة صاحب الفضل، فما أكثر هؤلاء الذين يجزيهم معاصروهم إهمالا بنبوغ، حتى إذا ما انقضت أعمارهم، تنبه أبناء الجيل التالي أو الأجيال التالية لما كان المعاصرون قد أهملوه وغمروه، فاعجب لهذا المفكر المبدع الفريد يتعذر عليه أن يجد منصبا علميا في جامعة إلا مرة واحدة بعد إخفاق تلاحق مرات عدة، ولا علة لذلك إلا أنه جدد وابتكر، ولم يذهب مع سائر أصحاب الفكر فيما ذهبوا إليه، ولد عام 1839م لوالد كان نجما لامعا في الرياضة والفلك في أمريكا، فكان هذا الوالد الرياضي أول عامل وأقوى عامل في توجيه «بيرس» وجهة التفكير العلمي الدقيق، حتى إذا ما شب درس في جامعة هارفارد علوم الرياضة والطبيعة، واشتغل معظم حياته باحثا علميا يبتكر الجديد، ويشق لنفسه في الفكر طريقا فريدا، فكانت الثمرة هذا الإنتاج الذي بدأ مدرسة فكرية جديدة، أخذت تضرب بجذورها، حتى أصبحت تنشر اليوم ظلها على الولايات المتحدة باسم الفلسفة البراجماتية، بل أخذت تمتد بفروعها خارج بلادها فيؤيدها المؤيدون، ويحترمها الناقدون، وجمع إنتاجه في مجلدات ستة هي «مجموعة أبحاثه»
5
ينقصها البناء الذي يضمها في نسق واحد، وإن لم تعوزها غزارة الفكر وأصالته.
Página desconocida